يسمونها "قحبة بلفيل" ولكني احبها سعاد غرس الله. احب ابتسامتها. احب جرأتها. صوتها. حركة يديها حين تكون جالسة امامي. أحب حكاياتها وطريقة روايتها وخصوصا جسدها. عندما رأيت للمرة الاولي ابطيها المحلوقين شعرت برعشة تخترق كل جسدي. ومنذ ذلك الوقت صرت أؤمن بانه لا شيء في جسد المرأة اكثر اثارة من ابطيها حين يكونان محلوقين. اذكر ان أول ما قمت به حين اختليت بها للمرة الاولي. عارية هو انني دفنت رأسي في احد ابطيها ثم اخذت اتشممه واحرثه بطرف لساني غيرعابئ بوخز ما بدا ينمو من الشعر.
كان قد مضى زمن طويل على فراقنا حين انقطعت اخبارها.في البداية اختفت فلم اعد اراها من بعيد كما في السابق في مطعم او مقهي او حديقة او محطة مترو برفقة احدى اولئك اللواتي كانت تشتغل معهن في "جمعية التونسيات المهاجرات" لكن اخبارها ظلت تصلني. علاقتها بالجمعية التي ساهمت في تأسيسها بدأت تتغير وحماسها لما كانت تقوم به من توعية وتعبئة خصوصا في ما كانت تسميه ب- الفترات الحساسة كفترة الانتخابات فتر. وحتي فلسفتها في الحياة القائمة علي عبارة "اغنم الحياة وامض" التي كانت ترددها اخذت تتبدل على ما يبدو. وبعد فترة قصيرة انقطعت هذه الاخبار وحلت محلها شائعات لا اريد ان اصدقها. البعض يقول انها تزوجت من مهاجر تونسي شديد التدين يشتغل بتجارة اللحم الحلال فغيرت تماما سلوكها ونمط حياتها. توقفت عن العمل وقطعت علاقاتها باغلب صديقاتها وانحبست في البيت فهي لا تغادره الا متحجبة ولقضاء حاجة ملحة. والبعض الآخر يقول انها عادت نهائيا الي تونس وفتحت بما وفرته من مال الغربة وايضا بثمن الثلاجات والغسالات والمكاوي والفيديوهات والمسجلات والات التصوير والاطباق والطناجر والملاعق والسكاكين ومشدات النهود والكيلوتات وعلب علكة هوليوود التي حملتها معها صالون حلاقة كبيرا مجهزا باحدث الالات في قريتها مجاز الباب. ويقول اخرون بمزيج من الشماتة والسخرية والحقد انها اصيبت في عضوها التناسلي بمرض غريب وخطير دفع الاطباء الى ارغامها على ملازمة الفراش في احد المستشفيات بالضاحية لكي لا تنتقل العدوى الي غيرها. ويفسرون ذلك بشهوانية سعاد القوية ورغبتها الجامحة في مضاجعة من يعجبها من الرجال غير عابئة بما يردده حولها الناس وخصوصا النساء من اشاعات وتهم وانتقادات و شتائم.ويزعم البعض ان سعاد كانت في فترة ما عشيقة شاب برتغالي غني له مطعمان في بلفيل وانها ترافقه بين وقت واخر لقضاء بعض الايام في احد الفنادق الفخمة على الكوستا برافا.
ويتساءلون بشئ من الدهشة واللوم كيف تمنح امراة جميلة وذكية مثل سعاد جسدها لكافر غير مطهر.
لابد ان اعترف اني لم أحبها في البداية فقد كانت جراتها تخيفني وتولد في نفسي قليلا من الارتباك. حالما تطلعت الي وجهها اشتهيتها. نعم. منذ اللحظات الاولى اثارت سعاد رغبتي خلافا لكل النساء اللاتي عرفتهن قبلها. بعد لقائنا الاول بايام قليلة بلغت تلك الشهوة ذروتها وتحولت الى حمي حين شاهدت لاول مرة ابطيها المحلوقين. لما انقطعت اخبارها اكتشفت وانا استمع الي الحكايات الغريبة التي بدأت تنسج حولها ان اغلب الرجال في القنصليات والوداديات التي كانت تتردد عليها بحكم نشاطها في "جمعية التونسيات المهاجرات" كانوا يشتهونها وانهم حاولوا بوسائل مختلفة جرها الي الفراش. لم استغرب ذلك فسعاد امراة غير عادية. ولعل ما يزيد في تميزها هو ان اغلب النساء في الوسط الذي تتحرك فيه محدودات الجمال والذكاء والثقافة. القامة المائلة الي الطول رشيقة. الشعر الذي يكاد يلامس الكتفين فاحم ناعم. العينان الواسعتان بلونهما الرمادي الداكن تشكلان مع الفم العريض ذي الشفتين الممتلئتين مركز الثقل لوجه مستدير شديد الجاذبية. الا ان هذا الجمال الذي ورثته كما تقول عن جدة اندلسية الاصل على الارجح وفدت الى تونس ضمن من وفد اليها هربا من سيوف الاسبان ما كان ليبرز بهذا الشكل لولا ذكاء حاد يشع في العينين وذوق في اختيار الملابس والتنسيق بين الوانها واناقة كبيرة في حركاتها.
كانت سعاد تقول لي بين وقت واخر انها تحبني. لم اصدق ذك طبعا اذ كنت و لا ازال واثقا من انها تفعل ذلك لاني كنت سخيا معها. الا اني اميل الى الاعتقاد بانها تعلقت بي قليلا في فترة صعبة كانت تحتاج فيها الى رجل. ولعل ما سهل ذلك هو اني كنت دائما مهذبا ولطيفا معها. لم اتدخل ابدا في شوونها وعلاقاتها. ولم ابد ابدا رأيا او ملاحظة عن سلوكها رغم اني كنت احبها. كل ذلك لم يكن يهمني على أي حال لاني كنت مقتنعا بان علاقتنا عابرة رغم اهميتها بالنسبة لي. كل ما كنت اريده من سعاد هو ان تجلس بجواري وتحدثني. وبين وقت و اخر تاتي الي شقتي لاعريها وأحرث بطرف لساني ابطيها المحلوقين.
بعد اسابيع قليلة اخذت زياراتها الصباحية تتناقص شيئا فشيئا ثم انقطعت تماما. صرنا نلتقي في الظهيرة او في نهاية المساء ليس في شقتي فقط وانما في المقاهي والمطاعم والحدائق العامة ايضا.الا ان هذا التغيير الذي اثار في البداية مخاوفي لم يكن له أي تاثير سلبي على علاقتنا بل استطيع ان اقول انه كان انعطافة اساسية مهدت لمرحلة جديدة ازددت خلالها اقترابا من سعاد واعجابا بها. انضافت الى تلك الرغبة الجامحة احاسيس ادركت فورا طبيعتها ودلالتها. نعم. منذ ذلك الوقت اصبحت عاشقا.
لم افقد صوابي كما يحدث عادة للعشاق. لكني صرت سخيا جدا معها. كنت اريد ان اهديها كل ما يعجبها. لكن سعاد لا تريد شيئا لانها لا تريد ان تستغل حبي فهي لم تقبل مني سوى هدايا صغيرة وفي مناسبات محددة مثل عيد ميلادها الذي لاتحتفل به الا نادرا.
الشئ الوحيد الذي ترغب فيه حقا وتتحمس له هو ان ادعوها الى العشاء في مطعم لتناول اصداف البحر. نعم. سعاد ابنة مجاز الباب كما تصف نفسها احيانا والتي لم تشاهد البحر للمرة الاولى الا في الثالثة عشرة من عمرها خلال رحلة مدرسية الى بنزرت تعشق تلك الدويبات ذات القرون والقوائم والاشكال العجيبة التي يسمونها في المطاعم ثمار البحر.
عندما يأتي النادل بطبق وعليه قطع من السلطعون ونصف دزينة من المحار وعدد مماثل من محار الشواطئ الرملية والحلزون الاسود الصغير و بعض اللنغوستينات والقريديسات ويضعه بيننا على الطاولة تطلب نبيذا ابيض ثم تغطي فمها بيدها و تضحك وهي تتطلع الي بعينيها الواسعتين. استدير ببطء واحني راسي كي اتجنب عيون الجالسين حولنا من رواد المطعم خصوصا العجائز منهم و انخرط بدوري في ضحك لا ينتهي الا حين يعود النادل بقنينة النبيذ.
تبدا دائما بالقريديسات الوردية التي تفضلها على كل انواع الجمبري وحتى على السلطعون والكركند. تمسك بالقريدس بعد ان تصب قليلا من الخمر في كأسينا وتشرع في تقشيره. تفعل ذلك بسرعة وبطريقة تدل على انها تعرف جيدا هذه الدويبات البحرية. تقطع الذيل عادة في النهاية ثم تلقي بما بقي من القريدس في فمها وتغمس اصابعها في خليط من الماء والليمون لازالة الرائحة و اللزوجة.
تنظر الي وهي تشرب كاسها دفعة واحدة. اضحك من جديد وأروي لها ما حدث لأختي الوحيدة لما تجرأت على أكل سمكة سردين. قبل ان تتزوج اهداها خطيبها علبة سردين لما اكتشف صدفة ان اختي لم تشاهد ولم تاكل أبدا سمكا في حياتها. اخذت سمكة والتهمتها. وبعد وقت قصير أخذت تشكو من ألم في امعائها ثم بدات تتقيا.
تبتسم سعاد دون ان تقول شيئا. وتعود الى معالجة دويباتها البحرية التي تنتظر دورها مستكينة مستسلمة على كومة الطحالب. كانت تأتي على كل ما في الطبق. تزدرد المحار بعد ان تمطره بعصير الليمون الى درجة انه يبدأ في التحرك.
تلتهم كل ما تجده داخل الحلزون الاسود. تكسر قوائم السلطعون بكلابة صغيرة وتستخرج بعناية كل ما فيه. اتابع المشهد دائما بانتباه واعجاب. حالما انتهي من الاكل اتراجع واشرع في مراقبة حركة شفتيهاواصابعها متذكرا بين وقت واخر ما روته لي عن حياتها في مجاز الباب.
***
حين تسكر سعاد ترفض ان تعود الى بيتها وترافقني الى شقتي. ما ان اغلق الباب حتى تبدأ في خلع اغلب ثيابها تستلقي على الفراش. اعد لها القهوة واجلس بعيدا ولا اكلمها فقد كنت اعرف انها تحتاج في مثل هذه الحالات الى الصمت. وبعد القهوة الثانية تستوي في جلستها وتنخرط في حديث طويل عن اعوام المراهقة في مجاز الباب. لا اقاطعها ابدا وانما اصغي اليها بانتباه فقد كنت واثقا من ان الحديث عن تلك الاعوام يريحها بل ويوفر لها متعة ما. استاذ الرياضيات قصير القامة ذو البطن المكور الذي يتراهن مع رواد المقهى على ان ما يتقاضاه من مال كل شهر سيرغمها ذات يوم على ان تقبله زوجا وانه هو الذي سيفض بكارتها و يمرغ رأسه في تلك المؤخرة المدهشة التي لا مثيل لها في كل مجاز الباب. الاب الذي كان يشتغل نادلا في افخم مطعم في البلدة. كان يدللها ويتباهى بذكائها بل وبجمالها. شعرها ناعم مثل شعر الفرنساويات يقول لاصدقائه. يقلم اظافرها. يقص شعرها. يبدي رأيه في ما ترتديه. وفي بعض المناسبات يختار لها الملابس. عندما بدأت انوثتها تفيض تغير تماما. أخذ يتحاشاها في المطعم وفي الشارع وحتى في البيت. شيئا فشيئا ابتعد عنها واصبح عاجزا عن النظر اليها. لم يعد يكلمها ايضا. كل اتصال صار يتم بواسطة الام التي لم تعد تعرف كيف تتصرف حين يكون الاثنان في البيت. زوجها يقول لها كل يوم. ابحثي عن رجل لهذة القنبلة قبل ان تنفجر فتقتلني وتقتلك وتدمر كل شيء. استاذ الفرنسية الرقيق جدا الذي كانوا يروجون عنه اخبارا غريبة لا اساس لها من الصحة. كان يدير نادي السينما الذي اسسه في البلدة. كل الافلام التي احبتها وتأثرت بها شاهدتها هناك. هناك ايضا بدات معرفتها الحقيقية بالسينما واكتشفت ميلها الخاص اليها الذي لم يخف الى حد الان حتى بعد اقبالها الشديد على الافلام المصرية في الاعوام الاخيرة. "ساكو وفانزيتي". و"زد". و"حالة حصار". و"أغير او غضب الالاه" و"الازمنة الحديثة". و"الموت في البندقية" و"العصفور" و"شمس الضباع" و"المومياء" و"القيامة الان". الحلاقة التي كانت تحبها كابنتها كما تقول. تصفف شعرها مجانا. تهديها امشاطا وعطورا ومراهم تجميل مستوردة من المانيا حيث يقيم زوج اختها دون ان تنسى ان تتلمسها بين وقت واخر في مواضع حساسة او تداعبها مداعبات غريبة ادركت فيما بعد لما كبرت انها غير بريئة. اخوتها الثلاثة الذين تكبرهم كلهم وخصوصا اصغرهم الذي يكتب اليها كل شهر رسالة يتحدث فيها بدقة عن كل ما يحدث في مجاز الباب. الممرض الذي احبته كما لم تحب احدا قبل ان تصبح بدورها ممرضة في مستشفى البلدة بعد انقطاع نهائي عن الدراسة وعاشت معه مغامرة جنونية خطرة كادت تفقدها بكارتها التي كان ذلك الرجل القصير والبطن المكور مهووسا بها. ابناء الكلب تقول دون ان تغير نبرتها يتباهون بالتحرر ويؤسسون نوادي واتحادات وجمعيات للمراة في كل مكان لكن حين ينزلقون بذكورتهم ملامسين القاع دون ان يعترضهم ذلك الحاجز يصابون بانهيار عصبي واحيانا يقترفون افظع الجرائم لماذا يتشبثون بذلك الغشاء الى هذا الحد. لماذا تذهب عقولهم وتظلم الدنيا في عيونهم عندما يكتشفون ان الطريق سالكة مفتوحة. لماذا هم ضد الفتح والانفتاح.
ألم يبدأ تاريخنا المجيد بفتح مبين. ثم أليس من الافضل لهذا الغار المظلم والرطب غار العسل كما تسميه زميلة في "جمعية التونسيات المهاجرات "ان يفتح بسرعة للهواء والشمس. لو كنت ناضجة انذاك لما ترددت لحظة واحدة في تحطيم هذا الحاجز ولسمحت لذلك الممرض الذي احببته ان يكسرني كما يقولون او فعلت ذ لك بنفسي ومزقت هذا الغشاء بشفرة حلاقة او مسمار او ناتف شعر او بكل بساطة باظافري نكاية بهولاء الذكور الديكة المهووسين بالبكارة. على أي حال لقد انتقمت منهم. لم اسع الى ذلك وانما تم بشكل تلقائي وفي ظروف لم أكن اتوقعها اطلاقا. ذات ليلة كسرني على ضوء قمر صيفي وفي عربة من الدرجة الثانية لقطار سريع يعبر مقاطعة كاتالونيا متوجها الى برشلونة وتحديدا في طرف ممرها الطويل شاب اندلسي اسمر كافر وغير مطهر.
الغريب في الامر اني لم انتبه الى ذلك الا بعد دقائق، لا شك اني كنت سكرانة اذ كان من عادتي ان اشرب كثيرا من البيرة في تلك الاعوام التي سافرت فيها بالقطار الى اشهر مدن أوروبا. حين خلص مني ذلك الشاب الذي لم اعد اذكر حتى اسمه جسده اتكات على جنبي قبالة النافذة لرؤية القمر الذي يملا المكان بضوئه. عندئذ وقعت عيناي على خيط رقيق من الدم يسيل في اتجاه ركبتي. لم اتالم. لم افرح. لم اتذكر احدا ولم افكر في أي شيء. الحقيقة اني لم احس باي شيء. كنت مثل جذع شجرة مقطوعة ملقى في مكان ما. كل ما فعلته هو اني مسحت ببطء وهدوء الدم بورق كلينيكس ثم اسندت رأسي الفارغ كصحراء على كيسي واخذت اتطلع الى قمر كاتالونيا.
لا تتحرك سعاد في مكانها ولا تغير نبرة صوتها. تعود الى أعوام الدراسة في ثانوية مجاز الباب. تتحدث عن أمها التي كانت تشتغل هناك. تقدرها وتعزها لانها علمتها الكثير مما يجب ان تعرفه كل انثى في سن المراهقة. بدون حياء او حشمة شرحت لها كل شئ من ذلك الشئ الذي هو نعمة من عند ربي كما تقول.تحبها طبعا لكن اقل مما كانت تحب ذلك الأب الذي كف عن ان يكون أبا منذ ان بدأ جسدها يفور وقرر ان ينساها ظلما. نعم ظلما اذ ما ذنبها ان نما جسدها بهذا الشكل. هي ايضا فوجئت بهذا التغير الذي لم تستعد له نفسيا. صحيح ان احساسا بالزهو والسعادة كان يغمرها في الايام الاولى خصوصا حين تكون وحيد ة في البيت فتتعرى امام مرآة الخزانة الكبيرة في غرفة ابيها وأمها او تلامس الشعر الذي بدا ينمو بين فخذيها أو تتأمل استدارة ردفيها الطريين الناعمين وهذا الفم بشفتيه الممتلئتين. صحيح ايضا انها تشعر انها اصبحت امراة حقيقية. يشتهيها الرجال عندما تمر امام أي مقهى في وسط البلدة فتستدير الروؤس وتمتد الاعناق في اتجاهها. نعم كل هذا يفرحها. و لكن كم من مرة ظلمت او شتمت او اعتدي بسبب وبدون سبب. في البداية كانت لا تفهم ما يحد ث لها فتتألم كثيرا لكنها سرعان ما ادركت كل شئ و اصبحت تتقبل الامر وتتعامل معه بكثير من الصبر والتماسك. كم من مرة نعتت بانها قحبة. حتى هنا لم تسلم من ذلك. نعم لا تزال الى اليوم تدفع ثمن هذه الانوثة الفائضة في الوداديات والقنصليات التي تتردد عليها بحكم نشاطها في "جمعية التونسيات المهاجرات".
أمي امراة رقيقة وحساسة تقول سعاد، لما اعلمتها باني قررت ان اتوقف عن الدراسة وادخل مدرسة الممرضات لاستقل بذاتي وحياتي كاد يغمى عليها اذ كانت تحلم ككل الامهات الفقيرات غير المتعلمات ان اصبح استاذة او طبيبة. وعندما قلت لها بعد اعوام كثيرة اني سأهج هربا من شبح هذا الأب الذي يزداد ابتعادا وانغلاقا وانطواء على نفسه وخوفا من ان يفعل شيئا غريبا كأن يرتكب جريمة او يلقي بنفسه تحت عجلات القطار وهربا من ذلك الرجل القصير الذي يراهن على انه سيمرغ رأسه ذات يوم في موخرتي ومن مشاكسات ونظرات رواد المقاهي ومن التهم والاشاعات التي تلاحقني في كل مكان ومن ناموس مجاز الباب وبرغشه وبعوضه ومن الاتربة والغبار وزبل الابقار وروث البغال والحمير على ما يسمونه ارصفة حين قلت لها كل هذا اغمي عليها فعلا.
تتوقف سعاد عن الكلام. ارقبها دون ان اتحرك. عندما تتكئ على جنبها اصير واثقا من انها لن تقول شيئا. افتح النافذة قليلا لتهوية الغرفة ثم انهض واجلس الى جوارها على السرير. تلتفت الي وتبتسم ابتسامة ماكرة مغرية ينفتح خلالها فمها وترتعش شفتها السفلى.ابتسم لها بدوري فتنظر الي بعد ان تزم شفتيها الى الداخل وتحركهما كانها تمتص شيئا. اغمض عيني قلبلا وعندما افتحهما تلقي بما تبقى من ثيابها ثم تجر نحوي جسدها. منذ تلك اللحظة يخيم صمت ثقيل وموجع تشتد وطاته كلما مر الوقت وتتخلله تنفسات لاهثة وشهقات متقطعة او مكتومة. صمت لا بد منه لكي يحدث ما يحدث اذ يفقد الكلام أي كلام كل معنى. ببطء شديد تشرع سعاد في تحريك جسدها فيتغير وجهها شيئا فشيئا. يتبدل اللون اما الملامح فهي تختفي تاركة مكانها لملامح اخرى.
في البداية تستلقي على ظهرها او جنبها رافعة خصرها قليلا او فاتحة ساقيها او مادة يديها او دافعة بنصفها السفلي الى الوراء. يتخذ جسدها وضعيات تبرز بشكل فضائحي اجزاء تعرف اني افضلها على غيرها. بعد وقت قصير تغمض عينيها طيعة مستسلمة فتبدأ اللعبة. استنفر الاصابع واللسان والانف اغلب ادوات الحس وأوقظ ما يرقد في من غريزة وبدائية ثم اقتحم مناطق قصية محرمة لاستكشافها. اكون في اغلب الاحيان متوترا. ترتعش يداي وتتسارع دقات القلب. ترتبك اصابعي وتتعثر وهي تقترب من تلك الاماكن السرية فأنا افعل ذلك مرغما الى حد ما وليس بدافع رغبة قوية وان كنت اعترف بان ذلك يستهويني. تدفعني سعاد الى هذه اللعبة بذكاء كبير. توظف جمالها وحساسيتها. تستخدم طاقتها الهائلة على الاغراء. توجهني. تقودني حيث تشاء فهي التي تمسك بكل خيوط اللعبة وتتحكم فيها من البداية الى النهاية.
***
لم تبد سعاد رغبة في الذهاب الى مطعم لتناول ثمار البحر هذه المرة ربما لان في الانتقال الى مكان عام والجلوس الى طاولة وسط جمع من الناس والتهام تلك الدويبات ذات القرون والقوائم التي يعتبرها سكان الريف الداخلي عقارب وخنافس ودودا شيئا من الاحتفال والخفة لا يتناسب تماما مع ما حدث في تلك الليلة.
الا ان ذلك لم يمنع سعاد من ان تعب ما تشاء من النبيذ. كالعادة شربت حتى سكرت وكالعادة استلقت على الفراش وبدات تتحدث لا عن ذلك الرجل الذي كان يحلم بان يفض بكارتها ولا عن ذلك الاب الذي تغير تماما لما بدات انوثتها تفيض ولا عن مجاز الباب وانما عن احداث وصور وانطباعات و احاسيس اكثر ايغالا في الزمن.
اول فستان اشتراه لي ابي كان من الكتان تقول سعاد. لونه احمر فاتح والياقة وحواشي الكمين من الدانتيلا والحزام ينزل الى ما تحت الركبتين. اتذكر ايضا الدكان الذي اصطحبني ابي اليه لشراء الفستان. خلال زيارتي الاخيرة لتونس اكتشفت انه تحول الى محل لبيع الكسكروتات والدجاج المصلي تغزوك روائح زيوته المحترقة وموسيقاه الصاخبة وضجيج رواده قبل خمسين مترا من الوصول اليه.
هل تدري في مناسبة اشترى لي ابي الفستان. زواج خالتي التي لم احدثك عنها ابدا. خالتي حدة. كنت احبها مثلما احب امي. هي ايضا كانت تحبني كانت تريد طفلة تشبهني. طفلة مثلي تماما.هذا ما كانت تردده امام الجميع. لكن الموت لم يمهلها لكي تحقق امنيتها فبعد ثلاثة شهور من زواجها اصابها مرض خطير اودى بحياتها بعد اسابيع قليلة.
كنت بدأت اكبر حين تزوجت خالتي. كنت في السادسة او الخامسة. لم اعد اذكر. يوم العرس استحوذت علي خالتي منذ ان تصدرت المنصة التي يخصصونا للعروس لكي يراها الجميع. لم تسمح لاي شخص بان يفرق بيننا.كانت فخورة بي و انا ارتدي فستاني الذي كان محط اعجاب الجميع. وكانت فرحة بجلوسي الى جوارها على المنصة.
طوال الوقت الذي امضته خالتي على المنصة كنت بجوارها. و لما حان وقت الدخلة رفضت ان افارقها. لم افهم لماذا اراد فجأة كل الناس ان ابتعد عنها. امي هي اول من حاول اقناعي بذلك. خالتك مرهقة.. تعالي معي.. لا بد ان نتركها تستريح قليلا.. هكذا كانت امي تردد بصوت اقرب الى الهمس. لكني لم اقتنع. وبعد محاولات عديدة غير مجدية من ابي والاقرباء والجيران تدخلت خالتي حدة. حدجتني بنظرة حادة. وفجاة دفعتني لتخلص نفسها ثم نهضت بسرعة وتبعت زوجها الذي كان ينتظرها في مدخل غرفتهما. حالما دخلا انغلق بسرعة. وفي التو حدثت اشياء كثيرة دفعة واحدة. دق الدربوكة و صوت المزود انقطعا. والرجال القليلون الذي سمح لهم بمخالطة النساء انسحبوا الى شجرة التوت ، اما النساء اللاتي كن يتحركن مثل خلية نحل حول منصة العروس فقد تحلقن حول امي بعد ان توقفن عن الرقص واطلاق الزغاريد، كل الصخب الذي كان يهز المكان توقف ليحل محله صمت غريب يقطعه بين وقت واخر همس او صوت منخفض.
نسيت ما حدث لي على المنصة وتلاشى الاحساس بالاهانة الذي ولدته في خالتي بحركتها المباغتة لتستولي على حيرة كبيرة. ما الذي جعل الناس يفترقون او يجتمعون بهذا الشكل. لماذا انتهى العرس باختفاء العروسين. ثم لماذا كل هذا الصمت.
وانا في هذه الحيرة اذا بحركة شديدة حول الغرفة اعقبها صخب اعاد المكان الى ما كان عليه قبل اختفاء العروسين. ارتفع دق الدربوكة و صوت المزود من جديد. وهز المكان بغتة دوي طلقات نارية متتابعة وتعالت الزغاريد. امي كانت اكثر النساء تحمسا لما كان يحدث حولنا. كانت تحتضنني بيدها اليسرى وباليمنى تمسك بقميص ابيض تتوسطه لطخة عرفت فيما بعد انها لطخة دم.
طبعا لم يقل لي احد لمن هو هذا القميص ولماذا هو ملطخ بالدم لكنه بقي في ذهني مثل سر غامض ولم ينكشف امره إلا في بداية المراهقة حين اخذت أمي تحدثني عما يجب ان اعرفه كانثى من ذلك الشئ الذي من عند ربي كما كانت تقول.
ثمة شيء آخر اتذكره جيدا كما لو انه وقع امس. وهو النوم بين امي وابي في فراشهما في الايام الاولى التي تلت موت خالتي. قبلها كنت انام معهما في نفس الغرفة لكن لوحدي على فراش صغير مركون في زاوية. لا بد ان خشيتهما من ان ارى احلاما مزعجة وان تنتابني المخاوف والهواجس هي التي جعلتهما يتخذان هذا القرار.
السرير مقترن في ذهني برائحة ابي وتحديدا رائحة فمه. رائحة غريبة تشبه قليلا رائحة القطران الذي كان يطلى به قرب الماء والجمال المصابة بالجرب لكنها ليست كريهة بل استطيع ان اقول انها جذابة الى حد ما. غريب امر هذه الذاكرة. الان وأنا احاول ان أصف تلك الرائحة انتبه الى انها تشبه قليلا رائحة الشاب الاندلسي الذي تعرفت عليه في قطار كاتالونيا ثمة روائح والوان واصوات يصعب نسيانها لتميزها الشديد. يخيل الينا انها امحت نهائيا لكنها تفاجئنا من جديد بحضورها. تلك الرائحة من هذا النوع. استيقظ عليها كل يوم وهي اول ما يتسلل الي من هذا الخليط الحواسي الفاتر اللذيذ المبهم الذي يرافق يقظة الصباح. يحدث ذلك قبل ان افتح عيني. ولكي لا افسد على نفسي هذه المتعة لا اتحرك. ابقى هامدة مغمضة العينين. أميل قليلا برأسي نحو أبي فيتناهى الى تنفسه وهو يتردد بانتظام. وبحذر ازداد اقترابا منه والصق وجهي بانفه، اقوم بكل هذه الحركات الصغيرة كل يوم بدقة وصرامة كما لو اني اؤدي طقوسا لبدء نهار جديد.اكون حذرة ليس خوفا من ان اوقظ ابي اذ ان نومه ثقيل كما يقول هو نفسه وانما خوفا من ان تفطن أمي التي اكون متيقنة في تلك اللحظات من انها قد استيقظت الى ما كنت افعله. كنت اخشى ان تكتشف ما كنت اعتبره سرنا وهو كل ما كان يحدث لي ولابي منذ ان تتسلل اليّ رائحة فمه الى اللحظة التي استسلم فيها لاحاسيس مختلفة من النشوة والفرح والارتباك بعد ان الصق وجهي بانفه لكي أتلقى اكثر ما يمكن من تنفسه.
كنت ادرك بشكل غامض ان ابي يعرف ذلك وانه متواطئ معي بطريقة ما. وكنت اريد ان تظل هذه الطقوس الصغيرة التي ادشن بها يومي سرا بيني وبينه هو الذي يقص شعري ويقلم اظافري هو الذي كان يتباهى بجمالي امام زملائه و يشعر بالفخر حين يقولون له بكثير من المبالغة دون شك ابنتك ستكون بعد اعوام ملكة جمال تونس. بعد لحظات طويلة استدير الى جهة أمي وافتح عيني. تندفع نحوي فورا و تضمني اليها بقوة. عندما اتخلص من ذلك وأهجر عالم السرير تغزوني احاسيس اخرى يولدها في صباح مجاز الباب. على حال كل ما له علاقة بالصباح في تلك البلدة احبه. رائحة الخبز.رائحة حطب يحترق.رائحة الارض المبللة بالندى.رائحة الحليب.رائحة القهوة.رائحة البيض المقلي.رائحة البقول والثمار.رائحة الفطائر، رائحة الاوكالبتوس في الشوارع والساحات العامة والورد والياسمين في حدائق البيوت.
اقول في نفسي وأركز نظري على فم سعاد خوفا من ان تظن اني بدأت أمل حديثها انه لا فرق بين صباح مجاز الباب وقريتي. نفس الروائح سوى ان الصباح في قريتي يبدا بالبحث عن العقارب لتقتيلها فطوال فصل الصيف تتسلل كل ليلة هذه الدويبات السامة السوداء والصفراء على حد السواء الى غرف النوم التي تفضلها على غيرها من الغرف وتختبئ تحت الاسرة و الطاولات والخزائن لتقضي ليلتها هناك. احيانا تختفي تحت المخدات والاغطية و تندس في الاحذية و جيوب السراويل والسترات وفي كل ما يعترضها من صناديق وعلب.
هذا الهجوم الموسمي للعقارب يثير الرعب في النفوس. يهجر الناس الغرف وينامون في العراء على اسرة يضعون قوائمها في طاسات وقصاع مليئة بالماء لانهم يعرفون ان العقرب لا تتقن السباحة فبعد ان تتسلق جوانب تلك الاواني تسقط في الماء وتبقى هناك حتى الصباح فتقتل شر قتلة.
الان كل هذا الحذر لا يفيد احيانا فالعقارب تتسلل في اشد اللحظات حميمية وسرية الى اماكن لا تخطر ببالنا اطلاقا. ذات ليلة قائظة خرج احد الاقرباء لقضاء حاجته في الخلاء كما يفعل سكان الارياف. اختار مكانا هادئا واقعى مبالغا على ما يبدو في الارتخاء. كان الظلام كثيفا.لم يكن يتوقع ان خطرا يمكن ان يداهمه. لم يخطر بباله وهو في تلك الحالة ان عضوه الذي لم يصبه طوال حياته أي اذى يمكن ان يتعرض لخطر حقيقي.
في البداية لم يع جيدا ما حدث له. كل ما شعر به هو ان شيئا وخزه في احدى خصيتيه. فيما بعد ادرك ان الوخزة ليست وخزة شوكة او شيئا من هذا القبيل فقد تزامنت مع بدء انسكاب بوله على الرمل بل بدا له ان ذلك الانسكاب هو الذي سببها.ثم احس بوجع اخذ يتزايد بشكل لا يحتمل. اشعل عود ثقاب فاذا به يرى بين قدميه عقربا صفراء. لحسن حظه كانت صغيرة.
لا استطيع ان اقاوم الرغبة في الابتسام و انا اتذكر هذه الحادثة التي صارت حكاية تروى للتندر في القرية. تسألني سعاد بصوت متعب عما يدفعني الى الابتسام فأروي لها الحكاية. تحرك شفتيها في ما يشبه الابتسامة ولا تقول شيئا. استوي في جلستي واثبت بصري على وجهها استعدادا للاصغاء اليها من جديد. لكن سعاد تبدي فجاة اهتماما بالحكاية وتطلب مني ان ارويها مرة ثانية. استجيب لطلبها في التو. وحالما انتهي من ذلك تنفجر ضاحكة. وشيئا فشيئا يرتفع ضحكها فانخرط بدوري في الضحك. بعد لحظة يتحول ضحكها الى قهقهات طبيعية في البداية ثم متشنجة. قهقهات تمهد كما الصمت في المرات السابقة لما سنستسلم له ’ لذلك النداء البدائي الذي يوجهه اللحم للحم.
يخفت صوتها ويتباطأ لكنها لا تكف عن الضحك. فجأة تستدير وتنبطح علىالارض. وببطء ترفع قبالتي نصفها السفلي عاريا وهي تواصل ضحكها الذي لم يعد انذاك ضحكا وانما صار صوتا غريبا يشبه أنينا خافتا آتيا من بعيد. انظر اليها طويلا دون ان اقوم باية حركة ثم انهض وانا امسح العرق الذي اخذ يتصبب من جبيني. واتوجه الى المطبخ. اعب ما استطيع من الماء وانحني على النافذة المفتوحة لأملا رئتي بهواء الليل ثم أعود الى سعاد.
.
كان قد مضى زمن طويل على فراقنا حين انقطعت اخبارها.في البداية اختفت فلم اعد اراها من بعيد كما في السابق في مطعم او مقهي او حديقة او محطة مترو برفقة احدى اولئك اللواتي كانت تشتغل معهن في "جمعية التونسيات المهاجرات" لكن اخبارها ظلت تصلني. علاقتها بالجمعية التي ساهمت في تأسيسها بدأت تتغير وحماسها لما كانت تقوم به من توعية وتعبئة خصوصا في ما كانت تسميه ب- الفترات الحساسة كفترة الانتخابات فتر. وحتي فلسفتها في الحياة القائمة علي عبارة "اغنم الحياة وامض" التي كانت ترددها اخذت تتبدل على ما يبدو. وبعد فترة قصيرة انقطعت هذه الاخبار وحلت محلها شائعات لا اريد ان اصدقها. البعض يقول انها تزوجت من مهاجر تونسي شديد التدين يشتغل بتجارة اللحم الحلال فغيرت تماما سلوكها ونمط حياتها. توقفت عن العمل وقطعت علاقاتها باغلب صديقاتها وانحبست في البيت فهي لا تغادره الا متحجبة ولقضاء حاجة ملحة. والبعض الآخر يقول انها عادت نهائيا الي تونس وفتحت بما وفرته من مال الغربة وايضا بثمن الثلاجات والغسالات والمكاوي والفيديوهات والمسجلات والات التصوير والاطباق والطناجر والملاعق والسكاكين ومشدات النهود والكيلوتات وعلب علكة هوليوود التي حملتها معها صالون حلاقة كبيرا مجهزا باحدث الالات في قريتها مجاز الباب. ويقول اخرون بمزيج من الشماتة والسخرية والحقد انها اصيبت في عضوها التناسلي بمرض غريب وخطير دفع الاطباء الى ارغامها على ملازمة الفراش في احد المستشفيات بالضاحية لكي لا تنتقل العدوى الي غيرها. ويفسرون ذلك بشهوانية سعاد القوية ورغبتها الجامحة في مضاجعة من يعجبها من الرجال غير عابئة بما يردده حولها الناس وخصوصا النساء من اشاعات وتهم وانتقادات و شتائم.ويزعم البعض ان سعاد كانت في فترة ما عشيقة شاب برتغالي غني له مطعمان في بلفيل وانها ترافقه بين وقت واخر لقضاء بعض الايام في احد الفنادق الفخمة على الكوستا برافا.
ويتساءلون بشئ من الدهشة واللوم كيف تمنح امراة جميلة وذكية مثل سعاد جسدها لكافر غير مطهر.
لابد ان اعترف اني لم أحبها في البداية فقد كانت جراتها تخيفني وتولد في نفسي قليلا من الارتباك. حالما تطلعت الي وجهها اشتهيتها. نعم. منذ اللحظات الاولى اثارت سعاد رغبتي خلافا لكل النساء اللاتي عرفتهن قبلها. بعد لقائنا الاول بايام قليلة بلغت تلك الشهوة ذروتها وتحولت الى حمي حين شاهدت لاول مرة ابطيها المحلوقين. لما انقطعت اخبارها اكتشفت وانا استمع الي الحكايات الغريبة التي بدأت تنسج حولها ان اغلب الرجال في القنصليات والوداديات التي كانت تتردد عليها بحكم نشاطها في "جمعية التونسيات المهاجرات" كانوا يشتهونها وانهم حاولوا بوسائل مختلفة جرها الي الفراش. لم استغرب ذلك فسعاد امراة غير عادية. ولعل ما يزيد في تميزها هو ان اغلب النساء في الوسط الذي تتحرك فيه محدودات الجمال والذكاء والثقافة. القامة المائلة الي الطول رشيقة. الشعر الذي يكاد يلامس الكتفين فاحم ناعم. العينان الواسعتان بلونهما الرمادي الداكن تشكلان مع الفم العريض ذي الشفتين الممتلئتين مركز الثقل لوجه مستدير شديد الجاذبية. الا ان هذا الجمال الذي ورثته كما تقول عن جدة اندلسية الاصل على الارجح وفدت الى تونس ضمن من وفد اليها هربا من سيوف الاسبان ما كان ليبرز بهذا الشكل لولا ذكاء حاد يشع في العينين وذوق في اختيار الملابس والتنسيق بين الوانها واناقة كبيرة في حركاتها.
كانت سعاد تقول لي بين وقت واخر انها تحبني. لم اصدق ذك طبعا اذ كنت و لا ازال واثقا من انها تفعل ذلك لاني كنت سخيا معها. الا اني اميل الى الاعتقاد بانها تعلقت بي قليلا في فترة صعبة كانت تحتاج فيها الى رجل. ولعل ما سهل ذلك هو اني كنت دائما مهذبا ولطيفا معها. لم اتدخل ابدا في شوونها وعلاقاتها. ولم ابد ابدا رأيا او ملاحظة عن سلوكها رغم اني كنت احبها. كل ذلك لم يكن يهمني على أي حال لاني كنت مقتنعا بان علاقتنا عابرة رغم اهميتها بالنسبة لي. كل ما كنت اريده من سعاد هو ان تجلس بجواري وتحدثني. وبين وقت و اخر تاتي الي شقتي لاعريها وأحرث بطرف لساني ابطيها المحلوقين.
بعد اسابيع قليلة اخذت زياراتها الصباحية تتناقص شيئا فشيئا ثم انقطعت تماما. صرنا نلتقي في الظهيرة او في نهاية المساء ليس في شقتي فقط وانما في المقاهي والمطاعم والحدائق العامة ايضا.الا ان هذا التغيير الذي اثار في البداية مخاوفي لم يكن له أي تاثير سلبي على علاقتنا بل استطيع ان اقول انه كان انعطافة اساسية مهدت لمرحلة جديدة ازددت خلالها اقترابا من سعاد واعجابا بها. انضافت الى تلك الرغبة الجامحة احاسيس ادركت فورا طبيعتها ودلالتها. نعم. منذ ذلك الوقت اصبحت عاشقا.
لم افقد صوابي كما يحدث عادة للعشاق. لكني صرت سخيا جدا معها. كنت اريد ان اهديها كل ما يعجبها. لكن سعاد لا تريد شيئا لانها لا تريد ان تستغل حبي فهي لم تقبل مني سوى هدايا صغيرة وفي مناسبات محددة مثل عيد ميلادها الذي لاتحتفل به الا نادرا.
الشئ الوحيد الذي ترغب فيه حقا وتتحمس له هو ان ادعوها الى العشاء في مطعم لتناول اصداف البحر. نعم. سعاد ابنة مجاز الباب كما تصف نفسها احيانا والتي لم تشاهد البحر للمرة الاولى الا في الثالثة عشرة من عمرها خلال رحلة مدرسية الى بنزرت تعشق تلك الدويبات ذات القرون والقوائم والاشكال العجيبة التي يسمونها في المطاعم ثمار البحر.
عندما يأتي النادل بطبق وعليه قطع من السلطعون ونصف دزينة من المحار وعدد مماثل من محار الشواطئ الرملية والحلزون الاسود الصغير و بعض اللنغوستينات والقريديسات ويضعه بيننا على الطاولة تطلب نبيذا ابيض ثم تغطي فمها بيدها و تضحك وهي تتطلع الي بعينيها الواسعتين. استدير ببطء واحني راسي كي اتجنب عيون الجالسين حولنا من رواد المطعم خصوصا العجائز منهم و انخرط بدوري في ضحك لا ينتهي الا حين يعود النادل بقنينة النبيذ.
تبدا دائما بالقريديسات الوردية التي تفضلها على كل انواع الجمبري وحتى على السلطعون والكركند. تمسك بالقريدس بعد ان تصب قليلا من الخمر في كأسينا وتشرع في تقشيره. تفعل ذلك بسرعة وبطريقة تدل على انها تعرف جيدا هذه الدويبات البحرية. تقطع الذيل عادة في النهاية ثم تلقي بما بقي من القريدس في فمها وتغمس اصابعها في خليط من الماء والليمون لازالة الرائحة و اللزوجة.
تنظر الي وهي تشرب كاسها دفعة واحدة. اضحك من جديد وأروي لها ما حدث لأختي الوحيدة لما تجرأت على أكل سمكة سردين. قبل ان تتزوج اهداها خطيبها علبة سردين لما اكتشف صدفة ان اختي لم تشاهد ولم تاكل أبدا سمكا في حياتها. اخذت سمكة والتهمتها. وبعد وقت قصير أخذت تشكو من ألم في امعائها ثم بدات تتقيا.
تبتسم سعاد دون ان تقول شيئا. وتعود الى معالجة دويباتها البحرية التي تنتظر دورها مستكينة مستسلمة على كومة الطحالب. كانت تأتي على كل ما في الطبق. تزدرد المحار بعد ان تمطره بعصير الليمون الى درجة انه يبدأ في التحرك.
تلتهم كل ما تجده داخل الحلزون الاسود. تكسر قوائم السلطعون بكلابة صغيرة وتستخرج بعناية كل ما فيه. اتابع المشهد دائما بانتباه واعجاب. حالما انتهي من الاكل اتراجع واشرع في مراقبة حركة شفتيهاواصابعها متذكرا بين وقت واخر ما روته لي عن حياتها في مجاز الباب.
***
حين تسكر سعاد ترفض ان تعود الى بيتها وترافقني الى شقتي. ما ان اغلق الباب حتى تبدأ في خلع اغلب ثيابها تستلقي على الفراش. اعد لها القهوة واجلس بعيدا ولا اكلمها فقد كنت اعرف انها تحتاج في مثل هذه الحالات الى الصمت. وبعد القهوة الثانية تستوي في جلستها وتنخرط في حديث طويل عن اعوام المراهقة في مجاز الباب. لا اقاطعها ابدا وانما اصغي اليها بانتباه فقد كنت واثقا من ان الحديث عن تلك الاعوام يريحها بل ويوفر لها متعة ما. استاذ الرياضيات قصير القامة ذو البطن المكور الذي يتراهن مع رواد المقهى على ان ما يتقاضاه من مال كل شهر سيرغمها ذات يوم على ان تقبله زوجا وانه هو الذي سيفض بكارتها و يمرغ رأسه في تلك المؤخرة المدهشة التي لا مثيل لها في كل مجاز الباب. الاب الذي كان يشتغل نادلا في افخم مطعم في البلدة. كان يدللها ويتباهى بذكائها بل وبجمالها. شعرها ناعم مثل شعر الفرنساويات يقول لاصدقائه. يقلم اظافرها. يقص شعرها. يبدي رأيه في ما ترتديه. وفي بعض المناسبات يختار لها الملابس. عندما بدأت انوثتها تفيض تغير تماما. أخذ يتحاشاها في المطعم وفي الشارع وحتى في البيت. شيئا فشيئا ابتعد عنها واصبح عاجزا عن النظر اليها. لم يعد يكلمها ايضا. كل اتصال صار يتم بواسطة الام التي لم تعد تعرف كيف تتصرف حين يكون الاثنان في البيت. زوجها يقول لها كل يوم. ابحثي عن رجل لهذة القنبلة قبل ان تنفجر فتقتلني وتقتلك وتدمر كل شيء. استاذ الفرنسية الرقيق جدا الذي كانوا يروجون عنه اخبارا غريبة لا اساس لها من الصحة. كان يدير نادي السينما الذي اسسه في البلدة. كل الافلام التي احبتها وتأثرت بها شاهدتها هناك. هناك ايضا بدات معرفتها الحقيقية بالسينما واكتشفت ميلها الخاص اليها الذي لم يخف الى حد الان حتى بعد اقبالها الشديد على الافلام المصرية في الاعوام الاخيرة. "ساكو وفانزيتي". و"زد". و"حالة حصار". و"أغير او غضب الالاه" و"الازمنة الحديثة". و"الموت في البندقية" و"العصفور" و"شمس الضباع" و"المومياء" و"القيامة الان". الحلاقة التي كانت تحبها كابنتها كما تقول. تصفف شعرها مجانا. تهديها امشاطا وعطورا ومراهم تجميل مستوردة من المانيا حيث يقيم زوج اختها دون ان تنسى ان تتلمسها بين وقت واخر في مواضع حساسة او تداعبها مداعبات غريبة ادركت فيما بعد لما كبرت انها غير بريئة. اخوتها الثلاثة الذين تكبرهم كلهم وخصوصا اصغرهم الذي يكتب اليها كل شهر رسالة يتحدث فيها بدقة عن كل ما يحدث في مجاز الباب. الممرض الذي احبته كما لم تحب احدا قبل ان تصبح بدورها ممرضة في مستشفى البلدة بعد انقطاع نهائي عن الدراسة وعاشت معه مغامرة جنونية خطرة كادت تفقدها بكارتها التي كان ذلك الرجل القصير والبطن المكور مهووسا بها. ابناء الكلب تقول دون ان تغير نبرتها يتباهون بالتحرر ويؤسسون نوادي واتحادات وجمعيات للمراة في كل مكان لكن حين ينزلقون بذكورتهم ملامسين القاع دون ان يعترضهم ذلك الحاجز يصابون بانهيار عصبي واحيانا يقترفون افظع الجرائم لماذا يتشبثون بذلك الغشاء الى هذا الحد. لماذا تذهب عقولهم وتظلم الدنيا في عيونهم عندما يكتشفون ان الطريق سالكة مفتوحة. لماذا هم ضد الفتح والانفتاح.
ألم يبدأ تاريخنا المجيد بفتح مبين. ثم أليس من الافضل لهذا الغار المظلم والرطب غار العسل كما تسميه زميلة في "جمعية التونسيات المهاجرات "ان يفتح بسرعة للهواء والشمس. لو كنت ناضجة انذاك لما ترددت لحظة واحدة في تحطيم هذا الحاجز ولسمحت لذلك الممرض الذي احببته ان يكسرني كما يقولون او فعلت ذ لك بنفسي ومزقت هذا الغشاء بشفرة حلاقة او مسمار او ناتف شعر او بكل بساطة باظافري نكاية بهولاء الذكور الديكة المهووسين بالبكارة. على أي حال لقد انتقمت منهم. لم اسع الى ذلك وانما تم بشكل تلقائي وفي ظروف لم أكن اتوقعها اطلاقا. ذات ليلة كسرني على ضوء قمر صيفي وفي عربة من الدرجة الثانية لقطار سريع يعبر مقاطعة كاتالونيا متوجها الى برشلونة وتحديدا في طرف ممرها الطويل شاب اندلسي اسمر كافر وغير مطهر.
الغريب في الامر اني لم انتبه الى ذلك الا بعد دقائق، لا شك اني كنت سكرانة اذ كان من عادتي ان اشرب كثيرا من البيرة في تلك الاعوام التي سافرت فيها بالقطار الى اشهر مدن أوروبا. حين خلص مني ذلك الشاب الذي لم اعد اذكر حتى اسمه جسده اتكات على جنبي قبالة النافذة لرؤية القمر الذي يملا المكان بضوئه. عندئذ وقعت عيناي على خيط رقيق من الدم يسيل في اتجاه ركبتي. لم اتالم. لم افرح. لم اتذكر احدا ولم افكر في أي شيء. الحقيقة اني لم احس باي شيء. كنت مثل جذع شجرة مقطوعة ملقى في مكان ما. كل ما فعلته هو اني مسحت ببطء وهدوء الدم بورق كلينيكس ثم اسندت رأسي الفارغ كصحراء على كيسي واخذت اتطلع الى قمر كاتالونيا.
لا تتحرك سعاد في مكانها ولا تغير نبرة صوتها. تعود الى أعوام الدراسة في ثانوية مجاز الباب. تتحدث عن أمها التي كانت تشتغل هناك. تقدرها وتعزها لانها علمتها الكثير مما يجب ان تعرفه كل انثى في سن المراهقة. بدون حياء او حشمة شرحت لها كل شئ من ذلك الشئ الذي هو نعمة من عند ربي كما تقول.تحبها طبعا لكن اقل مما كانت تحب ذلك الأب الذي كف عن ان يكون أبا منذ ان بدأ جسدها يفور وقرر ان ينساها ظلما. نعم ظلما اذ ما ذنبها ان نما جسدها بهذا الشكل. هي ايضا فوجئت بهذا التغير الذي لم تستعد له نفسيا. صحيح ان احساسا بالزهو والسعادة كان يغمرها في الايام الاولى خصوصا حين تكون وحيد ة في البيت فتتعرى امام مرآة الخزانة الكبيرة في غرفة ابيها وأمها او تلامس الشعر الذي بدا ينمو بين فخذيها أو تتأمل استدارة ردفيها الطريين الناعمين وهذا الفم بشفتيه الممتلئتين. صحيح ايضا انها تشعر انها اصبحت امراة حقيقية. يشتهيها الرجال عندما تمر امام أي مقهى في وسط البلدة فتستدير الروؤس وتمتد الاعناق في اتجاهها. نعم كل هذا يفرحها. و لكن كم من مرة ظلمت او شتمت او اعتدي بسبب وبدون سبب. في البداية كانت لا تفهم ما يحد ث لها فتتألم كثيرا لكنها سرعان ما ادركت كل شئ و اصبحت تتقبل الامر وتتعامل معه بكثير من الصبر والتماسك. كم من مرة نعتت بانها قحبة. حتى هنا لم تسلم من ذلك. نعم لا تزال الى اليوم تدفع ثمن هذه الانوثة الفائضة في الوداديات والقنصليات التي تتردد عليها بحكم نشاطها في "جمعية التونسيات المهاجرات".
أمي امراة رقيقة وحساسة تقول سعاد، لما اعلمتها باني قررت ان اتوقف عن الدراسة وادخل مدرسة الممرضات لاستقل بذاتي وحياتي كاد يغمى عليها اذ كانت تحلم ككل الامهات الفقيرات غير المتعلمات ان اصبح استاذة او طبيبة. وعندما قلت لها بعد اعوام كثيرة اني سأهج هربا من شبح هذا الأب الذي يزداد ابتعادا وانغلاقا وانطواء على نفسه وخوفا من ان يفعل شيئا غريبا كأن يرتكب جريمة او يلقي بنفسه تحت عجلات القطار وهربا من ذلك الرجل القصير الذي يراهن على انه سيمرغ رأسه ذات يوم في موخرتي ومن مشاكسات ونظرات رواد المقاهي ومن التهم والاشاعات التي تلاحقني في كل مكان ومن ناموس مجاز الباب وبرغشه وبعوضه ومن الاتربة والغبار وزبل الابقار وروث البغال والحمير على ما يسمونه ارصفة حين قلت لها كل هذا اغمي عليها فعلا.
تتوقف سعاد عن الكلام. ارقبها دون ان اتحرك. عندما تتكئ على جنبها اصير واثقا من انها لن تقول شيئا. افتح النافذة قليلا لتهوية الغرفة ثم انهض واجلس الى جوارها على السرير. تلتفت الي وتبتسم ابتسامة ماكرة مغرية ينفتح خلالها فمها وترتعش شفتها السفلى.ابتسم لها بدوري فتنظر الي بعد ان تزم شفتيها الى الداخل وتحركهما كانها تمتص شيئا. اغمض عيني قلبلا وعندما افتحهما تلقي بما تبقى من ثيابها ثم تجر نحوي جسدها. منذ تلك اللحظة يخيم صمت ثقيل وموجع تشتد وطاته كلما مر الوقت وتتخلله تنفسات لاهثة وشهقات متقطعة او مكتومة. صمت لا بد منه لكي يحدث ما يحدث اذ يفقد الكلام أي كلام كل معنى. ببطء شديد تشرع سعاد في تحريك جسدها فيتغير وجهها شيئا فشيئا. يتبدل اللون اما الملامح فهي تختفي تاركة مكانها لملامح اخرى.
في البداية تستلقي على ظهرها او جنبها رافعة خصرها قليلا او فاتحة ساقيها او مادة يديها او دافعة بنصفها السفلي الى الوراء. يتخذ جسدها وضعيات تبرز بشكل فضائحي اجزاء تعرف اني افضلها على غيرها. بعد وقت قصير تغمض عينيها طيعة مستسلمة فتبدأ اللعبة. استنفر الاصابع واللسان والانف اغلب ادوات الحس وأوقظ ما يرقد في من غريزة وبدائية ثم اقتحم مناطق قصية محرمة لاستكشافها. اكون في اغلب الاحيان متوترا. ترتعش يداي وتتسارع دقات القلب. ترتبك اصابعي وتتعثر وهي تقترب من تلك الاماكن السرية فأنا افعل ذلك مرغما الى حد ما وليس بدافع رغبة قوية وان كنت اعترف بان ذلك يستهويني. تدفعني سعاد الى هذه اللعبة بذكاء كبير. توظف جمالها وحساسيتها. تستخدم طاقتها الهائلة على الاغراء. توجهني. تقودني حيث تشاء فهي التي تمسك بكل خيوط اللعبة وتتحكم فيها من البداية الى النهاية.
***
لم تبد سعاد رغبة في الذهاب الى مطعم لتناول ثمار البحر هذه المرة ربما لان في الانتقال الى مكان عام والجلوس الى طاولة وسط جمع من الناس والتهام تلك الدويبات ذات القرون والقوائم التي يعتبرها سكان الريف الداخلي عقارب وخنافس ودودا شيئا من الاحتفال والخفة لا يتناسب تماما مع ما حدث في تلك الليلة.
الا ان ذلك لم يمنع سعاد من ان تعب ما تشاء من النبيذ. كالعادة شربت حتى سكرت وكالعادة استلقت على الفراش وبدات تتحدث لا عن ذلك الرجل الذي كان يحلم بان يفض بكارتها ولا عن ذلك الاب الذي تغير تماما لما بدات انوثتها تفيض ولا عن مجاز الباب وانما عن احداث وصور وانطباعات و احاسيس اكثر ايغالا في الزمن.
اول فستان اشتراه لي ابي كان من الكتان تقول سعاد. لونه احمر فاتح والياقة وحواشي الكمين من الدانتيلا والحزام ينزل الى ما تحت الركبتين. اتذكر ايضا الدكان الذي اصطحبني ابي اليه لشراء الفستان. خلال زيارتي الاخيرة لتونس اكتشفت انه تحول الى محل لبيع الكسكروتات والدجاج المصلي تغزوك روائح زيوته المحترقة وموسيقاه الصاخبة وضجيج رواده قبل خمسين مترا من الوصول اليه.
هل تدري في مناسبة اشترى لي ابي الفستان. زواج خالتي التي لم احدثك عنها ابدا. خالتي حدة. كنت احبها مثلما احب امي. هي ايضا كانت تحبني كانت تريد طفلة تشبهني. طفلة مثلي تماما.هذا ما كانت تردده امام الجميع. لكن الموت لم يمهلها لكي تحقق امنيتها فبعد ثلاثة شهور من زواجها اصابها مرض خطير اودى بحياتها بعد اسابيع قليلة.
كنت بدأت اكبر حين تزوجت خالتي. كنت في السادسة او الخامسة. لم اعد اذكر. يوم العرس استحوذت علي خالتي منذ ان تصدرت المنصة التي يخصصونا للعروس لكي يراها الجميع. لم تسمح لاي شخص بان يفرق بيننا.كانت فخورة بي و انا ارتدي فستاني الذي كان محط اعجاب الجميع. وكانت فرحة بجلوسي الى جوارها على المنصة.
طوال الوقت الذي امضته خالتي على المنصة كنت بجوارها. و لما حان وقت الدخلة رفضت ان افارقها. لم افهم لماذا اراد فجأة كل الناس ان ابتعد عنها. امي هي اول من حاول اقناعي بذلك. خالتك مرهقة.. تعالي معي.. لا بد ان نتركها تستريح قليلا.. هكذا كانت امي تردد بصوت اقرب الى الهمس. لكني لم اقتنع. وبعد محاولات عديدة غير مجدية من ابي والاقرباء والجيران تدخلت خالتي حدة. حدجتني بنظرة حادة. وفجاة دفعتني لتخلص نفسها ثم نهضت بسرعة وتبعت زوجها الذي كان ينتظرها في مدخل غرفتهما. حالما دخلا انغلق بسرعة. وفي التو حدثت اشياء كثيرة دفعة واحدة. دق الدربوكة و صوت المزود انقطعا. والرجال القليلون الذي سمح لهم بمخالطة النساء انسحبوا الى شجرة التوت ، اما النساء اللاتي كن يتحركن مثل خلية نحل حول منصة العروس فقد تحلقن حول امي بعد ان توقفن عن الرقص واطلاق الزغاريد، كل الصخب الذي كان يهز المكان توقف ليحل محله صمت غريب يقطعه بين وقت واخر همس او صوت منخفض.
نسيت ما حدث لي على المنصة وتلاشى الاحساس بالاهانة الذي ولدته في خالتي بحركتها المباغتة لتستولي على حيرة كبيرة. ما الذي جعل الناس يفترقون او يجتمعون بهذا الشكل. لماذا انتهى العرس باختفاء العروسين. ثم لماذا كل هذا الصمت.
وانا في هذه الحيرة اذا بحركة شديدة حول الغرفة اعقبها صخب اعاد المكان الى ما كان عليه قبل اختفاء العروسين. ارتفع دق الدربوكة و صوت المزود من جديد. وهز المكان بغتة دوي طلقات نارية متتابعة وتعالت الزغاريد. امي كانت اكثر النساء تحمسا لما كان يحدث حولنا. كانت تحتضنني بيدها اليسرى وباليمنى تمسك بقميص ابيض تتوسطه لطخة عرفت فيما بعد انها لطخة دم.
طبعا لم يقل لي احد لمن هو هذا القميص ولماذا هو ملطخ بالدم لكنه بقي في ذهني مثل سر غامض ولم ينكشف امره إلا في بداية المراهقة حين اخذت أمي تحدثني عما يجب ان اعرفه كانثى من ذلك الشئ الذي من عند ربي كما كانت تقول.
ثمة شيء آخر اتذكره جيدا كما لو انه وقع امس. وهو النوم بين امي وابي في فراشهما في الايام الاولى التي تلت موت خالتي. قبلها كنت انام معهما في نفس الغرفة لكن لوحدي على فراش صغير مركون في زاوية. لا بد ان خشيتهما من ان ارى احلاما مزعجة وان تنتابني المخاوف والهواجس هي التي جعلتهما يتخذان هذا القرار.
السرير مقترن في ذهني برائحة ابي وتحديدا رائحة فمه. رائحة غريبة تشبه قليلا رائحة القطران الذي كان يطلى به قرب الماء والجمال المصابة بالجرب لكنها ليست كريهة بل استطيع ان اقول انها جذابة الى حد ما. غريب امر هذه الذاكرة. الان وأنا احاول ان أصف تلك الرائحة انتبه الى انها تشبه قليلا رائحة الشاب الاندلسي الذي تعرفت عليه في قطار كاتالونيا ثمة روائح والوان واصوات يصعب نسيانها لتميزها الشديد. يخيل الينا انها امحت نهائيا لكنها تفاجئنا من جديد بحضورها. تلك الرائحة من هذا النوع. استيقظ عليها كل يوم وهي اول ما يتسلل الي من هذا الخليط الحواسي الفاتر اللذيذ المبهم الذي يرافق يقظة الصباح. يحدث ذلك قبل ان افتح عيني. ولكي لا افسد على نفسي هذه المتعة لا اتحرك. ابقى هامدة مغمضة العينين. أميل قليلا برأسي نحو أبي فيتناهى الى تنفسه وهو يتردد بانتظام. وبحذر ازداد اقترابا منه والصق وجهي بانفه، اقوم بكل هذه الحركات الصغيرة كل يوم بدقة وصرامة كما لو اني اؤدي طقوسا لبدء نهار جديد.اكون حذرة ليس خوفا من ان اوقظ ابي اذ ان نومه ثقيل كما يقول هو نفسه وانما خوفا من ان تفطن أمي التي اكون متيقنة في تلك اللحظات من انها قد استيقظت الى ما كنت افعله. كنت اخشى ان تكتشف ما كنت اعتبره سرنا وهو كل ما كان يحدث لي ولابي منذ ان تتسلل اليّ رائحة فمه الى اللحظة التي استسلم فيها لاحاسيس مختلفة من النشوة والفرح والارتباك بعد ان الصق وجهي بانفه لكي أتلقى اكثر ما يمكن من تنفسه.
كنت ادرك بشكل غامض ان ابي يعرف ذلك وانه متواطئ معي بطريقة ما. وكنت اريد ان تظل هذه الطقوس الصغيرة التي ادشن بها يومي سرا بيني وبينه هو الذي يقص شعري ويقلم اظافري هو الذي كان يتباهى بجمالي امام زملائه و يشعر بالفخر حين يقولون له بكثير من المبالغة دون شك ابنتك ستكون بعد اعوام ملكة جمال تونس. بعد لحظات طويلة استدير الى جهة أمي وافتح عيني. تندفع نحوي فورا و تضمني اليها بقوة. عندما اتخلص من ذلك وأهجر عالم السرير تغزوني احاسيس اخرى يولدها في صباح مجاز الباب. على حال كل ما له علاقة بالصباح في تلك البلدة احبه. رائحة الخبز.رائحة حطب يحترق.رائحة الارض المبللة بالندى.رائحة الحليب.رائحة القهوة.رائحة البيض المقلي.رائحة البقول والثمار.رائحة الفطائر، رائحة الاوكالبتوس في الشوارع والساحات العامة والورد والياسمين في حدائق البيوت.
اقول في نفسي وأركز نظري على فم سعاد خوفا من ان تظن اني بدأت أمل حديثها انه لا فرق بين صباح مجاز الباب وقريتي. نفس الروائح سوى ان الصباح في قريتي يبدا بالبحث عن العقارب لتقتيلها فطوال فصل الصيف تتسلل كل ليلة هذه الدويبات السامة السوداء والصفراء على حد السواء الى غرف النوم التي تفضلها على غيرها من الغرف وتختبئ تحت الاسرة و الطاولات والخزائن لتقضي ليلتها هناك. احيانا تختفي تحت المخدات والاغطية و تندس في الاحذية و جيوب السراويل والسترات وفي كل ما يعترضها من صناديق وعلب.
هذا الهجوم الموسمي للعقارب يثير الرعب في النفوس. يهجر الناس الغرف وينامون في العراء على اسرة يضعون قوائمها في طاسات وقصاع مليئة بالماء لانهم يعرفون ان العقرب لا تتقن السباحة فبعد ان تتسلق جوانب تلك الاواني تسقط في الماء وتبقى هناك حتى الصباح فتقتل شر قتلة.
الان كل هذا الحذر لا يفيد احيانا فالعقارب تتسلل في اشد اللحظات حميمية وسرية الى اماكن لا تخطر ببالنا اطلاقا. ذات ليلة قائظة خرج احد الاقرباء لقضاء حاجته في الخلاء كما يفعل سكان الارياف. اختار مكانا هادئا واقعى مبالغا على ما يبدو في الارتخاء. كان الظلام كثيفا.لم يكن يتوقع ان خطرا يمكن ان يداهمه. لم يخطر بباله وهو في تلك الحالة ان عضوه الذي لم يصبه طوال حياته أي اذى يمكن ان يتعرض لخطر حقيقي.
في البداية لم يع جيدا ما حدث له. كل ما شعر به هو ان شيئا وخزه في احدى خصيتيه. فيما بعد ادرك ان الوخزة ليست وخزة شوكة او شيئا من هذا القبيل فقد تزامنت مع بدء انسكاب بوله على الرمل بل بدا له ان ذلك الانسكاب هو الذي سببها.ثم احس بوجع اخذ يتزايد بشكل لا يحتمل. اشعل عود ثقاب فاذا به يرى بين قدميه عقربا صفراء. لحسن حظه كانت صغيرة.
لا استطيع ان اقاوم الرغبة في الابتسام و انا اتذكر هذه الحادثة التي صارت حكاية تروى للتندر في القرية. تسألني سعاد بصوت متعب عما يدفعني الى الابتسام فأروي لها الحكاية. تحرك شفتيها في ما يشبه الابتسامة ولا تقول شيئا. استوي في جلستي واثبت بصري على وجهها استعدادا للاصغاء اليها من جديد. لكن سعاد تبدي فجاة اهتماما بالحكاية وتطلب مني ان ارويها مرة ثانية. استجيب لطلبها في التو. وحالما انتهي من ذلك تنفجر ضاحكة. وشيئا فشيئا يرتفع ضحكها فانخرط بدوري في الضحك. بعد لحظة يتحول ضحكها الى قهقهات طبيعية في البداية ثم متشنجة. قهقهات تمهد كما الصمت في المرات السابقة لما سنستسلم له ’ لذلك النداء البدائي الذي يوجهه اللحم للحم.
يخفت صوتها ويتباطأ لكنها لا تكف عن الضحك. فجأة تستدير وتنبطح علىالارض. وببطء ترفع قبالتي نصفها السفلي عاريا وهي تواصل ضحكها الذي لم يعد انذاك ضحكا وانما صار صوتا غريبا يشبه أنينا خافتا آتيا من بعيد. انظر اليها طويلا دون ان اقوم باية حركة ثم انهض وانا امسح العرق الذي اخذ يتصبب من جبيني. واتوجه الى المطبخ. اعب ما استطيع من الماء وانحني على النافذة المفتوحة لأملا رئتي بهواء الليل ثم أعود الى سعاد.
.