[لقد تمت الجريمة، وبلغ الكتاب أجله، واستنفدت "هنادي" حظها من الحياة]
دعاء الكروان ـ طه حسين القاهرة - سبتمبر - 1934
***
(ميدان الجيزة ـ صيف - 2009 )
الميدان يمتلئ بالصخب والأصوات المزعجة. والمارة يهرولون في يأس، وبأس، وعدم مبالاة. وأصوات المركبات تصطدم بالفضاء الملوث الفسيح. وأذان العصر ينطلق من "مسجد الاستقامة" القريب. وأنا أتحرك بسرعة حتى وصلت إلى محطة سيارات الميكروباص في نهاية الميدان.
ـ مدينة الإنتاج الإعلامي يا أُسطى؟
ـ اتفضل يا بيه!
ـ في الطريق يرن هاتفي الجوال. يظهر اسم "رولا خرسا"
ـ ألوه.. ألوه..
ـ هل وصلت للاستوديو يا خيري؟ وقبل أن أجيب. قالت بكلمات خاطفة، ومرتبكة، وقلقة: "هل تعرف أن اليوم هو ذكرى ميلاد الفنانة الكبيرة فاتن حمامة؟
ـ ببرود شديد: لا!
ـ أرجوك.. حاول الوصول لها، لنجري معها محادثة تليفونية ـ على الأقل ـ في البرنامج الليلة بمناسبة عيد ميلادها. حاول لو سمحت.. أرجوك حاول.. حاول بجد..
ثم أغلقت الهاتف !
اليوم هو أُولى حلقات برنامجها (الحياة والناس مع رولا خرسا) على قناة "الحياة الثانية" (المووڤ) وأنا، بالصدفة الشديدة، أصبحت معداً في فريق العمل. السائق يدخل في نقاش حاد مع راكب بجواري بسبب أغنية شعبية (إن شئت الدقة: سوقية) يراها الراكب مفُسدة للذوق العام، ويراها السائق تلخص حياته الحزينة، المؤلمة، اليائسة، التي تحول فيها من شاب حاصل على ماجستير فى العلوم (قسم الفيزياء) إلى سائق باليومية على سيارة يمتلكها "باشا" من "باشوات" هذا الزمان. النقاش انتهى لصالح السائق. وسكت الراكب بجواري ملتزمًا الصمت الحزين! أما صوت الكاسيت فما زال يرسل لنا صوت المطرب -"المُترب" - وهو يقول: الصبر يا زمن / يا زمن الصبر / دي سكة حياة / وإلا دي سكة قبر ! /
الآن أفكر في رغبة رولا خرسا في أن تكون أُولى حلقاتها الليلة متضمنة صوت "سيدة الشاشة العربية"، فاتن حمامة. هذا ـ إن حدث ـ فهو بالمفهوم المهني "خبطة" إعلامية كبيرة ! لكن فاتن حمامة لم تظهر منذ 10 سنوات تقريباً، لا صورة ولا صوتاً في أي وسيلة إعلامية أو صحفية. وعُرض عليها الظهور من عشرات المحطات المصرية والعربية لكنها فضلت الاحتجاب والابتعاد طيلة هذه السنوات. وأنا ـ رغم عملي بقسم الفن بصحيفة "الوفد" ـ لم أفكر في الوصول إليها، فهي من هي .. القديرة، العزيزة، الجميلة، الكبيرة، والنجمة العظيمة، و.. و.. "ست الستات" -كما وصفتها لي، قبل سنوات، سيدة صعيدية اسمها "الخالة بهية" جاءت إلى العاصمة هرباً من الفقر والقهر، واستقر بها الحال في محطة سيارات أتوبيس، نقل عام، في حي مصر القديمة اسمها "أثر النبي" - (اليوم ليس للمحطة أي أثر) ـ حيث كانت تجلس من الصباح للمساء تبيع الشاي للسائقين والكمسارية وبعض الركاب إذا رغبوا في ذلك.
***
( مصر القديمة ـ 2004)
ـ كوباية شاي يا "خالة بهية".. سكر زيادة من فضلك!
تنظر لي بوداعة قائلة: "يا واد أنت شكلك صغير .. أنت راكب أتوبيس كام؟"
رديت مبتسماً: أنا لست سائقاً ولا كمسارياً ـ وإن كان شكلي يوحي بذلك ـ لكنني استقليت أتوبيس خطأ من ميدان عبد المنعم رياض بهدف الوصول للمعادي، فجاء بي إلى هنا.
تضحك وهي تقول: "والنبي باين عليك ابن حلال.. عموماً.. المعادي ليست بعيدة عن هنا".
وقبل أن تعطيني كوب الشاي سألتني: "وأنت بتشتغل إيه ؟"
ـ صحفي تحت التمرين.
قالت وهي تضحك: "ابقى اتمرن كويس.. على كده بقى بتشوف الناس الكبار؟!".
ـ ليس كل الناس.. أنا أعمل في قسم الفن (التمثيل يعني)!
ـ طيّب والنبي يا افندي، منين ما تشوف الست الطيبة، الجميلة، العظيمة، ست الستات، فاتن حمامة، بلغها سلامي!
كنت قد فرغت من كوب الشاي وودعتها بكلمات بسيطة ورمقتني بنظرة حنونة وهي تقول: "قول لها إن 'خالتك بهية' تحبها جداً منذ أن رأتها قوية، وشريفة، وعفيفة، وغاضبة، وثائرة، وباحثة عن حق أُختها 'هنادي' في فيلم 'دعاء الكروان' من إللي ما يتسمّى.. المهندس إللي غواها.. ولا تنسى أن تقول لها 'ياما لسه يا ست أمنة' ـ (تقصد اسم الشخصية في الرواية) ـ وسطينا كتير 'هنادي' لكن لا يشعرن بهن أحد.. ولا تنسى أن تقول لها: (الفقر هو الفقر والظلم هو الظلم والقهر هو القهر والبلد متغيرتش كتير .. سنة 40 زيها زي سنة 90. وسنة 90 زيها زي سنة 2000 ! وكتير فى بلادنا زي 'هنادي' بس ربك ستار على عباده)!
قلت وقد اوشكت عن الابتعاد عنها: "حاضر يا ست بهية.. لو كلمتها أو قابلتها في أي يوم سأقول لها وأبلغها سلامك!
***
( الطريق الدائري ـ بعد 30 دقيقة)
السائق ينادي بصوته المرتفع: "وصلنا مدينة الانتاج.. اتفضل يا أستاذ".
نزلت من السيارة وترجلت حتى تخطيت البوابات الأمنية، في الطريق الداخلي أفكر في كيفية الوصول لرقم هاتف فاتن حمامة. وإن وصلت واتصلت. هل سترد عليّ ؟
بعد تفكير بيني وبين نفسي استمر لدقائق. اتصلت بالدكتور أشرف زكي ـ نقيب الممثلين وقتها ـ والآن أيضاً - فهو صديق للجميع، ولا يتأخر عن أي أمر يكون في استطاعته. اتصلت به وشرحت له الموضوع. بعدما استمع قال: "يا خيري هذا صعب جداً. الأستاذة لا تتحدث مع الأعلام مطلقاً ونحن حتى في النقابة بنتواصل معها من خلال صديقة لها.. عموماً خذ رقم صديقتها وحاول معها وأنت ونصيبك".
وبالفعل اعطاني رقم صديقتها ـ اسمها 'نادية' على ما أذكر ـ واتصلت بها على الفور.
***
( مدينة الانتاج ـ ستوديو 900 )
أجلس أمام الاستوديو أتذكر حياة فاتن حمامة[ 27 مايو - 1931- 17 يناير - 2015] وموهبتها المبكرة والتي جعلتها تشارك فيما يقرب من 30 فيلماً قبل مرحلة الخمسينيات، واستطاعت، بما قدمته، أن تغير نظرة المجتمع للمرأة التي كانت تظهر في السينما إما امرأة برجوازية غير واقعية وإما امرأة تجيد الاغراء بجسدها؛ وذلك من خلال أعمالها المتميزة ومنها 'صراع فى الوادي'، و 'الأُستاذة فاطمة'، و 'لك يوم يا ظالم'، و 'دعاء الكروان'، و 'نهر الحب'، و 'لا وقت للحب'، و 'موعد مع الحياة'، وغيرها من الأعمال الرائعة. أما عن حياتها الشخصية فلقد تزوجت ثلاث مرات. الأولى من المخرج عز الدين ذو الفقار. والثانية من الفنان عمر الشريف والأخيرة من الدكتور محمد عبد الوهاب. ولقد غادرت مصر - طبقاً لتصريحات صحفية لها - منذ عام 1966 الى عام 1971 احتجاجاً على ما اعتبرته ضغوط أمنية وسياسية تعرضت لها، حيث تنقلت ما بين لندن ولبنان في تلك الفترة. وقالت في مقابلة صحفية لها منشورة ـ موقع الوكيبيديا ـ إن هروبها من مصر كان سببه الرئيسي هو "ظلم الناس وأخذهم للسجن في منتصف الليل". وأثناء فترة هروبها طلب الرئيس عبد الناصر من كتاب وسينمائيين مقربين منها اقناعها بالعودة لأنها ـ حسب قوله ـ ثروة قومية! ورغم منحه لها وساماً فخرياً في بداية الستينيات، لكنها رفضت العودة لمصر إلا عام 1971، بعد وفاة الرئيس عبد الناصر وقدمت أول أعمالها بعد العودة فيلم "امبراطورية مم" الذي دعمت فيه فكرة ومنهج الديمقراطية كخيار، واختيار سياسي، لا حياد عنه، لتقدم ورفعة الأمم والشعوب!
***
( ستوديو 900 ـ بعد مرور 30 دقيقة )
هاتفي يرن.. - "آلو.. آلو.."
ـ يا أستاذ.. أنا مدام نادية.
ـ أهلاً يا أفندم ..
ـ أنت حظك حلو .. الأستاذة فاتن وافقت على المداخلة التليفونية.. خذ هاتفها الأرضي وهي في انتظارك تكلمها!
ـ أنا أكلمها ؟!!
ـ نعم..
ـ فاتن حمامة ذات نفسها؟!
ترد وهي تضحك: "نعم يا سيدي.. ألم أقل لك إنك محظوظ؟ بالتوفيق لك وللبرنامج!".
بعد دقائق جاءت رولا خرسا.. سردت لها ما حدث كله، حتى إنها، وهي تستمع لي، كادت أن تطير من الفرحة. ثم قالت: "لا تخبر أي إنسان بما حدث. وبعد دقائق سأكون على الهواء، وعندما تكون مدام فاتن معك على الخط أبلغني على الفور". ثم تركتني ودخلت على الأستوديو مسرعة.
***
(غرفة الكنترول ـ بعد 20 دقيقة)
ـ الوه .. أهلا يا أستاذ.. اسمك إيه؟
ـ حضرتك الأستاذة فاتن حمامة؟
- نعم..
- فاتن حمامة.. فاتن حمامة بنفسها ؟!.
تضحك بصوت رقيق.. "أيوا أنا . إيه مش باين على صوتي.. شكلك عايز تقول أني كبرت بقى .. لا.. دنا لسه شباب زيكم وأكتر كمان"؛ تقولها وهى تواصل ضحكتها الطيبة، الصافية، الجميلة، الهادئة.
ـ "لا يا أفندم .. أنا فقط مرتبك، وفرحان، وأحب أقول لحضرتك لو الناس في قريتي عرفوا إني تحدثت مع حضرتك، فمن المؤكد أنهم سيقيمون الأفراح والليالي الملاح".
تعود لضحكتها وبصوتها الهامس تسألني عن موعد ـ ومدة ـ المداخلة مع رولا خرسا.
ـ "حالاً يا أفندم .. ثواني .. مدام رولا ستكون معك على الهواء".
وبدأ الحوار معها في أول ظهور منذ سنوات، مما جعل إدارة "قنوات الحياة" ـ حينذاك ـ تعتبر هذه المداخلة ـ وهي بالفعل كذلك ـ انفرادًا إعلامياً فقامت بضم القناتين: (الحياة (1)- الحمراء) والحياة (2)- المووڤ) في بث واحد مشترك، وكُتب على الشاشة: (تلتقون الآن مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في أول ظهور لها منذ سنوات مع الإعلامية رولا خرسا).
***
( ستوديو الهواء ـ بعد مرور دقائق )
استغلت رولا خرسا اللقاء جيداً، بخبرتها الإعلامية الممتدة من عملها في إذاعة b.b.c من لندن، ثم انضمامها للتليفزيون المصري، أيام مجده الإعلامي المنقضي، وادارت معها حديثاً إنسانياً رائعاً تحدثت خلاله عن سبب ابتعادها في الآونة الأخيرة عن المشهد، وعن حبها للتمثيل الدائم والمتجدد، وعن جمهورها الذي تتمنى العودة إليه بعمل جيد يضيف لرصيدها لدى المتلقى. واستمر الحوار بينهما لمدة 10 دقائق تقريباً. أنا مازلت أقف مكاني في 'الكنترول' غير مستوعب ما حدث حتى الآن. رغم انه حدث بالصدفة وبتشجيع وإصرار من رولا خرسا نفسها. عاد الخط لي مرة أُخرى.
ـ نحن سعداء يا هانم بوجودك معانا على الهواء هذه الليلة.
ـ أشكرك.. قوللي كان حديث كويس؟
ـ طبعاً . طبعاً..
ـ طيب يا حبيبي.. أشكرك وإلى اللقاء ..
ثم أغلقت الخط.
في هذه اللحظة ـ بعدما هدأت الأمور حولي في الاستوديو. وانفض الزملاء وجاء عامل البوفيه لي بفنجان قهوة وسط حالة من التهنئة من الزملاء بهذا الانفراد الذي تستحقه رولا خرسا وليس أنا ـ جلست مسترخياً بعض الشيء، وفجأة تذكرت ما دار بيني وبين الخالة "بهية" قبل سنوات، ورغبتها في أن أُبلغ سلامها لـ"الست فاتن" إذا ما التقيت بها في يوم ما. وبقدر ما كنت سعيداً بهذه المقابلة، في ذلك اليوم، وسط التهاني الحارة من الزملاء، بقدر ما حزنت أشد الحزن. وأسفت أشد الأسف، لأنه لم تسعفني الذاكرة و "نسيت" توصية "الخالة بهية" التي كانت تريد فيها أن أُبلغ "الست فاتن" حبها الجارف لها بسبب دورها (آمنة) في فيلم "دعاء الكروان".
***
وبعد سنوات.. ماتت الخالة "بهية"، وماتت السيدة "فاتن حمامة"، أما محطة أتوبيس "أثر النبي" في حي مصر القديمة، فلقد تحولت إلى مخزن للسيراميك.. كلما مررت بجواره - وهي مرات قليلة - جاءني صوت الكروان مغرداً في الفضاء: "الملك لك.. لك.. يا صاحب الملك".
خيري حسن
مقال قديم
يصلح اليوم- 17 يناير / - وكل يوم - فى شهر يناير - بمناسبة ذكِرى رحيل سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وجمالها الذي لا يرحل حتى لو رحل زمانها!
دعاء الكروان ـ طه حسين القاهرة - سبتمبر - 1934
***
(ميدان الجيزة ـ صيف - 2009 )
الميدان يمتلئ بالصخب والأصوات المزعجة. والمارة يهرولون في يأس، وبأس، وعدم مبالاة. وأصوات المركبات تصطدم بالفضاء الملوث الفسيح. وأذان العصر ينطلق من "مسجد الاستقامة" القريب. وأنا أتحرك بسرعة حتى وصلت إلى محطة سيارات الميكروباص في نهاية الميدان.
ـ مدينة الإنتاج الإعلامي يا أُسطى؟
ـ اتفضل يا بيه!
ـ في الطريق يرن هاتفي الجوال. يظهر اسم "رولا خرسا"
ـ ألوه.. ألوه..
ـ هل وصلت للاستوديو يا خيري؟ وقبل أن أجيب. قالت بكلمات خاطفة، ومرتبكة، وقلقة: "هل تعرف أن اليوم هو ذكرى ميلاد الفنانة الكبيرة فاتن حمامة؟
ـ ببرود شديد: لا!
ـ أرجوك.. حاول الوصول لها، لنجري معها محادثة تليفونية ـ على الأقل ـ في البرنامج الليلة بمناسبة عيد ميلادها. حاول لو سمحت.. أرجوك حاول.. حاول بجد..
ثم أغلقت الهاتف !
اليوم هو أُولى حلقات برنامجها (الحياة والناس مع رولا خرسا) على قناة "الحياة الثانية" (المووڤ) وأنا، بالصدفة الشديدة، أصبحت معداً في فريق العمل. السائق يدخل في نقاش حاد مع راكب بجواري بسبب أغنية شعبية (إن شئت الدقة: سوقية) يراها الراكب مفُسدة للذوق العام، ويراها السائق تلخص حياته الحزينة، المؤلمة، اليائسة، التي تحول فيها من شاب حاصل على ماجستير فى العلوم (قسم الفيزياء) إلى سائق باليومية على سيارة يمتلكها "باشا" من "باشوات" هذا الزمان. النقاش انتهى لصالح السائق. وسكت الراكب بجواري ملتزمًا الصمت الحزين! أما صوت الكاسيت فما زال يرسل لنا صوت المطرب -"المُترب" - وهو يقول: الصبر يا زمن / يا زمن الصبر / دي سكة حياة / وإلا دي سكة قبر ! /
الآن أفكر في رغبة رولا خرسا في أن تكون أُولى حلقاتها الليلة متضمنة صوت "سيدة الشاشة العربية"، فاتن حمامة. هذا ـ إن حدث ـ فهو بالمفهوم المهني "خبطة" إعلامية كبيرة ! لكن فاتن حمامة لم تظهر منذ 10 سنوات تقريباً، لا صورة ولا صوتاً في أي وسيلة إعلامية أو صحفية. وعُرض عليها الظهور من عشرات المحطات المصرية والعربية لكنها فضلت الاحتجاب والابتعاد طيلة هذه السنوات. وأنا ـ رغم عملي بقسم الفن بصحيفة "الوفد" ـ لم أفكر في الوصول إليها، فهي من هي .. القديرة، العزيزة، الجميلة، الكبيرة، والنجمة العظيمة، و.. و.. "ست الستات" -كما وصفتها لي، قبل سنوات، سيدة صعيدية اسمها "الخالة بهية" جاءت إلى العاصمة هرباً من الفقر والقهر، واستقر بها الحال في محطة سيارات أتوبيس، نقل عام، في حي مصر القديمة اسمها "أثر النبي" - (اليوم ليس للمحطة أي أثر) ـ حيث كانت تجلس من الصباح للمساء تبيع الشاي للسائقين والكمسارية وبعض الركاب إذا رغبوا في ذلك.
***
( مصر القديمة ـ 2004)
ـ كوباية شاي يا "خالة بهية".. سكر زيادة من فضلك!
تنظر لي بوداعة قائلة: "يا واد أنت شكلك صغير .. أنت راكب أتوبيس كام؟"
رديت مبتسماً: أنا لست سائقاً ولا كمسارياً ـ وإن كان شكلي يوحي بذلك ـ لكنني استقليت أتوبيس خطأ من ميدان عبد المنعم رياض بهدف الوصول للمعادي، فجاء بي إلى هنا.
تضحك وهي تقول: "والنبي باين عليك ابن حلال.. عموماً.. المعادي ليست بعيدة عن هنا".
وقبل أن تعطيني كوب الشاي سألتني: "وأنت بتشتغل إيه ؟"
ـ صحفي تحت التمرين.
قالت وهي تضحك: "ابقى اتمرن كويس.. على كده بقى بتشوف الناس الكبار؟!".
ـ ليس كل الناس.. أنا أعمل في قسم الفن (التمثيل يعني)!
ـ طيّب والنبي يا افندي، منين ما تشوف الست الطيبة، الجميلة، العظيمة، ست الستات، فاتن حمامة، بلغها سلامي!
كنت قد فرغت من كوب الشاي وودعتها بكلمات بسيطة ورمقتني بنظرة حنونة وهي تقول: "قول لها إن 'خالتك بهية' تحبها جداً منذ أن رأتها قوية، وشريفة، وعفيفة، وغاضبة، وثائرة، وباحثة عن حق أُختها 'هنادي' في فيلم 'دعاء الكروان' من إللي ما يتسمّى.. المهندس إللي غواها.. ولا تنسى أن تقول لها 'ياما لسه يا ست أمنة' ـ (تقصد اسم الشخصية في الرواية) ـ وسطينا كتير 'هنادي' لكن لا يشعرن بهن أحد.. ولا تنسى أن تقول لها: (الفقر هو الفقر والظلم هو الظلم والقهر هو القهر والبلد متغيرتش كتير .. سنة 40 زيها زي سنة 90. وسنة 90 زيها زي سنة 2000 ! وكتير فى بلادنا زي 'هنادي' بس ربك ستار على عباده)!
قلت وقد اوشكت عن الابتعاد عنها: "حاضر يا ست بهية.. لو كلمتها أو قابلتها في أي يوم سأقول لها وأبلغها سلامك!
***
( الطريق الدائري ـ بعد 30 دقيقة)
السائق ينادي بصوته المرتفع: "وصلنا مدينة الانتاج.. اتفضل يا أستاذ".
نزلت من السيارة وترجلت حتى تخطيت البوابات الأمنية، في الطريق الداخلي أفكر في كيفية الوصول لرقم هاتف فاتن حمامة. وإن وصلت واتصلت. هل سترد عليّ ؟
بعد تفكير بيني وبين نفسي استمر لدقائق. اتصلت بالدكتور أشرف زكي ـ نقيب الممثلين وقتها ـ والآن أيضاً - فهو صديق للجميع، ولا يتأخر عن أي أمر يكون في استطاعته. اتصلت به وشرحت له الموضوع. بعدما استمع قال: "يا خيري هذا صعب جداً. الأستاذة لا تتحدث مع الأعلام مطلقاً ونحن حتى في النقابة بنتواصل معها من خلال صديقة لها.. عموماً خذ رقم صديقتها وحاول معها وأنت ونصيبك".
وبالفعل اعطاني رقم صديقتها ـ اسمها 'نادية' على ما أذكر ـ واتصلت بها على الفور.
***
( مدينة الانتاج ـ ستوديو 900 )
أجلس أمام الاستوديو أتذكر حياة فاتن حمامة[ 27 مايو - 1931- 17 يناير - 2015] وموهبتها المبكرة والتي جعلتها تشارك فيما يقرب من 30 فيلماً قبل مرحلة الخمسينيات، واستطاعت، بما قدمته، أن تغير نظرة المجتمع للمرأة التي كانت تظهر في السينما إما امرأة برجوازية غير واقعية وإما امرأة تجيد الاغراء بجسدها؛ وذلك من خلال أعمالها المتميزة ومنها 'صراع فى الوادي'، و 'الأُستاذة فاطمة'، و 'لك يوم يا ظالم'، و 'دعاء الكروان'، و 'نهر الحب'، و 'لا وقت للحب'، و 'موعد مع الحياة'، وغيرها من الأعمال الرائعة. أما عن حياتها الشخصية فلقد تزوجت ثلاث مرات. الأولى من المخرج عز الدين ذو الفقار. والثانية من الفنان عمر الشريف والأخيرة من الدكتور محمد عبد الوهاب. ولقد غادرت مصر - طبقاً لتصريحات صحفية لها - منذ عام 1966 الى عام 1971 احتجاجاً على ما اعتبرته ضغوط أمنية وسياسية تعرضت لها، حيث تنقلت ما بين لندن ولبنان في تلك الفترة. وقالت في مقابلة صحفية لها منشورة ـ موقع الوكيبيديا ـ إن هروبها من مصر كان سببه الرئيسي هو "ظلم الناس وأخذهم للسجن في منتصف الليل". وأثناء فترة هروبها طلب الرئيس عبد الناصر من كتاب وسينمائيين مقربين منها اقناعها بالعودة لأنها ـ حسب قوله ـ ثروة قومية! ورغم منحه لها وساماً فخرياً في بداية الستينيات، لكنها رفضت العودة لمصر إلا عام 1971، بعد وفاة الرئيس عبد الناصر وقدمت أول أعمالها بعد العودة فيلم "امبراطورية مم" الذي دعمت فيه فكرة ومنهج الديمقراطية كخيار، واختيار سياسي، لا حياد عنه، لتقدم ورفعة الأمم والشعوب!
***
( ستوديو 900 ـ بعد مرور 30 دقيقة )
هاتفي يرن.. - "آلو.. آلو.."
ـ يا أستاذ.. أنا مدام نادية.
ـ أهلاً يا أفندم ..
ـ أنت حظك حلو .. الأستاذة فاتن وافقت على المداخلة التليفونية.. خذ هاتفها الأرضي وهي في انتظارك تكلمها!
ـ أنا أكلمها ؟!!
ـ نعم..
ـ فاتن حمامة ذات نفسها؟!
ترد وهي تضحك: "نعم يا سيدي.. ألم أقل لك إنك محظوظ؟ بالتوفيق لك وللبرنامج!".
بعد دقائق جاءت رولا خرسا.. سردت لها ما حدث كله، حتى إنها، وهي تستمع لي، كادت أن تطير من الفرحة. ثم قالت: "لا تخبر أي إنسان بما حدث. وبعد دقائق سأكون على الهواء، وعندما تكون مدام فاتن معك على الخط أبلغني على الفور". ثم تركتني ودخلت على الأستوديو مسرعة.
***
(غرفة الكنترول ـ بعد 20 دقيقة)
ـ الوه .. أهلا يا أستاذ.. اسمك إيه؟
ـ حضرتك الأستاذة فاتن حمامة؟
- نعم..
- فاتن حمامة.. فاتن حمامة بنفسها ؟!.
تضحك بصوت رقيق.. "أيوا أنا . إيه مش باين على صوتي.. شكلك عايز تقول أني كبرت بقى .. لا.. دنا لسه شباب زيكم وأكتر كمان"؛ تقولها وهى تواصل ضحكتها الطيبة، الصافية، الجميلة، الهادئة.
ـ "لا يا أفندم .. أنا فقط مرتبك، وفرحان، وأحب أقول لحضرتك لو الناس في قريتي عرفوا إني تحدثت مع حضرتك، فمن المؤكد أنهم سيقيمون الأفراح والليالي الملاح".
تعود لضحكتها وبصوتها الهامس تسألني عن موعد ـ ومدة ـ المداخلة مع رولا خرسا.
ـ "حالاً يا أفندم .. ثواني .. مدام رولا ستكون معك على الهواء".
وبدأ الحوار معها في أول ظهور منذ سنوات، مما جعل إدارة "قنوات الحياة" ـ حينذاك ـ تعتبر هذه المداخلة ـ وهي بالفعل كذلك ـ انفرادًا إعلامياً فقامت بضم القناتين: (الحياة (1)- الحمراء) والحياة (2)- المووڤ) في بث واحد مشترك، وكُتب على الشاشة: (تلتقون الآن مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في أول ظهور لها منذ سنوات مع الإعلامية رولا خرسا).
***
( ستوديو الهواء ـ بعد مرور دقائق )
استغلت رولا خرسا اللقاء جيداً، بخبرتها الإعلامية الممتدة من عملها في إذاعة b.b.c من لندن، ثم انضمامها للتليفزيون المصري، أيام مجده الإعلامي المنقضي، وادارت معها حديثاً إنسانياً رائعاً تحدثت خلاله عن سبب ابتعادها في الآونة الأخيرة عن المشهد، وعن حبها للتمثيل الدائم والمتجدد، وعن جمهورها الذي تتمنى العودة إليه بعمل جيد يضيف لرصيدها لدى المتلقى. واستمر الحوار بينهما لمدة 10 دقائق تقريباً. أنا مازلت أقف مكاني في 'الكنترول' غير مستوعب ما حدث حتى الآن. رغم انه حدث بالصدفة وبتشجيع وإصرار من رولا خرسا نفسها. عاد الخط لي مرة أُخرى.
ـ نحن سعداء يا هانم بوجودك معانا على الهواء هذه الليلة.
ـ أشكرك.. قوللي كان حديث كويس؟
ـ طبعاً . طبعاً..
ـ طيب يا حبيبي.. أشكرك وإلى اللقاء ..
ثم أغلقت الخط.
في هذه اللحظة ـ بعدما هدأت الأمور حولي في الاستوديو. وانفض الزملاء وجاء عامل البوفيه لي بفنجان قهوة وسط حالة من التهنئة من الزملاء بهذا الانفراد الذي تستحقه رولا خرسا وليس أنا ـ جلست مسترخياً بعض الشيء، وفجأة تذكرت ما دار بيني وبين الخالة "بهية" قبل سنوات، ورغبتها في أن أُبلغ سلامها لـ"الست فاتن" إذا ما التقيت بها في يوم ما. وبقدر ما كنت سعيداً بهذه المقابلة، في ذلك اليوم، وسط التهاني الحارة من الزملاء، بقدر ما حزنت أشد الحزن. وأسفت أشد الأسف، لأنه لم تسعفني الذاكرة و "نسيت" توصية "الخالة بهية" التي كانت تريد فيها أن أُبلغ "الست فاتن" حبها الجارف لها بسبب دورها (آمنة) في فيلم "دعاء الكروان".
***
وبعد سنوات.. ماتت الخالة "بهية"، وماتت السيدة "فاتن حمامة"، أما محطة أتوبيس "أثر النبي" في حي مصر القديمة، فلقد تحولت إلى مخزن للسيراميك.. كلما مررت بجواره - وهي مرات قليلة - جاءني صوت الكروان مغرداً في الفضاء: "الملك لك.. لك.. يا صاحب الملك".
خيري حسن
مقال قديم
يصلح اليوم- 17 يناير / - وكل يوم - فى شهر يناير - بمناسبة ذكِرى رحيل سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وجمالها الذي لا يرحل حتى لو رحل زمانها!
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.