"مـحـاولـة لـفـهـم الـتـاريـخ"
عبد الغني سلامة
2022-02-21
«محاولة لفهم التاريخ»، هو جديد الكاتب والمفكر الفلسطيني د. علي الجرباوي (376 صفحة، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021).
الكتاب من وجهة نظري من أهم وأغنى الكتب التي صدرت مؤخراً، وضع فيه الجرباوي خلاصة فكره وتجربته الأكاديمية والبحثية، ومع أنه يتحدث عن التاريخ، إلا أنه لم يتناول تاريخاً بعينه، بمعنى أنه ليس سرداً تاريخياً لقوم أو لحضارة أو لمرحلة، بل هو دليل ومرشد لكيفية قراءة التاريخ وفهمه وتحليله، باتباع منهج علمي سوسيولوجي تحليلي صارم ودقيق، وبالتالي فإن الكتاب يعد بديلاً علمياً عن القراءات الأيديولوجية والسياسية والرغائبية التي تناولت التاريخ بطرق انتقائية، وأحياناً بناء على نظرية المؤامرة.
ونظراً لتعدد المواضيع التي تطرق إليها الكتاب، سيكون متعذراً الإحاطة بها كلها، أو حتى عرض ملخصها في هذا المقال، وهي كلها مهمة، وتكمل بعضها بعضاً، بدأها بمقدمة تناولت رحلة البقاء الإنساني، ونظريات نهاية التاريخ وصدام الحضارات، ثم انتقل إلى علاقة الإنسان بالبيئة وبأخيه الإنسان، وصياغة أول عقد اجتماعي، وما قاله دارون وماركس وغيرهما في هذا السياق، ثم يأتي إلى فصول الحضارة وتوالي الحضارات، خاتماً بنظرة مستقبلية.. وقد اخترت فصل الحضارة لتركيز الضوء عليه.. وهذا لا يُغني عن قراءة الكتاب، ولا يفيه حقه بالعرض والتلخيص.
في مستهل الفصل وقبل تعريفه لمفهوم «الحضارة»، يعالج الجرباوي مفهوم الثقافة، مبيناً الفرق بينهما، فالثقافة بتعريفها المبسط «تعبير عن نمط الحياة، والنظر لمغزاها ومعناها لمجموعة من الناس ارتبطت ببعضها إرثياً، ثم توسعت المجموعة ليصبح تشكيلها قائماً على أساس العيش المشترك في بقعة جغرافية محددة».
ويستعرض الجرباوي عدداً آخر من التعريفات، منها تعريف إدوارد تايلور: «الثقافة تلك الوحدة الكلية المعقدة التي تشمل المعرفة، والإيمان، والفن، والأخلاق، والقانون، والأعراف والقدرات والعادات التي يكتسبها الفرد بوصفه عضواً في المجتمع».
ويخلص الجرباوي إلى أن تعريف الثقافة يأتي منسجماً وأحياناً متطابقاً مع مفهوم الحضارة، والتي هي «حالة مركبة ومتحولة من التطور الإنساني، تعبّر عن رؤية محددة للوجود، مرتبطة مع نسق حياة، ومجموعة معتقدات، وطريقة تفكير، وأسلوب تعامل، وذاكرة تاريخية، تعكس نفسها مجتمعة، وتتعزز بمنظومة قيمية، وتتفاعل ضمن بنى قانونية وسياسية واجتماعية، لتنتج فنوناً وآداباً وعلوماً..».
ويضيف الجرباوي إن محاولات التفريق بين المفهومين أخذت اتجاهين مختلفين: اعتبر الأول أنّ «الحضارة تعبير عن حالة تقدم مرتبطة بالانتقال من حالة عيش الإنسان في تجمعات بشرية تقليدية بثقافة بدائية همجية إلى حالة أكثر رقياً، اكتسب فيها الإنسان السلوك اللائق. أما الاتجاه الثاني فيربط عملية تحول الثقافة إلى حضارة بنشوء المدن، وانتقال حياة الإنسان من طور البداوة والحياة الريفية إلى الحياة المدنية. والمدنية المقصودة هنا التجمع السكاني الذي صار مدينة بعد أن تحرر معظم السكان من عبء الانهماك المباشر في إنتاج الغذاء».
يقر الجرباوي بالعلاقة الوثيقة والمتداخلة بين الثقافة والحضارة، لكنه يؤكد على أن الحضارة لا بد أن تنطلق أساساً من ثقافة معينة، مع الانتباه إلى أنه ليس بإمكان كل ثقافة أن تتطور إلى حضارة، فلكي تتمكن من ذلك لا بد أن تكتسب طاقة محفزة تدفعها للانطلاق خارج حدودها وتوسيع نطاق انتشارها لتشمل ثقافات أخرى متنوعة وصهرها ومزج مكوناتها خلال فترة زمنية مديدة (يمكن أن تدعى عصراً).
وفقاً لذلك، الثقافة أمر خاص محلي مغلق ومحصور، بينما الحضارة شأن عام أوسع وأشمل ومنفتح.. وما حدث أن مصطلح الحضارة دخل حيز الاستخدام حديثاً، فتم إسقاطه بأثر رجعي على تجارب الشعوب السابقة، وتم إطلاق وصف «حضارة» على جميع تلك التجارب، رغم أن معظمها كانت تجارب ثقافية منغلقة ومحلية، ولم تتسع لتشمل وتضم ثقافات متنوعة، وهذا يشمل حضارات ما بين النهرين ومصر القديمة والصين والهند وأميركا اللاتينية، فهي (حسب الجرباوي) ثقافات أكثر منها حضارات.. وحتى لا يقلل من شأنها سمّاها حضارات متموضعة، وذلك لتمييزها عن الحضارات الأخرى التي اتسمت بالشمولية والعالمية، وهي الحضارات اليونانية، والرومانية، والإسلامية، والغربية الحالية.
تلك الحضارات امتدت على رقعة جغرافية شاسعة جداً، وضمت خليطاً من ثقافات متنوعة، وتركت آثاراً معمارية ومعنوية: أدباً، فلسفة، علوماً، أينما وصلت وحكمت، خلافاً للحضارات المتموضعة التي رغم اتساع حدودها إلا أنها ظلت محلية الطابع.
بعد أن اعتبر تلك الحضارات الأربع هي فقط من تنطبق عليها سمات التعددية والشمولية والانفتاح والعالمية، يأتي الجرباوي على ذكر خصائص وسمات الحضارة، وفقاً لأهم أربع مدارس تناولت الموضوع (ابن خلدون، شبلنجر، توينبي، كوينجلي).
ونظراً لضيق المساحة سأوجز أهم ما خلص إليه الجرباوي:
ليس هناك حضارة خالدة، فمهما عظمت قوة الحضارة لا بد أن تمر بمراحلها الخمس (التي تحدث عنها ابن خلدون وغيره) والتي تفضي إلى أفولها.
قد تتعايش قوتان عظميان في مرحلة زمنية واحدة، لكن الحضارات الكبرى تأتي واحدة بعد الأخرى، واليوم لم يعد ممكناً تعاصرُ حضارتين في وقت واحد، لأن العالم أصبح أصغر. كما أنه لا يمكن تعاقب حضارتين رائدتين في الموقع ذاته، فالحضارة التالية لا بد أن تنبثق من مكان آخر.
كل حضارة رائدة تتفوق على سابقتها في مراكمة المعارف المادية، فهي تستفيد منها، وتراكم على تجربتها، وعادة يكون السباق بين الحضارة الرائدة وسابقتها المباشرة، وليس الحضارة الأسبق.
وبهذا المعنى فإن مصطلح الحداثة يصبح نسبياً، فكل حضارة قديمة كانت في وقتها تمثل قمة الحداثة.
وأيضاً كل حضارة رائدة كانت قد عولمت العالم في عصرها، فالعولمة ليست جديدة، وإن كانت اليوم أشد وضوحاً وأكثر تقارباً بفضل ثورة المعلوماتية والاتصالات.
والخلاصة الأهم أنه لا يمكن لحضارة سادت ثم انتهت أن تعود إلى الانبثاق من جديد على نفس الأسس.. ولم يعرف التاريخ أي تجربة مماثلة.
وهذا يقودنا إلى الأسئلة المهمة: هل الحضارة الغربية الحالية في طور الأفول؟ أم أنها في طور التحول إلى «الحضارة العالمية الشاملة»؟ بعد أن رسخت مفاهيمها وقيمها.. والسؤال الثاني: هل من فرصة لعودة الحضارة الإسلامية، لاسيما أن الداعين لذلك ينطلقون من نفس الأسس بنظرة ماضوية، منعزلة عن روح العصر وقيمه ومعارفه؟
بقي أن أقول إن الكتاب رغم أنه مادة علمية أكاديمية، إلا أنه سلس وممتع وشيق، ويطرح الكثير من الأسئلة الإشكالية التي تحتاج نقاشاً مستفيضاً.
عبد الغني سلامة
2022-02-21
«محاولة لفهم التاريخ»، هو جديد الكاتب والمفكر الفلسطيني د. علي الجرباوي (376 صفحة، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021).
الكتاب من وجهة نظري من أهم وأغنى الكتب التي صدرت مؤخراً، وضع فيه الجرباوي خلاصة فكره وتجربته الأكاديمية والبحثية، ومع أنه يتحدث عن التاريخ، إلا أنه لم يتناول تاريخاً بعينه، بمعنى أنه ليس سرداً تاريخياً لقوم أو لحضارة أو لمرحلة، بل هو دليل ومرشد لكيفية قراءة التاريخ وفهمه وتحليله، باتباع منهج علمي سوسيولوجي تحليلي صارم ودقيق، وبالتالي فإن الكتاب يعد بديلاً علمياً عن القراءات الأيديولوجية والسياسية والرغائبية التي تناولت التاريخ بطرق انتقائية، وأحياناً بناء على نظرية المؤامرة.
ونظراً لتعدد المواضيع التي تطرق إليها الكتاب، سيكون متعذراً الإحاطة بها كلها، أو حتى عرض ملخصها في هذا المقال، وهي كلها مهمة، وتكمل بعضها بعضاً، بدأها بمقدمة تناولت رحلة البقاء الإنساني، ونظريات نهاية التاريخ وصدام الحضارات، ثم انتقل إلى علاقة الإنسان بالبيئة وبأخيه الإنسان، وصياغة أول عقد اجتماعي، وما قاله دارون وماركس وغيرهما في هذا السياق، ثم يأتي إلى فصول الحضارة وتوالي الحضارات، خاتماً بنظرة مستقبلية.. وقد اخترت فصل الحضارة لتركيز الضوء عليه.. وهذا لا يُغني عن قراءة الكتاب، ولا يفيه حقه بالعرض والتلخيص.
في مستهل الفصل وقبل تعريفه لمفهوم «الحضارة»، يعالج الجرباوي مفهوم الثقافة، مبيناً الفرق بينهما، فالثقافة بتعريفها المبسط «تعبير عن نمط الحياة، والنظر لمغزاها ومعناها لمجموعة من الناس ارتبطت ببعضها إرثياً، ثم توسعت المجموعة ليصبح تشكيلها قائماً على أساس العيش المشترك في بقعة جغرافية محددة».
ويستعرض الجرباوي عدداً آخر من التعريفات، منها تعريف إدوارد تايلور: «الثقافة تلك الوحدة الكلية المعقدة التي تشمل المعرفة، والإيمان، والفن، والأخلاق، والقانون، والأعراف والقدرات والعادات التي يكتسبها الفرد بوصفه عضواً في المجتمع».
ويخلص الجرباوي إلى أن تعريف الثقافة يأتي منسجماً وأحياناً متطابقاً مع مفهوم الحضارة، والتي هي «حالة مركبة ومتحولة من التطور الإنساني، تعبّر عن رؤية محددة للوجود، مرتبطة مع نسق حياة، ومجموعة معتقدات، وطريقة تفكير، وأسلوب تعامل، وذاكرة تاريخية، تعكس نفسها مجتمعة، وتتعزز بمنظومة قيمية، وتتفاعل ضمن بنى قانونية وسياسية واجتماعية، لتنتج فنوناً وآداباً وعلوماً..».
ويضيف الجرباوي إن محاولات التفريق بين المفهومين أخذت اتجاهين مختلفين: اعتبر الأول أنّ «الحضارة تعبير عن حالة تقدم مرتبطة بالانتقال من حالة عيش الإنسان في تجمعات بشرية تقليدية بثقافة بدائية همجية إلى حالة أكثر رقياً، اكتسب فيها الإنسان السلوك اللائق. أما الاتجاه الثاني فيربط عملية تحول الثقافة إلى حضارة بنشوء المدن، وانتقال حياة الإنسان من طور البداوة والحياة الريفية إلى الحياة المدنية. والمدنية المقصودة هنا التجمع السكاني الذي صار مدينة بعد أن تحرر معظم السكان من عبء الانهماك المباشر في إنتاج الغذاء».
يقر الجرباوي بالعلاقة الوثيقة والمتداخلة بين الثقافة والحضارة، لكنه يؤكد على أن الحضارة لا بد أن تنطلق أساساً من ثقافة معينة، مع الانتباه إلى أنه ليس بإمكان كل ثقافة أن تتطور إلى حضارة، فلكي تتمكن من ذلك لا بد أن تكتسب طاقة محفزة تدفعها للانطلاق خارج حدودها وتوسيع نطاق انتشارها لتشمل ثقافات أخرى متنوعة وصهرها ومزج مكوناتها خلال فترة زمنية مديدة (يمكن أن تدعى عصراً).
وفقاً لذلك، الثقافة أمر خاص محلي مغلق ومحصور، بينما الحضارة شأن عام أوسع وأشمل ومنفتح.. وما حدث أن مصطلح الحضارة دخل حيز الاستخدام حديثاً، فتم إسقاطه بأثر رجعي على تجارب الشعوب السابقة، وتم إطلاق وصف «حضارة» على جميع تلك التجارب، رغم أن معظمها كانت تجارب ثقافية منغلقة ومحلية، ولم تتسع لتشمل وتضم ثقافات متنوعة، وهذا يشمل حضارات ما بين النهرين ومصر القديمة والصين والهند وأميركا اللاتينية، فهي (حسب الجرباوي) ثقافات أكثر منها حضارات.. وحتى لا يقلل من شأنها سمّاها حضارات متموضعة، وذلك لتمييزها عن الحضارات الأخرى التي اتسمت بالشمولية والعالمية، وهي الحضارات اليونانية، والرومانية، والإسلامية، والغربية الحالية.
تلك الحضارات امتدت على رقعة جغرافية شاسعة جداً، وضمت خليطاً من ثقافات متنوعة، وتركت آثاراً معمارية ومعنوية: أدباً، فلسفة، علوماً، أينما وصلت وحكمت، خلافاً للحضارات المتموضعة التي رغم اتساع حدودها إلا أنها ظلت محلية الطابع.
بعد أن اعتبر تلك الحضارات الأربع هي فقط من تنطبق عليها سمات التعددية والشمولية والانفتاح والعالمية، يأتي الجرباوي على ذكر خصائص وسمات الحضارة، وفقاً لأهم أربع مدارس تناولت الموضوع (ابن خلدون، شبلنجر، توينبي، كوينجلي).
ونظراً لضيق المساحة سأوجز أهم ما خلص إليه الجرباوي:
ليس هناك حضارة خالدة، فمهما عظمت قوة الحضارة لا بد أن تمر بمراحلها الخمس (التي تحدث عنها ابن خلدون وغيره) والتي تفضي إلى أفولها.
قد تتعايش قوتان عظميان في مرحلة زمنية واحدة، لكن الحضارات الكبرى تأتي واحدة بعد الأخرى، واليوم لم يعد ممكناً تعاصرُ حضارتين في وقت واحد، لأن العالم أصبح أصغر. كما أنه لا يمكن تعاقب حضارتين رائدتين في الموقع ذاته، فالحضارة التالية لا بد أن تنبثق من مكان آخر.
كل حضارة رائدة تتفوق على سابقتها في مراكمة المعارف المادية، فهي تستفيد منها، وتراكم على تجربتها، وعادة يكون السباق بين الحضارة الرائدة وسابقتها المباشرة، وليس الحضارة الأسبق.
وبهذا المعنى فإن مصطلح الحداثة يصبح نسبياً، فكل حضارة قديمة كانت في وقتها تمثل قمة الحداثة.
وأيضاً كل حضارة رائدة كانت قد عولمت العالم في عصرها، فالعولمة ليست جديدة، وإن كانت اليوم أشد وضوحاً وأكثر تقارباً بفضل ثورة المعلوماتية والاتصالات.
والخلاصة الأهم أنه لا يمكن لحضارة سادت ثم انتهت أن تعود إلى الانبثاق من جديد على نفس الأسس.. ولم يعرف التاريخ أي تجربة مماثلة.
وهذا يقودنا إلى الأسئلة المهمة: هل الحضارة الغربية الحالية في طور الأفول؟ أم أنها في طور التحول إلى «الحضارة العالمية الشاملة»؟ بعد أن رسخت مفاهيمها وقيمها.. والسؤال الثاني: هل من فرصة لعودة الحضارة الإسلامية، لاسيما أن الداعين لذلك ينطلقون من نفس الأسس بنظرة ماضوية، منعزلة عن روح العصر وقيمه ومعارفه؟
بقي أن أقول إن الكتاب رغم أنه مادة علمية أكاديمية، إلا أنه سلس وممتع وشيق، ويطرح الكثير من الأسئلة الإشكالية التي تحتاج نقاشاً مستفيضاً.