في أواخر مساءٍ باردٍ، قادني تصفّحُ الفيسبوك إلى فيديو مركّب من سجال بَدَا انفعاليا في أغلبه بينها وبينه بلغة قدحية ووعيد متهوّر. بيد أنه يجسّد عيّنةً قائمةً بذاتها ممّا وصل إليه تردي الخطاب السياسي في المغرب. ويدور هذا السجال كمعركة جانبية حول متاهة رئيس الحكومة عزيز أخنوش، وكيف ضاعت البوصلة لدى فريقه إزاء حدة المضاعفات الاقتصادية لفترات الحجر الصحي، وموسم الجفاف واحتمال خسارة محاصيل زراعية ضخمة الصيف المقبل، وارتفاع الأسعار، وتعثرات أخرى تفنّد تدريجيا ما أدلى به زعيم التجمع الوطني للأحرار من وعود انتخابية قبل خمسة شهور.
لم تكن مناظرةً بالمفهوم المتداول في نقاشات المجال العام في بلد تراجع الخطابُ السياسيُ إلى شعبويةٍ هزيلةٍ وشخصنةٍ مقيتةٍ، بقدر ما تباينت وجهاتُ نظر المتبارييْن أو بالأحرى المتباغضين (من فيض البُغض، والأصحّ أنهما مُباغضان لبعضهما بعضا) حول المغزى من الدعوة لتغيير أخنوش. فنادى الشيخ بإجراء انتخابات جديدة تعيد تفريق أوراق اللعب والبدء من المربع الأول، فيما وضعت العنقاء (أو العنقاء المُغْرِب كما هي التسمية في كتب التراث) كل حماستها خلف تأييد التغيير بصاحب ثروة آخر، وكأنّها تفاضل بين بذلة وأخرى تحت الأضواء البراقة في عرض الأزياء الفخمة.
غابت الدلالاتُ والحصيلة المرتقبةُ من الخطاب السياسي، وتعطلت لغة البلاغة في الدارجة المعتمدة، ناهيك عن تواري اللغة الفصحى إلى ذكريات الأيام الخوالي. فحلّتْ محلها لغةُ الشخصنة والتهجم والتشنج، والوعيدُ بالنسف والانتقام والإيماءات والإيحاءات الشعبوية. وتلاطمت تهمُ "النفاق" مع تهم "الكذب"، فيما تم تفريخ ثنائيات تضادّ جديدة مثل "ليبزار والتحميرة"، و"fantasames والشيبة"، والتفاخر بتربية "العسكر" وقصص "المُخبر"، ونذير "العود اللي تحگرو يعميك"، وتهمة "الشاب المنحرف"، و"ساليتي"،،، والخيط على الجرّار. فما أروع ما نضيف كمساهمة مغربية إلى قاموس علم السياسة في القرن الجديد!
للأسف، قصة الشيخ والعنقاء تختزل حقبة التردّي والوهن في الخطاب العام، وهو انفعالي وليس عقلانيا ولا مستندا إلى منطلقات ومعطيات واقعية، بين السياسة ووسائط الاتصال الجماهيري في المغرب. فتتوارى المناظرات الفكرية الجادة وفنون الرماية السياسية وقرع الحجة بالحجة وما يرفع مستوى النقاش العام، لتحل محلها المشاكسات العبثية، وجولات الشتائم، وعبارات الاستخفاف والإثارة بين الطرفين، بما يقترب من جولات الملاكمة الحرة وعدّ اللكمات فوق وتحت الحزام وسط جذبة الجمهور اللاهث خلف لحظات الحماس والنشوة والمتعة.
لا تقتصر المسؤولية على من يستهتر بمقوّمات الخطاب العام بين شيوخ السياسة وعنقاءات الإعلام الجديد فحسب، بل وتشمل فئات واسعة من المشاهدين الذين يميلون إلى الفرجة والتسلية، وإضافة أعداد جديدة إلى حجم المتابعين. فيتخيل البعض أن خلفه جحافل من الأنصار والمؤيدين، وأنه قوة يعتد بها في كل الحالات، فيغلبُ الذاتي على الواقعي، ويفيض المتخيل على الحقيقي، وتنسحب الشعرة الفاصلة بين الثقة بالنفس والغرور.
ختاما، أتخيل الشيخ من فرط امتعاضه من صداقة أظهر باطنُها عكسَ ظاهرِها وهو يقول بلسان الشاعر صفي الدين الحلي:
لمّا رأيتُ بني الزمانِ وما بهم
خِلٌّ وفيٌّ للشدائد أصطَفي
أَيْقَنْتُ أن المستحيلَ ثلاثةٌ
الغولُ والعنقاءُ والخِلُّ الوفيُّ!
لم تكن مناظرةً بالمفهوم المتداول في نقاشات المجال العام في بلد تراجع الخطابُ السياسيُ إلى شعبويةٍ هزيلةٍ وشخصنةٍ مقيتةٍ، بقدر ما تباينت وجهاتُ نظر المتبارييْن أو بالأحرى المتباغضين (من فيض البُغض، والأصحّ أنهما مُباغضان لبعضهما بعضا) حول المغزى من الدعوة لتغيير أخنوش. فنادى الشيخ بإجراء انتخابات جديدة تعيد تفريق أوراق اللعب والبدء من المربع الأول، فيما وضعت العنقاء (أو العنقاء المُغْرِب كما هي التسمية في كتب التراث) كل حماستها خلف تأييد التغيير بصاحب ثروة آخر، وكأنّها تفاضل بين بذلة وأخرى تحت الأضواء البراقة في عرض الأزياء الفخمة.
غابت الدلالاتُ والحصيلة المرتقبةُ من الخطاب السياسي، وتعطلت لغة البلاغة في الدارجة المعتمدة، ناهيك عن تواري اللغة الفصحى إلى ذكريات الأيام الخوالي. فحلّتْ محلها لغةُ الشخصنة والتهجم والتشنج، والوعيدُ بالنسف والانتقام والإيماءات والإيحاءات الشعبوية. وتلاطمت تهمُ "النفاق" مع تهم "الكذب"، فيما تم تفريخ ثنائيات تضادّ جديدة مثل "ليبزار والتحميرة"، و"fantasames والشيبة"، والتفاخر بتربية "العسكر" وقصص "المُخبر"، ونذير "العود اللي تحگرو يعميك"، وتهمة "الشاب المنحرف"، و"ساليتي"،،، والخيط على الجرّار. فما أروع ما نضيف كمساهمة مغربية إلى قاموس علم السياسة في القرن الجديد!
للأسف، قصة الشيخ والعنقاء تختزل حقبة التردّي والوهن في الخطاب العام، وهو انفعالي وليس عقلانيا ولا مستندا إلى منطلقات ومعطيات واقعية، بين السياسة ووسائط الاتصال الجماهيري في المغرب. فتتوارى المناظرات الفكرية الجادة وفنون الرماية السياسية وقرع الحجة بالحجة وما يرفع مستوى النقاش العام، لتحل محلها المشاكسات العبثية، وجولات الشتائم، وعبارات الاستخفاف والإثارة بين الطرفين، بما يقترب من جولات الملاكمة الحرة وعدّ اللكمات فوق وتحت الحزام وسط جذبة الجمهور اللاهث خلف لحظات الحماس والنشوة والمتعة.
لا تقتصر المسؤولية على من يستهتر بمقوّمات الخطاب العام بين شيوخ السياسة وعنقاءات الإعلام الجديد فحسب، بل وتشمل فئات واسعة من المشاهدين الذين يميلون إلى الفرجة والتسلية، وإضافة أعداد جديدة إلى حجم المتابعين. فيتخيل البعض أن خلفه جحافل من الأنصار والمؤيدين، وأنه قوة يعتد بها في كل الحالات، فيغلبُ الذاتي على الواقعي، ويفيض المتخيل على الحقيقي، وتنسحب الشعرة الفاصلة بين الثقة بالنفس والغرور.
ختاما، أتخيل الشيخ من فرط امتعاضه من صداقة أظهر باطنُها عكسَ ظاهرِها وهو يقول بلسان الشاعر صفي الدين الحلي:
لمّا رأيتُ بني الزمانِ وما بهم
خِلٌّ وفيٌّ للشدائد أصطَفي
أَيْقَنْتُ أن المستحيلَ ثلاثةٌ
الغولُ والعنقاءُ والخِلُّ الوفيُّ!