محمد السلاموني - الحاجة إلى عقل جديد

من الملاحظ أن جميع الحلول المطروحة الآن على الساحة (الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية) ، تتعاطى مع المشكلات المختلفة وفقا للتعريفات القديمة الراسخة ، المتعلقة بـ (الإنسان ، الواقع ، الوطن ، التاريخ ، الدولة ، الدين ، الفن ، الأدب ... إلخ) - إذ تحولت إلى بدهيات ومسلمات..
فالمشكلات الإقتصادية - على سبيل المثال - لم يزل يتم تعريفها على مرجعية (الرأسمالية والإشتراكية) ، كمحاولة للإجابة عن سؤال : أيهما أكثر عدلا وإتساقا مع تعريف الإنسان ؟ ..
دعونا نتوقف قليلا هنا :
الجهود التى بذلتها البشرية فى محاولة تحقيق العدل - ارتكزت على السعى لتحقيق (العدل) كقيمة مجردة ، تطلب فى ذاتها - نظرا لأن التعريفات العديدة المتعلقة بالإنسان ، وعلى الرغم من اختلافها ، إلا أنها اتفقت على توق الإنسان الدائم إلى العدالة ، حتى أننا لا نبالغ إن قلنا بأنه توق غريزى ..
نعم ، الإنسان لا يرضى بالظلم والجور ... إلخ ، لكننا نلاحظ بأن هذا التعريف عام ومطلق ، وبقدر ما يشمل الإنسان قاطبة ، فإنما يتجاهل التنوع الهائل داخل النوع الإنسانى - أى أنه يتجاوز عن الإختلاف داخل النوع ويعتمد التشابه فقط ..
لذا ظهرت العلوم الإجتماعية والإنسانية ، كمحاولة للإمساك بالفوراق والإختلافات المجتمعية والإنسانية ...
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التى بذلها العلماء فى تلك المجالات ، إلا أنها (أى الجهود العلمية) لم تتحرر من النزعة الإيديولوجية - وهو ما يعرف الآن بـ (أزمة العلوم الإجتماعية والإنسانية) ، وكما نعرف فـ (مابعد الحداثة) وجهت جزءً كبيرا من نقدها للحداثة ، محاولة تفكيك (تلك العلوم) كإنتظامات تعسفية (غير مبررة) ...
سأقفز إلى ما أريد قوله مباشرة :
لم تزل المفاهيم المجردة تحتل حيزا لا بأس به فى الخطابات المختلفة ، حتى أن الأمر انتهى بـ (دولوز وغاتارى) إلى تعريف الفلسفة ومن ثم عمل الفيلسوف ، بأنه (صناعة المفاهيم) ..
تكمن المشكلة هنا فى أن التوجه (التقنى) صار هو كل شئ ، وعلى الرغم من كونه توجها تعميميا (متجاهلا للتنوع) ، إلا أنه يسود الآن ويجتاح العالم ، بقوة - تمثلا للنموذج الغربى - حتى أن كلمة (علم) إختُزِلَت فى التقنية ..
وغير خاف بالطبع أن هذا المنحى (ميتافيزيقى وضعانى) يجعل السر كله كامنا فى التقنية .. ولما كانت التقنية - كما ينتهى الفكر المعاصر - هى (النظام نفسه) ؛ هى مجموع الإجراءات القاعدية ، المنتجة للمعنى ، فقد تم إختزال العالم فى (النَّص) ، نعم ، العالم صار نصا هائلا ، مختزلا فى مجموعة من القواعد ؟!! ..
من هنا أمكن نقل الحلول المختلفة للمشكلات المختلفة من مجتمع لآخر ، دونما اعتبار للتنوع والإختلاف والتعدد الذى تنطوى عليه المجتمعات..
الأن لم يعد (الواقع) متماثلا داخل المجتمع الواحد ، ولم يعد التاريخ هو التاريخ (بألف لام التعريف) ، بل تمزق إلى تواريخ عديدة ، وكذلك الأمر مع الدين ، كما أن الذات تناثرت وتبعثرت ، وفقدت الأشياء جوهرها ، أما (الوطن) فقد تراجع زخمه الدلالى ولم يعد يعنى سوى إشباع الحاجات ، وهكذا ...
إزاء وضعية كتلك ، علينا أن نبحث عن (عقل آخر) ، يأتى بحلول جديدة مستوعبة لتلك التحولات ، ومقاومة لها فى آن ... مما يحتم علينا تغيير إستراتيجيتنا تجاه العالم ...


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...