"وأبصرت أم أوديب، جوكاستا الفاتنة، التي قامت بعمل وحشي في جهالة من التفكير، إذ قد تزوجت ابنها، بعد أن قتل أباه، فتزوجها، ولكن الآلهة كشفت هذه الأمور للبشر في الحال، ولكنه مع ذلك ظل سيدا على الكادميين في طيبة الجميلة، يعاني المحن بسبب خطط الآلهة الضارة، أما هى، فقد هبطت إلى بيت هاديس، الحارس القوي، لقد علقت أنشوطة في قضيب عال، وقد استبد بها الحزن، وشنقت نفسها، وخلفت وراءها محنا لا حصر لها. كل ذلك تقوم به ربات الانتقام من أجل أم".
جاءت هذه الأبيات عرضا، لقصة منقوصة تلاها الشاعر اليوناني هوميروس في الأنشودة الحادية عشرة من ملحمة "الأوديسا"، ساردا من خلالها مقابلات أوديسيوس في رحلة العودة، ومروره على أوقيانوس وحواراته مع معظم أرواح أبطال الأساطير اليونانية في بيت هاديس إله العالم السفلي. إلى جانب ما تناثر شفاهة عبر الأزمنة ويتردد صداه في أروقة الميثولوجيا الإغريقية من جيل إلى جيل، يلتقط سوفوكليس الخيط لينسج واحدة من أكثر الأعمال الفنية إبهارا وخلودا في التراث الإنساني.
لم تكن مسرحية "أوديب ملكا" عملا بالغ الدقة فقط، بل تحفة فنية فريدة انطلقت كالسهم في القرن الخامس قبل الميلاد لتذهل القراء والكتاب والنقاد والمفكرين والممثلين والمخرجين وأساتذة التحليل النفسي والفلاسفة الكبار.
عمل يفرد له أرسطو العظيم مكانة كبرى في كتابه ذائع الصيت "فن الشعر" كنص مكتمل وأنموذج رفيع في التراجيديا.
سوفوكليس ابن الديموقراطية اليونانية، مازال يعيش في ذاكرة العالم بسبعة نصوص فقط من بين مائة وعشرون مسرحية قام بتأليفها ولكنها لم تصل ألينا. لا شيء أتعس من الشعور بالخسارة لفقدان هذه الأعمال.
استعادة سيرة الرجل لا ترتبط معي بمناسبات معينه، فدائما ماأكرر قراءته، تحت سيطرة هاجس آخر، أنه أيضا شخصية اسطورية. لما لا. ألم يحزن مواطنيه لموته، ويرفعونه إلى مرتبة مقدسة، ويقيمون له احتفال سنوي يليق بمكانته كواحد من عظمائهم؟. إنه يتجسد أمامي في صورة شخص نبيل، متسام، ذو حس رسولي، يدير مجابهات حوارية بين الآلهة والبشر، بين الجبر والاختيار، ربما كان الكاتب الأجرأ في التاريخ، والأكثر تهذيبا في الوقت ذاته، فهو يدير حبكات مرعبة، دون اللجوء إلى الإثارة، يوظف القتل. أى قتل؟ قتل الأب!. يوظف الزنا. أى زنا؟ زنا الإبن بأمه!. يجعل الأشقاء أبناءا!. لكنه يفعل ذلك عبر لعبة تشويقية، أشبه بعمل بوليسي. صراع بين أقدار متصادمة، مرسوم وفق نبوءة لاخلاص من لعناتها.
لكنك في النهاية لا تملك سوى التعاطف والتماس الأعذار لهؤلاء الذين يحاولون الهرب من اقدراهم إلى أقدارهم بطرق اخرى، في محاولات يائسة للانفصال عن واقعهم بأسره، اللجوء إلى المنفى والعزلة والانتحار وهم يتخبطون في قبضة العدم، حيث لا أمل فى النجاة، ولا حرية في التساؤل. مسارات غير متوقعة، ابتلاءات رهيبة، عذابات تخص النبيين، ترفع قيمة النص، وتبتعد به نهائيا عن المبتذل، نائية عن كل تأويل يدعو إلى الإدانة، رغم تفجر المشاهد المؤلمة، وصخب تداعياتها، وتحولاتها الدراماتيكية العنيفة. عوالم بلا فردوس، يغرق أبطالها في بحار الأسى والفجيعة، لكنها تكتب بحس صوفي بالغ العمق، كلمات مشحونة بالحكمة، مشبعة بالشعر، وبمهارة فائقة، لتمرير وطأة هذا الأجواء الجحيمية. تكتيكات يبدو بوضوح أنه كان مدركا بعمق لأهمية استخدامها، فمن السهل العثور على أثار هذه المهارات في إدارته للمشاهد وهو يعمل مع أبطاله في تقصي تلك الرموز والألغاز التي تحيط بهم. تشعر به حزينا وهو يتتبع مصائرهم. متساميا بالواقع على نحو مثالي، مصورا الشخصيات كما يجب أن يكونوا، تعامل مفرط الارستقراطية: ملوك وامراء، وألهة، وقادة. كل منهم يتصرف بما يليق بمكانته، جميعهم أبطال، لا يوجد سنيدة. لكل دور مؤثر، لا تستطيع حذفه من النص، سيبدو الخلل، وتمضي المسرحية عرجاء، واضحة الارتباك.
بصفته نبيلا وحكيما وقائدا عسكريا، وكاتب ذا موهبة فذة، استطاع سوفوكليس تجنيب أوديب التصرفات المبتذلة، فهو ملك ابن ملك، من العيب أن يأتي أفعالا صغيرة، فهو لايحاول الهروب، متملصا من المسئولية، رغم الشك الوجودي، وعبثية القدر، لقد أغلق عينيه عن العالم، فقأهما بإرادته، بصرامة قاسية، كعقاب فردي، لم يحكم به أحد عليه.
صابر رشدي
مجلة الجسرة العدد 59
جاءت هذه الأبيات عرضا، لقصة منقوصة تلاها الشاعر اليوناني هوميروس في الأنشودة الحادية عشرة من ملحمة "الأوديسا"، ساردا من خلالها مقابلات أوديسيوس في رحلة العودة، ومروره على أوقيانوس وحواراته مع معظم أرواح أبطال الأساطير اليونانية في بيت هاديس إله العالم السفلي. إلى جانب ما تناثر شفاهة عبر الأزمنة ويتردد صداه في أروقة الميثولوجيا الإغريقية من جيل إلى جيل، يلتقط سوفوكليس الخيط لينسج واحدة من أكثر الأعمال الفنية إبهارا وخلودا في التراث الإنساني.
لم تكن مسرحية "أوديب ملكا" عملا بالغ الدقة فقط، بل تحفة فنية فريدة انطلقت كالسهم في القرن الخامس قبل الميلاد لتذهل القراء والكتاب والنقاد والمفكرين والممثلين والمخرجين وأساتذة التحليل النفسي والفلاسفة الكبار.
عمل يفرد له أرسطو العظيم مكانة كبرى في كتابه ذائع الصيت "فن الشعر" كنص مكتمل وأنموذج رفيع في التراجيديا.
سوفوكليس ابن الديموقراطية اليونانية، مازال يعيش في ذاكرة العالم بسبعة نصوص فقط من بين مائة وعشرون مسرحية قام بتأليفها ولكنها لم تصل ألينا. لا شيء أتعس من الشعور بالخسارة لفقدان هذه الأعمال.
استعادة سيرة الرجل لا ترتبط معي بمناسبات معينه، فدائما ماأكرر قراءته، تحت سيطرة هاجس آخر، أنه أيضا شخصية اسطورية. لما لا. ألم يحزن مواطنيه لموته، ويرفعونه إلى مرتبة مقدسة، ويقيمون له احتفال سنوي يليق بمكانته كواحد من عظمائهم؟. إنه يتجسد أمامي في صورة شخص نبيل، متسام، ذو حس رسولي، يدير مجابهات حوارية بين الآلهة والبشر، بين الجبر والاختيار، ربما كان الكاتب الأجرأ في التاريخ، والأكثر تهذيبا في الوقت ذاته، فهو يدير حبكات مرعبة، دون اللجوء إلى الإثارة، يوظف القتل. أى قتل؟ قتل الأب!. يوظف الزنا. أى زنا؟ زنا الإبن بأمه!. يجعل الأشقاء أبناءا!. لكنه يفعل ذلك عبر لعبة تشويقية، أشبه بعمل بوليسي. صراع بين أقدار متصادمة، مرسوم وفق نبوءة لاخلاص من لعناتها.
لكنك في النهاية لا تملك سوى التعاطف والتماس الأعذار لهؤلاء الذين يحاولون الهرب من اقدراهم إلى أقدارهم بطرق اخرى، في محاولات يائسة للانفصال عن واقعهم بأسره، اللجوء إلى المنفى والعزلة والانتحار وهم يتخبطون في قبضة العدم، حيث لا أمل فى النجاة، ولا حرية في التساؤل. مسارات غير متوقعة، ابتلاءات رهيبة، عذابات تخص النبيين، ترفع قيمة النص، وتبتعد به نهائيا عن المبتذل، نائية عن كل تأويل يدعو إلى الإدانة، رغم تفجر المشاهد المؤلمة، وصخب تداعياتها، وتحولاتها الدراماتيكية العنيفة. عوالم بلا فردوس، يغرق أبطالها في بحار الأسى والفجيعة، لكنها تكتب بحس صوفي بالغ العمق، كلمات مشحونة بالحكمة، مشبعة بالشعر، وبمهارة فائقة، لتمرير وطأة هذا الأجواء الجحيمية. تكتيكات يبدو بوضوح أنه كان مدركا بعمق لأهمية استخدامها، فمن السهل العثور على أثار هذه المهارات في إدارته للمشاهد وهو يعمل مع أبطاله في تقصي تلك الرموز والألغاز التي تحيط بهم. تشعر به حزينا وهو يتتبع مصائرهم. متساميا بالواقع على نحو مثالي، مصورا الشخصيات كما يجب أن يكونوا، تعامل مفرط الارستقراطية: ملوك وامراء، وألهة، وقادة. كل منهم يتصرف بما يليق بمكانته، جميعهم أبطال، لا يوجد سنيدة. لكل دور مؤثر، لا تستطيع حذفه من النص، سيبدو الخلل، وتمضي المسرحية عرجاء، واضحة الارتباك.
بصفته نبيلا وحكيما وقائدا عسكريا، وكاتب ذا موهبة فذة، استطاع سوفوكليس تجنيب أوديب التصرفات المبتذلة، فهو ملك ابن ملك، من العيب أن يأتي أفعالا صغيرة، فهو لايحاول الهروب، متملصا من المسئولية، رغم الشك الوجودي، وعبثية القدر، لقد أغلق عينيه عن العالم، فقأهما بإرادته، بصرامة قاسية، كعقاب فردي، لم يحكم به أحد عليه.
صابر رشدي
مجلة الجسرة العدد 59