محمد عبدالله الخولي - "التمثيل التاريخي في المسرح الشعري" سعد يوسف "أنموذجا" قرأة تأويلية في مسرحيته "لم يكتب التاريخ "

إنّ التاريخَ بوصفِه موضوعًا، يَمْثُلُ في شتَّى الفنونِ الأدبية، متصدِّرَاً القائمةَ الموضوعاتيةَ لهذه الفنون، بلْ تخطَّى التاريخُ الفنونَ الأدبيَّةَ الكتابيةَ والشِّفَاهية، ليكون تيمةً ومركزاً موضوعاتيَّاً للفنون التصويرية والتجسِدِّيَّةِ، على اختلاف توجهاتها ومشاربها، ليصبحَ التاريخُ بذلك موضوعًا تناوشته سائرُ الفنون.
فالتاريخُ هو المادةُ الخامُ الأولى التي يُنْسَجُ منها البناءُ النصيُّ أو التصويريُّ، حيثُ يستدعيه المبدع ُويطوعه وفق رؤيته الفنية لهُ. فاستدعاء المبدعِ للتاريخِ ليس استدعاءً حُرَّاَ؛ لأنه يَمْثُلُ في النصِّ الأدبيِّ مُصْطَبِغَاً برؤيةِ الذاتِ المبدعةِ وتجربتِها الخاصةِ، فالذات المبدعة حاضرةٌ في النصِّ الأدبي مواجهةً للتاريخ، ولذا يظلُّ القارئُ مشتَّتاً بين ما يقوله التاريخ، وما تقوله الذات المنتجةُ للنص الأدبي.
فحضورُ التاريخ داخل العمل الفنيِّ إشكاليةٌ كبرى، تحتاجُ إلى عمليةِ عصفٍ ذِهنيٍّ من القارئِ ليتأَوَّلَ النصَّ مستكشفاً غايته ورؤيته عبر تمثلاته الفنية واللغويةِ، ولا يكون حضور التاريخ في العمل الفني حضورا مباشرا، هدفه الحكاية أو السرد عبر بناءات فنية متعددة، فالتاريخ الذي ينقل بحرفيته، وتكون غايته الأولى الحكاية أو السرد، يتخلى عن الرمزية التي تلبس العمل الفني قناعا تتوارى خلفه الذات المبدعة، ومثل هذه الأعمال الفنية التي تتخذ من الحكاية التاريخية المحضة موضوعا مباشرا لها، لا تحتاج إلى مزيد من التأويل؛ حيث يعطى النص جوهره الموضوعاتي للمتلقي دون عناء.
ولكننا في صدد قراءة نوعية لعمل فني يقع تحت سلطة الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، وهو "المسرح الشعري" الذي يتخذ دائما وأبدا من التاريخ رمزا فنيا يتشكل وفق أيديولوجيا الذات ومرجعياتها الثقافية والفكرية والاجتماعية، فنحن أمام نص مسرحي استدعى التاريخ كرمز مقنع خلف الرؤية الذاتوية، حيث تستنطق الذات الشخوص التاريخية التي استدعتها في عملها الفني مطلقة العنان لخيالها الإبداعي، ورؤيتها الخاصة في قراءة التاريخ، ومن ثم يتشكل التاريخ، ويتجلى على خشبة المسرح وهو منسحق بسلطة الذات الرائية له، فالتاريخ في هذا العمل الفني الموسوم بــ "لم يكتب التاريخ" للكاتب المسرحي "سعد يوسف" يحمل رؤيته هو، ويبقى التاريخ حرا في ذاته، ويظل مادة وقماشة قابلة للتشكل وفق رؤية ذوات أخرى، ربما تراه وتعالجه معالجة تختلف أيما اختلاف مع رؤية الكاتب المسرحي "سعد يوسف" فنحن الآن أمام تأويلات فعلية للذات ورؤيتها الخاصة للتاريخ الذي سيظل حرا في مركزيته الحكائية الأولى متعاليا على كل الرؤى الفنية والإبداعية.
يتصدر العنوان "لم يكتب التاريخ" النص الأدبي، وهو يداهم القارئ بأداة الجزم"لم" والتي تنفي الكتابة عن التاريخ، ولكن مالذي يقصده "سعد يوسف" من هذا العنوان؟ فعلى وجه التحقيق التاريخ لا يكتب نفسه، بل يكتبه المؤرخون، ففعل الكتابة منتفي عن التاريخ حقيقة، فهل يعني "سعد يوسف" المؤرخين بهذا النفي وأظنه كذلك. تجلى التركيب اللغوي للعنوان ناقصا، فـ "المقعول به" محذوف، فقد تحقق في التركيب اللغوي وجود الفعل "يكتب" والفاعل "التاريخ"، ولذا يظل التركيب اللغوي للعنوان يستدعي مفعولاتٍ متعددة مجهولة الكينونة والهوية.
ولعل الدخول إلى النص واستقراءه، يستحضر لنا "المفعول" الذي أضمره "سعد يوسف" ليفتح لنا باب التأويل، لتتعدد القراءت وتتصارع التأويلات، وتتصدر ا"لهرمنيوطيقا" أفقَ التلقي، وهي تستدخل القارئ في عمق التجربة الذاتية لمبدع النص.
يبتدئُ "سعد يوسف" المشهد الأول، ومنذ اللحظة والمدخل الوصفي الأول لهذا المشهد، نراه يستحضر التاريخ بصورة فنية متعالية، ينم عنها اللباس والأسماء والشخوص التي يستدعيها ومفردات أخرى استدعى بها "سعد يوسف" الزمان والمكان وهما قابضان على ربقة الحدث التاريخي المستدعى فيقول:
(على يمين المسرح - المقسوم نصفين - يدخل شاب يلبس لباساً عصرياً يدعى سقراط. يعبر شارعاً عصرياً في خلفيته سوق، فيجد سيدة جالسة على رصيف تبكى. وعلى يسار المسرح رجل كهل يدعى: فودة، يظهر بلباس يوناني فاخر وفي خلفية الشارع بعض تماثيل الآلهة )
- سقراط (في عينيه شفقة): ما للمرأة تجمع نار الشمس إلى عينيها الحمراوين؟!
لا تبقي بعض الدمع لباقي العمر؟
- واحد من المارة (بخوف): لا أدري. دعني أعبر في ويلات طريقي خلسة.
- فودة (كمن يعظ جمهوراً): يا أهل أثينا الكل يموت بلا أمواتْ

والماضي في جلباب الحاضر آت.
العمر فتات يسقط من مائدة الموت.

(يدخل - من ناحية اليسار - رجل لا أدري من أي عصر: يلبس بنطالاً عصرياً وقميصاً يونانياً، يقف في منتصف المسرح ليلقي جملته ثم يخرج من ناحية اليمين)

: مر علينا الوقت.. وفر.
من لم يقتله الصمت.. أضر.
- سقراط: أين الشعراء؟
إني لا أسمع نورا.
لا أشرب عينا

أو أصوات تلهب ظهر سديم.
- فودة: سمعوا أن رجالا قالوا: إن الفهم أليم.
- سقراط: هاتوا السم لأشرب

لن أهرب.
**
(ظلام)
**
فن الكتابة المسرحي يعتبر بوابة كبرى لعبور التاريخ بشخوصه الذين يُسْتَدْعَى بهم الزمان والمكان والأحداث، فالفن المسرحي يمتلك من الأدوات ما لا تمتلكه الفنون الأدبية الأخرى، حيث تخترق أدائية التمثيل – بكل مستوياتِها الصوتية والتصويرية- اللغة، ليتجلى فن الكتابة المسرحي ذروة سنام الأدب، بما يمتلكه من تقنيات وآليات إبداعية، تنفخ في جوف الكلمات لتحملها دلالات متعددة؛ وترتقي بالكلمة/ اللغة وتدخل بها عتبة التأويل الكبرى.
فعن طريق الأسماء يستدعى التاريخ بكليته، وعن طريق "اللباس" والذي يتدخل في اختياره المبدع، تنطبع الرؤية الذاتية للمبدع على الذوات المستدعاة للعمل الأدبي، فاستدعاء "سقراط" هو استدعاء لحقبة زمنية ومكانية غيرت مجرى التايخ والأحداث في العالم كله، عصر النهضة الفكرية المنبثقة من نور الحكمة/ الفلسفة، والتي أعادت تشكيل العالم، وتغيير كثير من وجهات النظر تجاه الأشياء، ولكن الكاتب "سعد يوسف" يلبس "سقراط" لباسا عصريا، بينما "فوده"والذي مثل حركة التنوير في الحاضر يرتدي لباسا يونانيا قديما، حالة من المزج قام المبدع " سعد يوسف" بتشكيلها داخل عمله الفني الرائق، فلم يكتفِ بالفكرة البسيطة من حيث استدعاء الشخوص التاريخية، ولكنه يلبسها لباسا عصريا، ويقحمها في حوار فكري مع الحاضر، الذي يمثله " فودة". وعن طريق "اللباس" يستدخل الحاضر في الماضي، ويستخلص الفكرة التنويرية الماضوية من أفق الحاضر، فالتاريخ بفكره التنويري، في حالة مثول حسية عبر أدائية التمثيل أمام الحاضر، وكلامها يمتزج وينصهر في الآخر، ليشكلا كيانا تنويرا واحدا، فالفكرة تخترق زمانية الماضي، خارجة عن سلطتي المكان والزمان، وتنبثق في الحاضر من خلال "فودة" والفكرة تبزغ شمسا في عيني امرأة تتوسد الرصيف، وجمر المأساة يسبح في بريق عينيها، فالمرأة الصامتة التي تتوسد الرصيف الواقع بين اليمين واليسار، اليمين، هو المدخل وبوابة مرور الماضي إلى الحاضر، وهذا ما نراه في أدائية المكان والجهة من خلال المشهد التمثيلي، فـ "فودة" يقبع في الجهة اليسرى، و "سقراط" يقبع في اليمين، والرصيف الذي يحمل المرأة /الفكرة التي تصل بين الاتجاهين، فالفكرة/ الحكمة/ المعرفة، هي الخيط الذي يصل ماضينا بحاضرنا الإنساني. فاللباس الذي يرتديه كل من "سقراط، فودة" هو لباس الفكرة التي تجلت في ماضوية التاريح وحاضر الإنسان.
الشعر والفلسفة يتجليان في العمل الفني أيضا- من خلال "فودة، سقراط"، فكلا الحقلين ينبثق من جوهر واحد، ومن معين متسامٍ تتفتق عنه الفكرة. يستدخل "سعد يوسف" شخصية مجهولة أخى تتوسط خشبة المسرح، وهي ترتدي ثيابا يجمع ما بين ماضوية الفكرة، وحاضر التنوير، فالرجل المجهول يمثل الفكرة الناطقة، بينما المرأة التي توسدت الرصيف تمثل الفكرة الصامتة، وهي في حالة كمون وتيه مشتتة بين الماضي والحاضر، فالفكرة مهما اختبأت وتوارت، سيأتي يومها الذي تشق فيه الظلام، تلك المفردة "الظلام" التي تخللت المشهد كثيرا، بعد الكلماتالتي تحاول أن تستظهر نور الفكرة من مشكاة العقل، وتتأبى على أن تندثر في غياهب الظلام، الذي يحاول بين الفينة والأخرى أن يتخلل المشهد التمثيلي؛ ليطمس نور الفكرة.
تواجه الفكرة منذ عصر التاريخ عدوها، الذي يريد أن يكبتها مقهورة في محبس الخوف؛ لتندثر ماهية الذات الواعية، ولا يتحقق وجودها، فالتحقق من وجود الذات يهدد فئة الضلال، والتي تحاول أن تسدل ستار الليل على فجر الكلمات؛ كي لا تضيء، تحاكم الفكرة/ الكلمة في قفص الاتهام، تلك الفكرة التي يمثلها "فودة" بوصفه أيقون النوير في العصر الحاضر، محاكمة عصرية تتراءى لنا في المشهد الثاني على خشبة المسلرح يقول "سعد يوسف" :
( يخرح كل من على المسرح و يبقى فودة في قفص محكمة عصرية وأمامه القضاة)

- القاضي الأول: يا فودة
أعرف أنك بين الناس تعظ.
رجل قوال.
تضرم في سرداب العتمة قولا حق.
في بيداء الكذبة تزرع نخل الصدق.
قل لي: ماذا قلت عن الأخلاق؟ عن الحريةْ؟
في أجواف الموت الدائم ماذا قلت عن الأبدية؟!
- القاضي الثاني: كل كلامه كان ضلال.
( يضحك) هل نسمع ذاك القتال؟!
- القاضي الثالث: يا حضرات السادةْ

الآن هناك شهادة.

( يشير إلى الحاجب)

- الحاجب (منادياً) :فلتدخل يا أول شاهد.

(يدخل الشاهد الأول)

- القاضي (كمن يملي أحداً قولاً بعينه): أبحق أبولو قلت الحق؟
- الشاهد: فبحق إله الشعر أقول الحق.
- القاضي: هل كان الرجل يقول الشعر؟!

تتبختر فيه الكلمات؟!
يسمع وشوشة اليرقات؟!( يقولها مستهزئاً)
الشاهد: حقا، كان يقول.
- القاضي: هل كان يحث الناس على التفكير؟
- الشاهد: حقا حث الناس
( يشير إلى الحاجب)

-الحاجب (منادياً) :فلتدخل يا شاهد حق.

( يدخل الشاهد الثاني ويقف أمام القاضي والثالث يجلس منتظراً)

- القاضي: أبمجد أبولو قلت الحق؟!
- الشاهد: حقا، إني قلت.
القاضي: هل كان يشجع بعض المارة على العصيان؟
يهمس في أذن الماء، فتجمد؟!
عصيان، عصيان( يقولها وهو يهز رأسه)
- الشاهد: أنتم أعلم أهل الأرض بأن الرجل مدان.
هل تسمح لي باستئذان؟

( يشير إلى الحاجب)

- الحاجب: قف يا ثالث.
القاضي: هل تحلف يا شاهد حق؟!
الشاهد: أقسم أني قلت الحق.
القاضي: ماذا تعرف عنه؟! ( يشاور إلى فودة)
الشاهد (بغضب) : هذا الرجل يروج فينا الكفر.
القاضي: هذا الكهل؟( يشاور إلى فودة)
الشاهد: كنت سمعت الكهل يقول عن الشيخ.
محامي فودة: يا سادة أهل الحق طلبت سؤالا: فليحضر تلميذ الكهل.


(ظلام)
***
جدلية الحق والباطل، جدلية الصمت والكلام، جدلية ما بين النور المنبعث من إضاءة المسرح والظلام الذي يعربد في نهاية المشهد. جدليات ثلاث: "فودة" في قفص اتهامه صامت، بينما ينبعث الكلام من طرف موازٍ، يمثله: [القضاة- الشهود- الحاجب]، ولكن جلال الحق تأبَّى أن يكون هو وترهات الباطل على كفتي ميزان واحد، ولذا آثر "فودة" الصمت"، بينما علت كلمات القضاة والشهود والحاجب. ولكن عن طريق السخرية والهذيان اللذان تخللا مفردات المحاكمة، تركيبا وتصويرا وإيماءَات، فاللغة التي استخدمها القاضي، وهو يكيل التهم لـ "فودة" لغة تتخللها مشهدية تمثيلية توحي بما يضمره القاضي تجاه فودة/ الفكرة/ التنوير، ولكن الباطل منهزم مهما تطاول على جلال الحق، فلو انتزعت هذه العبارات المتتالية من مشهدها التمثيلي، وبقيت كما هي في مركزيتها اللغوية في النص، لكانت دليلا قاطعا على براة "فودة"
أعرف أنك بين الناس تعظ.
رجل قوال.
تضرم في سرداب العتمة قولا حق.
في بيداء الكذبة تزرع نخل الصدق.
قل لي: ماذا قلت عن الأخلاق؟ عن الحريةْ؟
في أجواف الموت الدائم ماذا قلت عن الأبدية؟!
الوعظ يستفتح به القاضي الكلام، "تعظ" ثم يتجلى تركيب آخر ليصف ماهية الواعظ "رجل قوال" من التقول وهو الادعاء، ولكن هل الواعظ المدعي " يضرم في سرداب العتمة قولا حقا"، يزرع في بيداء الكذبة نخل الصدق؟ فهذه الأصوصاف قاطبة تعلي من قدر الواعظ، ومضمونية الوعظ أيضا توحي بنبل الغاية، وسمو الهدف " الأخلاق" و "والأبدية" التي توحي بديمومة الوجود الإنساني والروحاني من خلال الفكرة، التي تبقى، ودائما تفر من ربقة الزمان، لتتجلى في أرض الحاضر، فالفكرة لا يمنعها برزج، ولا يحجبها جدار. فالقاضي يرمي الحق بحجارة الزيف، ولكنه ينتصر للحق من خلال التراكيب اللغوية السابقة، دون أن يدري، فجلال الحق غير منهزم أمام زيف الباطل.
الحق يحاكم في محكمة عصرية، ولكن المبدع " سعد يوسف" يستدعي التاريخ من خلال "القسم" بـ "أبوللو" إله الشعر عند اليونان، استدعاء للتاريخ بأيقونة "القسم" وهذا يدل على إبداعية فنية ينفرد بها "سعد يوسف" فهو يستدخل التاريخ ويعجنه بالواقع، والعكس، في كل مشاهد المسرحية، التي تصدر التاريخ عنوانها، ولم يفارقها من البداية حتى النهاية، ولم يكتف بذلك وحسب، فلم يقز "سعد يوسف" من تاريخ اليونان الفلسفي القديم إلى الحاضر مباشرة، ولكنه يستوقف الفكرة في عصر آخر، ينتمي إلى التاريخ العربي، باستدعاء سلطان العاشقين "عمر بن الفارض" بمعتقده الصوفي من خلال الرقصة المعهودة لدى السادة الصوفية، وأبياته التي تنشق لها القلوب، والتي أصبحت أيقونة للإنشاد الديني والمديح النبوي، في عصرها، وكل العصور التي تلتها.. يقول "سعد يوسف" على لسان "ابن الفارض"
(في خلفية المسرح صور لأهم رجال الصوفية. يدخل رجل يلبس لبس الصوفية ومعه راقص وهو يغني من أشعاره :

قلبي يُحَدّثني بأَنّكَ مُتْلِفِي "
روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ
لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي
لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي
ما لي سِوَى روحي وباذِلُ نفسِهِ
في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُسرِف
فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني
يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ
يا مانِعي طيبَ المَنامِ ومانِحي
ثوبَ السّقامِ بِهِ ووَجْدِي المُتْلِفِ
عَطفاً على رَمقي وما أبقَيتَ لي
منْ جسميَ المُضْنى وقلبي المُدَنَفِ"

( ينتهيا فيخرج الراقص ويدخل أفلاطون في زيه العصري )
استدعاء الأبيات الشعرية لـ "ابن الفارض" في نص "سعد يوسف"، هو استدعاء للشخصية بكافة ملابساتها الروحية والعرفانية، تلك الشخصية التي تمايزت بسموها الروحي على غيرها من الصوفية، نظرا لخصوصية تجربتها الروحية، والتي تجلت في أشعار "ابن الفارض" الذي كان ولم يزل أيقونية روحية، ورمزا صوفيا بارزا- فاستدعاؤه لتلك الشخصية، هو استدعاء للمشهد التاريخي بكليته، وظهور تلك الحركة الفكرية الدينية، والتي لم تكون وليدة عصر "ابن الفارض" بل كانت بذرتها تسكن بطن الحقيقة منذ أول بزوغ لشمس الإنسانية. هذا المزج التاريخي، والذي يمثله نص "لم يكتب التاريخ" يطوع التاريخ الإنساني كله في خدمة الغاية النصية، والتي تتجلى في أبدية الفكرة، وتعاليها على الزمان والمكان، إذ لا حد لها، يمنع تجليها في كل العصور، فالفكرة قابعة في الذات الإنسانية، وهي باقية ما بقي الإنسان.
تتناسل الفكرة، تبقى، تتجلى، هاربةً من سجن الماضي، تبزغ شمسا في حاضرنا. أفلاطون في حواره مع الشاعر معاتبا له، عن غيابه الطويل، والشاعر يدفع عن نفسه رجس التهمة، "لن أتغير، لن أتبدل"
"المشهد"
- أفلاطون: كم كان الوقت طويلا حين بعدت؟

لا تتركني وحدي بعد اليوم.
- الشاعر: يا أفلاطون تمهل.
لن أتغير، أو أتبدل.
سوف نقول الشعر ونثمل.
لكن عندي اليوم شهادة.
- أفلاطون: يا للهول، عندي أيضا.
- الشاعر: من لك في أبواب القبر؟
- أفلاطون: من كان يعلم فينا النورْ:

فودة.

( يبكي أفلاطون)

- الشاعر( وعينه تدمع) :فودة؟!


( يبكيان بصوت عال ٍ ثم يكمل الشاعر)

- الشاعر: مسكين ربان الزورق.
يبحر في آهاتي، يغرق.
يقضم جبل الملح وذلاً أحمق.

(يبكي الشاعر)
***
(ظلام)
**
ثمة ارتباك يتخلل الحوار السابق، فالقارئ كان يظن منذا بداية النص، أن أفلاطون تلميذ "سقراط" لكن تحدث المفارقة العجيبة، عندما يظهر لنا من خلال الحوار السابق العكس، فأفلاطون شاهد "فودة" والشاعر شاهد "سقراط" وتلك مفارقة عجيبة، فـ "سعد يوسف" باقتدار المبدع يصهر التاريخ كمادة خام، يشكل منها رؤيته الفكرية، فامتداد "سقراط" يمثل في شاعر عصري، وأفلاطون له امتداد في الحاضر يمثله "فودة"، وكأن تلاقح الفكرة وتناسلها عبر الزمان، يخلقها خلقا جديدا لتتجلى في شخوص آخرين، فالشعر امتداد للفلسفة، والفلسفة امتداد للشعر، وهذا الامتداد العرفاني الفلسفي، يخلق معتقدا صوفيا مركزيته الروح، وغايته الإنسان، وتوزع التصوف بين ديانات متعددة يمزجها "سعد يوسف" بإبداعية مفرطة، فـ "أفلاطون" واستماعه للشيخ النقشبندي، وظهور" ابن الفارض" وهو ينتمي إلى معتقد صوفي إسلامي، له وجهة إنسانية بحته، ومن ثم يأتي الكتاب المقدس "الإنجيل" وتحديدا موعظة "السيد المسيح" عليه السلام- على الجبل، حيث تنصهر الفكرة حرة من كل معتقد، حتى ولو كان المفكر ينتمي إلى دين ما وعقيدة معينة، ولكن جلال الفكرة يأبى أن يكون مقهورا تحت أي سلطة مهما كانت، فاستدخال الدين المسيحي والإسلامي، والفكر الفلسفي اليوناني القديم بمعتقداته الوثنية، وظهور " ابن الفارض ،النقشبندي، الحلاج"، حتى "أبوللو" وهو يواسي أفلاطون، ويلبسه حلة الحلاج، بينما يرتدي الشاعر الزي الصعيدي، عملية مزج جد خطيرة، وتوظيف مدهش للتاريخ، الذي طوعه "سعد يوسف" لخدمة الفكرة وجلالها، هذا الانصهار المتحقق بالفعل في نص "لم يكتب التاريخ" ينم عن وعي الكاتب وتتبعه تاريخ الفكرة/ التنوير، ثم يوظف تاريخية الفكرة وفق رؤيته الذاتية لها، لتتجلى غاية النص في تأويلية بنيته العميقة.
( يظهر الشاعر في مكان مهجور يبكي وفي يده الكتاب المقدس مفتوح على موعظة السيد المسيح على الجبل)
الشاعر يقرأ كلمات الموعظة باكياً :

" طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات.
طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون.
طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض.
طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يشبعون.
طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون.
طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله.
طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون.
طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم ملكوت السماوات
(يصمت وهو ناظر إلى السماء ثم يكمل بصوت قوي)
" قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم.
وأما أنا فأقول لكم : إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم "
(يصمت ثم يكمل بنبرة هادئة)
" أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم "
( يظهر له رجل في زي آلهة اليونان ويبدأ الحديث)
- أبولو(بأمر): بسم إله الشعر.. أقول: توقف.

لا تبك الآن بحضرة رب الشعر.
- الشاعر( مندهشاً) : من؟!
أبولو: رب الشعر.
( يبحث الشاعر عن المتكلم، فيجده خلفه )

- الشاعر: قد جئت رفيقا بعد القبض على الأستاذ؟!
- أبولو: قد جئت الآن لئلا يكبل آخر:

رجلا وزع قلبه في زمن الأوغاد على الأوغاد.
رجلا يلثم شعره شعب الضاد.
يكتب وردا حتى يهديها المعشوق إلى المعشوق.
يزرع ظلاً حتى يجلس تحته صب يكتب هديا و ندى.
- الشاعر: من تقصد ؟!
أخبرني كي أنقذ رجلا يعشقه نسيم الليمون.
يعرفه العصفور الصادق.
يكتبه شعر مفتون.
- أبولو: أنت
- الشاعر( مندهشا) : من؟!
- أبولو: أنت المقصودْ
و طريقك - إن تذهب تشهد- مرصود.
اهرب، لا ترجع.
- الشاعر ( يجهش بالبكاء)
- أبولو: اهرب كى تبقى حيا.

كي نكتب للأزهار بقية.
كى لا يقتل باقي العصفور.
- الشاعر: أنا لا أبكي خوفا من موت.
في ثغر الموت يعيش الرجل الطيب.
- أبولو: أعلم
تبكي خشية قتل الأستاذ.
اهرب كي يبقى فرع الأستاذ.
يحضن في الأمطار كناريا غنّاء.
هذا أمر، ليس رجاء.(يقولها بحزم)

( يختفي أبولو/ يخرج من على خشبة المسرح. يظل الشاعر يصرخ)

(ظلام)

***
( يظهر أفلاطون في بيته وهو يبكي مستمعاً دعاء مولاي للشيخ النقشبندي )
( يدخل صديق)

- الصديق: اهدأ يا قلب الحكمة.
يا رجلا ينسج وهج العقل.
- أفلاطون: العمر بكاء.
والعقل شقاء.
وأثينا ربة تلك الحكمة لا تغفر ذنبا وبلاء.
- الصديق: لا أفهم قصدك.
- أفلاطون: قد ظهرت لي ( ثم يبكي)
- الصديق (مندهشاً): ماذا قلت؟!
- أفلاطون: قد ظهرت لي.
- الصديق: ماذا قالت؟!
أفلاطون (بقوة): أنت المقصودْ
وطريقك - إن تذهب تشهد- مرصود.
اهرب، لا ترجع.
(يعيدها باكياً)
أفلاطون (باكياً): أنت المقصودْ
وطريقك - إن تذهب تشهد- مرصود.
اهرب، لا ترجع.
- الصديق( يدمع) : تدمع ولأدمع.
لا تذهب!
اهرب!
أنت المقصودْ
وطريقك - إن تذهب تشهد- مرصود. (يقولها بحرقة البكاء)

**
(ظلام)
( يظهر ثلاثة قضاة والحاجب وسقراط في القفص وتبدأ الجلسة)
- القاضي الرئيس: نادِ الشاهد.

- الحاجب: لم يحضر يا مولاي.
- القاضي لسقراط : نعلم أن الشاهد تلميذ الدجال ( مشيرا إليه)
قولوا في أنحاء البلدة: إن الموت مصير القوال ( يقولها باستهزاء ناظرا إلى الشعب، مشيرا إلى سقراط)
( ينظر إلى الحاجب و يقول) : نفذ إن لم يظهر تلميذه سبعة أيام.
(ظلام)
**
(يختفي سقراط ويظهر فودة في القفص وتبدأ الجلسة)
- القاضي الرئيس: نادِ الشاهد.

- الحاجب: لم يحضر يا مولاي.
- القاضي لفودة : نعلم أن الشاهد تلميذ المحتال ( مشيرا إليه)
قولوا في أنحاء البلدة: إن الموت مصير الجهال ( يقولها باستهزاء ناظرا إلى الشعب، مشيرا إلى فودة)
( ينظر إلى الحاجب ويقول) : نفذ إن لم يظهر تلميذه سبعة أيام.

(يسود الظلام المسرح . ضوء على رجل يلبس جلباباً فضفاضاً لونه سماوي. يدخل بخطى متباطئة ثم ينظر إلى الأعلى وعلى وجهه قسمات الحزن. يرفع كفيه إلى الأعلى ثم يلوك شفتيه كمن يقبض على صرخة. يطأطئ رأسه ويبكي بصوت منخفض. يعلو الصوت فينوح . يحاول أن يكفكف دموعه لكنه لا يستطيع. يرفع يديه ثانية وعيناه تذرفان دمعيهما . يركع على ركبتيه ويصرخ. يسجد. ثم يسود الظلام المسرح)
( يظهر رجلان أحدهما يلبس زيا عصرياً والآخر زيا يونانياً ويدور بينهما حديث)
- الرجل الأول ( بصوت خافت) : هل تدري المخبأ؟!
- الرجل الثاني: إني أدري.

قد أخبرني قبل رحيله
حذر أن لا قول لنفس غيرك.
- الرجل الأول: لا بد سريعا أن نذهب ونقول.
- الرجل الثاني (متعجلاً) : هيا قبل أفول.
( يخرجان من على المسرح )
(ظلام)
**
(ينير المسرح فنرى المكان المختبئ فيه الشاعر كأنه مغارة في جبل. يدخل الرجلان فيجدان أفلاطون مختبئا معه)

- الرجل الأول ( إلى الشاعر) : مولاي القاضي يقتل سقراط.
- الرجل الثاني( إلى أفلاطون) : القاضي يقتل فودة.
- الرجلان في صوت واحد: القاضي يقتل مولانا.
تبكي شجرات الزيتون.
ترثيه ليالك بستان محزون.
- الشاعر : هيا انصرفا. سندبر أمرينا .
( ينصرف الرجلان و يتكلم الشاعر إلى أفلاطون)
- الشاعر: ماذا نفعل؟
إن لم نرحلْ
فالحق سيقتل
النور سيقتل.
الحكمة تقتل إن خرج الصوت من السفهاء.
شجرات الضوء الحائم في حيوات الماء.
قنديل الأصوات الضواء.
- أفلاطون: الحكمة تصرخ يا ويلاه.
بركان يخرج من ثغر القتله.
يا ربي (يقولها صارخاً)
إن القتل حرام. كيف القوم أحله؟!
- الشاعر: ماذا نفعل يا أفلاطون؟!
إن رحنا، متنا.
إن هرب الكل، فلن نهرب.
- أفلاطون: سأشير أثينا قبل ذهابي.
- الشاعر: كلا، لن أجلس وقتاً أطول.
( يتخفى الشاعر في زي رجل صعيدي. يحاول أفلاطون الإمساك به، فيلقيه إلى الأرض ويجري )
( يقع أفلاطون إلى الأرض وهو يجهش بالبكاء. تظهر له أثينا)
- أثينا (بقوة) : قم، لا تبكِ!
- أفلاطون( وهو يحاول كفكفة دموعه) : ماذا أفعل؟
فودة يقتل، يقتل ( ينوح)
- أثينا: هيا، فلتذهب!
- أفلاطون: إن أذهب، فأنا أيضا أقتل.
- أثينا: اسمع!
لا تدمع!

أعطيك شكل الحلاجْ،
شعر الحلاجْ،
قدر الحلاجْ.

( تؤدي أثينا بعض الحركات فيعم الظلام المسرح ثم يظهر الحلاج و يختفي أفلاطون)
( يجري الحلاج إلى خارج المسرح/إلى المدينة )
( ظلام)
***

(تظهر المحكمة وفودة وسقراط في القفص. يظهر رئيس المحكمة في زي عصري والقاضيان الآخران في زي يوناني)
( يدخل الشعب ومعه الحلاج والشاعر مقيدين )

- القاضي: من هذان الرجلان؟
- واحد من الشرطة: تلميذا الرجلين .

ظنا أن لباسا من تمويه يخفي الهيئة .
- القاضي: كيف عرفتا الرجلين؟! كيف تأكدتم؟!
-الشرطي: قالا بين الناس كلام الرجلين .
القاضي: هذا القفص الواسع جدا سوف يكون لكل الحكماء( يضحك بصوت عالٍ)

( يدخل الرجلان إلى القفص، فيحضن كل رجل معلمه)
( يحدث شغب بين الشعب خارج المحكمة. يدخل ثلاثة رجال يخطفون الثلاثة قضاة)
( ظلام)
*
( محاكمة من جديد، لكن هناك ثلاثة قضاة آخرين)
القاضي ( مشيرا إلى سقراط): قل ما عندك.
سقراط:
الحكمة رأس الكون.
نجم يسطع في الأذهان.
وبها خلق الله الأرض.
وبها صنع الإنسان.
وبها كانت كل الأشجار.
كل الشطآن.
هل يعقل أن نحيا يوما جهلاء؟!
هل يحيا الناس بدون الماء؟
العقل دواء.
القاضي لفودة: ما جرمك أنت؟
ماذا فعلت؟
- فودة: لم أفعل، بل فكرت.
- القاضي: قتلت؟ سرقت؟ سببت؟
- فودة: صدقني لا بل فكرت.
الماضي في طيات العصر البائد.
و الفكر القائد.
كيف الماضي نتركه يتثاءبْ

لينام الغد؟!
هل يصلح كل القول لكل زمان؟!(بقوة)
هل نلبس ثوبا لا نعرفه الآن ؟!
- القاضي ( مشيرا إلى الشاعر) : وأنت؟
- الشاعر: بالحب تنير الشمس.
ذاب العاشق حبا في أوردة الحس.
قسمات الشجرة تضحك للعصفور.
العاشق نور.
الفاتح كتب الحب زهوراً وبخور.
القادر أن يلمس قرص الشمس بغير حروق.
في أغنية الطرق العازفة الألحان.
الحب الأمس.
الحب الغد.
الحب الآن.
- الحلاج: الحق أنا.
فأنا الحق.
الله يطل على البشرية.
يبعث في الأفئدة الكلمة.
مطراً يروي عشب القلب.
كيف نكمم أفواه الرعد؟!
كيف سنخفي لطم البرق على أصداغ الظلمة؟!
الظلمة لن تملك بعد.
- القاضي: تصدر محكمة العدل براءة كل المتهمين.
(تصفيق حاد من الحضور في المحكمة)
(يحتضن الرجال بعضهم بعضاً وهم يصرخون: ظهر الحق)
(يخرج الأربعة من القفص مرفوعي الرأس يبتسمون بنصرة. وعند باب المحكمة يظهر رجل ملثم يرتدي جلبابا لا يظهر انتماءه لعصر بعينه يقتل الأربعة رميا بالرصاص.)
محاكمة أخرى تبزغ فيها شمس الحق، تعتلي الفكرة/ النور ظهر الباطل، يندحر الباطل يخنس، ولكن سرعان ما يظهر الجهل مجسدا في نهاية المشهد- في صورة رجل ملثم ينفذ حكم الإعدام على الأربعة، امتداد للصراع، دون نهاية أو حد فاصل بينهما، سيظل الصراه قائما بين النور والظلام، العلم والجهل، الملائكية الإنسانية، والحيوانية الطاغية بجهلها في نهاية المشهد، ولكن يبقى الإنسان، تبقى الفكرة شما تبزغ في كل العصور، ويبقى الصراع بطلا خفيا يتخلل الأحداث، وتبقى الكلمة رمزا نورا يشرق في قلب الإنسان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...