مصطفى معروفي - غموض النص الشعري

مجموعة من تجارب الشباب الشعرية تحاول أن تظهر بالمظهر المتعالي والناضج ، وتتخيل أن السبيل إلى ذلك يتم عبر آليات خاصة في الكتابة ، من هذه الآليات آلية الغموض، بل إنني أرى أنها آلية الإبهام ، وأنا هنا أفرق بين الإبهام والغموض ، فالمقصود بالإبهام هنا التعمية والإغراق فيها ، حتى أن القاريء ليحتار في أمره ، فلا يدري هل هو أمام نص شعري أو أمام طلسم من الطلاسم التي يستعصي فك رموزها. ولنعط مثالا بهذا المقطع من قصيدة لأحد الشباب:
فكوني كأرض
لأعرف أن ذراعي المحيط،
وأني حين سأزأر بالوحش، مثل المغارة
حنجرة
لصدى الصلوات
وأعرف أن سرير، عليه المسافات
تخلع أشجارها الوبرية، والريح تلفظ
ملء رئات الغواية
أنفاســـــها الأولى/
فالقاريء هنا مهما بلغ من فهمه للشعر ، ومهما حاول أن يصل إلى المرمى الذي يتغياه الشاعر - هذا إذا كان للشاعر مرمى هنا - فإنه لا يصل إليه أبدا. وأرى أن مثل هذا الشعر ساهم في توسيع الهوة وتعميقها بين القاريء وبين الشعر بصفة عامة.
الشاعر الغامض الملغز في نصوصه الشعرية هو خاسر في جميع الأحوال،فهو مثله مثل المنبتّ لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى ،والقارئ قد يجد نفسه محرجا أمام النصوص الغامضة غموضا قاهرا ،فلربما يذهب بعيدا إلى حد اتهام نفسه بالقصور و قد يتهمها بالغباء ،لأنه لم يستطع فك مغالق النص و حل ما غمض منه ،مع أن السبب في هذا هو صاحب النص نفسه الذي قد لا يتوفر على خلفية ثقافية تسمح له بكل أريحية أن يعبر بوضوح عما يختلج شعوره .
قد يقول قائل :الشعر هو هكذا،و الشعر الغامض أحيانا يجد له المرء لذة قد لا يجدها في الشعر الواضح.
و هنا نتساءل:كيف يلتذ المرء بنص لا يفهمه؟
حقيقة أجدني حائرا أمام شاعر يريد عن عمد أن يعقد نصه تعقيدا لا لشيء إلا ليقال عنه أنه شاعر عميق الدلالة يتمتع بثقافة عالية ،مع العلم أن هذا الشاعر لجأ إلى الغموض من أجل حاجة في نفس يعقوب وهي أن يشعِر المتلقي بأنه أقل منه ثقافة أو أنه يخفي ضحالة أدبية و يتستر بالغموض لكي لا ينكشف أمره.
أصحاب قصيدة النثر يفعلون هذا ،و هم في نظري يريدون أن يقنعونا بأنهم يكتبون الشعر ،و بأن الشعر لكي يكون شعرا عليه أن يكون غامضا ،و الأنكى من هذا أنهم يكتبون نصا عاديا هو أقرب إلى الخاطرة و يقولون عنه بأنه شعر ،و لا يتورعون أن يهاجموا الشعر الأصيل و يصفونه بأوصاف تقلل من شأنه حتى يضفوا الشرعية على ما يقترفونه في حق الشعر و في حق القراء من خربشاتهم.
إلى الأمس القريب كان المرء يقرأ قصيدة أو ديوانا أو حتى مقطعا شعرياو البيت و البيتين لشاعر و يخرج من كل ذلك بأنه قرأ بالفعل شعرا،و كانت القصائد و الأبيات تحفظ عن ظهر قلب ،أما اليوم فنجد أنفسنا أمام سيل جارف من الشعراء و لا نجد الشعر إلا في بعض الممرات القليلة جدا تائها يبحث عمن يقرؤه،لا يعرف كيف يبحث لنفسه عن مكان و سط هذا الركام الهائل من الابتذال و قلة العفة.
و أخيرا نقول بكلمة واحدة بسيطة هي:
الغموض ضار و الوضوح نافع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...