قبلة الخد هي للتعبير عن مشاعر الشوق والود، أما قبلة الفم فهي الهوى الذي نستنشقه لنحيا. هذا كان قبل زمن كورونا، أما اليوم فنحن نغسل كل ما يعلق بوجوهنا وأيدينا وثيابنا بالصابون، الذي لحسن الحظ لم يبلغ الذاكرة بعد.
في زمن قياسي تمكن الفيروس من مصادرة القبلة وتكميم الأفواه، وتعطيل حاسة اللمس، كما استطاع أن يتجول بحرية في شوارع المدن المنكوبة، ويعبر كل الحدود، بينما ضاقت الحدود على البشر ولم تعد تتجاوز غرفة المعيشة، التي استحقت اليوم اسمها بجدارة، فهي مكتب وقاعة اجتماعات، مقهى وقاعة للمطالعة، حلبة رقص وناد رياضي، شاشة سينما وخشبة مسرح.
وفي مواجهة الفيروس تبدو البشرية اليوم وكأنها تخوض حرباً عالمية ثالثة، فرسان الصفوف الأمامية فيها هم الكادر الطبي، والمنتصرون هم أصحاب المناعة العالية، ممن استثمروا في صحتهم ليوم الوباء الأسود، في حين أن عملاء العدو السريين، أو خلاياه النائمة هم المصابون الذين تعايشت خلاياهم مع الفيروس، ولم تظهر عليهم عوارضه. وفي غضون كل ما يحدث، نتابع نحن الضحايا المحتملين لعبة الفيروس الشيطانية مع الأرقام، من المريض رقم صفر أو المتهم الأول، وصولاً إلى جداول الموتى التي نتفقدها كل يوم، لنحصي إنجازات الخسارة، ثم علينا ونحن نغسل أيدينا أن نعد إلى العشرين، الرقم الذي يتكرر بمكر في السنة المشؤومة. ورغم أن الأوبئة رفيقة الإنسان منذ الأزل، لكنها في السنوات الأخيرة كانت حكراً على القارة السمراء، لهذا لم تحظ باهتمام العالم المتحضر، ومن هنا جاء وصف فيروس كورونا بالعادل، لأنه لا يستثني أحداً، لكن عدالته تصبح فارغة عندما يتعلق الأمر بإيجاد سرير في مستشفى، أو بيت يعتزل فيه الإنسان الحياة وفيروساتها. وما يدعو إلى القلق اليوم هو أن الفيروس المستجد، بإمكانه الفتك بأكثر من 40٪ من سكان الأرض، لأنهم ببساطة لا يمتلكون الماء والصابون لغسيل أيديهم، أما ملايين البشر الذين يقتلهم فيروس الجوع سنوياً، فمن المرجح أن يتضاعف عددهم بسبب الأزمة الاقتصادية التي سببتها الجائحة الحالية. أما الطامة الكبرى فقد تحدث في ما لو انتشر الفيروس في السجون ومخيمات اللجوء، حيث لا مهرب ولا مسافة أمان متاحة، للتخفي من ديكتاتور جديد يفتك بلا رحمة بالأجساد الضعيفة.
السجن وتأويلاته
لم أعرف الاعتقال، ولكنني عرفت سوريا الأسد، ومعنى أن تكون محجوباً عن العالم الخارجي في سنوات الثمانينيات، وكذلك خبرت امتحان الثانوية العامة، كتدريب على العزلة واعتزال الشارع. وأنا ابنة السجن الذي لم أدخله، ولكنني كنت أزور أبي المعتقل فيه لسنين طويلة. ولأن أبي لم يستطع رواية قصته، حاولت البحث عن السجن في الأدب، وتلصصت على حكايات السجناء في الواقع. وتعلمت كيف يتحايل السجين على العتمة بالقراءة، وكيف تتحول الحصى الصغيرة في حساء لا يصلح للاستهلاك البشري إلى لوحة فنية، كيف تكفي خصلة شعر امرأة منسية في كتاب لغزل قصة حب مستحيلة في زنزانة، كيف تفتح وردة في حوض مكسر نافذة من الجحيم على الجنة، وكيف مع الوقت يتحول الوقت إلى عدو السجين الأول، وعليه كي لا تقتله عقارب ساعته أن يقتله. علمني السجن الذي لم أسكنه أن الإنسان قادر على التأقلم مع أكثر الظروف قسوة، مادام يمتلك العزيمة ويربي الأمل. ولكنني لم أكن أتخيل أن أبي الذي يسكنني دائماً، سأسكنه أنا يوماً وأصبح سجينة يوميات العزلة الكورنية.
الرقص سفر
إذن لنسلم بداية بأننا سجناء إلى أجل غير مسمى، ولكن كما يتحايل السجناء على العتمة بالبحث عن شغف يبقيهم أحياء. عثرت أنا على الرقص، شغفي القديم الذي تشبه علاقتي به عشاق قدامى صاحبهما الملل، فافتراقا كي لا يموت الحب. ولكن الشعور باقتراب الخطر، يجعل المشاعر تطفو على السطح، والخوف يستحضر أحياناً عواطف وانفعالات دفينة، وتصبح رجفة الخوف شبيه برعشة الحب. وربما من إيجابيات الحجر أنه يجعلنا نأخذ مسافة أمان من الوهم، ونبحث عن الحقيقي في حياتنا. ومن هنا يبدو الرقص وكأنه حب حياتي، وكما الشريك الذي لا يقبل عذولاً، اخترت الشرقي منه لأكون في مواجهة مع روحي، قدمي على الأرض وذراعي تلامسان السماء، ورأسي يلف في مدارات بعيدة. كل شيء بدأ عندما أرسلت لي معلمتي رسالة على الواتس آب تدعوني لنرقص، بدا الأمر غريباً ونحن في حجر صحي، لكنني أدركت في ما بعد أن الدرس سيتم عبر تطبيق أنستغرام.
للوهلة الأولى بدا «التعليم عن بعد» غريباً، ولكن عندما بدأت الموسيقى تصدح، شعرت وكأننا في قاعة الدرس المعتادة، وهرمون السعادة يعبر رأسي إلى قدمي، أما نشوة الآخرين فكنت أشعر بها من خلال القلوب الافتراضية الحمر، التي كانوا يرسلونها عبر التطبيق من عزلتهم الكالحة. في زمن آخر كان الرقص يجعلني امرأة أخرى، اليوم أشعر بأن الرقص يجعلني في مكان آخر، وكأنه سفر، وكل نغمة هي وجهة جديدة للروح، التي تبحث عن سلامها الداخلي بعيداً عن طبول الحرب الفيروسية.
أرقص وأنا أتنفس، بل أشعر بأنني أريد أن أموت هكذا، وأنا أرقص، قديماً أصاب «وباء الرقص» مئات الأشخاص في مدينة ستراسبورغ، وأدى إلى موت الكثيرين من شدة الإرهاق في سنة 1518، لكننا للأسف لا نستطيع اختيار موتنا، مع أن الموت من شدة الرقص يبدو أخف وقعاً من الموت وحيدة بفيروس يلتهم الرئة، مضيفاً إلى الموت غصة الوحدة. لكنني الآن سأنسى كل القلق وأرقص، فالرقص للنسيان…
وكما المياه التي استعادت نقاءها في أقنية مدينة البندقية، أشعر بالدماء تجري من جديد في عروقي، ولا حاجة بي إلى أصبغة الماكياج ولا إلى الأناقة في عزلة الرقص… عليَّ فقط أن أتصالح مع مرآتي، وأحتمل ساعة أراقص فيها ظلي.
القليل من أحمر الشفاه لظلي إذن، والموسيقى بدأت تصدح وأنا في الصف الأمامي خلف المعلمة تماماً، لا يفصلنا إلا زجاج التلفون العازل، وأغنية خفيفة تنبعث من الهاتف النقال:
«عيش يا قلبي عيش، وارقص رقصة مع الحياة».
العالم الذي نعرفه مضى
في الشدائد تظهر معادن المدن، الإيطاليون الأكثر حرارة يعاقبون بأعداد هائلة من الإصابات، ولكنهم يغنون للحياة من على شرفاتهم، الألمان يهرعون إلى ورق التواليت للبقاء على قيد حياة نظيفة، ولكن نظامهم الصحي المتماسك، كان كفيلاً بإبعاد شبح الأكفان المتكدسة، عن مستشفياتهم. وبعيداً عن استهلاك ورق التواليت استطاع هذا الوباء تلقين البشرية درساً في التضامن الإنساني ونبذ العنصرية، فليس الأجنبي الغريب هو المسؤول هذه المرة عن تهديد الحياة، وتعطيل عجلة الاقتصاد في الغرب، بل على العكس من ذلك ساهم الكثير من الأطباء من أصول مهاجرة في إنقاذ مئات الأرواح في القارة العجوز. وغني عن القول إن الأموال الطائلة التي استثمرت في صناعة الحروب، لو أنها أنفقت في مجال الصحة ومحاربة الأوبئة، لما كنا وصلنا إلى هنا، وربما في المقبل القريب سيحلم الأطفال بأن يصبحوا علماء فيروسات، فلزمن الأوبئة أبطال لا يظهرون على الشاشات، ولا في ملاعب كرة القدم، بل في غرف العمليات ومخابر الأبحاث. أما الدرس الآخر الذي لقنته الجائحة للبشر فهو عن معنى السعادة، التي لا تشتريها كماليات المجتمع الاستهلاكي، فالسعادة الحقيقية هي في صحة الجسد ودفء الوجود الإنساني مع العائلة والأصدقاء، أما الثقافة فقد أثبتت أنها الرفيقة المثالية في العزلة، وقد جعلها الوباء في متناول الجميع، حيث الكتب والأفلام متاحة كمتعة منزلية خالصة، وحتى المتاحف ودور الأوبرا التي أغلقت أبوابها، فتحت نوافذ افتراضية مجانية لزوارها.
ولكن رغم كل هذه المتع تبقى الإقامة الجبرية في البيت عملا شاقا، والجميع يعيش حالة ترقب مشوب بالخوف، للخروج إلى عالم لعلنا لن نعرفه بعد الآن. عالم ربما يكون أقل تلوثاً وأكثر احتراماً للطبيعة الأم، أو ربما عالم أكثر شمولية تتم فيه مقايضة الحرية بالصحة، أو لعل العولمة ستقدم قرباناً للوباء، وتضيق حدود العالم الممكن. وفي النهاية كم عدد الناس الذين سيغادرون عالمنا هذا، ليس بسبب الفيروس وحده، بل بسبب الجوع والفقر واليأس الناجمة عنه. كل هذا مازال برسم المستقبل، ولكن الأكيد أن العالم الذي نعرفه سيمضي. وما نحن الآن إلا في الوقت المستقطع بين زمنين.
وقت مستقطع
بينما يتجول الموت في مدننا، تلتقط الطبيعة المنهكة أنفاسها، إنه الربيع والأزهار تتلاقح غير عابئة بلقاحات المضادة للفيروسات، فالأزهار والأشجار لها مواعيدها الثابتة مع الفصول، وهي سيدة المكان ومن ساكني الجنة الأصليين، والبشر هم الطارئون. كذلك الحيوانات بدأت بالخروج من جحورها، لتطالب بنصيبها في هذا الكوكب، ولم يعد مستغرباً رؤية قطيع ماعز يرعى في شوارع المدينة الخالية، بينما يتوارى سكانها في بيوتهم، ليعيشوا خوف القطيع ومناعة القطيع. ولأن كل المدن سواء في زمن كورونا، فأنا أشعر في مدينتي المحاصرة بالوباء وكأنني في لا مكان، وحيدة أتأمل الشوارع الفارغة، إلا من بعض القطط الشريدة التي لم تعد تكفيها الفضلات، فهي تشتاق إلى صحبة البشر وضجيج الشوارع. وأشعر بالأيام تمر عليَّ متشابهة ولا تستجيب لأسمائها السبعة المعتادة، ولا شيء سوى الموسيقى يضبط إيقاع الزمن البطيء.
كم مكثنا؟
أسأل نفسي وأنا أرى بقايا طلاء الأظافر القديم على أطراف أصابعي، وينتابني شوق جارف لعناق أصدقائي، الذين لو حالفني الحظ والتقيتهم بعد زوال هذه الجائحة، ربما سنكتفي حينها بتحية «ناماستي» مع انحناءة خجولة للحياة، كي نقول شكراً أننا نجونا.
* نشر في القدس العربي
www.facebook.com
في زمن قياسي تمكن الفيروس من مصادرة القبلة وتكميم الأفواه، وتعطيل حاسة اللمس، كما استطاع أن يتجول بحرية في شوارع المدن المنكوبة، ويعبر كل الحدود، بينما ضاقت الحدود على البشر ولم تعد تتجاوز غرفة المعيشة، التي استحقت اليوم اسمها بجدارة، فهي مكتب وقاعة اجتماعات، مقهى وقاعة للمطالعة، حلبة رقص وناد رياضي، شاشة سينما وخشبة مسرح.
وفي مواجهة الفيروس تبدو البشرية اليوم وكأنها تخوض حرباً عالمية ثالثة، فرسان الصفوف الأمامية فيها هم الكادر الطبي، والمنتصرون هم أصحاب المناعة العالية، ممن استثمروا في صحتهم ليوم الوباء الأسود، في حين أن عملاء العدو السريين، أو خلاياه النائمة هم المصابون الذين تعايشت خلاياهم مع الفيروس، ولم تظهر عليهم عوارضه. وفي غضون كل ما يحدث، نتابع نحن الضحايا المحتملين لعبة الفيروس الشيطانية مع الأرقام، من المريض رقم صفر أو المتهم الأول، وصولاً إلى جداول الموتى التي نتفقدها كل يوم، لنحصي إنجازات الخسارة، ثم علينا ونحن نغسل أيدينا أن نعد إلى العشرين، الرقم الذي يتكرر بمكر في السنة المشؤومة. ورغم أن الأوبئة رفيقة الإنسان منذ الأزل، لكنها في السنوات الأخيرة كانت حكراً على القارة السمراء، لهذا لم تحظ باهتمام العالم المتحضر، ومن هنا جاء وصف فيروس كورونا بالعادل، لأنه لا يستثني أحداً، لكن عدالته تصبح فارغة عندما يتعلق الأمر بإيجاد سرير في مستشفى، أو بيت يعتزل فيه الإنسان الحياة وفيروساتها. وما يدعو إلى القلق اليوم هو أن الفيروس المستجد، بإمكانه الفتك بأكثر من 40٪ من سكان الأرض، لأنهم ببساطة لا يمتلكون الماء والصابون لغسيل أيديهم، أما ملايين البشر الذين يقتلهم فيروس الجوع سنوياً، فمن المرجح أن يتضاعف عددهم بسبب الأزمة الاقتصادية التي سببتها الجائحة الحالية. أما الطامة الكبرى فقد تحدث في ما لو انتشر الفيروس في السجون ومخيمات اللجوء، حيث لا مهرب ولا مسافة أمان متاحة، للتخفي من ديكتاتور جديد يفتك بلا رحمة بالأجساد الضعيفة.
السجن وتأويلاته
لم أعرف الاعتقال، ولكنني عرفت سوريا الأسد، ومعنى أن تكون محجوباً عن العالم الخارجي في سنوات الثمانينيات، وكذلك خبرت امتحان الثانوية العامة، كتدريب على العزلة واعتزال الشارع. وأنا ابنة السجن الذي لم أدخله، ولكنني كنت أزور أبي المعتقل فيه لسنين طويلة. ولأن أبي لم يستطع رواية قصته، حاولت البحث عن السجن في الأدب، وتلصصت على حكايات السجناء في الواقع. وتعلمت كيف يتحايل السجين على العتمة بالقراءة، وكيف تتحول الحصى الصغيرة في حساء لا يصلح للاستهلاك البشري إلى لوحة فنية، كيف تكفي خصلة شعر امرأة منسية في كتاب لغزل قصة حب مستحيلة في زنزانة، كيف تفتح وردة في حوض مكسر نافذة من الجحيم على الجنة، وكيف مع الوقت يتحول الوقت إلى عدو السجين الأول، وعليه كي لا تقتله عقارب ساعته أن يقتله. علمني السجن الذي لم أسكنه أن الإنسان قادر على التأقلم مع أكثر الظروف قسوة، مادام يمتلك العزيمة ويربي الأمل. ولكنني لم أكن أتخيل أن أبي الذي يسكنني دائماً، سأسكنه أنا يوماً وأصبح سجينة يوميات العزلة الكورنية.
الرقص سفر
إذن لنسلم بداية بأننا سجناء إلى أجل غير مسمى، ولكن كما يتحايل السجناء على العتمة بالبحث عن شغف يبقيهم أحياء. عثرت أنا على الرقص، شغفي القديم الذي تشبه علاقتي به عشاق قدامى صاحبهما الملل، فافتراقا كي لا يموت الحب. ولكن الشعور باقتراب الخطر، يجعل المشاعر تطفو على السطح، والخوف يستحضر أحياناً عواطف وانفعالات دفينة، وتصبح رجفة الخوف شبيه برعشة الحب. وربما من إيجابيات الحجر أنه يجعلنا نأخذ مسافة أمان من الوهم، ونبحث عن الحقيقي في حياتنا. ومن هنا يبدو الرقص وكأنه حب حياتي، وكما الشريك الذي لا يقبل عذولاً، اخترت الشرقي منه لأكون في مواجهة مع روحي، قدمي على الأرض وذراعي تلامسان السماء، ورأسي يلف في مدارات بعيدة. كل شيء بدأ عندما أرسلت لي معلمتي رسالة على الواتس آب تدعوني لنرقص، بدا الأمر غريباً ونحن في حجر صحي، لكنني أدركت في ما بعد أن الدرس سيتم عبر تطبيق أنستغرام.
للوهلة الأولى بدا «التعليم عن بعد» غريباً، ولكن عندما بدأت الموسيقى تصدح، شعرت وكأننا في قاعة الدرس المعتادة، وهرمون السعادة يعبر رأسي إلى قدمي، أما نشوة الآخرين فكنت أشعر بها من خلال القلوب الافتراضية الحمر، التي كانوا يرسلونها عبر التطبيق من عزلتهم الكالحة. في زمن آخر كان الرقص يجعلني امرأة أخرى، اليوم أشعر بأن الرقص يجعلني في مكان آخر، وكأنه سفر، وكل نغمة هي وجهة جديدة للروح، التي تبحث عن سلامها الداخلي بعيداً عن طبول الحرب الفيروسية.
أرقص وأنا أتنفس، بل أشعر بأنني أريد أن أموت هكذا، وأنا أرقص، قديماً أصاب «وباء الرقص» مئات الأشخاص في مدينة ستراسبورغ، وأدى إلى موت الكثيرين من شدة الإرهاق في سنة 1518، لكننا للأسف لا نستطيع اختيار موتنا، مع أن الموت من شدة الرقص يبدو أخف وقعاً من الموت وحيدة بفيروس يلتهم الرئة، مضيفاً إلى الموت غصة الوحدة. لكنني الآن سأنسى كل القلق وأرقص، فالرقص للنسيان…
وكما المياه التي استعادت نقاءها في أقنية مدينة البندقية، أشعر بالدماء تجري من جديد في عروقي، ولا حاجة بي إلى أصبغة الماكياج ولا إلى الأناقة في عزلة الرقص… عليَّ فقط أن أتصالح مع مرآتي، وأحتمل ساعة أراقص فيها ظلي.
القليل من أحمر الشفاه لظلي إذن، والموسيقى بدأت تصدح وأنا في الصف الأمامي خلف المعلمة تماماً، لا يفصلنا إلا زجاج التلفون العازل، وأغنية خفيفة تنبعث من الهاتف النقال:
«عيش يا قلبي عيش، وارقص رقصة مع الحياة».
العالم الذي نعرفه مضى
في الشدائد تظهر معادن المدن، الإيطاليون الأكثر حرارة يعاقبون بأعداد هائلة من الإصابات، ولكنهم يغنون للحياة من على شرفاتهم، الألمان يهرعون إلى ورق التواليت للبقاء على قيد حياة نظيفة، ولكن نظامهم الصحي المتماسك، كان كفيلاً بإبعاد شبح الأكفان المتكدسة، عن مستشفياتهم. وبعيداً عن استهلاك ورق التواليت استطاع هذا الوباء تلقين البشرية درساً في التضامن الإنساني ونبذ العنصرية، فليس الأجنبي الغريب هو المسؤول هذه المرة عن تهديد الحياة، وتعطيل عجلة الاقتصاد في الغرب، بل على العكس من ذلك ساهم الكثير من الأطباء من أصول مهاجرة في إنقاذ مئات الأرواح في القارة العجوز. وغني عن القول إن الأموال الطائلة التي استثمرت في صناعة الحروب، لو أنها أنفقت في مجال الصحة ومحاربة الأوبئة، لما كنا وصلنا إلى هنا، وربما في المقبل القريب سيحلم الأطفال بأن يصبحوا علماء فيروسات، فلزمن الأوبئة أبطال لا يظهرون على الشاشات، ولا في ملاعب كرة القدم، بل في غرف العمليات ومخابر الأبحاث. أما الدرس الآخر الذي لقنته الجائحة للبشر فهو عن معنى السعادة، التي لا تشتريها كماليات المجتمع الاستهلاكي، فالسعادة الحقيقية هي في صحة الجسد ودفء الوجود الإنساني مع العائلة والأصدقاء، أما الثقافة فقد أثبتت أنها الرفيقة المثالية في العزلة، وقد جعلها الوباء في متناول الجميع، حيث الكتب والأفلام متاحة كمتعة منزلية خالصة، وحتى المتاحف ودور الأوبرا التي أغلقت أبوابها، فتحت نوافذ افتراضية مجانية لزوارها.
ولكن رغم كل هذه المتع تبقى الإقامة الجبرية في البيت عملا شاقا، والجميع يعيش حالة ترقب مشوب بالخوف، للخروج إلى عالم لعلنا لن نعرفه بعد الآن. عالم ربما يكون أقل تلوثاً وأكثر احتراماً للطبيعة الأم، أو ربما عالم أكثر شمولية تتم فيه مقايضة الحرية بالصحة، أو لعل العولمة ستقدم قرباناً للوباء، وتضيق حدود العالم الممكن. وفي النهاية كم عدد الناس الذين سيغادرون عالمنا هذا، ليس بسبب الفيروس وحده، بل بسبب الجوع والفقر واليأس الناجمة عنه. كل هذا مازال برسم المستقبل، ولكن الأكيد أن العالم الذي نعرفه سيمضي. وما نحن الآن إلا في الوقت المستقطع بين زمنين.
وقت مستقطع
بينما يتجول الموت في مدننا، تلتقط الطبيعة المنهكة أنفاسها، إنه الربيع والأزهار تتلاقح غير عابئة بلقاحات المضادة للفيروسات، فالأزهار والأشجار لها مواعيدها الثابتة مع الفصول، وهي سيدة المكان ومن ساكني الجنة الأصليين، والبشر هم الطارئون. كذلك الحيوانات بدأت بالخروج من جحورها، لتطالب بنصيبها في هذا الكوكب، ولم يعد مستغرباً رؤية قطيع ماعز يرعى في شوارع المدينة الخالية، بينما يتوارى سكانها في بيوتهم، ليعيشوا خوف القطيع ومناعة القطيع. ولأن كل المدن سواء في زمن كورونا، فأنا أشعر في مدينتي المحاصرة بالوباء وكأنني في لا مكان، وحيدة أتأمل الشوارع الفارغة، إلا من بعض القطط الشريدة التي لم تعد تكفيها الفضلات، فهي تشتاق إلى صحبة البشر وضجيج الشوارع. وأشعر بالأيام تمر عليَّ متشابهة ولا تستجيب لأسمائها السبعة المعتادة، ولا شيء سوى الموسيقى يضبط إيقاع الزمن البطيء.
كم مكثنا؟
أسأل نفسي وأنا أرى بقايا طلاء الأظافر القديم على أطراف أصابعي، وينتابني شوق جارف لعناق أصدقائي، الذين لو حالفني الحظ والتقيتهم بعد زوال هذه الجائحة، ربما سنكتفي حينها بتحية «ناماستي» مع انحناءة خجولة للحياة، كي نقول شكراً أننا نجونا.
* نشر في القدس العربي
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.