محمد السلاموني - الرواية العربية والأزمة الجمالية

(مبدأ التمثيل)- أو مايعرف بالمحاكاة ؛ (والمحاكاة حقل واسع ، ليس التقليد أو الإستنساخ سوى أحد مستوياته فقط) - أقول ، مبدأ التمثيل هذا تحطم الآن ، ذلك أن الواقع الحقيقى- هذا إن كان هناك ثمة واقع حقيقى فى الأساس - تم اغتياله تماما ، وحل محله الواقع الفائق أو المعزز، وكذلك الواقع الإفتراضى ، وهو ما يعنى أننا نحيا الآن فى إستعارة شاملة (إذ صار كل شئ إستعاريا) ..
فالواقع الذى كان - من قبل - ينتج تمثيلات ، انتهى ، وصارت التمثيلات هى التى تنتجه - هكذا يخلص بودريار / وإن كنت أعتقد بأن الأمر كان هكذا دائما ؛ فالواقع عادة ماكان نتاجا للتمثيلات اللغوية (ففى إطار النظرية اللغوية القديمة ، الممتدة من اليونان ، والسابقة على دى سوسير - تلك التى تقول بأن الكلمة (تمثل) الشئ ، لم يكن الواقع سوى تلك التمثيلات ذاتها) ، وكان المؤلفون عامة (الواقعيون وغير الواقعيين) يكتبون داخل هذا التصور ؛ ومن ثم كان البعد التمثيلى للكتابة، هذا والجديد الذى أتى به التمثيل المعاصر، المُنتِج للواقع، يتعلق بالصور المرئية فى الأساس ...
وفى إطار هذا المعنى للكتابة التمثيلية ، سيلتبس معنى المحاكاة ؛ أعنى أن محاكاة الواقع (أو الإيهام والتظاهر به) ، سيظل يتردد بين (تمثيل) الشئ نفسه ، و (الدلالة) على معنى هذا الشئ - على الرغم من أن الإثنين مرتبطين ببعضهما بقوة ، إلى الحد الذى يمكن معه القول إن وجود أحدهما يستلزم وجود الآخر بالضرورة ..
ذلك أن (نظرية المحاكاة أو التمثيل- بما هى نظرية الإستعارة ذاتها) تتضمن فائضا يستحيل إنكار وجوده ، ألا وهو الإشارة الدائمة إلى (الشئ الأصلى - بماهو الواقع الخام أو القاموسى ، المشترك بيننا) الذى تمثل الإستعارة إنحرافا عنه ، ذلك أن وجوده هو الضامن لوجود المعنى ؛ هو الذى يتيح لنا الإهتداء إلى المعنى ..
هذا و (الشئ الأصلى) يرتبط بالمدلول لا بالدال (وفقا للنظرية الأرسطية عن علاقة المعنى بالشئ ، باعتباره - أى المعنى - سابق فى الوجود على الدال) ..
ومع دى سوسير ، صارت الكلمة (تدل) على معنى الشئ ، وفقا لما يتيحه النظام اللغوى فقط - ذلك النظام المنفصل جذريا عن نظام الأشياء - هكذا ، معلنا الإنفصال الجذرى للنظام اللغوى عن نظام الأشياء ..
مما يعنى أن الإستعارة (أو التمثيل) ، تتوالد من إستعارات وتمثيلات أخرى ، لا تمت بصلة للواقع المشترك (الذى تقول النظرية القديمة بوجوده وتنبنى عليه) ، وهو ما انتهى إليه جونسون ولايكوف بالفعل ؛ فلديهما (الذهن البشرى ، مُبَنْيَن إستعاريا ، بما يتيح له توليد إستعارات بلا نهاية) .
ــــــــــــ والآن ، ما الذى يمكن أن نخلص إليه مما سبق ؟...
أعتقد أن على (الرواية) ، أن تتجاوز المفاهيم الكتابية المتمحورة حول (التمثيل) ، بل وأن تختط لنفسها مسارا مضادا تماما لكل ماهو تمثيلى ، بالإنفتاح المطلق على اللغة ذاتها ، بماهى (دال) ... وعلى الروائى أن يتحول إلى (كادح لغوى) - بتعبير بارت ؛ أعنى أن عليه ألا يكف عن مساءلة اللغة ، والإشتغال عليها ، والحفر والتنقيب فى عالمها - الذى لا نحيا فى عالم آخر سواه ..
وبهذا فقط - كما أتصور- يمكن للرواية العربية أن تتجاوز أزمتها الجمالية المتمحورة حول "السعى الحثيث للإمساك بالواقع"؛ بما هى أزمة أيديولوجية فى الأساس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...