عُرف الدكتور عبدالله الغذّامي بعمق استبصاره بالتحولات الثقافية، وكشفه عن الصراعات النسقية فيها… وبين أيدينا الآن كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي ، ذلك الكتاب الذي يحمل تأويلاً جديداً لحركة العالم، وملامح الفعل الثقافي وهي تتحرك في صدى الصورة، وإنتاجها، وتأويلها.
يطرح الغذّامي في الكتاب فكرة هيمنة الصورة، في ظل سيطرة الثقافة البصرية، لكنه يظل يحاور هذه الفكرة من خلال جدل يقيمه مع الواقع، واستحضار للأحداث، وقراءة للمواقف في ظل الإنتاج، والتحريك، والاستقبال للصورة. ويحمل الغذّامي رغبة دفينة، وعلنية في مواجهة التسلط، والهيمنة، ورفض الآخر. يتجلى ذلك في طروحاته المختلفة، ويتجلى عبر هذا الكتاب، حيث يعد الهيمنة المطلقة لثقافة كونية واحدة وهماً وأمراً غير صحيح. وأن هذا الخط الذي يسوَّق يحفز أنماطاً أخرى تخرج من المضمر الثقافي، تواجه، وتعاند، وتفرض نفسها عبر إنتاج صور مضادة، لكن السؤال الذي يتبادر هو: أنه ما دامت هذه الثقافة الكونية الراغبة في السيطرة، تملك تقنيات الصورة، والقدرة على تحريكها، والقدرة على الاستجابة السريعة لاتخاذ الموقف المناسب منها… ألا يكون هذا الأمر دالاً على أن هذا القطب بذلك يحمل آلية الهيمنة، وله الحظ الأوفر فيها؟
وتبعاً لذلك رأينا العديد من الصور المرعبة في حرب العراق، تنخر الإحساس الإنساني، وتمزِّق جسده.. فلم تُحدث تلك الصور إلا الحسرة والألم، والبكاء بالكلمات.. وذلك لأن الاستجابة الإيجابية مرهونة بالهيمنة والتسلط، وما ظهر غير ذلك من صور ذكرها الغذّامي فإما أنه خرج عن هذه السيطرة، وإما أن هذه الهيمنة أرادت أن تخرج هذه الصور مثل ماحدث في سجن أبو غريب ، وما حدث في الفلوجة.
بين تسويق الشكل والهوية
لذلك تكون الصورة بين تسويق الشكل والهوية وتأثيراتها قرينة الإرادة وسياسة القوة. ويكون ظهور المقاومة لجبروت صورة بصورة أخرى رهين القوة الكامنة خلفها.
ولذلك فإن المدى أمام ديمقراطية المهيمن طويل؛ لكي يستوعب التجربة، ويهضم حركة الأنساق الثقافية، ومنها ما يجري داخل أمريكا، حيث يذكر الغذّامي ما شهده العالم، من بروز للهوامش أمام دعاوى العولمة، حين ظهر الأفارقة بشكل قوي في كل صيغهم خاصة في اللباس، والديانات، واللغة، والموسيقى، ليؤكد على أن مزيداً من العولمة يدفع إلى مزيد من الخصوصيات، ويبرز الهوامش؛ ذلك لأن الصورة لا تسوِّق إلا الشكل، أما الهوية الجوهرية في الدين واللغة والعرق فهي تميل إلى مزيد من التحصن، وتظهر مقاومة شديدة، ورفضاً قوياً ضد الآخر المختلف.
وقد شُغل الغذّامي بمتابعة حركة القوانين الثقافية، وأعمل ذلك في متابعة حركة الصورة، وحركة استقبالها، مشيراً إلى الدلالات المزدوجة التي تؤسسها الصورة ثورية ثقافية، لينتهي إلى أن الصورة تحفز نقيضها بقدر ماتشيع، وبقدر ما تتقوى… ليبحث عن المآل الذي يؤول إليه استفزاز الهيمنة وتسلطها من خلال استثمار تقنية الصورة، وإنتاج الرعب، وتهويل الخوف، ليؤكد على أن الاستجابات الثقافية العالمية تكشف عن مقاومة إيجابية لعناصر الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية. لكن الغذّامي لا يستسلم لسريان هذا المفعول، إذ إن هذا لايعني بحال أن الأمور على مايرام بتسليم مطلق.. لينتهي إلى أن الثقافة التي تتمكن من إنتاج صور جديدة هي وحدها التي سيكون في مقدورها تحقيق موقع آمن لها… ، لكن كيف السبيل إلى إنتاج هذه الصور؟
لعل إجابة الغذّامي تكمن في الفقرة الأخيرة من الكتاب التي يقول فيها: .. والصورة ثقافة وفكر وإنتاج اقتصادي وتكنولوجي، وليست مجرد متعة أو محاكاة فنية، وهي لغة عصرية يشترط فيها تطابق القول مع الفعل وتمثل الحقيقة التكنولوجية بما أن الصورة علامة تكنولوجية ومؤشر إنتاجي، ومنطق مستقبلي.. .
الصورة نسق جوهري
من الممكن اعتبار الفصل الثامن من الكتاب المعنون بـ الصورة بوصفها نسقاً ثقافياً تلخيصاً جوهرياً مركزاً للكتاب، حمل مضامينه المعرفية، وتأويل مشاهداته، وسرد رواياته التي اعتمدها في عرض مادته. حيث طرح عبر مفهوم الجسم / الصورة حركة التحول إلى ثقافة الصورة. وأن الانتقال من ثقافة المجاز القديم في الشعر، وتصوير الجميلات، ولوعات الفراق قد آل إلى مجاز جديد، حيث صارت الصورة السينمائية والتلفزيونية والفوتوغرافية تقول ما كان يقوله النص الغزلي. (ص 195، 196) وأضحى الكتاب والغذّامي يعرضان التعامل مع الصورة على أنها نص ثقافي يحمل طاقة دلالية وقوية عبر نظام التورية الدلالي (ص 198).
ومن براعة الكتاب أنه استطاع أن يحمل لنا تفسيراً لمتناقضات العالم عبر هذه القوة الدلالية التي تحملها ثقافة الصورة، فأخذ يقدم لنا ذلك عبر المفارقات الآتية:
1 – التأنيث/ التفحيل
حيث يعرض تجاور صورالتأنيث من تأنيث العلامات الاجتماعية في اللباس واللغة والجسد، وظهور صورة التأنث لدى الذكور، في الإطلالة والتسريحة، وتصنيع الأغاني بأصوات مؤنثة مقابل إنتاج صورة أخرى ناقضة للتأنيث في اتجاه السلوك البشري نحو العنف، في المواقف الأسرية، أو الاجتماعية، أو الطائفية، أو الأمية. ولذلك يتجاور قصف بغداد مع أغنية راقصة، حيث يصبح الأمر كما يرى الغذّامي اشتراك في صيغة ثقافية واحدة من حيث الألوان والومضات والأصوات والسرعة الخاطفة وفي صيغ الإثارة والتحريك البدني والنفسي.. (ص 199).
2 – التعري / التحجب
ويركز الغذّامي في هذه المسألة على كون العري أصبح لغة ذات شحنة دلالية وتسويقية عالية جداً، وصار الجسد خاصة الجسد المؤنث يتعرى بمزيد من التعرية… (ص 201)، لكن هذه الصورة – كما يرى – تجاور نقيضها.
3 – الفتنة / العفة
ويركز هنا على المسار الذي يؤول إليه حامل النقيضين السابقين، فالعري يؤول إلى الفتنة، ونقيضه يؤول إلى العفة. ويذكر حوادث ومشاهدات تدل على ما لثقافة العري من سيطرة، حيث إن التصاميم تتجه نحو مزيد من التعري مع تقدم الأيام، وما كان عارياً في الماضي صار الآن شديد المحافظة مقارنة بما هي عليه ملابس اليوم (ص 204). ومع ذلك يذكر أن الحجاب يتكاثر، حتى أن إحصائية وردت من كندا عن ازدياد نسبة المحجبات.. ليذكر أن هذا مشهد حي يكشف عن حركة الثقافة حسب قانون التورية الثقافية، أي في تجاور معنيين يقتسمان المهمة ويدخلان في حوار عملي بين الأمر وناسخه (ص 204). ولعل نقيض الفتنة العري الكامن في العفة والحجاب، يأتي من الرغبة في التحصّن في الخصوصية، وعدم الانكشاف للعالم إلا وفق شروط الذات في ما يشاهد منها، وفي ما نرغب أن نشاهده، ويتفق هذا مع دلالة العنصر التالي من هذه الحوامل الجدلية، وهو:
4 – تعرف / تكره
يتحدث الغذّامي هنا عن مقولة إن الإنسان عدو ما يجهل، وكيف أن ثقافة الصورة استخدمت قانوناً جديداً هو قلب المعادلة، فصار المرء يكره ويخاف ما يعرف؛ وذلك لأن الغريب أصبح حاضراً وماثلاً بقيمه ومفاهيمه من دون خفاء أو مواربة. النقل هنا يتم في حالة انفصال، فهو ينقل الحركة والأفعال كما تحدث من ثقافة إلى ثقافة، وهذا يختلف عن الانتقال عن طريق المعاشرة والاحتكاك، حيث إنه في هذه الحال يحدث تعديل بسبب التكيّف، وبسبب الانكشاف أمام الآخر الحي في مشاهدته. ولعل هذا ما يجعل برامج مثل برنامج على الهوا سوا ينقل مشاهد، تتعدل أثناء المشاهدة الحية المباشرة كثيراً من حيث الانفعالات، والحركات، ولغة الخطاب. فمن يبكي وقد تأقلم مع الجو المحيط به، لن يبكي كذلك بمشاهدة هذا الجمع أو أنماط محددة منهم.
5 – النخبوي / الشعبي
وفي هذا الحامل الجدلي، الذي يعد مظهراً من مظاهر ثقافة الصورة، يؤكد الغذّامي أطروحته التي حملها السطر الثاني من عنوان الكتاب، وهو سقوط النخبة وبروز الشعبي ، ولكن بشكل أقل حدة من العنوان حين يقول إن كانت أطروحتنا في الكتاب تكشف عن تراجع النخبة، وبروز الشعبي.. (ص 207)، فهو هنا يُعدّل سقوط إلى تراجع ، بل يمضي في حديثه ليؤكد ازدياد قوة النخبة فيقول إلا أن هذا لا يعني بأي حال زوال النخبة واندثارها، بل إن النخبة ما زالت موجودة، وهي ليست موجودة فحسب وإنما نستطيع أن نقول إنها قد زادت نخبوية . وقد نشأ هذا من إشاعة الثقافة التلفزيونية وتمريرها عبر الصورة، والحركة السريعة، والمشاعة للجميع، فكسرت هيمنة المؤسسات البحثية والتعليمية، في الوقت الذي أدت فيه هذه الحركة إلى انتشار العلوم، وسوء تلقيها، بينما يتجه العلم الحديث – كما يرى الغذّامي – إلى مزيد من التخصص ومزيد من الدقة البحثية (ص 207)، وحين نعود إل داخل الكتاب نجد تسمية أخرى لهذه الثنائية، نجدها تحت: الثقافي والتفاهي ، وقد استثمرها الغذّامي ووظفها من قول ممدوح عدوان حين قال لقد غيّب صوت المثقف والثقافة الحقيقية، وكرّس صوت التفاهة، نحن نعيش حالة حصار التفاهة (ص 54).
6 – الغزو الفكري والغزو المضاد
وهنا يحدثنا الغذّامي عن فعل الصورة التلفزيونية في نقل الثقافة والثقافة المضادة، وهو يستثمر الاحتكاك بين الثقافات، لينظر إليه حين تتسارع به الصورة، وتدفع إلى الإنتاج والإنتاج المضاد، ويمضي في تحليله في هذه المسألة إلى أن يصل إلى القانون الدلالي حول مبدأ الشيء ونقيضه، وهو الأمر الذي سبقت إليه الإشارة.
د. عالي سرحان القرشي
يطرح الغذّامي في الكتاب فكرة هيمنة الصورة، في ظل سيطرة الثقافة البصرية، لكنه يظل يحاور هذه الفكرة من خلال جدل يقيمه مع الواقع، واستحضار للأحداث، وقراءة للمواقف في ظل الإنتاج، والتحريك، والاستقبال للصورة. ويحمل الغذّامي رغبة دفينة، وعلنية في مواجهة التسلط، والهيمنة، ورفض الآخر. يتجلى ذلك في طروحاته المختلفة، ويتجلى عبر هذا الكتاب، حيث يعد الهيمنة المطلقة لثقافة كونية واحدة وهماً وأمراً غير صحيح. وأن هذا الخط الذي يسوَّق يحفز أنماطاً أخرى تخرج من المضمر الثقافي، تواجه، وتعاند، وتفرض نفسها عبر إنتاج صور مضادة، لكن السؤال الذي يتبادر هو: أنه ما دامت هذه الثقافة الكونية الراغبة في السيطرة، تملك تقنيات الصورة، والقدرة على تحريكها، والقدرة على الاستجابة السريعة لاتخاذ الموقف المناسب منها… ألا يكون هذا الأمر دالاً على أن هذا القطب بذلك يحمل آلية الهيمنة، وله الحظ الأوفر فيها؟
وتبعاً لذلك رأينا العديد من الصور المرعبة في حرب العراق، تنخر الإحساس الإنساني، وتمزِّق جسده.. فلم تُحدث تلك الصور إلا الحسرة والألم، والبكاء بالكلمات.. وذلك لأن الاستجابة الإيجابية مرهونة بالهيمنة والتسلط، وما ظهر غير ذلك من صور ذكرها الغذّامي فإما أنه خرج عن هذه السيطرة، وإما أن هذه الهيمنة أرادت أن تخرج هذه الصور مثل ماحدث في سجن أبو غريب ، وما حدث في الفلوجة.
بين تسويق الشكل والهوية
لذلك تكون الصورة بين تسويق الشكل والهوية وتأثيراتها قرينة الإرادة وسياسة القوة. ويكون ظهور المقاومة لجبروت صورة بصورة أخرى رهين القوة الكامنة خلفها.
ولذلك فإن المدى أمام ديمقراطية المهيمن طويل؛ لكي يستوعب التجربة، ويهضم حركة الأنساق الثقافية، ومنها ما يجري داخل أمريكا، حيث يذكر الغذّامي ما شهده العالم، من بروز للهوامش أمام دعاوى العولمة، حين ظهر الأفارقة بشكل قوي في كل صيغهم خاصة في اللباس، والديانات، واللغة، والموسيقى، ليؤكد على أن مزيداً من العولمة يدفع إلى مزيد من الخصوصيات، ويبرز الهوامش؛ ذلك لأن الصورة لا تسوِّق إلا الشكل، أما الهوية الجوهرية في الدين واللغة والعرق فهي تميل إلى مزيد من التحصن، وتظهر مقاومة شديدة، ورفضاً قوياً ضد الآخر المختلف.
وقد شُغل الغذّامي بمتابعة حركة القوانين الثقافية، وأعمل ذلك في متابعة حركة الصورة، وحركة استقبالها، مشيراً إلى الدلالات المزدوجة التي تؤسسها الصورة ثورية ثقافية، لينتهي إلى أن الصورة تحفز نقيضها بقدر ماتشيع، وبقدر ما تتقوى… ليبحث عن المآل الذي يؤول إليه استفزاز الهيمنة وتسلطها من خلال استثمار تقنية الصورة، وإنتاج الرعب، وتهويل الخوف، ليؤكد على أن الاستجابات الثقافية العالمية تكشف عن مقاومة إيجابية لعناصر الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية. لكن الغذّامي لا يستسلم لسريان هذا المفعول، إذ إن هذا لايعني بحال أن الأمور على مايرام بتسليم مطلق.. لينتهي إلى أن الثقافة التي تتمكن من إنتاج صور جديدة هي وحدها التي سيكون في مقدورها تحقيق موقع آمن لها… ، لكن كيف السبيل إلى إنتاج هذه الصور؟
لعل إجابة الغذّامي تكمن في الفقرة الأخيرة من الكتاب التي يقول فيها: .. والصورة ثقافة وفكر وإنتاج اقتصادي وتكنولوجي، وليست مجرد متعة أو محاكاة فنية، وهي لغة عصرية يشترط فيها تطابق القول مع الفعل وتمثل الحقيقة التكنولوجية بما أن الصورة علامة تكنولوجية ومؤشر إنتاجي، ومنطق مستقبلي.. .
الصورة نسق جوهري
من الممكن اعتبار الفصل الثامن من الكتاب المعنون بـ الصورة بوصفها نسقاً ثقافياً تلخيصاً جوهرياً مركزاً للكتاب، حمل مضامينه المعرفية، وتأويل مشاهداته، وسرد رواياته التي اعتمدها في عرض مادته. حيث طرح عبر مفهوم الجسم / الصورة حركة التحول إلى ثقافة الصورة. وأن الانتقال من ثقافة المجاز القديم في الشعر، وتصوير الجميلات، ولوعات الفراق قد آل إلى مجاز جديد، حيث صارت الصورة السينمائية والتلفزيونية والفوتوغرافية تقول ما كان يقوله النص الغزلي. (ص 195، 196) وأضحى الكتاب والغذّامي يعرضان التعامل مع الصورة على أنها نص ثقافي يحمل طاقة دلالية وقوية عبر نظام التورية الدلالي (ص 198).
ومن براعة الكتاب أنه استطاع أن يحمل لنا تفسيراً لمتناقضات العالم عبر هذه القوة الدلالية التي تحملها ثقافة الصورة، فأخذ يقدم لنا ذلك عبر المفارقات الآتية:
1 – التأنيث/ التفحيل
حيث يعرض تجاور صورالتأنيث من تأنيث العلامات الاجتماعية في اللباس واللغة والجسد، وظهور صورة التأنث لدى الذكور، في الإطلالة والتسريحة، وتصنيع الأغاني بأصوات مؤنثة مقابل إنتاج صورة أخرى ناقضة للتأنيث في اتجاه السلوك البشري نحو العنف، في المواقف الأسرية، أو الاجتماعية، أو الطائفية، أو الأمية. ولذلك يتجاور قصف بغداد مع أغنية راقصة، حيث يصبح الأمر كما يرى الغذّامي اشتراك في صيغة ثقافية واحدة من حيث الألوان والومضات والأصوات والسرعة الخاطفة وفي صيغ الإثارة والتحريك البدني والنفسي.. (ص 199).
2 – التعري / التحجب
ويركز الغذّامي في هذه المسألة على كون العري أصبح لغة ذات شحنة دلالية وتسويقية عالية جداً، وصار الجسد خاصة الجسد المؤنث يتعرى بمزيد من التعرية… (ص 201)، لكن هذه الصورة – كما يرى – تجاور نقيضها.
3 – الفتنة / العفة
ويركز هنا على المسار الذي يؤول إليه حامل النقيضين السابقين، فالعري يؤول إلى الفتنة، ونقيضه يؤول إلى العفة. ويذكر حوادث ومشاهدات تدل على ما لثقافة العري من سيطرة، حيث إن التصاميم تتجه نحو مزيد من التعري مع تقدم الأيام، وما كان عارياً في الماضي صار الآن شديد المحافظة مقارنة بما هي عليه ملابس اليوم (ص 204). ومع ذلك يذكر أن الحجاب يتكاثر، حتى أن إحصائية وردت من كندا عن ازدياد نسبة المحجبات.. ليذكر أن هذا مشهد حي يكشف عن حركة الثقافة حسب قانون التورية الثقافية، أي في تجاور معنيين يقتسمان المهمة ويدخلان في حوار عملي بين الأمر وناسخه (ص 204). ولعل نقيض الفتنة العري الكامن في العفة والحجاب، يأتي من الرغبة في التحصّن في الخصوصية، وعدم الانكشاف للعالم إلا وفق شروط الذات في ما يشاهد منها، وفي ما نرغب أن نشاهده، ويتفق هذا مع دلالة العنصر التالي من هذه الحوامل الجدلية، وهو:
4 – تعرف / تكره
يتحدث الغذّامي هنا عن مقولة إن الإنسان عدو ما يجهل، وكيف أن ثقافة الصورة استخدمت قانوناً جديداً هو قلب المعادلة، فصار المرء يكره ويخاف ما يعرف؛ وذلك لأن الغريب أصبح حاضراً وماثلاً بقيمه ومفاهيمه من دون خفاء أو مواربة. النقل هنا يتم في حالة انفصال، فهو ينقل الحركة والأفعال كما تحدث من ثقافة إلى ثقافة، وهذا يختلف عن الانتقال عن طريق المعاشرة والاحتكاك، حيث إنه في هذه الحال يحدث تعديل بسبب التكيّف، وبسبب الانكشاف أمام الآخر الحي في مشاهدته. ولعل هذا ما يجعل برامج مثل برنامج على الهوا سوا ينقل مشاهد، تتعدل أثناء المشاهدة الحية المباشرة كثيراً من حيث الانفعالات، والحركات، ولغة الخطاب. فمن يبكي وقد تأقلم مع الجو المحيط به، لن يبكي كذلك بمشاهدة هذا الجمع أو أنماط محددة منهم.
5 – النخبوي / الشعبي
وفي هذا الحامل الجدلي، الذي يعد مظهراً من مظاهر ثقافة الصورة، يؤكد الغذّامي أطروحته التي حملها السطر الثاني من عنوان الكتاب، وهو سقوط النخبة وبروز الشعبي ، ولكن بشكل أقل حدة من العنوان حين يقول إن كانت أطروحتنا في الكتاب تكشف عن تراجع النخبة، وبروز الشعبي.. (ص 207)، فهو هنا يُعدّل سقوط إلى تراجع ، بل يمضي في حديثه ليؤكد ازدياد قوة النخبة فيقول إلا أن هذا لا يعني بأي حال زوال النخبة واندثارها، بل إن النخبة ما زالت موجودة، وهي ليست موجودة فحسب وإنما نستطيع أن نقول إنها قد زادت نخبوية . وقد نشأ هذا من إشاعة الثقافة التلفزيونية وتمريرها عبر الصورة، والحركة السريعة، والمشاعة للجميع، فكسرت هيمنة المؤسسات البحثية والتعليمية، في الوقت الذي أدت فيه هذه الحركة إلى انتشار العلوم، وسوء تلقيها، بينما يتجه العلم الحديث – كما يرى الغذّامي – إلى مزيد من التخصص ومزيد من الدقة البحثية (ص 207)، وحين نعود إل داخل الكتاب نجد تسمية أخرى لهذه الثنائية، نجدها تحت: الثقافي والتفاهي ، وقد استثمرها الغذّامي ووظفها من قول ممدوح عدوان حين قال لقد غيّب صوت المثقف والثقافة الحقيقية، وكرّس صوت التفاهة، نحن نعيش حالة حصار التفاهة (ص 54).
6 – الغزو الفكري والغزو المضاد
وهنا يحدثنا الغذّامي عن فعل الصورة التلفزيونية في نقل الثقافة والثقافة المضادة، وهو يستثمر الاحتكاك بين الثقافات، لينظر إليه حين تتسارع به الصورة، وتدفع إلى الإنتاج والإنتاج المضاد، ويمضي في تحليله في هذه المسألة إلى أن يصل إلى القانون الدلالي حول مبدأ الشيء ونقيضه، وهو الأمر الذي سبقت إليه الإشارة.
د. عالي سرحان القرشي