كثيراً ما تتواتر قصص ونوادر عن ظهور أشباح في بعض الأماكن أو لبعض الأشخاص، فذكرها يجعل القشعريرة تدب في العروق. وقد يحدث أحياناً أن تختص هذه الأشباح شخصا ما فتظهر له، فيصاب بذعر يؤدي إلى إصابته بنوبات نفسية وعصبية قد لا تحمد عقباها، على الرغم من أن تلك الأشباح مجرد أرواح معلقة، حبيسة على ظهر الأرض في حاجة لمن يمد لها يد العون؛ حتى ينجيها من العذاب. فجميعها كانت يوماً لأفراد عاديين، لم تكن مخيفة، أو شريرة أو مؤذية.
ومن ثم، فإن عقوبة الحبس هي أسوأ العقوبات التي تفرض على أي كائن حي؛ لأنها تحبس قبل أي شيء الروح قبل الجسد، وتحيل الفرد إلى شبح يخشى الجميع مخالطته، سواء أكان في السجن أو خارجه. فالسجن يغيِّر الأبعاد الزمانية، والمكانية والجسدية للأشخاص، ويعصف بحياتهم العاطفية، وكذلك يقوِّض هويتهم.
وفي هذا المنحى، يذكر جيروم إنجلبرت عالم النفس الإكلينيكي والمحاضر في جامعة لياج في بلجيكا أن «سجن الجسد يغيِّر علاقته بالزمان والمكان، فلكل سجين تصوره الخاص للمكان والزمان وجسده»، لكن يتغيِّر ذلك بعد الحبس الذي يؤثر في «العالم الخيالي للسجين ونفسيته وهويته».
في داخل السجن يتحرك السجين في إطارين زمنيين لا ثالث لهما، وإن تفاوتت سرعتهما باختلاف مجريات الأمور. الإطار الأول يرتبط بالروتين اليومي المتكرر، فالسجين ليس بمقدوره اختيار أوقات الاستيقاظ، والنوم، والاغتسال، وتناول الطعام؛ لأن الضابط المشرف على النُزُل هو من لديه القدرة على اختيار تلك المقدَّرات. أما الإطار الزمني الآخر فهو يتعلق بالعالم الخارجي؛ فتجربة السجن تُقْصِي السجين عن العالم الخارجي ومجرياته، وتجعله حبيس ذكرياته قبل دخوله السجن. والسجناء الذين قضوا فترات عقوبة طويلة، يخرجون غرباء لا يستوعبون ما يحدث من تقدم، سواء في التكنولوجيا أو الموضة. ومن ثم يطلُّون على البشرية وكأنهم أشباح مسلوبة الإرادة قادمة من زمن آخر؛ لأن فكرتهم عن المكان تصبح جزئياً مضطربة للغاية. فالإنسان العادي عادة ما يميل إلى إظهار هويته، من خلال ديكور منزله، أو حجرته، أو حتى محل عمله؛ فاختيار شكل وموضع الأثاث يتحدث عن هوية المرء. أما في السجن، فلأسباب أمنية، يتم وضع المساجين في زنزانات متشابهة يحرمون فيها من اختيار شكل ومكان أثاث الحجرة، وإن سُمِح لهم تزيين ركنهم الخاص بالصور والملصقات، أو حتى الزرع. ويؤكد جيروم إنجلبرت أيضا، أن السجين يتم فصله عن جسده بكل الوسائل. فعلى سبيل المثال، لدواع أمنية أيضاً، يُحْرَم السُجناء من وجود مرآة عادية؛ فمرايا السجن معتمة؛ لأنه يوضع عليها طبقة معتمة تظهر انعكاسا غير واضح لصورة المرء، أو بالأحرى لظلُّه. وبهذا، يحرم السجين من أساس التفاعل الاجتماعي والهوية، ألا وهو شكل وجهه. وبذلك يتحول أي فرد لمجرد «ظل»، أو «شبح»، حتى لو كان جسده لا يزال ينتمي لعالم المادة.
لكن مهما كانت بشاعة تجربة السجن فهي لا تزال تعطي الفرد الأمل في أنه سوف يتحول في يوم ما «لشبح» أو لـ»روح هائمة» على وجه الأرض، في انتظار من يمد لها يد العون، ويجعلها تعبر للعالم الآخر؛ أي للعالم المعاصر وذلك في حالة السجناء. لكن أقصى تجربة سجن في البشرية التي كانت تدمر الروح قبل الجسد هي «حبس قارا» في مدينة مكناس في المغرب، الذي شيَّده إسماعيل بن الشريف، أو كما يعرف باسم مولاي إسماعيل (1645-1727) سلطان المغرب الذي حكمها لمدة 55 عاماً (1672-1727). وسجن «قارا» هو سجن بشع بكل المقاييس، تدور حوله القصص والأساطير منذ تشييده، وهو سجن «الداخل إليه مفقود». فسجن قارا من عجائب البنيان التي يبعث شكلها المعماري والهندسي الخوف والهلع في نفس من يدخل إليه؛ فهو السجن الوحيد في العالم الذي لا يوجد له لا باب ولا شباك، فيما عدا بضع فتحات في سقف السجن، كان يُقذف من خلالها السجناء، والمؤن، والماء. أما السجن من الداخل فهو عبارة عن متاهة شاسعة من الصعب – أو حتى من المستحيل حتى الآن – التكهن بمساحتها؛ لأن السجن بأكمله مشيّدًا تحت سطح الأرض على مساحة عشرات الكيلومترات، ويقال إنه يمتد ليشمل مدينة مكناس بأكملها. وكان مولاي إسماعيل يسجن فيه الخارجين عن القانون والمعارضين له، وكان أيضاً يعج بالسجناء الأجانب من البرتغاليين والإسبانيين والأيرلنديين، الذين كان يجلبهم القراصنة، فيستغل مهاراتهم في تشييد الأسوار والجدران والفسيفساء، وكل تقنيات بناء القصور.
ويوجد السجن في القصبة الإسماعيلية (قصر الحكم)، ويستوعب نحو 40 ألف سجين في آن واحد، ويقال إنه ألقيَّ فيه نحو 2 مليون روح. يعزو البعض أن تسمية السجن الغريبة تلك تعود إلى اسم مصمم السجن، وكان سجينا برتغاليا حصل من السلطان على وعد بتحريره، إذا قام بتشييد سجن محكم لا يمكن الخروج منه أبداً. وهناك أقوال أخرى تشير إلى أن تسميته تشير إلى حارس السجن، الذي كان رجل أقرع بلا رحمة؛ يتفنن في تعذيب السجناء، ويجبرهم على العمل منذ بزوغ الفجر حتى حلول الليل بدون طعام. وأثناء العمل كان يضربهم بغلظة، ومن كان يقع من شدة الضرب، كان ينهال عليه بضرب مبرح حتى يستفيق ويكمل حفر حجرات جديدة في السجن.
والسجن ما هو إلا حجرات تشبه القبو، كل واحدة منها تفضِي إلى أخرى في شكل متاهة لا بداية لها ولا نهاية. ويشاع أن لتلك المتاهة مخرج واحد سرِّي، إذا تم العثور عليه ينال السجين حريته. وبالطبع، لم يجده أحد. والغريب محاولة الكثير من الخبراء، والرحالة، والمستكشفين سبر أغوار تلك المتاهة بالنزول للسجن، لكن جميعهم فقدوا للأبد في غياهب تلك المتاهة. ووصل عدد البعثات الاستكشافية 12 بعثة، آخرها في تسعينيات القرن العشرين، حين أصرت بعثة فرنسية مزودة بجميع الوسائل التكنولوجية الحديثة استكشاف المتاهة. وكالعادة، مصيرها مجهول حتى الآن. ومنذ ذلك الحين، تم غلق السجن بحائط إسمنتي ضخم وتركت قاعة واحدة للسياح.
وتحوم حول المكان أساطير تشيع بأنه مسكون بأرواح شريرة لَعَنَتَه، ويؤكد الكثير من أهالي مكناس أنهم في بعض الأحيان يسمعون أصوات تأوهات، وصراخا، واستغاثات صادرة من جدران المنازل، أو من تحت الأرض، ويعزون أنها تنتمي لأرواح سجناء تلك المتاهة الملعونة، سواء أكان ذلك حقيقة أم أوهاما، فتجربة الحبس قاتلة للروح قبل الجسد، حتى لو كانت افتراضية موقعها في جدار النفس.
www.alquds.co.uk
ومن ثم، فإن عقوبة الحبس هي أسوأ العقوبات التي تفرض على أي كائن حي؛ لأنها تحبس قبل أي شيء الروح قبل الجسد، وتحيل الفرد إلى شبح يخشى الجميع مخالطته، سواء أكان في السجن أو خارجه. فالسجن يغيِّر الأبعاد الزمانية، والمكانية والجسدية للأشخاص، ويعصف بحياتهم العاطفية، وكذلك يقوِّض هويتهم.
وفي هذا المنحى، يذكر جيروم إنجلبرت عالم النفس الإكلينيكي والمحاضر في جامعة لياج في بلجيكا أن «سجن الجسد يغيِّر علاقته بالزمان والمكان، فلكل سجين تصوره الخاص للمكان والزمان وجسده»، لكن يتغيِّر ذلك بعد الحبس الذي يؤثر في «العالم الخيالي للسجين ونفسيته وهويته».
في داخل السجن يتحرك السجين في إطارين زمنيين لا ثالث لهما، وإن تفاوتت سرعتهما باختلاف مجريات الأمور. الإطار الأول يرتبط بالروتين اليومي المتكرر، فالسجين ليس بمقدوره اختيار أوقات الاستيقاظ، والنوم، والاغتسال، وتناول الطعام؛ لأن الضابط المشرف على النُزُل هو من لديه القدرة على اختيار تلك المقدَّرات. أما الإطار الزمني الآخر فهو يتعلق بالعالم الخارجي؛ فتجربة السجن تُقْصِي السجين عن العالم الخارجي ومجرياته، وتجعله حبيس ذكرياته قبل دخوله السجن. والسجناء الذين قضوا فترات عقوبة طويلة، يخرجون غرباء لا يستوعبون ما يحدث من تقدم، سواء في التكنولوجيا أو الموضة. ومن ثم يطلُّون على البشرية وكأنهم أشباح مسلوبة الإرادة قادمة من زمن آخر؛ لأن فكرتهم عن المكان تصبح جزئياً مضطربة للغاية. فالإنسان العادي عادة ما يميل إلى إظهار هويته، من خلال ديكور منزله، أو حجرته، أو حتى محل عمله؛ فاختيار شكل وموضع الأثاث يتحدث عن هوية المرء. أما في السجن، فلأسباب أمنية، يتم وضع المساجين في زنزانات متشابهة يحرمون فيها من اختيار شكل ومكان أثاث الحجرة، وإن سُمِح لهم تزيين ركنهم الخاص بالصور والملصقات، أو حتى الزرع. ويؤكد جيروم إنجلبرت أيضا، أن السجين يتم فصله عن جسده بكل الوسائل. فعلى سبيل المثال، لدواع أمنية أيضاً، يُحْرَم السُجناء من وجود مرآة عادية؛ فمرايا السجن معتمة؛ لأنه يوضع عليها طبقة معتمة تظهر انعكاسا غير واضح لصورة المرء، أو بالأحرى لظلُّه. وبهذا، يحرم السجين من أساس التفاعل الاجتماعي والهوية، ألا وهو شكل وجهه. وبذلك يتحول أي فرد لمجرد «ظل»، أو «شبح»، حتى لو كان جسده لا يزال ينتمي لعالم المادة.
لكن مهما كانت بشاعة تجربة السجن فهي لا تزال تعطي الفرد الأمل في أنه سوف يتحول في يوم ما «لشبح» أو لـ»روح هائمة» على وجه الأرض، في انتظار من يمد لها يد العون، ويجعلها تعبر للعالم الآخر؛ أي للعالم المعاصر وذلك في حالة السجناء. لكن أقصى تجربة سجن في البشرية التي كانت تدمر الروح قبل الجسد هي «حبس قارا» في مدينة مكناس في المغرب، الذي شيَّده إسماعيل بن الشريف، أو كما يعرف باسم مولاي إسماعيل (1645-1727) سلطان المغرب الذي حكمها لمدة 55 عاماً (1672-1727). وسجن «قارا» هو سجن بشع بكل المقاييس، تدور حوله القصص والأساطير منذ تشييده، وهو سجن «الداخل إليه مفقود». فسجن قارا من عجائب البنيان التي يبعث شكلها المعماري والهندسي الخوف والهلع في نفس من يدخل إليه؛ فهو السجن الوحيد في العالم الذي لا يوجد له لا باب ولا شباك، فيما عدا بضع فتحات في سقف السجن، كان يُقذف من خلالها السجناء، والمؤن، والماء. أما السجن من الداخل فهو عبارة عن متاهة شاسعة من الصعب – أو حتى من المستحيل حتى الآن – التكهن بمساحتها؛ لأن السجن بأكمله مشيّدًا تحت سطح الأرض على مساحة عشرات الكيلومترات، ويقال إنه يمتد ليشمل مدينة مكناس بأكملها. وكان مولاي إسماعيل يسجن فيه الخارجين عن القانون والمعارضين له، وكان أيضاً يعج بالسجناء الأجانب من البرتغاليين والإسبانيين والأيرلنديين، الذين كان يجلبهم القراصنة، فيستغل مهاراتهم في تشييد الأسوار والجدران والفسيفساء، وكل تقنيات بناء القصور.
ويوجد السجن في القصبة الإسماعيلية (قصر الحكم)، ويستوعب نحو 40 ألف سجين في آن واحد، ويقال إنه ألقيَّ فيه نحو 2 مليون روح. يعزو البعض أن تسمية السجن الغريبة تلك تعود إلى اسم مصمم السجن، وكان سجينا برتغاليا حصل من السلطان على وعد بتحريره، إذا قام بتشييد سجن محكم لا يمكن الخروج منه أبداً. وهناك أقوال أخرى تشير إلى أن تسميته تشير إلى حارس السجن، الذي كان رجل أقرع بلا رحمة؛ يتفنن في تعذيب السجناء، ويجبرهم على العمل منذ بزوغ الفجر حتى حلول الليل بدون طعام. وأثناء العمل كان يضربهم بغلظة، ومن كان يقع من شدة الضرب، كان ينهال عليه بضرب مبرح حتى يستفيق ويكمل حفر حجرات جديدة في السجن.
والسجن ما هو إلا حجرات تشبه القبو، كل واحدة منها تفضِي إلى أخرى في شكل متاهة لا بداية لها ولا نهاية. ويشاع أن لتلك المتاهة مخرج واحد سرِّي، إذا تم العثور عليه ينال السجين حريته. وبالطبع، لم يجده أحد. والغريب محاولة الكثير من الخبراء، والرحالة، والمستكشفين سبر أغوار تلك المتاهة بالنزول للسجن، لكن جميعهم فقدوا للأبد في غياهب تلك المتاهة. ووصل عدد البعثات الاستكشافية 12 بعثة، آخرها في تسعينيات القرن العشرين، حين أصرت بعثة فرنسية مزودة بجميع الوسائل التكنولوجية الحديثة استكشاف المتاهة. وكالعادة، مصيرها مجهول حتى الآن. ومنذ ذلك الحين، تم غلق السجن بحائط إسمنتي ضخم وتركت قاعة واحدة للسياح.
وتحوم حول المكان أساطير تشيع بأنه مسكون بأرواح شريرة لَعَنَتَه، ويؤكد الكثير من أهالي مكناس أنهم في بعض الأحيان يسمعون أصوات تأوهات، وصراخا، واستغاثات صادرة من جدران المنازل، أو من تحت الأرض، ويعزون أنها تنتمي لأرواح سجناء تلك المتاهة الملعونة، سواء أكان ذلك حقيقة أم أوهاما، فتجربة الحبس قاتلة للروح قبل الجسد، حتى لو كانت افتراضية موقعها في جدار النفس.
«قارا» حبس الروح والجسد! | القدس العربي
كثيراً ما تتواتر قصص ونوادر عن ظهور أشباح في بعض الأماكن أو لبعض الأشخاص، فذكرها يجعل القشعريرة تدب في العروق. وقد يحدث أحياناً أن تختص هذه الأشباح شخصا ما فتظهر له، فيصاب بذعر يؤدي إلى إصابته بنوبات نفسية وعصبية قد لا تحمد عقباها، على الرغم من أن تلك الأشباح مجرد أرواح معلقة، حبيسة على ظهر […]