إلهام بيدبا - قراءتي للمجموعة القصصية القصيرة جدا: " الطيور لا تنظر خلفها حين تحلق" للأديب عبد الرحيم التدلاوي

" الطيور لا تنظر خلفها حين تحلق" للأديب عبد الرحيم التدلاوي
عدد الصفحات: 64
البعد الإنساني في المجموعة القصصية :
تحيلنا عتبة النص الاولى، بتركيب الجملة الإسمية وخبرٍ جملةفعلية، الدالة على الحدوث والتجدد ضمن نسق الاستمرارية بقوة القرينة، على مشهد تحليق الطيور وانعتاقها نحو الآفاق برؤى دقيقة قادرة على التقاط كل الصور بطاقة كبيرة يستحيل معها الانجذاب للوراء..تمشيا مع الخصائص السلوكية للطيور فإننا نجد الطيران من ابرز سلوكياتها الفطرية المميزة لها، بغرض البحث عن الطعام و الهروب من الحيوانات التي تحاول افتراسها. وأجنحتها وسيلتها للمناورات في الفضاء وكذا حاسة بصرها الأكثر حدة من تلك التي يمتلكها الإنسان. ولذلك تتفوق عليه في رؤية الوان الحياة مبعث سعادتها وتغنيها.. وضع يستحيل معه النظر للخلف او التراجع وذلك ما تجسده صورة الغلاف. بلاغة الانزياح بمفارقة جلية إلى مشهد الطيور ،تقدم النموذج من خلال القصة التي تحمل نفس العنوان ص .." عب هواء الحياة جيدا، ثم أرسله صداحا إلى ان تكسر الزجاج.. حلق فرحا في الفضاء الرحب.. يتبعه سرب طيور..."..طاقة من الإقدام للانعتاق بشحنة تعبئها الإرادة والجموح دون تقهقر.. ولم لا يتقمص الإنسان هذا الدور في الحياة ويكسر كل الحجب المعيقة للتحليق، بنفس يملؤها هواء الإرادة والتصدي والرفض من اجل التغيير إلى الافضل، إذ لا انحسار ولا انكسار...
من دلالة تلك العتبة النصية نخلص إلى أن جل عناوين المجموعة استظلت بظلال الواقع الإنساني الاجتماعي واحيانا السياسي بكل ما تحمله من مشاعر إنسانية وأبعاد حياتية تجسد تمظهراتنا في الحياة.. بعد إنساني رامه الكاتب بصدق وإبداع متفرد، وتمناه متحققا على الارض كما هو في الفضاء بأجنحة الطيور..رؤى - تكرار فعل رأيت على مدار المتن- وتجارب إنسانية موسومة بالدونية والإسفاف.. قصص بدلالات مكثفة منفتحة على التناص في إحالته على نصوص غائبة في لغة موحية رمزية منزاحة كثيفة مكثفة، بإيقاع يبني من أسطر قليلة دلالات تضيق عنها الصفحات إذا بحثنا لها عن تفصيلات. ويفتح التناص باتساعه في هذه النصوص المكثفة فضاء رحبا لا حدود له منفتحا على نصوص من القرآن أو الشعر .... وهي قصص كفيلة بالإبحار في العمق الإنساني ونقل المعاناة من الواقع إلى أعماق الذات من خلال رؤى متقاطعة مع تفاصيل الواقع المعيش.. يتصدر المجموعة عنوان يحيلنا على عالم الطيور السعيد" مسرور" :
رفعت هامتي عاليا....
رأيت فيما يرى الإنسان العربي صاحيا ونائما، رأسي تتدحرج بين.. قدمي مسرور.. " لكنه بحمولة دلالية مشحونة بمعاني القسوة التي يعيشها الإنسان العربي بآلة من سرتهم وانحازت لهم الحياة.. نفس متشظية متناثرة تعكسها مرآة باقنعة لا محدودة" تناثر " ص4. قهر وتسلط استدعى حلما ربيعيا مبشرا بعهد جديد لم يأت بشيء غير حياة اسقطت كل القيم الإنسانية" بين عهدين" ص5 وتكريس سياسة التدجين " إعادة تركيب" ص6:
رأيت، فطمسوا عيني!
تكلمت فقطعوا لساني!
كتبت، فبتروا يدي!
ثم وضعوني في تابوت، وارسلوني إلى امي مصحوبا بعبارة:
المرجو إعادة التركيب. "
إعادة تركيب على مقاس من يملكون مفاصل الحياة، ويسعون الى صنع قطعان من البشر وبتفنن في تقليم أظافره وتكريس سياسة الصم البكم.ومن المآسي- والتي وجه الكاتب سهمه الحاد غير متحيز لجنسه ولا لذكورة المجتمع- صراع المرأة مع المفاهيم المجتمعية التي لا زالت ترتهنها داخل قوقعة اللاأنسة، ومعاناة التمزق والانفصام بين الرضى عن الذات وأفول الامل ،في واقع ظلت فيه مهووسة يسكنها ويلاحقها فيه جرح الفضيحة الذي لا يتوقف نزيفه " تداع" ص 27:" أمسكت بي المرأة وقالت :
ماذا دهاك، أتريد أن تفضحني؟!!!.. هي مجرد دمية تشترى لمتعة آنية تسترخص الروح الإنسانية وحقها في شروط بناء الكيان الإنساني" دمية " ص 28..حالة من الضياع انزاح بها الكاتب عبر مخيلته إلى قصص" ألف ليلة وليلة" تجسيدا للهم الازلي الذي القي على عاتق شهرزاد مخلصة النساء من بطش شهريار" في دوامة من الحيرة والرعب" الدائرة المغلقة"، والأميةوالجهل واغتصاب الإرادة الحقيقية في تحديد ملامح كينونة حقيقية، تتجاوز صورة الانثى النمطية تلبية لرغبات شهوانية تكرس مفهوم" قانون الغاب" اغتصاب" ص 45"..ألم يغزو الذات بكل أصناف الأسلحة الفتاكة الكفيلة بتحطيم كل بروج النفس السليمة بيد ليل لفه سواد عتمة الشتاء " تحطم" ص 60، .. واقع تعتلي أنثاه كل صروح الخيبة والقسر والقهر والغصب " ثلاثية الدخلة" ص 61 و "تساؤل" 62: " زفت إليه تحت أنظار ابن الجيران الجاحظة... دخل بها، ثم خرج منتفخا مرفوع الهامة.. ورماهم بلباس الطهر ملقما إياهم الصمت.. أصبح ابن الجيران حردا.. ". اما " لوحة" ص 57 فهي تشكيل ببصمة انثوية صارخة بين الحلم والواقع المر الذي ينسف كل طموح جميل في حياتها... مجتمع لا زال مشبعا بقيم ترتكن معها المرأة بين أنياب الجهل و الظلم " عراف" ص 39 الممارس عليها نفسيا وجسديا، والذي يحيلها شظايا إنسان لم تلتئم صورته السوية عبر مرآة بوجهين متناقضين. ولذا لا بد من استعارة أجنحة الطيور والتحليق ورفض كل أشكال الانصياع والخضوع " انحناء" ص 25، ورفض الجري وراء القطيع "منازل" ص 19.. إنسان بكينونة مكتملة وإنسانية تجسد العزيمة الفولاذية في تغيير سواد المعيش الذي لا يفرقه في الكثير من الاحيان عن مجتمع الحيوانات شيء كما يبدو في " صدمة" ص 53: جذب الطفل من يده بقوة الرغبة، إلى حيث الخلاء، ففزعت العصافير، واصفر النبات، واصيب الذئب بالذهول" فزع واصفرار وذهول صفات اصلية في الانسان، لكنها نسفت وانعدمت وغاب معها حب الاستقرار الذي تحول إلى رغبة جامحة في المغادرة.. يقول في قصة" حلم، عصا، ويقطينة"ص56 متكئا على
التناص من القرآن س الانبياء آية 87: رفع سقف احلامه عاليا.. وجد صدر بلده ضيقا حرجا كانما يصعد في السماء.. ذهب إلى البحر مغاضبا.. شقه بعصا رغبته.. سار فيه سيرته الاولى..
بعد زمن،
عاد، يتفصد عرقا، وفوق ظهره يقطينة!". هروب من بيئة تناقضاتها صارخة تهان فيها الكفاءات بقوة السلطة التي تستغل من كسرتهم الحياة ولم يكملوا مسيرة التعليم..قصة" مساران" ص 15. بهذا الحس النقدي العالي والساخر في مواضع شتى يجول عبد الرحيم التدلاوي ببصره يلتقط صور النذالة والبشاعة واللاإنسانية التي تؤثث أمكنة الواقع الإنساني على امتداده " ربيع العطش" ص 48:" وهما يتابعان الاخبار، سأل الابن أباه باستغراب:
- لم انفصل الجنوب عن السودان؟
رد الاب ساخرا:
-لكي يصنع ربيع العطش بمصر!!.. . مجتمع اصبح فيه الإنسان عاجزا عن الاضطلاع بادواره التي جبل عليه " سؤال نازف"ص 8 :" ما اعظم ابي!
(رايته بيمناه يرفعني إلي الاعلى ثم يتلقفني بحضنه الذي يشعرني بالاطمئنان.. رأيته قادرا على رفع العالم بيسراه.. وإذا شاء.. سحقه في ثانية!..).صورة إنسانية تشظت عبر" أنا" الكاتب في الاندحار نحو الذات الممزقة بين صورتين متناقضتين : الاب بين الماضي والحاضر.. :
"ما بال ابي اليوم...
يقف مبحلقا خلف قضبان عجزه كنمر في اليوم العاشر، بعيون جريحة، يتابع الايدي الآثمة الجوعى تنهش لباسي،... "
سؤال وجودي وصور بليغة نافذة تحيل على إرادة مجروحة تنزف
وقلب ممزق مملوء أسى وحسرة..يقول في قصة "فهم" ص 33:" حيرته تناقضات الواقع.. أراد فهما.. أبحر في المطالعة.. ضاقت الغرفة وسدت الكتب منافذ الشمس.. لما هاف الاختناق.. قفز في ذاته.. وجد متسعا.. ". حياة كدح ومعاناة يمتص دمها ناهبوا الثروات البشرية المتسلطون على مواردها الحية بأقنعة تشبه فساد نواياهم" الشيخ والمريد" ص 12 القابضون على هوائها وشمسها ومائها" البئر المهجورة" ص 13...
من انصهار الواقع ومخيلة الكاتب الفذة انبثقت فكرة وشكل الانعتاق الذي يجب أن تشرئب له الأعناق.، إذ يستحيل ان يعيش الإنسان بصوت مخنوق وقيود يتراكم صدؤها فيستحيل فكها، قصة " تعددية" ص 59، تعبير رأي مستلب برقابة حكومية:" هيأت الحكومة كل الظروف لتمر المظاهرة في أحسن حال.... إلى أن انتهى العرض"، مشهد مسرحي اصابه المسخ والزيف.
اهزوجة الانتصار إذن ان نرفض الانتكاسة والرجوع القهقرى، وإلا كان العالم كمشهد غروب الشمس يتهاوى"لحن الغروب" ص 26....
ابعاد فنية جمالية:
استعارة مشهد الطيور كان مفارقة و علامة دلالية مهمة مختزلة مضمون النص القصصي ،محفزة القارئ للتفكر والتخيل عبر محاولة تفكيك دلالة تناص المتن المتكئ على النص القرآني" ناءت بحملها خزائنه" للشيخ والمريد ص 12، "(قال تعالى: إن مفاتحه لتنوء بالعصبة) ..... أو التراثي الادبي عامة:" زاد من وطأة حزنهم إناخة الصمت بكلكله عليهم" ( يقول ابوتمام:
إذا أناخ علي الدهر بكلكله//قراه وعزما مني الكرم)...... في لغة لم تخف جنوحها الشاعري التصويري، عبر الرمز وأنسنة الأفعال والإيماء والتلميح الذي يتطلب من القارئ تاملا ونبشا في ذاكرة مخزونه الثقافي.." فوق الرأس ترقد الباقة" حسرة ص 9،" استعطفت السحب أن تهطل المطر، لما امتلات فاضت بما في جوفها"، البئر المهجورة" ص 13......
مال القاص في مجموعته إلى توظيف الجمل الطويلة تارة:" جسد انحله الجوع كغصن تذروه الرياح، يجر بقايا عظام ويحمل على كتفيهما يشبه جمجمة جاحظة العينين يكاد صراخها يوقظ من في القبور." " المشهد الاول من قصة" سراب"" ص 21، يتخللها وصف وروابط استكمالا لكل عناصر المشهد. وكذا الجمل القصيرة " حرائق" ص 14 :" ارتفعت حرارة أحلامه...
شغل المروحية...
استعذب الهواء البارد... خلفه اشتعلت الحرائق! ...". افعال تغذي دينامية وحركية الحدث في الماضي او الحاضر، واكبتها انفعالات نفسية بين الاستفهام والتعجب وتحاور واشتقاق دلالي:"بسط لها رداءه، وتبسط في الكلام.. فزاد انبساطها.. " ،عراف ص 39..لكن مع القطع مع الاستمرارية فيه واستبداله للفظاعت والبشاعة..
ولعل لنسقية الحذف والإضمار الذي تحقق بشكل بارز مع استخدام علامة الترقيم الحذف(....) دلالة تحمِّل المتلقي مسؤولية ركوب سلم التأويلات والتخييلات، عبر مساحة تشكل دون شك مكونا أساسيا لربط التواصل بالقارئ، و دفعه إلى تحريك دورة عقله وذهنه وتأثيث بياض الصفحات..
خاصة مع حضور
القفلة التي تميل إلى الرمزية والمفاجأة والصدمة الإدهاشية والتأمل ، إذ وأنت منغمس في سير أحداث الشخوص يسمح لك منطقك بتوقع نهاية لن تستسلم لفهمك بقدرما ستجدها مستعصية عليه : " سال ماؤها يسقي الحقول ويشرب منه البشر والدواب.. في صباح اليوم التالي، كانت الحياة تعانق الموت !...
لا ارى أن حضورالسرد بضمير المتكلم مجرد صوت يختبئ الكاتب خلفه، بقدرما هو تجسيد لرؤيته المعبرة عن انتمائه الثقافي وموقفه الفكري المتجانس والمنصهر مع الواقع:"تداع" ص 27، " غرض" ص 36....
لا أدعي طبعا مقاربة المجموعة مقاربة شمولية متبصرة ممتدة ذكية، وإنما هي قراءة بسيطة- بمنظور شخصي في تحديد الرابط بين نصوص المتن، وهذا من مساوئ تأويل القارئ بالنسبة للكاتب-لما جادت به سطور بعض الومضات مناأفكار ودلالات على فهمي المتواضع.. إنما هي رحلة متعة إبداعية فنية وإبحار واستكشاف مزدوج يتيح للقارئ أولا: المشاركة في إعادة كتابة النص، وثانيا: التقاط كل إعاقات وسماجة ودمامة المجتمع التي تستحق التحدي والرفض عبر التحليق عاليا دون النظر إلى الخلف.
مجموعة قصصية قصيرة جدا تستحق الغوص ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...