... تناولت في كتاب ( الجامع الأزهر وشيوخه في العصر العثماني ) قضية " منصب شيخ الجامع الأزهر" ، ارتأيت أن أعرض - للأصقاء الكرام - جانبا من تلك القضية ...
.....ثار جدل كبير حول تحديد تاريخ معين لظهور منصب " شيخ الجامع الأزهر" ، فتذهب إحدى الدراسات العلمية إلى أن هذا المنصب كان موجودا في العصر المملوكي ، وتولاه عدد من كبار العلماء ، من بينهم : الإمام البلفيني ، وابن حجر العسقلاني ، وزكريا الأنصاري ، وغيرهم ، واستند صاحب تلك الدراسة - في تأييد ما ذهب إليه - إلى أن هؤلاء العلماء لقبوا بألقاب تدل على توليهم مشيخة الأزهر ، كلقب " شيخ الاسلام "....
... والحقيقة التي تجدر الإشارة إليها ، أننا إذا رجعنا إلى المصادر التاريخية ، خاصة كتب التراجم التي عنيت بحياة العلماء في العصور الإسلامية المتعاقبة ، سنجد أن إلصاق عبارة " شيخ الإسلام " ، أو "شيخ الإسلام والمسلمين " ، لاتدل بحال من الأحوال على أنها مرادفة لمنصب شيخ الأزهر ، ولا تدل - أيضا - على مفهوم وظيفي ، وإنما هي صفة من الصفات العلمية أو التشريفية ، كانت تذكر بجانب اسم أحد الشوامخ من علماء المسلمين ، سواء كان هذا العالم من علماء الأزهر ، أو من العلماء الذين تخرجوا أو تصدروا للتدريس في الجوامع الاسلامية الشهيرة ، كالجامع الأموي في دمشق أو جامع القرويين في المغرب ....
... ومن جهة أخرى ، فان المصادر التاريخية التي أرخت لعصر سلاطين المماليك ، عنيت عناية بالغة بالعلماء ، وذكرت الوظائف التي شغلوها في النظام الإداري ، كوظائف القضاء والحسبة وغيرذلك ، لكنها لم تشر - من قريب أومن بعيد - إلى وجود وظيفة تسمى " شيخ الجامع الأزهر " ، ويبدو - من استقراء تلك المصادر - أن الجامع الأزهر - في عصر المماليك - لم يكن له شيخ يتولى رئاسته الدينية والعلمية ويدير شئونه الإدارية ، وإنما كان يتولاه الولاية العامة سلاطين مصر وأمراؤها ، كباقي المساجد الجامعة في الديار المصرية ، ويباشر شئونه الداخلية قضاة القضاة ، ومشايخ المذاهب الأربعة ، ومشايخ الأروقة ، يعاونهم خطيب الجامع ، هذا إلى جانب أن " ناظر الأزهر" - وهو عادة من أمراء المماليك - كان ينوب عن السلطان في الإشراف على شئون الأزهر ، والقيام على تنفيذ الأوامر والأحكام السلطانية ، والسهر على رعاية مصالح الجامع الأزهر ، ومصالح أهله من علماء وطلاب ...
.... وعلى ذلك ، يمكن أن نقرر أن منصب شيخ الجامع الأزهر من مستحدثات العصر العثماني ، وأن هذه المشيخة كانت - ولاتزال - من أعظم مناصب العلماء في مصر ، لأن صاحبها "يتصدر لخدمة العلماء والطلاب ، وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام " ، كما أنه الرئيس الأعلى لهيئة التدريس بالجامع الأزهر وغيره من المدارس أو الكليات التي كانت موجودة في مصر - إبان العصر العثماني - ...
... لكن السؤال الذي يفرض نفسه : ما الأسباب أو الدواعي التي أدت إلى وجود هذا المنصب في العصر العثماني ؟....
... يمكن القول : إن أوضاع مصر في العصر العثماني اختلفت عنها في العصر المملوكي ، لأن مصر في عصر المماليك كانت دولة مستقلة ، والقاهرة - مقر الجامع الأزهر - عاصمة هذه الدولة ، يقيم فيها سلاطين المماليك وكبار رجال الدولة من أمراء ووزراء ، إلى جانب أنها كانت عاصمة الخلافة في العالم الإسلامي ، لوجود الخليفة العباسي وإقامته بها إقامة دائمة ، وعلى الرغم من أن الخليفة " لم يكن له أمر ولانهي وحسبه أن يقال أمير المؤمنين " ، الا أن إقامته بالقاهرة أضفت عليها زعامة روحية للعالم الاسلامي ، كما أن كبار العلماء - في مصر - كانوا يشغلون الوظائف الدينية والإدارية الكبرى ، كالقضاء والحسبة والوزارة ، وعلى اتصال مباشر بكبار رجال السلطة ، فلم تكن هناك ضرورة تدعو إلى جعل الأزهر - بعلمائه وطلابه - هيئة أو طائفة مستقلة ، لمشاركة علمائه في إدارة دفة الحكم في مصر ....
... أما في العصر العثماني : فقد تبدل الوضع ، إذ فقدت مصر استقلالها ، وغدت مجرد ولاية تابعة للدولة العثمانية ، يحكمها وال يأتي من إستانبول ، وبعض هؤلاء الولاة كانوا يجهلون اللغة العربية ، إلى جانب قصر مدة حكمهم التي لم تزد عن سنة واحدة - في معظم الأحوال - ، فآثر بعضهم الإقامة في القلعة - مقر الحكم - ، ولم يكونوا على اتصال مباشر بطوائف الشعب المصري ، ومن بينهم علماء الأزهر ....
ومن ناحية أخرى : طبق العثمانيون نظمهم القضائية - تدريجيا - في مصر إثر استيلائهم عليها ، فبعد أن كان القضاء - إبان العصر المملوكي - يسير وفق المذاهب الفقهية الأربعة ، وكان لكل مذهب قضاته ، يرأسهم قاض يلقب بقاضي القضاة ، وكان هؤلاء القضاة - على اختلاف درجاتهم - من زمرة علماء الأزهر ، ومن المصريين أو المقيمين بها من العلماء الوافدين إليها - على أقل تقدير - ، غير العثمانيون هذا النظام ، وجعلوا رئاسة القضاء للمذهب الحنفي - مذهب الدولة العثمانية الرسمي - ، وغدا قاضي قضاة مصر ، أو " قاضي العسكر " ، عثمانيا يأتي من إستانبول مباشرة إلى مصر ، وحرصت الإدارة العثمانية على أن لا يستقر قاضي العسكر في منصبه طويلا ، فشعر علماء الأزهر أن قاضي العسكر - رغم كونه من زمرة العلماء - لايمثلهم بحال من الأحوال ، كما كان الوضع مع قضاة القضاة في العصر السابق على العصر العثماني ....
.... يضاف الى ما تقدم : أن طبيعة الحكم في مصر - في العصر العثماني - قسمت المجتمع المصري إلى طوائف ، وكانت الطائفة بمثابة منظمة اجتماعية واقتصادية لها دستورها غير المكتوب ، من العادات والتقاليد الموروثة ، ولها " شيخ " يتولى شئونها وتنظيم علاقاتها بالحكومة ، فيما يختص بالضرائب وحفظ النظام داخل الطائفة ورعاية مصالحها ، فكانت هناك طائفة للجزارين ، وطائفة للطحانين ، وطائفة للخبازين ، وطائفة للعسكرية ، وطائفة للنحاسين ، وطائفة للعطارين ، إلى غير ذلك من الطوائف ، حتى إن التسول ( الشحاذة ) شكل أفراده طائفة خاصة بهم ، لها رئيس معترف به ، يمثل أتباعها لدى السلطات القائمة في مصر ، فلعل انقسام المجتمع المصري إلى طوائف متعددة - إلى جانب ما سبق ذكره - كان من العوامل التي جعلت علماء الأزهر - وهم أرقى طوائف المجتمع المصري - يشعرون بحاجتهم القصوى إلى كيان خاص بهم ، وإلى رئيس يتولى أمورهم ويرعى مصالحهم ويدافع عن قضاياهم ، الأمر الذي أدى إلى وجود منصب " شيخ الجامع الأزهر " في العصر العثماني ، ليكون بمثابة رئيس لهيئة العلماء ، والممثل الشرعي لهم لدى السلطات الحاكمة في مصر ......
**********
* نشر لأول مرة عام 1994 م
www.facebook.com
.....ثار جدل كبير حول تحديد تاريخ معين لظهور منصب " شيخ الجامع الأزهر" ، فتذهب إحدى الدراسات العلمية إلى أن هذا المنصب كان موجودا في العصر المملوكي ، وتولاه عدد من كبار العلماء ، من بينهم : الإمام البلفيني ، وابن حجر العسقلاني ، وزكريا الأنصاري ، وغيرهم ، واستند صاحب تلك الدراسة - في تأييد ما ذهب إليه - إلى أن هؤلاء العلماء لقبوا بألقاب تدل على توليهم مشيخة الأزهر ، كلقب " شيخ الاسلام "....
... والحقيقة التي تجدر الإشارة إليها ، أننا إذا رجعنا إلى المصادر التاريخية ، خاصة كتب التراجم التي عنيت بحياة العلماء في العصور الإسلامية المتعاقبة ، سنجد أن إلصاق عبارة " شيخ الإسلام " ، أو "شيخ الإسلام والمسلمين " ، لاتدل بحال من الأحوال على أنها مرادفة لمنصب شيخ الأزهر ، ولا تدل - أيضا - على مفهوم وظيفي ، وإنما هي صفة من الصفات العلمية أو التشريفية ، كانت تذكر بجانب اسم أحد الشوامخ من علماء المسلمين ، سواء كان هذا العالم من علماء الأزهر ، أو من العلماء الذين تخرجوا أو تصدروا للتدريس في الجوامع الاسلامية الشهيرة ، كالجامع الأموي في دمشق أو جامع القرويين في المغرب ....
... ومن جهة أخرى ، فان المصادر التاريخية التي أرخت لعصر سلاطين المماليك ، عنيت عناية بالغة بالعلماء ، وذكرت الوظائف التي شغلوها في النظام الإداري ، كوظائف القضاء والحسبة وغيرذلك ، لكنها لم تشر - من قريب أومن بعيد - إلى وجود وظيفة تسمى " شيخ الجامع الأزهر " ، ويبدو - من استقراء تلك المصادر - أن الجامع الأزهر - في عصر المماليك - لم يكن له شيخ يتولى رئاسته الدينية والعلمية ويدير شئونه الإدارية ، وإنما كان يتولاه الولاية العامة سلاطين مصر وأمراؤها ، كباقي المساجد الجامعة في الديار المصرية ، ويباشر شئونه الداخلية قضاة القضاة ، ومشايخ المذاهب الأربعة ، ومشايخ الأروقة ، يعاونهم خطيب الجامع ، هذا إلى جانب أن " ناظر الأزهر" - وهو عادة من أمراء المماليك - كان ينوب عن السلطان في الإشراف على شئون الأزهر ، والقيام على تنفيذ الأوامر والأحكام السلطانية ، والسهر على رعاية مصالح الجامع الأزهر ، ومصالح أهله من علماء وطلاب ...
.... وعلى ذلك ، يمكن أن نقرر أن منصب شيخ الجامع الأزهر من مستحدثات العصر العثماني ، وأن هذه المشيخة كانت - ولاتزال - من أعظم مناصب العلماء في مصر ، لأن صاحبها "يتصدر لخدمة العلماء والطلاب ، وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام " ، كما أنه الرئيس الأعلى لهيئة التدريس بالجامع الأزهر وغيره من المدارس أو الكليات التي كانت موجودة في مصر - إبان العصر العثماني - ...
... لكن السؤال الذي يفرض نفسه : ما الأسباب أو الدواعي التي أدت إلى وجود هذا المنصب في العصر العثماني ؟....
... يمكن القول : إن أوضاع مصر في العصر العثماني اختلفت عنها في العصر المملوكي ، لأن مصر في عصر المماليك كانت دولة مستقلة ، والقاهرة - مقر الجامع الأزهر - عاصمة هذه الدولة ، يقيم فيها سلاطين المماليك وكبار رجال الدولة من أمراء ووزراء ، إلى جانب أنها كانت عاصمة الخلافة في العالم الإسلامي ، لوجود الخليفة العباسي وإقامته بها إقامة دائمة ، وعلى الرغم من أن الخليفة " لم يكن له أمر ولانهي وحسبه أن يقال أمير المؤمنين " ، الا أن إقامته بالقاهرة أضفت عليها زعامة روحية للعالم الاسلامي ، كما أن كبار العلماء - في مصر - كانوا يشغلون الوظائف الدينية والإدارية الكبرى ، كالقضاء والحسبة والوزارة ، وعلى اتصال مباشر بكبار رجال السلطة ، فلم تكن هناك ضرورة تدعو إلى جعل الأزهر - بعلمائه وطلابه - هيئة أو طائفة مستقلة ، لمشاركة علمائه في إدارة دفة الحكم في مصر ....
... أما في العصر العثماني : فقد تبدل الوضع ، إذ فقدت مصر استقلالها ، وغدت مجرد ولاية تابعة للدولة العثمانية ، يحكمها وال يأتي من إستانبول ، وبعض هؤلاء الولاة كانوا يجهلون اللغة العربية ، إلى جانب قصر مدة حكمهم التي لم تزد عن سنة واحدة - في معظم الأحوال - ، فآثر بعضهم الإقامة في القلعة - مقر الحكم - ، ولم يكونوا على اتصال مباشر بطوائف الشعب المصري ، ومن بينهم علماء الأزهر ....
ومن ناحية أخرى : طبق العثمانيون نظمهم القضائية - تدريجيا - في مصر إثر استيلائهم عليها ، فبعد أن كان القضاء - إبان العصر المملوكي - يسير وفق المذاهب الفقهية الأربعة ، وكان لكل مذهب قضاته ، يرأسهم قاض يلقب بقاضي القضاة ، وكان هؤلاء القضاة - على اختلاف درجاتهم - من زمرة علماء الأزهر ، ومن المصريين أو المقيمين بها من العلماء الوافدين إليها - على أقل تقدير - ، غير العثمانيون هذا النظام ، وجعلوا رئاسة القضاء للمذهب الحنفي - مذهب الدولة العثمانية الرسمي - ، وغدا قاضي قضاة مصر ، أو " قاضي العسكر " ، عثمانيا يأتي من إستانبول مباشرة إلى مصر ، وحرصت الإدارة العثمانية على أن لا يستقر قاضي العسكر في منصبه طويلا ، فشعر علماء الأزهر أن قاضي العسكر - رغم كونه من زمرة العلماء - لايمثلهم بحال من الأحوال ، كما كان الوضع مع قضاة القضاة في العصر السابق على العصر العثماني ....
.... يضاف الى ما تقدم : أن طبيعة الحكم في مصر - في العصر العثماني - قسمت المجتمع المصري إلى طوائف ، وكانت الطائفة بمثابة منظمة اجتماعية واقتصادية لها دستورها غير المكتوب ، من العادات والتقاليد الموروثة ، ولها " شيخ " يتولى شئونها وتنظيم علاقاتها بالحكومة ، فيما يختص بالضرائب وحفظ النظام داخل الطائفة ورعاية مصالحها ، فكانت هناك طائفة للجزارين ، وطائفة للطحانين ، وطائفة للخبازين ، وطائفة للعسكرية ، وطائفة للنحاسين ، وطائفة للعطارين ، إلى غير ذلك من الطوائف ، حتى إن التسول ( الشحاذة ) شكل أفراده طائفة خاصة بهم ، لها رئيس معترف به ، يمثل أتباعها لدى السلطات القائمة في مصر ، فلعل انقسام المجتمع المصري إلى طوائف متعددة - إلى جانب ما سبق ذكره - كان من العوامل التي جعلت علماء الأزهر - وهم أرقى طوائف المجتمع المصري - يشعرون بحاجتهم القصوى إلى كيان خاص بهم ، وإلى رئيس يتولى أمورهم ويرعى مصالحهم ويدافع عن قضاياهم ، الأمر الذي أدى إلى وجود منصب " شيخ الجامع الأزهر " في العصر العثماني ، ليكون بمثابة رئيس لهيئة العلماء ، والممثل الشرعي لهم لدى السلطات الحاكمة في مصر ......
**********
* نشر لأول مرة عام 1994 م
أبووردة السعدني
أبووردة السعدني. 585 likes · 145 talking about this. Digital creator