التراثُ بحرٌ يغرقُ فيه مَنْ لا يعرفُ السباحةَ أو يستسلمُ لكلِّ ما يطفو على سطحه. التراثُ متاهةٌ يتخبّط في كهوفها المتعرّجة أولئك الذين لم يتشبّعوا بمناخاته، ولم يتعرّفوا على أنظمة إنتاج المعنى فيه، ولم يقفوا على مدياته القصية، ومَنْ يفتقرون لعقلٍ نقدي ينجيهم من أن تغيّبهم أنفاقُه عن عصرهم.
الاستيعابُ النقدي للتراث ضرورةٌ لمنْ يتخصصُ في علوم الدين. هناك من يكتب في كلِّ علوم الدين، غير أنه يفتقر لتكوينٍ تراثي وخبرةٍ في دروبه المتشابكة، ولم يتكون أكاديميًا في أية جامعة رصينة، وغالبًا ما يكتب من دون أن يقرأ التراثَ قراءةً صبورة. مَنْ ينشدُ تجديدَ فهم الدين عليه أن يتسلح بتكوينٍ تراثي عميق، ووعي علمي في الإنسان والمجتمع، كي يستطيع أن يكتشف شيئًا من البنية اللاشعورية الغاطسة للفرد والمجتمع.كلُّ كتابة في تجديد فهم الدين لا تصدر عن تكوينٍ تراثي وخبرةٍ في العلوم الإنسانية تمكث على السطح، مهما كان ذكاءُ الكاتب ومهارتُه في الكتابة.
لا تراثَ خارجَ التاريخ. مَنْ لا يؤمن بتاريخية التراث يعجز عن الوعي بقدرة النصوص المقدّسة على استئناف وظيفتها في إنتاج معنىً ديني يواكب تحولاتِ الحياة وإيقاعَ التغيير المتعجّل. دراسةُ التراث ضرورةٌ تفرضها الكيفيةُ التي نريد أن نحرّر بها حياتَنا من وصايته وسطوته. يصير التراثُ بلا إعادةِ نظرٍ ونقدٍ علمي كمَنْ مات أبوه، وهو لا يعرف كيفيةَ تحنيطه أو دفنه، فيحمله كلَّ عمره على أكتافه، حتى يستنزف طاقاته وينهكه ويقعده عن بناءِ حاضره وإنجازِ أيّ شيءٍ لمستقبله.
التفسيرُ اللاتاريخي للتراث أحدُ الثغرات الأساسية في تعليمِ الدين ودراستِه. تاريخُ علوم الدين، وظروف نشأتها، والواقع الذي ولدت فيه، وكيفية تشكّلها، مكونٌ أساسي في إنتاج هويتها. تظل معرفتُها ناقصةً لو افتقر الدارسُ لاكتشاف كيفيةِ تشكّلها، وظروفِ نشأتها، ومراحلِ تطورها. تاريخُ علوم الدين ليس محايدًا، ففي نشأتها نعثرُ على العلل الخفية لولادتها، وينكشف الدورُ الأساسي للسلطة في تكوينها، وحرصُ مؤسسة الخلافة وتوجيهُها لصناعة كلِّ ما يمكن أن يخلع عليها مشروعيةً دينية، ويعزّز حضورَها واستمراريتَها. خضعت المعرفةُ الدينية في ولادتها لمتطلبات مؤسّسة الخلافة، وفرضت سلطةُ الخلفاء وصايةً مُعلَنة وخفية تحكّمت بولادة وصيرورة ومصائر المعرفة الدينية. مصالحُ الخليفة تتقدّم دائمًا على مصالح الأمة، وديمومةُ الخلافة هي المحور الذي ينبغي أن تحتشد من أجله كلُّ الجهود، بغضّ النظر عن مصالح الناس وحرياتهم وحقوقهم وحياتهم الخاصة.
كلُّ محاولة للاجتهاد والتفكير النقدي خارج إطار متطلبات الخلافة مصيرُها النفي والاجتثاث. كان ذلك مصيرَ غيلان الدمشقي، الذي قطّع يديه وأرجله وصلبه الخليفةُ الأموي هشام بن عبد الملك. وهكذا كان مصيرُ الجعد بن درهم الذي ذبحه يوم عيد الأضحى خالدُ بن عبد الله القسري والي هشام بن عبد الملك على الكوفة، وانتهى إلى ذلك المصير الجهمُ بن صفوان، الذي كان ضحيةَ قرار نصر بن سيار الكناني الوالي على خراسان سنة 128 هـ، الذي أمر عبد ربه بن سيسن فقتله. هؤلاء وغيرُهم كانوا ضحايا عقلِهم النقدي وتفكيرِهم الحرّ في محطات مريرة من التاريخ، ورفضِهم الانصياع لمعتقدات وآراء مَنْ كانوا موضعَ رعايةِ ودعم وتوجيه الخليفة من المحدّثين والفقهاء والمتكلمين. وقع المعتزلةُ ضحيةَ تفكيرهم العقلاني، عندما فكّروا خارجَ ما تسمح به المؤسسةُ المعرفية لمتكلمي وفقهاء مؤسّسة الخلافة. عقلُ المعتزلة ورّطهم في المحرّم التفكير فيه، ولم يشفع لهم كونُ عقلهم كان الأخصبَ والأعمقَ في علم الكلام وغيره.
الباحثُ الحاذق هو الذي يَعْلَمُ ويُعلِّمُ القراءَ بأن ما لم يكتبه المؤرخون لا يقلّ أهميةً عما كتبوه وربما أهمّ. كثيرٌ مما كتبه المؤرخون أفرزه متخيّلُ جماعات متصارِعة في معتقداتها ومتضادّة في مصالحها، ومتنازعة على مختلف أشكال السلطات السياسية والروحية. الصلة العضوية بين احتكار السلطة والتحكم بنشأة وصيرورة المعرفة الدينية هو ما ينبغي أن يعمل على اكتشافه الباحثُ في تاريخ علوم الدين. احتكارُ السلطة احتكارٌ للمعرفة الدينية، احتكارُ المعرفة الدينية احتكارٌ للسلطة، ذلك هو ما يختبئ وراء نشأة وتطور علوم الدين في تراثنا، وهو ما لم يعلنه المؤرخون.
يتحرّرُ الدكتورُ علي الديري من قراءة التراث بالتراث، لذلك جاءت محاولتُه في هذا الكتاب تجديديةً لا إحيائية أو إصلاحية، على وفق التمييز الذي تحدثتُ عنه في كتابي الذي صدر العام الماضي 2021 بعنوان: "مقدمة في علم الكلام الجديد". الإحياء يبدأ بالتراث وينتهي بالتراث، وهكذا معظمُ محاولات الإصلاح. أكثرُ كتابات الإحياء والإصلاح يتكدّس فيها لفظٌ على لفظ، ويتراكم فيها فائضُ القول، وكلماتٌ من دون مضمون أحيانًا، يشعر القارئ اليقظ بالضجر منها. تجديدُ فهم الدين يبدأ حيث ينتهي القولُ في الإحياء والإصلاح، ويكفّ دعاتُه من تكرار الكلام على الكلام. التجديدُ يبدأ بالنقدِ العميق للتراث، واكتشافِ بنيته التحتية المتينة، والتعرّفِ على أنظمة إنتاج المعنى الديني فيه. التجديدُ يبدأ باكتشاف نظرية المعرفة في الإسلام التي تشكّلت في ضوئها علومُ الدين. نظريةُ المعرفة ومناهجُ التفكير وأدواتُ النظر هي المكوِّنُ الأساسي لبنية التراث الراسخة، وهي ما يتحكّم بصناعة رؤية المسلم للعالَم. إعادةُ بناء علوم الدين لا بدّ أن تنطلق من الاستيعاب النقدي للتراث والعلوم والمعارف الحديثة. علمُ الكلام ومقولاتُه الاعتقادية يمثِّل في رأيي نظريةَ المعرفة المؤسِّسة لطريقة تفكير المسلم، والرافدَ الذي يغذّي البنى اللاشعورية المتجذّرة لديه. في ضوء علم الكلام القديم تشكّلت علومُ الدين، خلافًا لما ذهب إليه بعضُ المفكرين من القول: إن الفقه هو نظرية المعرفة[1].
تؤشر حفرياتُ علي الديري في كتابه هذا على لا جدوى كثيرٍ من محاولات الإصلاح في عاَلم الإسلام المتواصلة منذ قرنين، وسطحيةَ كلّ كتابة لا تغوص عميقًا في التراث، وتظل تعوم في الشاطئ متهيبةً الخوضَ في الأعماق. لم تُدرِك معظمُ جهود الإصلاح نسيجَ السلطة المعقّد الذي تشكّلت في فضائه العناصرُ التكوينية للتراث، وكيف لبث ذلك النسيجُ المتماسك يعيد إنتاجَ مكونات التراث ويغذّيها، إلى أن تصلّب وانغلق على نفسه، وارتقت بعضُ مكوناته، في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، إلى بداهات يقينية لا تحتاج برهانًا، ولم تعد حاجةٌ لدى منْ يراها بداهات لأن يستأنف النظرَ فيها ويُسائلها وينقدها. تحوّل التراثُ بالتدريج إلى سلطة تفرض على العقل التفكيرَ في إطارها ولا تسمح له بالخروج من محيطها. ولبثت الدراساتُ الأولية والعليا، في الأزهر والمدارس ومعاهد التعليم الديني التقليدية والحوزات، منذ نشأتها أسيرةَ قراءة التراث بأدواته، والتعامل معه بأدوات نظر ورؤية ومناهج تنتمي إليه، وإن تحدثت عن إصلاح فهو لا يغادر مداراتِ التراث ولا يتنفس إلا في فضائه، ولا يبحث له عن أفقٍ بديل خارج آفاقه. في كلِّ مرة لا تتخطّى تلك المحاولاتُ تيسيرَ التراث وتبسيطَ عباراته وشرحه وتلخيصه بلغةٍ تحاكي الإنشاءَ العربي الحديث، ولا تجرؤ على مسائلة مُسَلَّمَاتِه وقناعاتِه.
علي الديري باحث ذكي صبور، تكوّن أكاديميًا في جامعات رصينة، وتشبّع بمناخات التراث في مرحلةٍ مبكرة من حياته، وواصل قراءتَه المتأنية حتى تمرّس بالغوص في بحوره. يغوص الديري لا ليلتقط اللآلئَ والجواهرَ من أعماق التراث، بل ليكتشف شيئًا من أنفاقه المميتة، ويدلّنا على قوةِ التراث واستحكامِ قبضته وتغلغلِه ونفوذِه في حياتنا أمس واليوم، وربما غدًا، إن لم نستأنف الحفرَ في أعماقه وتحريرَ مستقبلنا من سطوته.
ينبّهنا الديري إلى البنية الراسخة المؤسّسة لعلوم الدين، وكيف تم تَشْيِيد أركانها الأساسية، وأُحكمت طريقةُ تَشْيِيدها بحذقِ ومهارةِ المؤسّسين لعلوم الحديث والتفسير وأصول الفقه والفقه وعلم الكلام، بنحوٍ صارت تلك العلومُ ثوابتَ أبدية، كأنها هي الدينُ والدينُ هي. لم تخضع ظروفُ تأسيسها وتشكّلها للنظر والنقاش، وصارت وظائفُ مدارس ومعاهد التعليم الديني: حفظَها، وشرحَها، وتكريسَ حضورها، وصيانتَها، وحمايتَها من التصدّع والانهيار. اكتسبت علومُ التراث بمرور الزمان، بوصفها نشأت في أحضان الدين، شيئًا من هالة المقدّس، وصار تصدّعُ أيّ علم منها كأنه تصدّعٌ للمقدّس. المقدّسُ يحمي نفسَه من تحرشات العقل وتشكيكاته، ويعاندُ أيَّ نقدٍ يقتربُ من حدوده. اصطفّ أكثرُ دارسي التراث يحرسون هذه العلوم، ويمنعون أيةَ محاولةٍ لاستئناف النظر والنقاش في تشكّلها وصيرورتها، وطالما استنجدوا بقدسيتها، وخلعوا غطاءَ المقّدس عليها، كي يمنعوا العقلَ من الاقتراب منها، ويخيفوا مَنْ يجرؤ على الحفر في أزمنتها والوصول إلى لحظة تدشين أُسسها.
"خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ"، حديثٌ مروي في صحيح البخاري وغيره، تعاملَ معه كثيرٌ من مُحدِّثي ومؤرخي أمس بوصفه حقيقةً لا تقبل الشك، لورودِه في مصنفات معتبرة، ولحضورِه اللافت في مدونات الحديث والأخبار والتاريخ، وتكرارِه المتواصل في دروس معاهد التعليم الديني، وخطب منابر الجمعة، وتلقينِه قرونًا طويلة. نادرًا ما نرى مَنْ يتساءل عن عدم التطابق بين وقائعِ ومواقف وسلوك الصحابة والتابعين، والواقعِ المرير الذي عاشوه وعبّرت عنه مواقفُهم ونزاعاتُهم، إذ قُتِل ثلاثةٌ من الخلفاء الراشدين، وخاض الصحابةُ سلسلةَ حروب شرسة فيما بينهم، قبل أن يتصرّم نصفُ قرن على وفاة النبي محمد "ص"، فكيف تُوصَف أزمنةٌ كهذه بـ "خير القرون"، وكلُّ مَنْ له درايةٌ بالتاريخ يعرف أنها قرونٌ تعمّدت بالدم منذ بدايتها.
لم ينشغل الديري بتفحّصِ طرقِ نقل الحديث والتوقف عند توثيق مَنْ يرويه، بل تجاوز ذلك، بحسّه التاريخي الذي فرض حضورَه في هذا الكتاب، وحاول أن يخترق ما تراكم من ضباب التاريخ عبر أربعة عشر قرنًا، وينظر إلى الواقع الذي عاشه إنسانُ عصر البعثة كما هو، قدْرَ إمكانه، لا كما صوّرته مخيلةُ الراوي والمؤرخ والأديب والحكواتي. يتحدث المؤلف بشجاعة عن التاريخ كما حاكته الوقائعُ والأحداث والمواقف والصراعات المفجعة آنذاك، لا كما نسجت له المخيّلةُ صورًا خلابة آسرة فيما بعد. ينقِّب الديري بروّية عن دور السلطة في تسخير مَنْ ينتج لها معرفةً دينية تمكّنها من التحكّم بمعاشِ العباد ومعادِهم، وكأنه آثاريٌّ ينقِّب في مغارة عميقة عن جذور حضارة بائدة.
علي الديري ينفردُ بطرح أسئلةٍ منسية نادرًا ما يطرحها غيرُه. لا يغادرُ الأسئلةَ المنسية، إلى درجة يُعلِن السؤالُ عن حضورِه على غلافِ كتابه. سؤالُه يُحرِج ذهنَه فيقحمه بالتفكير في ما هو خارجَ الفضاء المتعارف للتفكير.كتاب "خير القرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟"، ينطلق من سؤالٍ يسبقُ كلَّ الأسئلة، ويعيدُ النظرَ هذا السؤالُ في "الإسناد" الذي هو أحدُ المُسَلَّمَات المفروغِ من قبولها وتصديقها في التراث، والتعاملِ معها من دون أيّ تساؤل. يتقصّى المؤلفُ بواعثَ ظهور الإسناد وطرقَ استثماره وتوظيفه كأيديولوجيا للسلطة، وينبّه القارئَ إلى أنه يتحدّث: "عن الإسناد بما هو مؤسّسة، خطاب، دولة، خلافة، جماعة كبرى تتحكم، رؤية في التاريخ، صراع بين الجماعات المتحاربة، أي بما هو إرادة قوة، وإرادة حقيقة، وإرادة هيمنة"[2]. لا يتوقفُ في بحث الإسناد من حيث كونه أداةً لنقل الأحاديث، بل يخرج عن ذلك ليدرس: "كون الإسناد فكرة من التاريخ والسياسة والسلطة"[3].
ويسعى إلى أن يكتشفَ خلفياتِ نشأةِ الإسناد وحضورِه الواسع، وتحوّله إلى تقليدٍ راسخ عند تدوين الحديث والأخبار والآثار والتاريخ في القرون الثلاثة الأولى، وكيف استطاعت السلطةُ أن ترعى نشأتَه وتحتضنه وتستغلّه، وكيف اتخذ الإسنادُ هذه المكانةَ في التراث، بشكل صار معيارًا محوريًا في الاعتماد أو عدم الاعتماد على الخبر أو الرواية أو الأثر. اتسع نطاقُ الإسناد فخرج من كونه تقليدًا في التدوين إلى أداة سياسية، كما يشرح ذلك الديري بقوله: "إنه ليس علمًا خالصًا من السياسة، بل أنشأته السياسة والخلافات والصراعات، ونعرف أن السياسة حين تدخل في أي علم من العلوم تصبغهُ بالانحياز والتعصّب، وتدخل فيه تحكمات السلطة وإرادتها، فسيكون هذا العلم بيد من يملك القوة والسلطة، سلطة تقرير ما هو صحيح وما هو غير صحيح، ما هو من السنة وما هو من غير السنة، ما هو موثوق به وما هو ضعيف، وما يمثل نصاً دينياً معترفاً به أو خلافه"[4].
يكشف كتابُ الديري الصلةَ العضوية بين فكرة "خير القرون" و"الإسناد"، وكيف أنتج "الإسنادُ" فكرةَ "خير القرون"، وكيف "أغلقت مقولة خير القرون بواسطة الإسناد إمكانية قراءة هذا التاريخ في سياقه الحقيقي حيث الصراعات، لأنها حوّلت التاريخ إلى عقيدة مقدسة، لا يجوز لك أن ترى فيه إلا الخير .يكون التاريخ حيث الخير والشر في صراع دائم، فإسقاط الشر من حدث خير القرون يجعل منها قروناً مقدسة لا قروناً تاريخية". ويرى أن "خير القرون" و"الإسناد" كلاهما أيديولوجيا صُنعَت برعاية السلطة، وصارت مكوّنًا أساسيًا في بناءِ علوم الدين واستثمارِها في خلع المشروعية الدينية على الخلافة وحمايتها، ويكشف عن أن: "فكرة قرون الخير هي إحدى نتائج هذا الإسناد. وبواسطة هذا الإسناد تمّ تحويل فكرة خير القرون إلى عقيدة، يُحاكم إيمان الآخرين وفقها، ووفق رؤيتها للتاريخ وخلافات الفتنة"[5]. ويتساءل: "كيف أطمئن إلى إسناد تتحكم فيه انحيازات عرقية ومذهبية وأمصارية؟".
علي الديري ينطلقُ من سؤالين كبيرين لم يفكّر فيهما مَنْ كتبَ علومَ الحديث وصنّف مَجَامِيْعَ الحَدِيْث. السؤالُ الأول عن مقولة "خير القرون" الحديثية، والسؤالُ الثاني عن "الإسناد". لم يبحث التفاصيلَ والفرعياتِ والصغريات، بل ذهب للأسئلة الكبيرة، وبتعبير أهل المنطق الأرسطي ذهب مباشرةً للكبريات، فدرسَ "الإسنادَ، وخيرَ القرون" بوصفهما أيديولوجيا مؤسسة المعرفة الدينية المُرتهنَة لمؤسسة السلطة. لو كان الديري يقرأ التراثَ بعيون أهل التراث لن يحضرَ في ذهنه هذان السؤالان، ولن يصل إلى إجابة علمية عنهما. الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة لم نقرأها في التراث وعلوم الحديث، بل نقرأها في أعمال ميشيل فوكو، ومن قبله نيتشه. في حفرياته المعرفية استطاع فوكو أن يكتشف الصلة العضوية بين المعرفة والسلطة، وخلص إلى أن كلَّ سلطة تنتج معرفةً من جنسها وتحميها، وكلَّ معرفة تنتجُ سلطةً من جنسها وتحميها.
في كتاب "خَيرُ القُرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟" ناقش الدكتور علي الديري نشأةَ "الإسناد" وتطورَه، بما هو أحد الركائز المحورية في علوم الدين التراثية، ولم يدرس الدورَ التأسيسي للإمام الشافعي "150 – 204 هـ" ببناء هوية دينية لـ "الإسناد"، لأنه ما كان بالإمكان أن يحتلَ "الإسنادُ" هذه المكانة في التراث لولا ما قام به الشافعي من إضفاء المشروعية الدينية على "الإسناد" وتشييد أركان حجية "خبر الواحد"، واعتماده معيارًا أساسيًا في قبول الحديث، والاستناد إليه بشكل واسع في عمليات الاستنباط الفقهي.
منذ الشافعي كان ومازال أهم مبحث في أصول الفقه، يجري توظيفه بشكل واسع في الفقه هو "خبر الواحد"، بوصف هذا الخبر هو المنبع الأغزر لعملية الإستنباط الفقهي، والركيزة الأساسية لبناء ونمو وتطور المدونة الفقهية. لولا القول بحجية "خبر الواحد" وبناء علماء أصول الفقه عموديًا وأُفقيًا على ما أسسه الشافعي لما كان الفقه يتسع ويأخذ هذه المساحة المتضخمة، بالشكل الذي ضمر فيه وانحسر بالتدريج حضورُ الأبعاد الأخرى في الدين. لولا الاستعمال الواسع لخبر الواحد لما استُبعِدت مرجعية القرآن الكريم، وأُهمِلت دلالات أكثر آيات القرآن الميتافيزيقية والروحية والأخلاقية والتربوية.
رأي الشافعي كان أحد الآراء في خبر الواحد، غير ان رأيه فرض حضوره الحاسم، واستُبعِدت آراء أعلام تجاهلها الأصوليون عمدًا، حتى تم نسيانها وكأنها غير موجودة.كان النظّام وغيرُه لا يقبل خبر الواحد، كما أورد أبو الحسين البصري في المعتمد في أصول الفقه: "قال أكثر الناس إنه لا يقتضي العلم، وقال آخرون يقتضيه، واختلف هؤلاء فلم يشرط قوم من أهل الظاهر اقتران قرينة بالخبر، وشرط أبو إسحاق النظّام في اقتضاء الخبر العلم اقتران قرائن به، وقيل إنه شرط ذلك في التواتر أيضاً"[6]. و"روى الجاحظ في كتاب الأخبار أيضاً، عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام، أنه قال في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكيف يجيز السامع صدق المخبر، إذا كان لا يضطره خبره، ولم يكن معه علم يدل على صدق غيبه، ولا شاهد قياس يصدقه، وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة العلل التي يكذب الناس لها ودقة حيلهم فيها، ولو كان الصادق عند الله لا يكذب، والأمين لا يخون، والثقة لا ينسى، والوفي لا يغدر، لطابت المعيشة، ولسلموا من سوء العاقبة"[7]، وهكذا قال الماوردي: "الأصم وابن عُليَّة منعا من خبر الواحد"[8]، لكن عدمَ قبول النظّام والأصم وابن عُليَّة وغيرهم لخبر الواحد لم يؤثر على العمل به واعتماد حجّيته التي شيّدها الشافعي. موقف السلطة واحتضانها ودعمها لمتكلم أو أصولي أو فقيه أو مفسر أو مُحدِّث كان على الدوام هو الموقف الذي تتسيد فيه آراؤه، وتتحول إلى سلطة تمتلك المشروعية دينيًا وتنفيها عن غيرها، ويجري ترويج مؤلفاته وتبنيها في التعليم الديني، بغض النظر عن صواب تلك الآراء وعقلانيتها وتماسك براهينها.
كما لم يتسعَ كتابُ "خَيرُ القُرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟" لدراسة السلفية، بما هي حاله متفشية في كلِّ الأديان. ركزَّ المؤلفُ على السلفية المتلفّعة بجلباب ابن تيمية، وكان عليه أن يشير إلى أن ليس هناك فرقٌ نوعيٌّ بين الاتجاهات السلفية للأديان والفرَق والمذاهب، سواءٌ أكانت سماوية أو أرضية. تتنوّع الأقنعةُ السلفية وتتعدّد إلا أن المضمونَ المتشدّد واحدٌ أيًا كان دينُ السلفي ومعتقده. السلفية كالأصولية والتراثية، مهما تنوّعت التسميات، تعكس تصورًا لا زمانيًا للعلوم والمعارف والهوية، ورؤية خاصة للعالَم، وبنيةً فكرية وعاطفية وسيكولوجية، وقراءةً حرفية مغلقة للنصوص. أقصدُ بالسلفية طريقةَ تفكيرٍ ورؤيةً للعالَم لا تنتمي للواقع، لا أقصد دينًا معينًا أو مذهبًا خاصًا أو فرقةً بذاتها. السلفيةُ كأنها وعاءٌ يمكن أن تشغله أيةُ أيديولوجيا وعقيدة، سواء أكانت دينيةً أو ماركسية أو عرقية. المواقفُ متشابهة، كلُّ سلفي مغلَق، بغضّ النظر عن عقيدته والأيديولوجيا التي تحرّكه، كلٌّ منهم يشعر بالاصطفاء لمعتقده وتراثه وهويته وماضيه وجماعته.
لعل أدقَّ تصوير لرؤية السلفي للعالَم هو ما كتبه هربرت جورج ويلز في قصة "بلد العميان" الصادرة سنة 1904، التي شرح فيها مصيرَ جماعةٍ من البشر معزولين عن الناس، يعيشون في وادٍ تحتضنه جبالٌ منيعة، يتفشى بينهم مرضٌ يفتك بأبصارهم، يتوارثُ هذا المرضَ الأبناءُ من الآباء، ويحيل الكلَّ إلى عميان. بعدَ أن يختفي من حياتهم البصرُ نهائيًا يموتُ المعنى الذي يدلّ عليه البصرُ في أذهانهم. عندما يصيرُ العمى شاملًا يترسخُ حضورُه بما هو معنىً لا مقابلَ له ينفيه، فيشعرون جميعًا أن العمى هو الحالة الطبيعية، وأن واديهم هو العالَم الذي لا عالَم خارجه.
التربيةُ السلفية في الأديان تجعلُ الإنسانَ يُضحّي بالحاضر والمستقبل من أجل ماضٍ رومانسي متخيَّل لم يتحقّق أمس، ويعتقد بأن وظيفتَه استئنافُ الماضي كما رسمته المخيلة، ومناهضةُ كلّ شيءٍ لم يقع في الماضي لأنه ابتداعٌ. لا يحدثُ تطورٌ في حياة المجتمع من دون إبداع، فإذا كان كلُّ إبداع ابتداع كيف يتطورُ المجتمع. هذه التربيةُ تُشعِر مَنْ يتشبّع بها وينحبس في إطارها بأنه الوكيلُ الحصريّ للحضرة الربوبية، والسلطانُ المتوّج بعناية إلهية استثنائية، والحاكمُ المفوّض بتفتيش الضمير الديني للناس ومعتقداتهم. يورّطُ هذا الشعورُ السلفيَّ بإصدار حكمه على مَنْ يشاء، يُدخِل للدين مَنْ يشاء، ويُخرِج من الدين مَنْ يشاء. وأحيانًا يقوده هذا الشعورُ لاستخدام العنف مع مَنْ يشاء، سواء أكان عنفًا لفظيًا، أو رمزيًا، وربما جسديًا.
لا أريد أن أستبق القارئَ وأختطف منه بهجةَ الاكتشاف، لذلك لم أقدّم عرضًا وتلخيصًا لمحتويات الكتاب. أنا كقارئ أتلذّذ بكل ّكتابة ثمينة أتعلّم منها، أو تثير في ذهني أسئلةً جديدة، أو تدعوني لإعادة النظر بواحدةٍ من قناعاتي، وتقوّض شيئًا من وثوقياتي. يكتشف القارئُ الخبير بالتراث أن هذا الكتابَ ينقله إلى أُفقٍ بديل لم يألفه في كتابات مماثِلة طالعها من قبل، ويضعه في مواجهة أسئلة منسية، ورؤى مختلفة، تجعله يُسائل قناعاتِه حيالَ التراث ويعيد النظر بجزمياته، إن قرأ هذا الكتابَ على مَهَلٍ وبتأمل.
المقال تقديم لكتاب: "خير القرون:كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟"، تأليف: د.علي الديري، يصدر قريبًا في بيروت عن دار الانتشار العربي.
[1] الرفاعي، عبد الجبار، "مفهوم التجديد وأركانه"، مجلة أواصر، 8 ديسمبر 2021.
[2] الديري، علي، خير القرون، ص202، 2022، دار الانتشار العربي، بيروت.
[3] الديري، علي، خير القرون، ص202.
[4] الديري، علي، خير القرون، ص151.
[5] الديري، علي، خير القرون، ص202.
[6] أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، ج2: ص 92.
[7] الحميري، نشوان، الحور العين، تحقيق: كمال مصطفى، ص 284، 1948، مكتبة الخانجي، القاهرة.
[8] الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، ج7: ص227 ،1999، دار الكتب العلمية، بيروت.
الاستيعابُ النقدي للتراث ضرورةٌ لمنْ يتخصصُ في علوم الدين. هناك من يكتب في كلِّ علوم الدين، غير أنه يفتقر لتكوينٍ تراثي وخبرةٍ في دروبه المتشابكة، ولم يتكون أكاديميًا في أية جامعة رصينة، وغالبًا ما يكتب من دون أن يقرأ التراثَ قراءةً صبورة. مَنْ ينشدُ تجديدَ فهم الدين عليه أن يتسلح بتكوينٍ تراثي عميق، ووعي علمي في الإنسان والمجتمع، كي يستطيع أن يكتشف شيئًا من البنية اللاشعورية الغاطسة للفرد والمجتمع.كلُّ كتابة في تجديد فهم الدين لا تصدر عن تكوينٍ تراثي وخبرةٍ في العلوم الإنسانية تمكث على السطح، مهما كان ذكاءُ الكاتب ومهارتُه في الكتابة.
لا تراثَ خارجَ التاريخ. مَنْ لا يؤمن بتاريخية التراث يعجز عن الوعي بقدرة النصوص المقدّسة على استئناف وظيفتها في إنتاج معنىً ديني يواكب تحولاتِ الحياة وإيقاعَ التغيير المتعجّل. دراسةُ التراث ضرورةٌ تفرضها الكيفيةُ التي نريد أن نحرّر بها حياتَنا من وصايته وسطوته. يصير التراثُ بلا إعادةِ نظرٍ ونقدٍ علمي كمَنْ مات أبوه، وهو لا يعرف كيفيةَ تحنيطه أو دفنه، فيحمله كلَّ عمره على أكتافه، حتى يستنزف طاقاته وينهكه ويقعده عن بناءِ حاضره وإنجازِ أيّ شيءٍ لمستقبله.
التفسيرُ اللاتاريخي للتراث أحدُ الثغرات الأساسية في تعليمِ الدين ودراستِه. تاريخُ علوم الدين، وظروف نشأتها، والواقع الذي ولدت فيه، وكيفية تشكّلها، مكونٌ أساسي في إنتاج هويتها. تظل معرفتُها ناقصةً لو افتقر الدارسُ لاكتشاف كيفيةِ تشكّلها، وظروفِ نشأتها، ومراحلِ تطورها. تاريخُ علوم الدين ليس محايدًا، ففي نشأتها نعثرُ على العلل الخفية لولادتها، وينكشف الدورُ الأساسي للسلطة في تكوينها، وحرصُ مؤسسة الخلافة وتوجيهُها لصناعة كلِّ ما يمكن أن يخلع عليها مشروعيةً دينية، ويعزّز حضورَها واستمراريتَها. خضعت المعرفةُ الدينية في ولادتها لمتطلبات مؤسّسة الخلافة، وفرضت سلطةُ الخلفاء وصايةً مُعلَنة وخفية تحكّمت بولادة وصيرورة ومصائر المعرفة الدينية. مصالحُ الخليفة تتقدّم دائمًا على مصالح الأمة، وديمومةُ الخلافة هي المحور الذي ينبغي أن تحتشد من أجله كلُّ الجهود، بغضّ النظر عن مصالح الناس وحرياتهم وحقوقهم وحياتهم الخاصة.
كلُّ محاولة للاجتهاد والتفكير النقدي خارج إطار متطلبات الخلافة مصيرُها النفي والاجتثاث. كان ذلك مصيرَ غيلان الدمشقي، الذي قطّع يديه وأرجله وصلبه الخليفةُ الأموي هشام بن عبد الملك. وهكذا كان مصيرُ الجعد بن درهم الذي ذبحه يوم عيد الأضحى خالدُ بن عبد الله القسري والي هشام بن عبد الملك على الكوفة، وانتهى إلى ذلك المصير الجهمُ بن صفوان، الذي كان ضحيةَ قرار نصر بن سيار الكناني الوالي على خراسان سنة 128 هـ، الذي أمر عبد ربه بن سيسن فقتله. هؤلاء وغيرُهم كانوا ضحايا عقلِهم النقدي وتفكيرِهم الحرّ في محطات مريرة من التاريخ، ورفضِهم الانصياع لمعتقدات وآراء مَنْ كانوا موضعَ رعايةِ ودعم وتوجيه الخليفة من المحدّثين والفقهاء والمتكلمين. وقع المعتزلةُ ضحيةَ تفكيرهم العقلاني، عندما فكّروا خارجَ ما تسمح به المؤسسةُ المعرفية لمتكلمي وفقهاء مؤسّسة الخلافة. عقلُ المعتزلة ورّطهم في المحرّم التفكير فيه، ولم يشفع لهم كونُ عقلهم كان الأخصبَ والأعمقَ في علم الكلام وغيره.
الباحثُ الحاذق هو الذي يَعْلَمُ ويُعلِّمُ القراءَ بأن ما لم يكتبه المؤرخون لا يقلّ أهميةً عما كتبوه وربما أهمّ. كثيرٌ مما كتبه المؤرخون أفرزه متخيّلُ جماعات متصارِعة في معتقداتها ومتضادّة في مصالحها، ومتنازعة على مختلف أشكال السلطات السياسية والروحية. الصلة العضوية بين احتكار السلطة والتحكم بنشأة وصيرورة المعرفة الدينية هو ما ينبغي أن يعمل على اكتشافه الباحثُ في تاريخ علوم الدين. احتكارُ السلطة احتكارٌ للمعرفة الدينية، احتكارُ المعرفة الدينية احتكارٌ للسلطة، ذلك هو ما يختبئ وراء نشأة وتطور علوم الدين في تراثنا، وهو ما لم يعلنه المؤرخون.
يتحرّرُ الدكتورُ علي الديري من قراءة التراث بالتراث، لذلك جاءت محاولتُه في هذا الكتاب تجديديةً لا إحيائية أو إصلاحية، على وفق التمييز الذي تحدثتُ عنه في كتابي الذي صدر العام الماضي 2021 بعنوان: "مقدمة في علم الكلام الجديد". الإحياء يبدأ بالتراث وينتهي بالتراث، وهكذا معظمُ محاولات الإصلاح. أكثرُ كتابات الإحياء والإصلاح يتكدّس فيها لفظٌ على لفظ، ويتراكم فيها فائضُ القول، وكلماتٌ من دون مضمون أحيانًا، يشعر القارئ اليقظ بالضجر منها. تجديدُ فهم الدين يبدأ حيث ينتهي القولُ في الإحياء والإصلاح، ويكفّ دعاتُه من تكرار الكلام على الكلام. التجديدُ يبدأ بالنقدِ العميق للتراث، واكتشافِ بنيته التحتية المتينة، والتعرّفِ على أنظمة إنتاج المعنى الديني فيه. التجديدُ يبدأ باكتشاف نظرية المعرفة في الإسلام التي تشكّلت في ضوئها علومُ الدين. نظريةُ المعرفة ومناهجُ التفكير وأدواتُ النظر هي المكوِّنُ الأساسي لبنية التراث الراسخة، وهي ما يتحكّم بصناعة رؤية المسلم للعالَم. إعادةُ بناء علوم الدين لا بدّ أن تنطلق من الاستيعاب النقدي للتراث والعلوم والمعارف الحديثة. علمُ الكلام ومقولاتُه الاعتقادية يمثِّل في رأيي نظريةَ المعرفة المؤسِّسة لطريقة تفكير المسلم، والرافدَ الذي يغذّي البنى اللاشعورية المتجذّرة لديه. في ضوء علم الكلام القديم تشكّلت علومُ الدين، خلافًا لما ذهب إليه بعضُ المفكرين من القول: إن الفقه هو نظرية المعرفة[1].
تؤشر حفرياتُ علي الديري في كتابه هذا على لا جدوى كثيرٍ من محاولات الإصلاح في عاَلم الإسلام المتواصلة منذ قرنين، وسطحيةَ كلّ كتابة لا تغوص عميقًا في التراث، وتظل تعوم في الشاطئ متهيبةً الخوضَ في الأعماق. لم تُدرِك معظمُ جهود الإصلاح نسيجَ السلطة المعقّد الذي تشكّلت في فضائه العناصرُ التكوينية للتراث، وكيف لبث ذلك النسيجُ المتماسك يعيد إنتاجَ مكونات التراث ويغذّيها، إلى أن تصلّب وانغلق على نفسه، وارتقت بعضُ مكوناته، في الوعي واللاوعي الفردي والجمعي، إلى بداهات يقينية لا تحتاج برهانًا، ولم تعد حاجةٌ لدى منْ يراها بداهات لأن يستأنف النظرَ فيها ويُسائلها وينقدها. تحوّل التراثُ بالتدريج إلى سلطة تفرض على العقل التفكيرَ في إطارها ولا تسمح له بالخروج من محيطها. ولبثت الدراساتُ الأولية والعليا، في الأزهر والمدارس ومعاهد التعليم الديني التقليدية والحوزات، منذ نشأتها أسيرةَ قراءة التراث بأدواته، والتعامل معه بأدوات نظر ورؤية ومناهج تنتمي إليه، وإن تحدثت عن إصلاح فهو لا يغادر مداراتِ التراث ولا يتنفس إلا في فضائه، ولا يبحث له عن أفقٍ بديل خارج آفاقه. في كلِّ مرة لا تتخطّى تلك المحاولاتُ تيسيرَ التراث وتبسيطَ عباراته وشرحه وتلخيصه بلغةٍ تحاكي الإنشاءَ العربي الحديث، ولا تجرؤ على مسائلة مُسَلَّمَاتِه وقناعاتِه.
علي الديري باحث ذكي صبور، تكوّن أكاديميًا في جامعات رصينة، وتشبّع بمناخات التراث في مرحلةٍ مبكرة من حياته، وواصل قراءتَه المتأنية حتى تمرّس بالغوص في بحوره. يغوص الديري لا ليلتقط اللآلئَ والجواهرَ من أعماق التراث، بل ليكتشف شيئًا من أنفاقه المميتة، ويدلّنا على قوةِ التراث واستحكامِ قبضته وتغلغلِه ونفوذِه في حياتنا أمس واليوم، وربما غدًا، إن لم نستأنف الحفرَ في أعماقه وتحريرَ مستقبلنا من سطوته.
ينبّهنا الديري إلى البنية الراسخة المؤسّسة لعلوم الدين، وكيف تم تَشْيِيد أركانها الأساسية، وأُحكمت طريقةُ تَشْيِيدها بحذقِ ومهارةِ المؤسّسين لعلوم الحديث والتفسير وأصول الفقه والفقه وعلم الكلام، بنحوٍ صارت تلك العلومُ ثوابتَ أبدية، كأنها هي الدينُ والدينُ هي. لم تخضع ظروفُ تأسيسها وتشكّلها للنظر والنقاش، وصارت وظائفُ مدارس ومعاهد التعليم الديني: حفظَها، وشرحَها، وتكريسَ حضورها، وصيانتَها، وحمايتَها من التصدّع والانهيار. اكتسبت علومُ التراث بمرور الزمان، بوصفها نشأت في أحضان الدين، شيئًا من هالة المقدّس، وصار تصدّعُ أيّ علم منها كأنه تصدّعٌ للمقدّس. المقدّسُ يحمي نفسَه من تحرشات العقل وتشكيكاته، ويعاندُ أيَّ نقدٍ يقتربُ من حدوده. اصطفّ أكثرُ دارسي التراث يحرسون هذه العلوم، ويمنعون أيةَ محاولةٍ لاستئناف النظر والنقاش في تشكّلها وصيرورتها، وطالما استنجدوا بقدسيتها، وخلعوا غطاءَ المقّدس عليها، كي يمنعوا العقلَ من الاقتراب منها، ويخيفوا مَنْ يجرؤ على الحفر في أزمنتها والوصول إلى لحظة تدشين أُسسها.
"خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ"، حديثٌ مروي في صحيح البخاري وغيره، تعاملَ معه كثيرٌ من مُحدِّثي ومؤرخي أمس بوصفه حقيقةً لا تقبل الشك، لورودِه في مصنفات معتبرة، ولحضورِه اللافت في مدونات الحديث والأخبار والتاريخ، وتكرارِه المتواصل في دروس معاهد التعليم الديني، وخطب منابر الجمعة، وتلقينِه قرونًا طويلة. نادرًا ما نرى مَنْ يتساءل عن عدم التطابق بين وقائعِ ومواقف وسلوك الصحابة والتابعين، والواقعِ المرير الذي عاشوه وعبّرت عنه مواقفُهم ونزاعاتُهم، إذ قُتِل ثلاثةٌ من الخلفاء الراشدين، وخاض الصحابةُ سلسلةَ حروب شرسة فيما بينهم، قبل أن يتصرّم نصفُ قرن على وفاة النبي محمد "ص"، فكيف تُوصَف أزمنةٌ كهذه بـ "خير القرون"، وكلُّ مَنْ له درايةٌ بالتاريخ يعرف أنها قرونٌ تعمّدت بالدم منذ بدايتها.
لم ينشغل الديري بتفحّصِ طرقِ نقل الحديث والتوقف عند توثيق مَنْ يرويه، بل تجاوز ذلك، بحسّه التاريخي الذي فرض حضورَه في هذا الكتاب، وحاول أن يخترق ما تراكم من ضباب التاريخ عبر أربعة عشر قرنًا، وينظر إلى الواقع الذي عاشه إنسانُ عصر البعثة كما هو، قدْرَ إمكانه، لا كما صوّرته مخيلةُ الراوي والمؤرخ والأديب والحكواتي. يتحدث المؤلف بشجاعة عن التاريخ كما حاكته الوقائعُ والأحداث والمواقف والصراعات المفجعة آنذاك، لا كما نسجت له المخيّلةُ صورًا خلابة آسرة فيما بعد. ينقِّب الديري بروّية عن دور السلطة في تسخير مَنْ ينتج لها معرفةً دينية تمكّنها من التحكّم بمعاشِ العباد ومعادِهم، وكأنه آثاريٌّ ينقِّب في مغارة عميقة عن جذور حضارة بائدة.
علي الديري ينفردُ بطرح أسئلةٍ منسية نادرًا ما يطرحها غيرُه. لا يغادرُ الأسئلةَ المنسية، إلى درجة يُعلِن السؤالُ عن حضورِه على غلافِ كتابه. سؤالُه يُحرِج ذهنَه فيقحمه بالتفكير في ما هو خارجَ الفضاء المتعارف للتفكير.كتاب "خير القرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟"، ينطلق من سؤالٍ يسبقُ كلَّ الأسئلة، ويعيدُ النظرَ هذا السؤالُ في "الإسناد" الذي هو أحدُ المُسَلَّمَات المفروغِ من قبولها وتصديقها في التراث، والتعاملِ معها من دون أيّ تساؤل. يتقصّى المؤلفُ بواعثَ ظهور الإسناد وطرقَ استثماره وتوظيفه كأيديولوجيا للسلطة، وينبّه القارئَ إلى أنه يتحدّث: "عن الإسناد بما هو مؤسّسة، خطاب، دولة، خلافة، جماعة كبرى تتحكم، رؤية في التاريخ، صراع بين الجماعات المتحاربة، أي بما هو إرادة قوة، وإرادة حقيقة، وإرادة هيمنة"[2]. لا يتوقفُ في بحث الإسناد من حيث كونه أداةً لنقل الأحاديث، بل يخرج عن ذلك ليدرس: "كون الإسناد فكرة من التاريخ والسياسة والسلطة"[3].
ويسعى إلى أن يكتشفَ خلفياتِ نشأةِ الإسناد وحضورِه الواسع، وتحوّله إلى تقليدٍ راسخ عند تدوين الحديث والأخبار والآثار والتاريخ في القرون الثلاثة الأولى، وكيف استطاعت السلطةُ أن ترعى نشأتَه وتحتضنه وتستغلّه، وكيف اتخذ الإسنادُ هذه المكانةَ في التراث، بشكل صار معيارًا محوريًا في الاعتماد أو عدم الاعتماد على الخبر أو الرواية أو الأثر. اتسع نطاقُ الإسناد فخرج من كونه تقليدًا في التدوين إلى أداة سياسية، كما يشرح ذلك الديري بقوله: "إنه ليس علمًا خالصًا من السياسة، بل أنشأته السياسة والخلافات والصراعات، ونعرف أن السياسة حين تدخل في أي علم من العلوم تصبغهُ بالانحياز والتعصّب، وتدخل فيه تحكمات السلطة وإرادتها، فسيكون هذا العلم بيد من يملك القوة والسلطة، سلطة تقرير ما هو صحيح وما هو غير صحيح، ما هو من السنة وما هو من غير السنة، ما هو موثوق به وما هو ضعيف، وما يمثل نصاً دينياً معترفاً به أو خلافه"[4].
يكشف كتابُ الديري الصلةَ العضوية بين فكرة "خير القرون" و"الإسناد"، وكيف أنتج "الإسنادُ" فكرةَ "خير القرون"، وكيف "أغلقت مقولة خير القرون بواسطة الإسناد إمكانية قراءة هذا التاريخ في سياقه الحقيقي حيث الصراعات، لأنها حوّلت التاريخ إلى عقيدة مقدسة، لا يجوز لك أن ترى فيه إلا الخير .يكون التاريخ حيث الخير والشر في صراع دائم، فإسقاط الشر من حدث خير القرون يجعل منها قروناً مقدسة لا قروناً تاريخية". ويرى أن "خير القرون" و"الإسناد" كلاهما أيديولوجيا صُنعَت برعاية السلطة، وصارت مكوّنًا أساسيًا في بناءِ علوم الدين واستثمارِها في خلع المشروعية الدينية على الخلافة وحمايتها، ويكشف عن أن: "فكرة قرون الخير هي إحدى نتائج هذا الإسناد. وبواسطة هذا الإسناد تمّ تحويل فكرة خير القرون إلى عقيدة، يُحاكم إيمان الآخرين وفقها، ووفق رؤيتها للتاريخ وخلافات الفتنة"[5]. ويتساءل: "كيف أطمئن إلى إسناد تتحكم فيه انحيازات عرقية ومذهبية وأمصارية؟".
علي الديري ينطلقُ من سؤالين كبيرين لم يفكّر فيهما مَنْ كتبَ علومَ الحديث وصنّف مَجَامِيْعَ الحَدِيْث. السؤالُ الأول عن مقولة "خير القرون" الحديثية، والسؤالُ الثاني عن "الإسناد". لم يبحث التفاصيلَ والفرعياتِ والصغريات، بل ذهب للأسئلة الكبيرة، وبتعبير أهل المنطق الأرسطي ذهب مباشرةً للكبريات، فدرسَ "الإسنادَ، وخيرَ القرون" بوصفهما أيديولوجيا مؤسسة المعرفة الدينية المُرتهنَة لمؤسسة السلطة. لو كان الديري يقرأ التراثَ بعيون أهل التراث لن يحضرَ في ذهنه هذان السؤالان، ولن يصل إلى إجابة علمية عنهما. الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة لم نقرأها في التراث وعلوم الحديث، بل نقرأها في أعمال ميشيل فوكو، ومن قبله نيتشه. في حفرياته المعرفية استطاع فوكو أن يكتشف الصلة العضوية بين المعرفة والسلطة، وخلص إلى أن كلَّ سلطة تنتج معرفةً من جنسها وتحميها، وكلَّ معرفة تنتجُ سلطةً من جنسها وتحميها.
في كتاب "خَيرُ القُرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟" ناقش الدكتور علي الديري نشأةَ "الإسناد" وتطورَه، بما هو أحد الركائز المحورية في علوم الدين التراثية، ولم يدرس الدورَ التأسيسي للإمام الشافعي "150 – 204 هـ" ببناء هوية دينية لـ "الإسناد"، لأنه ما كان بالإمكان أن يحتلَ "الإسنادُ" هذه المكانة في التراث لولا ما قام به الشافعي من إضفاء المشروعية الدينية على "الإسناد" وتشييد أركان حجية "خبر الواحد"، واعتماده معيارًا أساسيًا في قبول الحديث، والاستناد إليه بشكل واسع في عمليات الاستنباط الفقهي.
منذ الشافعي كان ومازال أهم مبحث في أصول الفقه، يجري توظيفه بشكل واسع في الفقه هو "خبر الواحد"، بوصف هذا الخبر هو المنبع الأغزر لعملية الإستنباط الفقهي، والركيزة الأساسية لبناء ونمو وتطور المدونة الفقهية. لولا القول بحجية "خبر الواحد" وبناء علماء أصول الفقه عموديًا وأُفقيًا على ما أسسه الشافعي لما كان الفقه يتسع ويأخذ هذه المساحة المتضخمة، بالشكل الذي ضمر فيه وانحسر بالتدريج حضورُ الأبعاد الأخرى في الدين. لولا الاستعمال الواسع لخبر الواحد لما استُبعِدت مرجعية القرآن الكريم، وأُهمِلت دلالات أكثر آيات القرآن الميتافيزيقية والروحية والأخلاقية والتربوية.
رأي الشافعي كان أحد الآراء في خبر الواحد، غير ان رأيه فرض حضوره الحاسم، واستُبعِدت آراء أعلام تجاهلها الأصوليون عمدًا، حتى تم نسيانها وكأنها غير موجودة.كان النظّام وغيرُه لا يقبل خبر الواحد، كما أورد أبو الحسين البصري في المعتمد في أصول الفقه: "قال أكثر الناس إنه لا يقتضي العلم، وقال آخرون يقتضيه، واختلف هؤلاء فلم يشرط قوم من أهل الظاهر اقتران قرينة بالخبر، وشرط أبو إسحاق النظّام في اقتضاء الخبر العلم اقتران قرائن به، وقيل إنه شرط ذلك في التواتر أيضاً"[6]. و"روى الجاحظ في كتاب الأخبار أيضاً، عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام، أنه قال في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وكيف يجيز السامع صدق المخبر، إذا كان لا يضطره خبره، ولم يكن معه علم يدل على صدق غيبه، ولا شاهد قياس يصدقه، وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة العلل التي يكذب الناس لها ودقة حيلهم فيها، ولو كان الصادق عند الله لا يكذب، والأمين لا يخون، والثقة لا ينسى، والوفي لا يغدر، لطابت المعيشة، ولسلموا من سوء العاقبة"[7]، وهكذا قال الماوردي: "الأصم وابن عُليَّة منعا من خبر الواحد"[8]، لكن عدمَ قبول النظّام والأصم وابن عُليَّة وغيرهم لخبر الواحد لم يؤثر على العمل به واعتماد حجّيته التي شيّدها الشافعي. موقف السلطة واحتضانها ودعمها لمتكلم أو أصولي أو فقيه أو مفسر أو مُحدِّث كان على الدوام هو الموقف الذي تتسيد فيه آراؤه، وتتحول إلى سلطة تمتلك المشروعية دينيًا وتنفيها عن غيرها، ويجري ترويج مؤلفاته وتبنيها في التعليم الديني، بغض النظر عن صواب تلك الآراء وعقلانيتها وتماسك براهينها.
كما لم يتسعَ كتابُ "خَيرُ القُرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟" لدراسة السلفية، بما هي حاله متفشية في كلِّ الأديان. ركزَّ المؤلفُ على السلفية المتلفّعة بجلباب ابن تيمية، وكان عليه أن يشير إلى أن ليس هناك فرقٌ نوعيٌّ بين الاتجاهات السلفية للأديان والفرَق والمذاهب، سواءٌ أكانت سماوية أو أرضية. تتنوّع الأقنعةُ السلفية وتتعدّد إلا أن المضمونَ المتشدّد واحدٌ أيًا كان دينُ السلفي ومعتقده. السلفية كالأصولية والتراثية، مهما تنوّعت التسميات، تعكس تصورًا لا زمانيًا للعلوم والمعارف والهوية، ورؤية خاصة للعالَم، وبنيةً فكرية وعاطفية وسيكولوجية، وقراءةً حرفية مغلقة للنصوص. أقصدُ بالسلفية طريقةَ تفكيرٍ ورؤيةً للعالَم لا تنتمي للواقع، لا أقصد دينًا معينًا أو مذهبًا خاصًا أو فرقةً بذاتها. السلفيةُ كأنها وعاءٌ يمكن أن تشغله أيةُ أيديولوجيا وعقيدة، سواء أكانت دينيةً أو ماركسية أو عرقية. المواقفُ متشابهة، كلُّ سلفي مغلَق، بغضّ النظر عن عقيدته والأيديولوجيا التي تحرّكه، كلٌّ منهم يشعر بالاصطفاء لمعتقده وتراثه وهويته وماضيه وجماعته.
لعل أدقَّ تصوير لرؤية السلفي للعالَم هو ما كتبه هربرت جورج ويلز في قصة "بلد العميان" الصادرة سنة 1904، التي شرح فيها مصيرَ جماعةٍ من البشر معزولين عن الناس، يعيشون في وادٍ تحتضنه جبالٌ منيعة، يتفشى بينهم مرضٌ يفتك بأبصارهم، يتوارثُ هذا المرضَ الأبناءُ من الآباء، ويحيل الكلَّ إلى عميان. بعدَ أن يختفي من حياتهم البصرُ نهائيًا يموتُ المعنى الذي يدلّ عليه البصرُ في أذهانهم. عندما يصيرُ العمى شاملًا يترسخُ حضورُه بما هو معنىً لا مقابلَ له ينفيه، فيشعرون جميعًا أن العمى هو الحالة الطبيعية، وأن واديهم هو العالَم الذي لا عالَم خارجه.
التربيةُ السلفية في الأديان تجعلُ الإنسانَ يُضحّي بالحاضر والمستقبل من أجل ماضٍ رومانسي متخيَّل لم يتحقّق أمس، ويعتقد بأن وظيفتَه استئنافُ الماضي كما رسمته المخيلة، ومناهضةُ كلّ شيءٍ لم يقع في الماضي لأنه ابتداعٌ. لا يحدثُ تطورٌ في حياة المجتمع من دون إبداع، فإذا كان كلُّ إبداع ابتداع كيف يتطورُ المجتمع. هذه التربيةُ تُشعِر مَنْ يتشبّع بها وينحبس في إطارها بأنه الوكيلُ الحصريّ للحضرة الربوبية، والسلطانُ المتوّج بعناية إلهية استثنائية، والحاكمُ المفوّض بتفتيش الضمير الديني للناس ومعتقداتهم. يورّطُ هذا الشعورُ السلفيَّ بإصدار حكمه على مَنْ يشاء، يُدخِل للدين مَنْ يشاء، ويُخرِج من الدين مَنْ يشاء. وأحيانًا يقوده هذا الشعورُ لاستخدام العنف مع مَنْ يشاء، سواء أكان عنفًا لفظيًا، أو رمزيًا، وربما جسديًا.
لا أريد أن أستبق القارئَ وأختطف منه بهجةَ الاكتشاف، لذلك لم أقدّم عرضًا وتلخيصًا لمحتويات الكتاب. أنا كقارئ أتلذّذ بكل ّكتابة ثمينة أتعلّم منها، أو تثير في ذهني أسئلةً جديدة، أو تدعوني لإعادة النظر بواحدةٍ من قناعاتي، وتقوّض شيئًا من وثوقياتي. يكتشف القارئُ الخبير بالتراث أن هذا الكتابَ ينقله إلى أُفقٍ بديل لم يألفه في كتابات مماثِلة طالعها من قبل، ويضعه في مواجهة أسئلة منسية، ورؤى مختلفة، تجعله يُسائل قناعاتِه حيالَ التراث ويعيد النظر بجزمياته، إن قرأ هذا الكتابَ على مَهَلٍ وبتأمل.
المقال تقديم لكتاب: "خير القرون:كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟"، تأليف: د.علي الديري، يصدر قريبًا في بيروت عن دار الانتشار العربي.
[1] الرفاعي، عبد الجبار، "مفهوم التجديد وأركانه"، مجلة أواصر، 8 ديسمبر 2021.
[2] الديري، علي، خير القرون، ص202، 2022، دار الانتشار العربي، بيروت.
[3] الديري، علي، خير القرون، ص202.
[4] الديري، علي، خير القرون، ص151.
[5] الديري، علي، خير القرون، ص202.
[6] أبو الحسين البصري، المعتمد في أصول الفقه، ج2: ص 92.
[7] الحميري، نشوان، الحور العين، تحقيق: كمال مصطفى، ص 284، 1948، مكتبة الخانجي، القاهرة.
[8] الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، ج7: ص227 ،1999، دار الكتب العلمية، بيروت.