دكتور عبد الله عيسى ، أكاديمي وفنان ومخرج وشاعر فلسطيني و عربي كبير ، يتميز بثقافته الواسعة وطاقته الإبداعية المتوهجة ، وهو شاعر مجدد في قصيدة التفعيلة ، لا يقنع بما هو سائد ، فهو شاعر حداثي بامتياز ، ونصه نص مفتوح يحمل دلالات متعددة ، ويحتاج إلى قراءة متأنية .
ولأنه شاعر فلسطيني ، فلابد أن يكون شعره مصبوغا بقضية الأرض، لكنه يتناولها بشكل مختلف، يمثل الإنسان فيها محور شعره، فهو شاعر يبتعد عن الأيدلوجية ، والضجيج ، ويمارس طقوس آلامه الإنسانية بشكل هادئ ، فانتماؤه الإنساني هو قضيته الكونية ، ويتجلى هذا الإنسان في صور و أقانيم شتى ، فهو تارة ذلك الإنسان الفلسطيني الذي أرهقته الأيدلوجيات والخلافات ، وتارة الإنسان ذلك الكائن البشري المعذب في كل الأرض، وتارة أخرى هو ذاته الإنسانية وما ينوشها من قلق وجودي و اجتماعي، وما تحمله من طموحات وتطلعات وإخفاقات.
وفي إصداره الأخير 2021 المعنون بـ" أدنى من سماء" ، والذي يضم قصائد مختارة من دواوينه التسعة ، يستطيع القارئ أن يكتشف أو يحاول أن يكتشف عوالم عبد الله عيسى و آفاقه المتعددة وزوايا رؤاه المختلفة بين ما هو ذاتي ، و ديني وروحي و إنساني ، وكذلك ما يتعلق بقضيته الأم (فلسطين)
والمختارات تضم قصائد من دواوين " موتى يعدون الجنازة "، و ديوان" آلاء "، وديوان " قيامة الأسوار" ودواوين أخرى
ولنقرأ معا هذه الأسطر الشعرية كمدخل إلى (مختاراته) " أدنى من سماء" ومدخل إلى عالمه الشعري بشكل عام ، لنحاول أن نكتشف طريقته المختلفة في الكتابة:
" أيّ طُوبى تُغطّيكَ بالزنجبيلِ
وتحرُسُ قلبَكَ من عتمةِ الموت.
ها أنتَ أنتَ!
تلُمّ عن البحرِ حزنَ النوارسِ،
تنفضُ عنهُ فحيحَ الهمومِ،
وحكمتَهُ في الرحيلِ..
تسُدُّ ثقوبَ الهواءِ بسَعْفِ أصابعِكَ الناحلاتِ،
وتمسحُ عن وجنِةِ النهرِ عُزلتَهُ.."
وهي لا تحتاج إلى تأمل لكي ندرك أننا أمام شاعر كبير، لديه وعي أصيل بماهية الشعر، ليس فقط على مستوى التشكيل و التصوير و الإيقاع ، بل هو يمتلك شيئا آخر قبل كل هذه العناصر ، وهو الشعور الصادق والعاطفة المتقدة التي تشدك إلى عالمه الشعري قبل أن تتحسس أدواته الفنية.وهو يشبه عاطفة الشاعر العربي القديم الذي كان يفتتح قصائده بشحنات عاطفية ، وانفعال نفسي تلقائي دون تزييف أو تكلف، فها هو امرؤ القيس في مطلع معلقته الشهيرة يقول :
"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.."
فيأسرنا بعاطفته الصادقة ، ومعانيه الشجية رغم خلوها من أي صورة فنية أو لمحة بلاغية ، ومع ذلك ندرك شاعريته من (تلقائية إحساسه) ، (وتدفق مشاعره) ، وهو يذكرنا بمفهوم الشاعر الإنجليزي الرومانتيكي وليم ووردز وورث ، وهو يصر على أن الشعر هو تدفق من العاطفة والشعور flow of emotions and feelings ،وكثيرا ما نجد شعراء يجيدون (صناعة الشعر)، ويعرفون تقنياته الفنية ، ولكننا لا نستطيع أن نتعاطف معهم ، أو نستشعر صدقهم الفني.
وهذه هي البداية التي ينبغي أن نقدم بها هذا الشاعر الحقيقي، فالإحساس الصادق و العاطفة المتقدة أوالمتوقدة لا تتاح لكثير من الشعراء الكبار رغم اعترافنا بقدرتهم الفنية. أما بخصوص ملامح التشكيل الجمالي لدى عبد الله عيسى فهو بارع في التصوير الخاطف المبتكر( تلم عن البحر حزن النوارس- تنفض عنه فحيح الهموم- وحكمته في الرحيل)، وهو مع براعته في التصوير ، فهو يقدم صورته محمولة على ألفاظ رشيقة شجية تتسلل إلى وجدان المتلقي دون عناء.
" وطيورُكَ مَغْرُوزةٌ في صميم الحرائقِ،
عيناكَ في الظِلّ "
" ثُمَّ أحلمُ أنّ الصبِيّ الّذي رَبَطَ النَّهْرَ في قوسِ إصْبَعهِ "
إن عالم عبد الله عيسى من خلال هذه الأسطر الشعرية ، ليس عالما مألوفا من العوالم التي نعتادها مع كثرة ما يقال من شعر، ولكنه عالم مسكون بالدهشة في كل تفاصيله ، عالم بكر يعيدك إلى (فطرة القصيدة وبراءتها) ، قبل أن ينتهكها (إسراف الذهنية) ، و(جفاف المنطق).
" هذا دمٌ،
جَبْهَةُ الريح،
والثَمَرُ المُتَدَلِّ من الغَيمِ "
" ما أحدٌ
غيرُ بعضِ عويلِكَ في مُنتهى الموتِ.
خائنةٌ دمعاتُكَ، لم تنتظرْكَ لتبكي "
وعبد الله عيسى لا يرى فرقا كبيرا بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، فالإيقاع عنده مسألة ثانوية، فهو في الديوان الواحد يكتب النوعين معا ، وربما لا يشعر القارئ نفسه بهذا التباين، لأن الشاعرية لديه حاضرة بحيث يتلاشى الإحساس أحيانا بغياب الإيقاع، يقول الشاعر في إحدى قصائده (الحزينة) و (الموجعة ) المهداة (لأخته عائشة عيسى) التي يزاوج فيها بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر :
" سأحضن ذاكَ البيتَ
من سقفِه المفتوح، مثلي، للأشباحِ يَأتون جَمْعاً أو فرادى
يَشُدُّون الفضاء بجلدِنا طُبولاً، ويَّمحُون في الليلِ
حتى ما تبقّى من السلوى على آيةِ الكُرسيِّ
فوق جدارهِ الجنُوبيِّ"
بل إنه ينتقل إلى إيقاع بحر المتقارب في القصيدة ذاتها ، دون حدوث اضطراب موسيقي عند المتلقي
" ليرَتَطِم الموتُ، من أجلِ موتِكِ، بالريحِ
حتى تدقّ حوافرُ هذا الغبار هواءَ الرئاتِ الثقيلاتِ بالوحْلِ،
مثل، نُجومٍ دواثر، من أبدٍ،
تَتَهيّأُ، مَرْمِيّةً في ظلال القُبُورِ، ليوم قِيامَتِها،"
ونلحظ هنا قوة وحرارة العاطفة التي تتولى وحدها نسج المعنى بعفوية وتلقائية، على حساب الذهنية التي تتراجع كثيرا ، وهذا ما يمنح شعره تلك العذوبة و ذلك التدفق.
وفي قصيدة بعنوان "خادمة الليل" ، والتي لا تخفى إشاراتها الدمثة إلى تلك المرأة التي تحترف مهنة (خدمة الليل) ، والتي قضى معها الشاعر إحدى الليالي، دون أن تخدش القصيدة وجدان قارئها :
"وذرفتِ رجالاً كثيرينَ؛
لكنّهم لم يَرَوكِ وراء النشيجِ،
ولم يسقُطوا عن دُمُوعكِ.
هلْ ستظَلِّين واقفةً في مراياكِ
تنتظرين، سُدى، أحداً ما يعودُ،
وليس لعينيكِ ماضٍ سوى الذاكرةْ.
وحدها!
تتأوّهُ ريحُ الشمالِ وراءَ الشبابيكِ،
والمطرُ المتعثِّر في الليلِ.
تَبقَى المصابيحُ عمياءَ
حين يُعَلِّقُ قلبَ المدينةِ خيطُ النّعاس،
وشمعتُكِ البارحيّةُ لم تَغْفُ
مثل ارتجافاتِ ظِلِّكِ
فوق الجدارِ،
بقايا ارتطامِ صُراخكِ خلف فمٍ مُوجعٍ بصداهُ:
ولا بُدَّ من أحدٍ كي أكاشِفهُ وحْدَتي.
وحْدها!
كَفِّيَ انحسرتْ فوق خَصْركِ شمعاً يسُحُّ،
وكان السريرُ يشعُّ بجسمِكِ.
لن يعرفَ العابرونَ
لماذا نسيتِ ذراعيكِ ممدودتينِ لِرأْسٍ سينعسُ!
عيناكِ جامدتانِ بدمعِهما كالإشاراتِ في حُلمٍ داثرٍ.
لا تنامي إذنْ
ستموتينَ وحدكِ، مَنْسِيّةً، خارج المقبرةْ."
و ديوان قيامة الأسرار يتناول سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والمسيح والنبي سليمان ، وشخصيات تاريخية مؤثرة مثل نبوخذ نصر وهرقل ، لكنه كما أشرنا تناول مغاير ومبتكر، ولابد أن يكون القارئ مثقفا حتى يستطيع أن يضع يديه على مفاتيح القصيدة وشخصيات القصيدة ، فعبد الله عيسى قارئ للعهد القديم والعهد الجديد بشكل عميق، وقد تناص معهما في كثير من القصائد، فترى المسيح عليه السلام حاضرا بقوة ، بإشارات واضحة أو خفية ، وترى كثيرا من عبارات و إيماءات الأسفار القديمة (سفر التكوين- والمزامير – ودانيال وغيرها من الأسفار) فمثلا أسطورة ( جنون وتحول نبوخذ نصر إلى وحش يسكن الحقول و البراري)، أشار إليها الشاعر وإلى غيرها من الأساطير، ولذلك فالقارئ الذي لا يعرف تلك المفاتيح ربما يشعر بصعوبة في محاولة اكتشاف عالم هذا الشاعر الكبير.
وفي كل سطر شعري تقرأه لعبد الله عيسى لابد أن تفغر فاك دهشة وإعجابا بطريقته في اقتناص تلك الصور و الأفكار ، ففي ديوانه من وصايا فوزية الحسن العشرة ، اقرأ معي مفتتح الوصية السادسة :
"من رمى حجرا كي يعد الدوائر في النهر
آذى الحصى والطحالب و السمك المطمئن"
فهو يحذر من (عبث واستهانة الإنسان) بما حوله ليس على صعيد القضايا الكبرى ، ولكن في أقل الأشياء التي لا نلتفت إليها ، وهي تكدير صفو الكائنات الأخرى، وإحساسها بالأمان.
وحين يمارس الشاعر شيئا من الذهنية ، بحكم دراساته وفلسفته ، فإنك تجد نفسك أمام ذهنية من نوع مختلف ، فهي ليست ذهنية صماء ، بل ذهنية مفعمة بالمشاعر:
"صدئٌ نجمُ هذي الصحارى،
حصاةٌ توسَدُّها النمْلُ،
والرمْلُ
لا يُنْضِجُ الغَيْمَ، أو يُوقظُ الأحصنةْ.
ذاهبٌ في الجنازةِ،
لا خِلْوَةً يتلمَّسُ فيها أصابعَهُ القلبُ!
ليست يديْ امرأةً،"
وهذا المقطع يستطيع القارئ أن يضع مجموعة من الاحتمالات أو البدائل لككثير من مفرداته، فالنجم هنا قد يكون النجم حقيقة الذي اصبح صدئا شائخا أمام متوالية الفجائع، وقد يكون النجم هو الشاعر نفسه الذي صدئت آماله وطموحاته في البحث عن الإنسان، وكذلك كلمة حصاة التي هي خبر لمبتدأ محذوف، قد يكون هو ذلك النجم أو الشاعر ، وسط هذا الرمل أو النمل البشري ، حتى صارت الحياة ككلها جنازة نسير فيها من لحظة الميلاد.
ويحتل ضمير المخاطب في قصائد عبد الله عيسى مكانة بارزة، فهو تارة يستخدمه في مخاطبة الإنسان عموما ، أو الإنسان الفلسطيني التائه و المتعب، وأحيانا يستخدم هذا الضمير قناعا يخاطب به نفسه :
"في البدءِ كنتَ،
وكانتِ الأرضُ الصغيرةُ في يديكَ كحَفْنتَيْ ماءٍ.
لأنّكَ تُشبهُ المجرى ستتبعُكَ الينابيعُ الّتي انحدرتْ من الجبلِ
المجاورِ،
فامضِ خلفكَ وحدكَ.
الأفعى الّتي هرِمتْ وراءَ خُطى حصَانِكَ
تحتمي ممّ تقُصّ على الذئابِ بِنَايِ جاركَ"
وفي هذه الوصية الثامنة من ديوان من وصايا فوزية الحسن العشرة، نرجح أن ضمير المتكلم هنا هو ذات الشاعر، حيث يحاول أن يدرب تلك النفس على الوصول إلى المرأة والحفاظ عليها جسدا وروحا :
لا تقُلْ مثلما قالَ عُشّاقُها مُذْ رأوها لها،
ثم خرّوا على ركبَتَيها: أحِبّكِ.
ليستْ ككُلّ النساءِ، ولا تُشبِهُ في المرايا سوى نَفسِها.
الكرومُ تصيرُ نبيذًا إذا لامَسَتْها بأنفاسِها الضجِراتِ.
ولا تشربُ الخمرَ إلا بأعيادِ ميلادِها وحدَها،
ورجالٌ كثيرونَ ينتظرونَ بباقاتِ وردٍ،
ورائحةٍ تُشتهى في المرايا الّتي ذبُلتْ
وبالتأكيد هناك قراءات أخرى للوصية ولكل قصائد عبد الله عيسى
وفي تلك الدراسة الموجزة ، نحن أمام شاعر كبير يقدم عالمه الشعري وجملته الشعرية وصورته الشعرية بطريقة مختلفة ، تفكك كثيرا من الأطر التقليدية و يعيد تركيبها بشكل آخر يتميز بالدهشة و الإثارة الفنية من خلال لغة مراوغة ونص مفتوح يتمدد في مساحات دلالية شديدة الثراء.
وهو أحد كبار قصيدة التفعيلة التي لا يمكن أن تذبل في وجود مثل هذه الطاقة الشعرية الكبيرة .
ولأنه شاعر فلسطيني ، فلابد أن يكون شعره مصبوغا بقضية الأرض، لكنه يتناولها بشكل مختلف، يمثل الإنسان فيها محور شعره، فهو شاعر يبتعد عن الأيدلوجية ، والضجيج ، ويمارس طقوس آلامه الإنسانية بشكل هادئ ، فانتماؤه الإنساني هو قضيته الكونية ، ويتجلى هذا الإنسان في صور و أقانيم شتى ، فهو تارة ذلك الإنسان الفلسطيني الذي أرهقته الأيدلوجيات والخلافات ، وتارة الإنسان ذلك الكائن البشري المعذب في كل الأرض، وتارة أخرى هو ذاته الإنسانية وما ينوشها من قلق وجودي و اجتماعي، وما تحمله من طموحات وتطلعات وإخفاقات.
وفي إصداره الأخير 2021 المعنون بـ" أدنى من سماء" ، والذي يضم قصائد مختارة من دواوينه التسعة ، يستطيع القارئ أن يكتشف أو يحاول أن يكتشف عوالم عبد الله عيسى و آفاقه المتعددة وزوايا رؤاه المختلفة بين ما هو ذاتي ، و ديني وروحي و إنساني ، وكذلك ما يتعلق بقضيته الأم (فلسطين)
والمختارات تضم قصائد من دواوين " موتى يعدون الجنازة "، و ديوان" آلاء "، وديوان " قيامة الأسوار" ودواوين أخرى
ولنقرأ معا هذه الأسطر الشعرية كمدخل إلى (مختاراته) " أدنى من سماء" ومدخل إلى عالمه الشعري بشكل عام ، لنحاول أن نكتشف طريقته المختلفة في الكتابة:
" أيّ طُوبى تُغطّيكَ بالزنجبيلِ
وتحرُسُ قلبَكَ من عتمةِ الموت.
ها أنتَ أنتَ!
تلُمّ عن البحرِ حزنَ النوارسِ،
تنفضُ عنهُ فحيحَ الهمومِ،
وحكمتَهُ في الرحيلِ..
تسُدُّ ثقوبَ الهواءِ بسَعْفِ أصابعِكَ الناحلاتِ،
وتمسحُ عن وجنِةِ النهرِ عُزلتَهُ.."
وهي لا تحتاج إلى تأمل لكي ندرك أننا أمام شاعر كبير، لديه وعي أصيل بماهية الشعر، ليس فقط على مستوى التشكيل و التصوير و الإيقاع ، بل هو يمتلك شيئا آخر قبل كل هذه العناصر ، وهو الشعور الصادق والعاطفة المتقدة التي تشدك إلى عالمه الشعري قبل أن تتحسس أدواته الفنية.وهو يشبه عاطفة الشاعر العربي القديم الذي كان يفتتح قصائده بشحنات عاطفية ، وانفعال نفسي تلقائي دون تزييف أو تكلف، فها هو امرؤ القيس في مطلع معلقته الشهيرة يقول :
"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.."
فيأسرنا بعاطفته الصادقة ، ومعانيه الشجية رغم خلوها من أي صورة فنية أو لمحة بلاغية ، ومع ذلك ندرك شاعريته من (تلقائية إحساسه) ، (وتدفق مشاعره) ، وهو يذكرنا بمفهوم الشاعر الإنجليزي الرومانتيكي وليم ووردز وورث ، وهو يصر على أن الشعر هو تدفق من العاطفة والشعور flow of emotions and feelings ،وكثيرا ما نجد شعراء يجيدون (صناعة الشعر)، ويعرفون تقنياته الفنية ، ولكننا لا نستطيع أن نتعاطف معهم ، أو نستشعر صدقهم الفني.
وهذه هي البداية التي ينبغي أن نقدم بها هذا الشاعر الحقيقي، فالإحساس الصادق و العاطفة المتقدة أوالمتوقدة لا تتاح لكثير من الشعراء الكبار رغم اعترافنا بقدرتهم الفنية. أما بخصوص ملامح التشكيل الجمالي لدى عبد الله عيسى فهو بارع في التصوير الخاطف المبتكر( تلم عن البحر حزن النوارس- تنفض عنه فحيح الهموم- وحكمته في الرحيل)، وهو مع براعته في التصوير ، فهو يقدم صورته محمولة على ألفاظ رشيقة شجية تتسلل إلى وجدان المتلقي دون عناء.
" وطيورُكَ مَغْرُوزةٌ في صميم الحرائقِ،
عيناكَ في الظِلّ "
" ثُمَّ أحلمُ أنّ الصبِيّ الّذي رَبَطَ النَّهْرَ في قوسِ إصْبَعهِ "
إن عالم عبد الله عيسى من خلال هذه الأسطر الشعرية ، ليس عالما مألوفا من العوالم التي نعتادها مع كثرة ما يقال من شعر، ولكنه عالم مسكون بالدهشة في كل تفاصيله ، عالم بكر يعيدك إلى (فطرة القصيدة وبراءتها) ، قبل أن ينتهكها (إسراف الذهنية) ، و(جفاف المنطق).
" هذا دمٌ،
جَبْهَةُ الريح،
والثَمَرُ المُتَدَلِّ من الغَيمِ "
" ما أحدٌ
غيرُ بعضِ عويلِكَ في مُنتهى الموتِ.
خائنةٌ دمعاتُكَ، لم تنتظرْكَ لتبكي "
وعبد الله عيسى لا يرى فرقا كبيرا بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، فالإيقاع عنده مسألة ثانوية، فهو في الديوان الواحد يكتب النوعين معا ، وربما لا يشعر القارئ نفسه بهذا التباين، لأن الشاعرية لديه حاضرة بحيث يتلاشى الإحساس أحيانا بغياب الإيقاع، يقول الشاعر في إحدى قصائده (الحزينة) و (الموجعة ) المهداة (لأخته عائشة عيسى) التي يزاوج فيها بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر :
" سأحضن ذاكَ البيتَ
من سقفِه المفتوح، مثلي، للأشباحِ يَأتون جَمْعاً أو فرادى
يَشُدُّون الفضاء بجلدِنا طُبولاً، ويَّمحُون في الليلِ
حتى ما تبقّى من السلوى على آيةِ الكُرسيِّ
فوق جدارهِ الجنُوبيِّ"
بل إنه ينتقل إلى إيقاع بحر المتقارب في القصيدة ذاتها ، دون حدوث اضطراب موسيقي عند المتلقي
" ليرَتَطِم الموتُ، من أجلِ موتِكِ، بالريحِ
حتى تدقّ حوافرُ هذا الغبار هواءَ الرئاتِ الثقيلاتِ بالوحْلِ،
مثل، نُجومٍ دواثر، من أبدٍ،
تَتَهيّأُ، مَرْمِيّةً في ظلال القُبُورِ، ليوم قِيامَتِها،"
ونلحظ هنا قوة وحرارة العاطفة التي تتولى وحدها نسج المعنى بعفوية وتلقائية، على حساب الذهنية التي تتراجع كثيرا ، وهذا ما يمنح شعره تلك العذوبة و ذلك التدفق.
وفي قصيدة بعنوان "خادمة الليل" ، والتي لا تخفى إشاراتها الدمثة إلى تلك المرأة التي تحترف مهنة (خدمة الليل) ، والتي قضى معها الشاعر إحدى الليالي، دون أن تخدش القصيدة وجدان قارئها :
"وذرفتِ رجالاً كثيرينَ؛
لكنّهم لم يَرَوكِ وراء النشيجِ،
ولم يسقُطوا عن دُمُوعكِ.
هلْ ستظَلِّين واقفةً في مراياكِ
تنتظرين، سُدى، أحداً ما يعودُ،
وليس لعينيكِ ماضٍ سوى الذاكرةْ.
وحدها!
تتأوّهُ ريحُ الشمالِ وراءَ الشبابيكِ،
والمطرُ المتعثِّر في الليلِ.
تَبقَى المصابيحُ عمياءَ
حين يُعَلِّقُ قلبَ المدينةِ خيطُ النّعاس،
وشمعتُكِ البارحيّةُ لم تَغْفُ
مثل ارتجافاتِ ظِلِّكِ
فوق الجدارِ،
بقايا ارتطامِ صُراخكِ خلف فمٍ مُوجعٍ بصداهُ:
ولا بُدَّ من أحدٍ كي أكاشِفهُ وحْدَتي.
وحْدها!
كَفِّيَ انحسرتْ فوق خَصْركِ شمعاً يسُحُّ،
وكان السريرُ يشعُّ بجسمِكِ.
لن يعرفَ العابرونَ
لماذا نسيتِ ذراعيكِ ممدودتينِ لِرأْسٍ سينعسُ!
عيناكِ جامدتانِ بدمعِهما كالإشاراتِ في حُلمٍ داثرٍ.
لا تنامي إذنْ
ستموتينَ وحدكِ، مَنْسِيّةً، خارج المقبرةْ."
و ديوان قيامة الأسرار يتناول سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والمسيح والنبي سليمان ، وشخصيات تاريخية مؤثرة مثل نبوخذ نصر وهرقل ، لكنه كما أشرنا تناول مغاير ومبتكر، ولابد أن يكون القارئ مثقفا حتى يستطيع أن يضع يديه على مفاتيح القصيدة وشخصيات القصيدة ، فعبد الله عيسى قارئ للعهد القديم والعهد الجديد بشكل عميق، وقد تناص معهما في كثير من القصائد، فترى المسيح عليه السلام حاضرا بقوة ، بإشارات واضحة أو خفية ، وترى كثيرا من عبارات و إيماءات الأسفار القديمة (سفر التكوين- والمزامير – ودانيال وغيرها من الأسفار) فمثلا أسطورة ( جنون وتحول نبوخذ نصر إلى وحش يسكن الحقول و البراري)، أشار إليها الشاعر وإلى غيرها من الأساطير، ولذلك فالقارئ الذي لا يعرف تلك المفاتيح ربما يشعر بصعوبة في محاولة اكتشاف عالم هذا الشاعر الكبير.
وفي كل سطر شعري تقرأه لعبد الله عيسى لابد أن تفغر فاك دهشة وإعجابا بطريقته في اقتناص تلك الصور و الأفكار ، ففي ديوانه من وصايا فوزية الحسن العشرة ، اقرأ معي مفتتح الوصية السادسة :
"من رمى حجرا كي يعد الدوائر في النهر
آذى الحصى والطحالب و السمك المطمئن"
فهو يحذر من (عبث واستهانة الإنسان) بما حوله ليس على صعيد القضايا الكبرى ، ولكن في أقل الأشياء التي لا نلتفت إليها ، وهي تكدير صفو الكائنات الأخرى، وإحساسها بالأمان.
وحين يمارس الشاعر شيئا من الذهنية ، بحكم دراساته وفلسفته ، فإنك تجد نفسك أمام ذهنية من نوع مختلف ، فهي ليست ذهنية صماء ، بل ذهنية مفعمة بالمشاعر:
"صدئٌ نجمُ هذي الصحارى،
حصاةٌ توسَدُّها النمْلُ،
والرمْلُ
لا يُنْضِجُ الغَيْمَ، أو يُوقظُ الأحصنةْ.
ذاهبٌ في الجنازةِ،
لا خِلْوَةً يتلمَّسُ فيها أصابعَهُ القلبُ!
ليست يديْ امرأةً،"
وهذا المقطع يستطيع القارئ أن يضع مجموعة من الاحتمالات أو البدائل لككثير من مفرداته، فالنجم هنا قد يكون النجم حقيقة الذي اصبح صدئا شائخا أمام متوالية الفجائع، وقد يكون النجم هو الشاعر نفسه الذي صدئت آماله وطموحاته في البحث عن الإنسان، وكذلك كلمة حصاة التي هي خبر لمبتدأ محذوف، قد يكون هو ذلك النجم أو الشاعر ، وسط هذا الرمل أو النمل البشري ، حتى صارت الحياة ككلها جنازة نسير فيها من لحظة الميلاد.
ويحتل ضمير المخاطب في قصائد عبد الله عيسى مكانة بارزة، فهو تارة يستخدمه في مخاطبة الإنسان عموما ، أو الإنسان الفلسطيني التائه و المتعب، وأحيانا يستخدم هذا الضمير قناعا يخاطب به نفسه :
"في البدءِ كنتَ،
وكانتِ الأرضُ الصغيرةُ في يديكَ كحَفْنتَيْ ماءٍ.
لأنّكَ تُشبهُ المجرى ستتبعُكَ الينابيعُ الّتي انحدرتْ من الجبلِ
المجاورِ،
فامضِ خلفكَ وحدكَ.
الأفعى الّتي هرِمتْ وراءَ خُطى حصَانِكَ
تحتمي ممّ تقُصّ على الذئابِ بِنَايِ جاركَ"
وفي هذه الوصية الثامنة من ديوان من وصايا فوزية الحسن العشرة، نرجح أن ضمير المتكلم هنا هو ذات الشاعر، حيث يحاول أن يدرب تلك النفس على الوصول إلى المرأة والحفاظ عليها جسدا وروحا :
لا تقُلْ مثلما قالَ عُشّاقُها مُذْ رأوها لها،
ثم خرّوا على ركبَتَيها: أحِبّكِ.
ليستْ ككُلّ النساءِ، ولا تُشبِهُ في المرايا سوى نَفسِها.
الكرومُ تصيرُ نبيذًا إذا لامَسَتْها بأنفاسِها الضجِراتِ.
ولا تشربُ الخمرَ إلا بأعيادِ ميلادِها وحدَها،
ورجالٌ كثيرونَ ينتظرونَ بباقاتِ وردٍ،
ورائحةٍ تُشتهى في المرايا الّتي ذبُلتْ
وبالتأكيد هناك قراءات أخرى للوصية ولكل قصائد عبد الله عيسى
وفي تلك الدراسة الموجزة ، نحن أمام شاعر كبير يقدم عالمه الشعري وجملته الشعرية وصورته الشعرية بطريقة مختلفة ، تفكك كثيرا من الأطر التقليدية و يعيد تركيبها بشكل آخر يتميز بالدهشة و الإثارة الفنية من خلال لغة مراوغة ونص مفتوح يتمدد في مساحات دلالية شديدة الثراء.
وهو أحد كبار قصيدة التفعيلة التي لا يمكن أن تذبل في وجود مثل هذه الطاقة الشعرية الكبيرة .