لأمرٍ ماّ .. اقتضت "حكمة " الرئيس السادات رحمه الله أن يلقب نفسه ب" الرئيس المؤمن " !! هل كان ذلك غمزا خفيا في دين الرئيس عبد الناصر ؟
هل كان ذلك تقربا من الإخوان المسلمين ؟
هل كان ذلك رسالة للغرب المسيحي الذي كان في حالة حرب باردة مع الشرق اللاديني ؟
لا أستطيع أن أجزم بأي دافع حقيقي كان وراء ذلك اللقب الذي بدا غريبا ومريبا ، وبخاصة بعدما تم تغيير اسم الدولة من الجمهورية العربية المتحدة إلى جمهورية مصر العربية وأضيف إلى اسمها لقب جديد غريب مريب أيضا هو ( دولة العلم والإيمان !! ) وقد تم في عهد الرئيس المؤمن إنجازات علمية وإيمانية لا مثيل لها في تاريخ مصر ، قد نعود إليها في مقالات قادمة . على أن أغرب وأخطر مقولات ( المؤمن ) كان ذلك الشعار الذي أخذه من البروتستانتية الغربية وسدّده – بقوة –إلى صدور الجميع ، وفي وجوه الجميع [لا سياسة في الدين ، ولا دين في السياسة ] وهو ما يتناقض جذريا مع لقبه الخاص (الرئيس المؤمن ) ولقب ( دولة العلم والإيمان !! )
ومنذ رُفع هذا الشعار في مصر والدول العربية ، تنفست إسرائيل الصعداء ، لأنها بطبيعتها كيان عنصري يقوم أساسا على فكرة سياسية/ دينية ، ويتخذ من التفسير المغلوط لآيات التوراة المزوّرة منطلقا لتنفيذ مشروعه الاستيطاني ، ومن ثمّ ، فإن كل أطروحاته السياسية دينية حتما !! فكيف تستقيم إدارة صراع بين طرفين : أحدهما يتبرأ من دينه وأحدهما يتشبث بدين تم تزويره ؟ هذا الموقف العجيب هو الذي نقطف ثماره الآن ونرى نتائجه التي بلغت مداها في أنابوليس في نوفمبر2007 حين تم أخذ ( بصمة ) كل النظم العربية على أن إسرائيل ( دولة عبرية ) فبهذه الوثيقة أحرقت الدبلوماسية العربية كل أمل لفلسطينيي48 وللاجئين في الحياة داخل الكيان الصهيوني .
هذا عن بلادنا العربية ذات الأغلبية المسلمة ، أما على المستوى الإنساني بعامة ، فيعرَّف الدين أحيانا بأنه " مجموعة من العقائد والعبادات التي يمارسها الأفراد بعد أن يقتنع بها العقل ويؤمن بها القلب ويطمئن إليها الضمير،وهو ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية التي لا تغني عنها الأفكار والعقلية أو المذاهب الوضعية".
وينظر إليه أيضا على أنه " نظام فكري وشعوري وعملي مشترك بين مجموعة من الأفراد ، يعطي الأعضاء نوعاً من الولاء كما أنه يشكل رمزاً لسلوك الأفراد على أساسه يقيمون النتائج الشخصية والاجتماعية لأعمالهم "
ومع هذه التعريفات "العلمانية" يتضح أنه لا غني عن الدين لأي مجتمع كان ، فالإنسان بطبيعة الحال يركن إلى الدين ويميل إليه ونجد أن الحضارات الإنسانية المختلفة كان الدين محوراً أساسياً لها وبعض المجتمعات اعتبرته طريقة حياة، فالدين أحد أهم الدعامات الأساسية في بناء ونشأة واستقرار الحضارة الإنسانية في ظل ما يقوم به من دور رئيسي في صياغة حياة الإنسان وسلوكياته ومعاملاته .
وقضية الدين واحدة من أهم القضايا في المجتمع الأمريكي عبر مختلف مراحل تطوره وبرغم أن الدساتير الأمريكية المتعارضة تؤكد مبدأ العلمانية والفصل بين الدين والدولة ، فإن الدين كان – وما يزال- يمثل عنصراً أساسياً من عناصر المجتمع الأمريكي ، والمحورية الكبيرة للدين في المجتمع الأمريكي ترجع إلى البدايات الأولى لتكوين المجتمع ، فأصل المجتمع الأمريكي يعود إلي تلك المستعمرات التي أسسها البيوريتان" الفارُّون من الاضطهاد الديني في أوروبا الغربية ، حتى يعبدوا الله على طريقتهم الخاصة في الدنيا الجديدة التي طالما حلموا بها.
وحاولوا في هذه الأراضي الجديدة التي وضعوا نظام الحكم فيها تحقيق المثل العليا ، والتأكيد على مبادئ التسامح والحرية التي حرموا منها ، وهي التي كانت سبباً في هجرتهم ، ولكن هذه الرغبة لم تمنع هذا المجتمع الجديد من ممارسة درجات من الاضطهاد الديني والسياسي ضد المذاهب والطوائف الأخرى ، الأمر الذي حال دون تحقيق الاندماج بين مختلف الولايات والأقليات داخل المجتمع الأمريكي في الكثير من المراحل التاريخية التي مر بها ، وقد قاد هذا التعصب الديني إلى نمو التعدد في القيم والثقافات وأنماط السلوك من ناحية ، وإلى تبني العلمانية في الدستور الأمريكي من ناحية أخرى ، حيث رأي واضعو الدستور أن العلمانية ضرورة يمليها هذا التعدد لمنع اضطهاد الأغلبية الدينية للجماعات والأقليات التي تختلف عنها في المعتقد أو المذهب الديني.
وعن الاتجاهات الدينية الحديثة المتطرفة في الولايات المتحدة يتحدث غسان غصن (شؤون الأوسط – ع 118 – ربيع 2005 ) فيقول إن " هناك جماعات توظف الدين لخدمة السياسة ، بمعني تسييس الدين ، أكثرها شهرة جماعة ( التدبيريين ) التي يتزعمها اللاهوتي الأنجلو/ ايرلندي جون نيلسون واربي ، الذي يذهب في تفسيراته الحرفية للكتاب المقدس إلى وضع ترتيب زمني مفصل لنهاية العالم الوشيكة مروراً بعودة اليهود إلى فلسطين ، والمجئ الثاني للمسيح. ثم مجموعة (إعادة البناء ) أو الإعاديين Reconstructionists وهم يبنون إيمانهم بعودة المسيح على أساس الفعالية السياسية ، بمعنى أن المجئ الثاني للمسيح لن يحدث قبل أن يهيئ العالم مكانا له ، وهم يرون أن الخطوة الأولى لتهيئة العودة هي ( مسحنة ) الولايات المتحدة ومن بعدها ( مسحنة ) العالم كله ، حيث يقول [ جورد جانت ] احد أكبر منظريهم "إن النية الرئيسية للسياسات المسيحية هي ضمان الغلَبَة على الأرض – على الرجال والأسر والمؤسسات والبيروقراطيات والمحاكم والحكومات –لملكوت المسيح"
في حين يرى الأمريكيون المناهضون لهذه المبادئ أن هذه الحركة تمثل أكبر خطر على قضية الفصل بين الدين والدولة لأن منظمات هذه الحملة اللاهوتية– الإيديولوجية الشرسة وقياداتها ، تعمل جاهدة في سعيها لفرض الآراء المسيحية الأصولية ، بإجراءات حُكْمية [تشريعية وقضائية] على جميع الأمريكيين ، وتالياً على قطاعات كبيرة في العالم ، فتحقيق السيادة المسيحية يتطلب إلغاء الفصل الدستوري بين الدين والدولة ، والاستعاضة عن النظام الديمقراطي ، بحكومة ربانية ثيوقراطية تحكم بالقانوني التوراتي ، وإنهاء جميع البرامج الاجتماعية الحكومية لكي تتولي الكنائس هذه الرعاية. يقول جرانت في عرض مبادئه " إن فتح العالم هو ما كلفنا المسيح بإنجازه، علينا اكتساب العالم بقوة الإنجيل، وعلينا ألا نقبل أي شييء أقل من ذلك، إذْ عندما يتم الفتح الشامل يمكن للمسيح أن يعود".
ويربط مخلد عبيد (مجلة النهضة – ع 21 – أكتوبر 2004) بين كل من دعاة الصهيونية اليهودية، والمسيحية أو ما يسمى بالمسيحية الصهيونية من حيث فكرة "المشيمانية " أي عودة المسيح حيث إن كلا منهما يركز على عودة المسيح وقد أخذ ت الصيهونية المسيحية هذه الفكرة لتربطها بالصهيونية اليهودية بدعوى أن هجرة اليهود إلى فلسطين ، وإقامة إسرائيل الكبرى ، سيكون مقدمة لمجئ المسيح وتتفق الاثنتان أيضا على استخدام القوة كأسلوب لإنجاز المشروع الصهيوني ، وإقامة إسرائيل بل إن كلا منهما لها نفس التجربة في إقامة كيانها السياسي ، حيث قام الكيان السياسي للولايات المتحدة على استخدام العنف بحق المواطنين الأصليين : "الهنود الحمر" كذلك قام الكيان الإسرائيلي على استخدام العنف بحق المواطنين العرب.
وبعيداً عن الصهيونية المسيحية وما تحمله من أهمية كبرى بالنسبة لبقاء الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي ، نعود إلى تأثير الدين في السياسة الأمريكية وتنتقل إلى السياسة الخارجية ، ونستشهد هنا بما كتبه الباحث خليل العناني ( السياسة الدولة – ع 166 – أكتوبر 2006) الذي أكد أن البروتستانتية الأمريكية كان لها الدور الأكبر في التأثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة ، ولا يُقصد بالبروتستانتية فصيل أو تيار واحد وإنما بتياراتها الثلاثة الرئيسية: التيار البروتستانتي الأصولي ، والتيار الليبرالي المسيحي ، والتيار الإنجيلي .
ولكل تيار من هذه التيارات رؤية مختلفة حول كيفية تعاطي واشنطن مع العالم الخارجي ، وتنحصر الاختلافات الأساسية بينها – فقط - فيما يتعلق بالأدوات اللازمة لصنع السلام والاستقرار في العالم ، فنجد أن الأصولية البروتستانتية ترى أنه من الضروري أن تسير السياسة الخارجية الأمريكية على نهج الانعزالية وعدم الاهتمام بالنظام العالمي ، في حين أن التيار الليبرالي المسيحي يبدو أكثر حرية وانفتاحا على العالم ، ولكنه لا يلقي قبولا كثيراً لميله إلى العلمانية ، أما التيار الثالث وهو التيار الإنجيلي فهو الأكثر قبولا وتأثيراً في المجتمع الأمريكي حيث تعتنقه أغلبية أمريكية وهم – على عكس الأصوليين – يرون إمكانية أكبر لإحداث تغيير في العالم بفضل السياسات الأمريكية ، ويبدو أن التيار الإنجيلي هو الأكثر تأثيراً في قرارات الإدارة الأمريكية مؤخراً ويمكن قياس ذلك من خلال محورين أساسيين:
الأول: تأثيرهم في سياسات حقوق الإنسان – التي تحتل أهمية مطلقة في أولوياتهم – حيث قامت الإدارة الأمريكية عام 2006برفع المساعدات المقدمة للقارة الأفريقية بنحو 67% ، تتضمن 15مليار دولار فقط لمكافحة مرض الإيدز ، كما احتلت قضايا الأطفال والنساء اهتمامات كبيرة في سلم أولويات إدارة بوش كما اهتمت أيضا بمسألة الحريات حول العالم .
الثاني: اهتمامهم بإسرائيل حيث زاد الدعم الأمريكي المقدم إليها خلال إدارة بوش الابن أكثر من أي إدارة أخرى وأصبح دعما مطلقا ، وينبع جزء كبير من هذا الدعم من الإيمان الإنجيلي بنبوءة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين من أجل عودة المسيح إلى الأرض ، وتخليص الأرض من الشرور ، وبالتالي فإن دعم إسرائيل هو واجب ديني مقدس يجب الالتزام به والعمل على تذليل العقبات التي تحول دون ذلك.
ويرى المحلل السياسي عصام عبدالشافي (السياسة الدولية – 153 – يوليو 2003) أن الدين يمثل أحد أضلاع المثلث الذي يحكم المصالح القومية الأمريكية العليا التي من خلالها تتحدد السياسة الخارجية لها ، بالإضافة إلى الثروة والقوة ، فتحالف رجال السياسة ورجال المال ورجال الدين في أمريكا ، رسم الخلفية الفكرية الحاسمة للمصلحة القومية العليا للولايات المتحدة ، فقراءة الكثير من النصوص الواردة على لسان صانعي القرار في الولايات المتحدة ، تعكس الرغبة في الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والدينية على العالم فالمشروع الأمريكي يقوم في أساسه على جذب كل سكان الأرض إلى مجتمع يحقق بالتسامح ثم بالقوة – إذا اقتضى الأمر – صورة مثالية للحياة على كوكب الأرض !!
وتقوم ملامح الرؤية الفكرية الحاكمة الأمريكية فيما يتعلق بالعالم على السيادة الأمريكية على العالم في كل المجالات وتحقيق المصلحة القومية الأمريكية بكل الوسائل وأن النموذج الأمريكي هو النموذج الذي يجب أن يحتذى.
وفي إطار هذه الاعتبارات جاءت إدارة بوش لتعبر عن اليمين السياسي بسياسته الاقتصادية والضرائبية والاجتماعية المتشددة وكذلك اليمين الديني بؤاه المتطرفة القائمة على الخير والشر والالتزام بتحقيق الإرادة الإلهية في تنقية أمريكا والعالم من الشر وتصريحات بوش الابن مليئة بهذه المعاني فهو الذي أعلن أثناء الانتخابات عام 2000 أن فيلسوفه السياسي المفضل هو يسوع المسيح وهو عقب أحداث 11 سبتمبر يقول: " من ليس معنا فهو مع الإرهابيين" ويتحدث دائما عن "محور الشر" والحروب الصليبية".
وبعد هذا كله : نجد كائنات حية من أمثال العلمانيين العرب يجعجعون بمقولة الرئيس ( المؤمن ) إياها !!!حتى أصبح الواقع العربي ترابا : فلا الساسة تجد أسانيد للتفاوض ، ولا دين يجد مناخا لتفعيل نصوصه بعدما فرّغوا كل النصوص من محتواها بدعاوى التجديد !! فاليوم : لا دين في الدين ، ولا سياسة في السياسة ، ولا شنبو في المصيدة !!!
www.facebook.com
هل كان ذلك تقربا من الإخوان المسلمين ؟
هل كان ذلك رسالة للغرب المسيحي الذي كان في حالة حرب باردة مع الشرق اللاديني ؟
لا أستطيع أن أجزم بأي دافع حقيقي كان وراء ذلك اللقب الذي بدا غريبا ومريبا ، وبخاصة بعدما تم تغيير اسم الدولة من الجمهورية العربية المتحدة إلى جمهورية مصر العربية وأضيف إلى اسمها لقب جديد غريب مريب أيضا هو ( دولة العلم والإيمان !! ) وقد تم في عهد الرئيس المؤمن إنجازات علمية وإيمانية لا مثيل لها في تاريخ مصر ، قد نعود إليها في مقالات قادمة . على أن أغرب وأخطر مقولات ( المؤمن ) كان ذلك الشعار الذي أخذه من البروتستانتية الغربية وسدّده – بقوة –إلى صدور الجميع ، وفي وجوه الجميع [لا سياسة في الدين ، ولا دين في السياسة ] وهو ما يتناقض جذريا مع لقبه الخاص (الرئيس المؤمن ) ولقب ( دولة العلم والإيمان !! )
ومنذ رُفع هذا الشعار في مصر والدول العربية ، تنفست إسرائيل الصعداء ، لأنها بطبيعتها كيان عنصري يقوم أساسا على فكرة سياسية/ دينية ، ويتخذ من التفسير المغلوط لآيات التوراة المزوّرة منطلقا لتنفيذ مشروعه الاستيطاني ، ومن ثمّ ، فإن كل أطروحاته السياسية دينية حتما !! فكيف تستقيم إدارة صراع بين طرفين : أحدهما يتبرأ من دينه وأحدهما يتشبث بدين تم تزويره ؟ هذا الموقف العجيب هو الذي نقطف ثماره الآن ونرى نتائجه التي بلغت مداها في أنابوليس في نوفمبر2007 حين تم أخذ ( بصمة ) كل النظم العربية على أن إسرائيل ( دولة عبرية ) فبهذه الوثيقة أحرقت الدبلوماسية العربية كل أمل لفلسطينيي48 وللاجئين في الحياة داخل الكيان الصهيوني .
هذا عن بلادنا العربية ذات الأغلبية المسلمة ، أما على المستوى الإنساني بعامة ، فيعرَّف الدين أحيانا بأنه " مجموعة من العقائد والعبادات التي يمارسها الأفراد بعد أن يقتنع بها العقل ويؤمن بها القلب ويطمئن إليها الضمير،وهو ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية التي لا تغني عنها الأفكار والعقلية أو المذاهب الوضعية".
وينظر إليه أيضا على أنه " نظام فكري وشعوري وعملي مشترك بين مجموعة من الأفراد ، يعطي الأعضاء نوعاً من الولاء كما أنه يشكل رمزاً لسلوك الأفراد على أساسه يقيمون النتائج الشخصية والاجتماعية لأعمالهم "
ومع هذه التعريفات "العلمانية" يتضح أنه لا غني عن الدين لأي مجتمع كان ، فالإنسان بطبيعة الحال يركن إلى الدين ويميل إليه ونجد أن الحضارات الإنسانية المختلفة كان الدين محوراً أساسياً لها وبعض المجتمعات اعتبرته طريقة حياة، فالدين أحد أهم الدعامات الأساسية في بناء ونشأة واستقرار الحضارة الإنسانية في ظل ما يقوم به من دور رئيسي في صياغة حياة الإنسان وسلوكياته ومعاملاته .
وقضية الدين واحدة من أهم القضايا في المجتمع الأمريكي عبر مختلف مراحل تطوره وبرغم أن الدساتير الأمريكية المتعارضة تؤكد مبدأ العلمانية والفصل بين الدين والدولة ، فإن الدين كان – وما يزال- يمثل عنصراً أساسياً من عناصر المجتمع الأمريكي ، والمحورية الكبيرة للدين في المجتمع الأمريكي ترجع إلى البدايات الأولى لتكوين المجتمع ، فأصل المجتمع الأمريكي يعود إلي تلك المستعمرات التي أسسها البيوريتان" الفارُّون من الاضطهاد الديني في أوروبا الغربية ، حتى يعبدوا الله على طريقتهم الخاصة في الدنيا الجديدة التي طالما حلموا بها.
وحاولوا في هذه الأراضي الجديدة التي وضعوا نظام الحكم فيها تحقيق المثل العليا ، والتأكيد على مبادئ التسامح والحرية التي حرموا منها ، وهي التي كانت سبباً في هجرتهم ، ولكن هذه الرغبة لم تمنع هذا المجتمع الجديد من ممارسة درجات من الاضطهاد الديني والسياسي ضد المذاهب والطوائف الأخرى ، الأمر الذي حال دون تحقيق الاندماج بين مختلف الولايات والأقليات داخل المجتمع الأمريكي في الكثير من المراحل التاريخية التي مر بها ، وقد قاد هذا التعصب الديني إلى نمو التعدد في القيم والثقافات وأنماط السلوك من ناحية ، وإلى تبني العلمانية في الدستور الأمريكي من ناحية أخرى ، حيث رأي واضعو الدستور أن العلمانية ضرورة يمليها هذا التعدد لمنع اضطهاد الأغلبية الدينية للجماعات والأقليات التي تختلف عنها في المعتقد أو المذهب الديني.
وعن الاتجاهات الدينية الحديثة المتطرفة في الولايات المتحدة يتحدث غسان غصن (شؤون الأوسط – ع 118 – ربيع 2005 ) فيقول إن " هناك جماعات توظف الدين لخدمة السياسة ، بمعني تسييس الدين ، أكثرها شهرة جماعة ( التدبيريين ) التي يتزعمها اللاهوتي الأنجلو/ ايرلندي جون نيلسون واربي ، الذي يذهب في تفسيراته الحرفية للكتاب المقدس إلى وضع ترتيب زمني مفصل لنهاية العالم الوشيكة مروراً بعودة اليهود إلى فلسطين ، والمجئ الثاني للمسيح. ثم مجموعة (إعادة البناء ) أو الإعاديين Reconstructionists وهم يبنون إيمانهم بعودة المسيح على أساس الفعالية السياسية ، بمعنى أن المجئ الثاني للمسيح لن يحدث قبل أن يهيئ العالم مكانا له ، وهم يرون أن الخطوة الأولى لتهيئة العودة هي ( مسحنة ) الولايات المتحدة ومن بعدها ( مسحنة ) العالم كله ، حيث يقول [ جورد جانت ] احد أكبر منظريهم "إن النية الرئيسية للسياسات المسيحية هي ضمان الغلَبَة على الأرض – على الرجال والأسر والمؤسسات والبيروقراطيات والمحاكم والحكومات –لملكوت المسيح"
في حين يرى الأمريكيون المناهضون لهذه المبادئ أن هذه الحركة تمثل أكبر خطر على قضية الفصل بين الدين والدولة لأن منظمات هذه الحملة اللاهوتية– الإيديولوجية الشرسة وقياداتها ، تعمل جاهدة في سعيها لفرض الآراء المسيحية الأصولية ، بإجراءات حُكْمية [تشريعية وقضائية] على جميع الأمريكيين ، وتالياً على قطاعات كبيرة في العالم ، فتحقيق السيادة المسيحية يتطلب إلغاء الفصل الدستوري بين الدين والدولة ، والاستعاضة عن النظام الديمقراطي ، بحكومة ربانية ثيوقراطية تحكم بالقانوني التوراتي ، وإنهاء جميع البرامج الاجتماعية الحكومية لكي تتولي الكنائس هذه الرعاية. يقول جرانت في عرض مبادئه " إن فتح العالم هو ما كلفنا المسيح بإنجازه، علينا اكتساب العالم بقوة الإنجيل، وعلينا ألا نقبل أي شييء أقل من ذلك، إذْ عندما يتم الفتح الشامل يمكن للمسيح أن يعود".
ويربط مخلد عبيد (مجلة النهضة – ع 21 – أكتوبر 2004) بين كل من دعاة الصهيونية اليهودية، والمسيحية أو ما يسمى بالمسيحية الصهيونية من حيث فكرة "المشيمانية " أي عودة المسيح حيث إن كلا منهما يركز على عودة المسيح وقد أخذ ت الصيهونية المسيحية هذه الفكرة لتربطها بالصهيونية اليهودية بدعوى أن هجرة اليهود إلى فلسطين ، وإقامة إسرائيل الكبرى ، سيكون مقدمة لمجئ المسيح وتتفق الاثنتان أيضا على استخدام القوة كأسلوب لإنجاز المشروع الصهيوني ، وإقامة إسرائيل بل إن كلا منهما لها نفس التجربة في إقامة كيانها السياسي ، حيث قام الكيان السياسي للولايات المتحدة على استخدام العنف بحق المواطنين الأصليين : "الهنود الحمر" كذلك قام الكيان الإسرائيلي على استخدام العنف بحق المواطنين العرب.
وبعيداً عن الصهيونية المسيحية وما تحمله من أهمية كبرى بالنسبة لبقاء الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي ، نعود إلى تأثير الدين في السياسة الأمريكية وتنتقل إلى السياسة الخارجية ، ونستشهد هنا بما كتبه الباحث خليل العناني ( السياسة الدولة – ع 166 – أكتوبر 2006) الذي أكد أن البروتستانتية الأمريكية كان لها الدور الأكبر في التأثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة ، ولا يُقصد بالبروتستانتية فصيل أو تيار واحد وإنما بتياراتها الثلاثة الرئيسية: التيار البروتستانتي الأصولي ، والتيار الليبرالي المسيحي ، والتيار الإنجيلي .
ولكل تيار من هذه التيارات رؤية مختلفة حول كيفية تعاطي واشنطن مع العالم الخارجي ، وتنحصر الاختلافات الأساسية بينها – فقط - فيما يتعلق بالأدوات اللازمة لصنع السلام والاستقرار في العالم ، فنجد أن الأصولية البروتستانتية ترى أنه من الضروري أن تسير السياسة الخارجية الأمريكية على نهج الانعزالية وعدم الاهتمام بالنظام العالمي ، في حين أن التيار الليبرالي المسيحي يبدو أكثر حرية وانفتاحا على العالم ، ولكنه لا يلقي قبولا كثيراً لميله إلى العلمانية ، أما التيار الثالث وهو التيار الإنجيلي فهو الأكثر قبولا وتأثيراً في المجتمع الأمريكي حيث تعتنقه أغلبية أمريكية وهم – على عكس الأصوليين – يرون إمكانية أكبر لإحداث تغيير في العالم بفضل السياسات الأمريكية ، ويبدو أن التيار الإنجيلي هو الأكثر تأثيراً في قرارات الإدارة الأمريكية مؤخراً ويمكن قياس ذلك من خلال محورين أساسيين:
الأول: تأثيرهم في سياسات حقوق الإنسان – التي تحتل أهمية مطلقة في أولوياتهم – حيث قامت الإدارة الأمريكية عام 2006برفع المساعدات المقدمة للقارة الأفريقية بنحو 67% ، تتضمن 15مليار دولار فقط لمكافحة مرض الإيدز ، كما احتلت قضايا الأطفال والنساء اهتمامات كبيرة في سلم أولويات إدارة بوش كما اهتمت أيضا بمسألة الحريات حول العالم .
الثاني: اهتمامهم بإسرائيل حيث زاد الدعم الأمريكي المقدم إليها خلال إدارة بوش الابن أكثر من أي إدارة أخرى وأصبح دعما مطلقا ، وينبع جزء كبير من هذا الدعم من الإيمان الإنجيلي بنبوءة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين من أجل عودة المسيح إلى الأرض ، وتخليص الأرض من الشرور ، وبالتالي فإن دعم إسرائيل هو واجب ديني مقدس يجب الالتزام به والعمل على تذليل العقبات التي تحول دون ذلك.
ويرى المحلل السياسي عصام عبدالشافي (السياسة الدولية – 153 – يوليو 2003) أن الدين يمثل أحد أضلاع المثلث الذي يحكم المصالح القومية الأمريكية العليا التي من خلالها تتحدد السياسة الخارجية لها ، بالإضافة إلى الثروة والقوة ، فتحالف رجال السياسة ورجال المال ورجال الدين في أمريكا ، رسم الخلفية الفكرية الحاسمة للمصلحة القومية العليا للولايات المتحدة ، فقراءة الكثير من النصوص الواردة على لسان صانعي القرار في الولايات المتحدة ، تعكس الرغبة في الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والدينية على العالم فالمشروع الأمريكي يقوم في أساسه على جذب كل سكان الأرض إلى مجتمع يحقق بالتسامح ثم بالقوة – إذا اقتضى الأمر – صورة مثالية للحياة على كوكب الأرض !!
وتقوم ملامح الرؤية الفكرية الحاكمة الأمريكية فيما يتعلق بالعالم على السيادة الأمريكية على العالم في كل المجالات وتحقيق المصلحة القومية الأمريكية بكل الوسائل وأن النموذج الأمريكي هو النموذج الذي يجب أن يحتذى.
وفي إطار هذه الاعتبارات جاءت إدارة بوش لتعبر عن اليمين السياسي بسياسته الاقتصادية والضرائبية والاجتماعية المتشددة وكذلك اليمين الديني بؤاه المتطرفة القائمة على الخير والشر والالتزام بتحقيق الإرادة الإلهية في تنقية أمريكا والعالم من الشر وتصريحات بوش الابن مليئة بهذه المعاني فهو الذي أعلن أثناء الانتخابات عام 2000 أن فيلسوفه السياسي المفضل هو يسوع المسيح وهو عقب أحداث 11 سبتمبر يقول: " من ليس معنا فهو مع الإرهابيين" ويتحدث دائما عن "محور الشر" والحروب الصليبية".
وبعد هذا كله : نجد كائنات حية من أمثال العلمانيين العرب يجعجعون بمقولة الرئيس ( المؤمن ) إياها !!!حتى أصبح الواقع العربي ترابا : فلا الساسة تجد أسانيد للتفاوض ، ولا دين يجد مناخا لتفعيل نصوصه بعدما فرّغوا كل النصوص من محتواها بدعاوى التجديد !! فاليوم : لا دين في الدين ، ولا سياسة في السياسة ، ولا شنبو في المصيدة !!!
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.