سهام ذهني - حواري هذا مع نجيب محفوظ

روى لي الكاتب الكبير نجيب محفوظ أصدق ما يمكن أن يرويه إنسان حول صراعه مع طاقاته، باح لي بأصعب معاناة له كأديب من أجل أن تعانق كلماته الأوراق. إعترف لي قائلا:
ــ أنا عندما لم يعد بصري يسعفني ولا سمعي لكي أتلقى من منابع الإبداع فيما حولي عشت في معاناة بسبب ما بداخلي من رغبة شديدة في أن أكتب. فكنت أسأل نفسي طوال الوقت: كيف أكتب؟
ويردد الكاتب الكبير بأسى الجملة التي كانت تحيره، فيكررها ثلاث مرات "كيف أكتب؟ كيف أكتب؟ كيف أكتب؟". كأنه يسترجع حيرته في تلك الفترة، ثم ينتهي مما يرويه عن رحلته مع الحيرة إلى وصوله لما يشبه صرخة المكتشف: "وجدتها". فقد قال لي نجيب محفوظ: إلى أن وجدت أن هناك واقعا لم يتمكن العجز من إبعاده عني، هذا الواقع هو "الحلم" ، فـ "قفشت فيه".
كلمة "قفشت فيه" هي بالضبط الكلمة التي استخدمها الكاتب الكبير في وصفه لما فعله عند عثوره على أن "الحلم" من الممكن أن يكون منبعا للكتابة الأدبية، حيث يرى فيه ويسمع بعد أن أصبح لا يرى ولا يسمع جيدا في "الحقيقة". فهو لم يقل "وأمسكت به"، وإنما قال "قفشت"، بكل ما تعنيه الكلمة من تشبث شديد بما عثر عليه، وبكل ما توحي به من خوف على أن يضيع منه الأمل الذي تعلق به.
أما أنا فقد كنت أتأمل بإعجاب شديد إيمانه بأهمية مواصلة العمل حتى آخر وقت، كما كنت متأثرة بسبب أنه بنفسه يبوح لي بالكيفية التي صارت تأتيه بها الأفكار فيحولها بقلمه إلى رحيق جميل يستمتع به القراء في أحدث أعماله الذي يحمل إسم " أحلام فترة النقاهة" والذي تميز بالايجاز العميق وكسر المألوف وارتياد شكل جديد ملئ بالرمز والإيحاء.

● قلت له: هل معنى هذا أن قصص "أحلام فترة النقاهة" هي أحلام حقيقية وليست رؤية في اليقظة؟
ــ رد: هي في الأصل حلم حقيقي.
وأضاف: سأروي لك مثلا يوضح كيف تأتيني فكرة قصص "أحلام فترة النقاهة". مثلا أنا حلمت مؤخرا أني جالس مع مجموعة نستمع إلى الشيخ "زكريا أحمد"، وهذا المشهد كان له أصل في الحياة. فأعجبتني الفكرة وسرت فيها إلى أن وصلت إلى رجل معلق من ساقيه بينما رأسه يصل إلى "مية نار" ولا أحد يشعر به. عندما وصلت إلى هذا شعرت بارتياح إلى أن هذه القصة قد صارت شيئا متكاملا، وبدأت أكتبها، إلى أن انتهيت من كتابتها في جلسة واحدة، لأنني لا أستطيع أن أكتب لمدة أكثر من ربع ساعة أو نصف ساعة.
فالبداية الآن هي الحلم. ولو لم يكن هناك حلم لا تكون هناك كتابة، وأحيانا يأتي الحلم لكن لا يوحي بقصة فلا أكتبه.
الدؤوب

● إذن نستطيع أن نقول أن الأديب الكبير نجيب محفوظ بعد أن كانت فترة التجهيز للكتابة عنده على مكتبه بعد الظهر، فإن فترة التجهيز للكتابة الآن أصبحت في الفراش ليلا.
يضحك ثم يضيف:
ــ ما كنت ألتقطه من الحياة والواقع الذي حولي، أصبحت ألتقطه من الحلم، لأنني الآن لم أعد قادرا على أن أتصل بالواقع، ولم أعد قادرا على أن أتحرك مثل زمان، ولا أذهب إلى المقاهي والجلسات التي ألتقط منها أفكار أعمالي.

● هل معنى هذا أنك عندما تمر عليك ليال متتابعة بلا أحلام فإنك تشعر بالحزن؟
ــ يرد نجيب محفوظ مشبها الأحلام بأنها "المحصول" باعتبار أن إنتاجه يأتي من الأحلام، فيقول: طبعا عندما لا يكون هناك محصول من الأحلام فلا تكون هناك كتابة.

● أقول: تضمنت رواياتك القديمة بعض الاحلام، فهل كانت أحلاما حقيقية أم أحلاما مؤلفة؟
ــ كانت أحلام في الغالب مؤلفة، بأن تحلم شخصية من الشخصيات بما يليق مع سياق القصة. وقد كان بعضها من مدخر أحلامي ووجدته مناسبا للقصة. إنما أغلبه مؤلف.
بدون تصحيح

● زمان كنت تكتب وتشطب ثم تقوم بإعادة الكتابة مرة أخرى. فهل الكتابة والتعديل على الورق أمر مازلت تقوم به عند كتابة قصص الأحلام؟
ــ لا. ففي قصص الأحلام لم أعد أستطيع العمل بهذه الطريقة التي تتضمن الكتابة والتعديل بعد الكتابة لأنني لم أعد أرى جيدا. فضعف بصري لا يسمح لي بقراءة ما كتبته بعد الإنتهاء منه، بالتالي لا أتمكن من إجراء أي تعديل على الورق.
فالطريقة المتاحة لي الآن هي أن أكتب في عقلي وأقوم بالتعديل في عقلي أيضا قبل أن أكتب على الورق. هذا التعديل في عقلي قد يتكرر مرة أو اثنتين أو عدة مرات إلى ان أستقر على ما أريد فأحفظه وأكتبه.

● أظن أن هذه الطريقة في التصحيح داخل العقل أصعب من التصحيح على الورق.
ــ طبعا. فالتصحيح على الورق أسهل بدون شك.

● وأخيرا أسأل كاتبنا الكبير عن أول أحلامه المنشورة والذي تضمن رجلا يبحث عن مطعم. وعن الرمز في تلك القصة؟
ــ فيقول: هذا إنسان يبحث عن طعام أو يبحث عن زوجة أو يبحث عن حياة جيدة. كما أن لها معنى سياسيا. إنما يصح أن يفسر القارئ القصة نفسها تفسيرا مختلفا. فميزة الرمز في الأدب هي أن يحول القارئ إلى مؤلف، فيتصور المعنى من خاطره.
قبل أن أغادر أعلق لكاتبنا الكبير على أحلامه قائلة: لقد تحولت أحلامك بقلمك إلى لوحات تجريدية موحية.
أما احد أخر المشاهد الجميلة في حوارنا هذا فهو أنني قبل أن أترك الكاتب الكبير جلست إلى جواره وهو يكتب جملة قصيرة.
لم يمسك بالقلم بين أصابعه، فقدراته لا تسمح بهذا، ولكنه يقبض عليه في راحة يده بطريقة شبيهة بمن يمسك بخنجر، وإن كان قلمه لم يقتل أبدا، بل أعاد الحياة للحياة فوق الورق بواسطة الفن والخيال العظيم.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...