نحن جيل محظوظ، وحسن الطالع، فنيا وإبداعيا على الأقل، هكذا أتصور، وحاسدا هؤلاء الذين سبقونا، وأدركوا الحقبة الليبرالية، المتقدمة في كل شيء، الفن، العمارة، التعليم، ثم مرحلة التوهج الثوري، ومكانة مصر الناصرية، بنجاحاتها الكبرى، وإخفاقاتها الكبرى.
أتذكر بأسى، عندما كانت أجهزة الراديو في كل مكان، البيوت، المقاهي، المحلات الكبرى، الورش الصغيرة، تنبعث منها أصوات قامات العصر، في «حديث السهرة»: طه حسين، العقاد، المؤرخ الشهير محمد شفيق غربال، وكثيرون غيرهم، أيضا الحوارات الشائقة مع نجوم هذا الزمان في كل المجالات، لعلعة أساطين دولة التلاوة، الشيخ محمد رفعت، مصطفى إسماعيل، المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد. المنشدون الكبار، محمد الفيومي، يوسف البهتيمي، محمد الطوخي، نصر الدين طوبار، سيد النقشبندي. أما ملوك الطرب، فحدث، بوثاقة وطمأنينة، أن الوطن العربي كان يهتز من المحيط إلى الخليج، على أصوات أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، محمد عبد المطلب، ليلى مراد، نجاة، ألخ. لم يكن هناك ما يجرح الأذن، أو يؤذيها. كانت هذه الحشود تصدح بجذل، وترتفع بفنها إلى عنان السماء، فالمنافسة غير هينة، عدد المتميزين بوضعهم الأسطوري غير قليل، الأنداد على قدر هائل من الموهبة والمهارة، إذا لم ترتفع إلى مستوى اللحظة تم سقوطك ونسيانك. لم يكن غريبا إذن هذا التألق، الذي يضفي بظلاله على الجميع.
النهضة التي شهدتها مصر في كافة المجالات وضعتها على قائمة اهتمامات المواطن العربي، وشكلت وجدان أجيال عديدة، من المشرق إلى المغرب، كانت تتطلع إلى نموذج ومثال.
كنت واحدا من هؤلاء الذين ولدوا في بداية الستينيات. تفتح وعيي على هذا الثراء المذهل في السينما والمسرح والفن والأدب. لا أستطيع نسيان المقدمة المذهلة الذي وضعها الموسيقار محمد عبد الوهاب لأغنية «إنت عمري» التي شدت بها أم كلثوم في بداية تعاونهما معا. كانت تتردد في كل مكان حينها، أذكر، هذا المدخل المشحون بالفخامة والخيلاء، والإيقاعات الرائعة، موسيقى لم تكن شائعة في الأغنيات السابقة لسيدة الغناء، كان ما حدث زلزالا فنيا، تم التحضير له جيدا.
محمد عبدالوهاب، الذي حارت البشرية في تحديد تاريخ مولده، وكأنه أحد الأسرار الكبرى، التي ينبغي عدم إفشاءها، متوقفين عند ثلاثة أعوام مختلفة دون حسم: 1901. 1902. 1910. وإن كان 1902 هو الأقرب للحقيقة حسب بعض المقربين منه وبعض الذين عملوا معه وهو صغير. كان ملء السمع والبصر، منذ بداياته حتى اللحظة الأخيرة لوفاته الدراماتيكية عندما انزلق فوق الأرض وهو يمارس هواية المشي داخل مسكنه، ليصاب برضوض عديدة وجلطة دماغية، ويفارق الحياة بعدها بأيام في 1991/5/3.
إنه لأمر نادر في التاريخ، أن يعمر المرء طويلا، وهو يحيا تحت أضواء المجد والشهرة والنجاح، مزدهرا، متألقا، يعلو نجمه يوما بعد يوم، عبر خط تصاعدي لا يعرف الانكسار، ويحوز على كل الألقاب الكبرى في عصره، الأستاذ. اللواء. الدكتور. موسيقار الأجيال. هذا الذي تبلورت موهبته في الربع الأول من القرن العشرين، تلك الحقبة الذهبية التي اختمرت فيها كل معالم النهضة الحديثة. تعلم العزف على آلة العود وتشرب الإتقان على أحد فقهاء الموسيقى العربية، العظيم محمد القصبجي، أحد الأفذاذ المقتدرين الذين يجيدون التعامل الساحر مع الآلة الرائعة، وهو الذي أحدث ثورة لحنية بأعماله القليلة الخالدة، «رق الحبيب» لأم كلثوم، و»ياطيور» لأسمهان، ومقطوعته التي لا تنسى «ذكرياتي».
كان محمد عبد الوهاب يؤمن بالثراء اللحني، والرشاقة، والبذخ أحيانا في التوزيع الموسيقي، معتقدا أن الموسيقى بلا زخارف كالمرأة الصلعاء. تجد في معظم أعماله سلاسة وانسجاما، وصيرورة إيجابية تؤكد احترامه للتجارب في جميع أنحاء العالم. إطلاعه الواسع على الموسيقى العالمية والكلاسيكيات الكبرى، جعلته من أكبر فناني العرب جنوحا وتمردا على القوالب القديمة، رغم النمط المحافظ الذي اتخذه لنفسه ولأسرته كمرجعية هامة في حياته….
عكس الصبية الصغار، تعدى اهتمامي، في عمر مبكر إلى الإلتفات إليه . كان الرجل مفرطا في دقته، متحكما في أدائه الصعب، ألاحظ ذلك وأنا أستمع إلى روائعه الخالدة «الجندول» و»كليوباترا» و»الكرنك» و»أعجبت بي». سيمفونيات صغيرة، ذات منحى صارم، تتجاوز التقاليد الغنائية المتوارثة. هناك أيضا الأدوار والمواويل والمنولوجات «من قد ايه كنا هنا» و»الليل لما خلي» و»مريت على بيت الحبايب» و»أحب اشوفك كل يوم» الخ. ما زلت، حتى هذه اللحظات، أدندن معه بعض المقاطع نشوانا ومستمتعا.
محمد عبد الوهاب، صاحب الطقوس الخاصة، والوسواس القهري في النظافة، المتشائم من فكرة المرض والموت، كان العامة يتندرون عليه بمحبة، فهم يعلمون عنه كل هذه الأشياء، يقولون إنه يغسل الصابونة بصابونة أخرى قبل أن يغسل يديه! وينصتون إلى لثغة السين عندما يحولها إلى ثاء وهو يقول – مثلا- ياثاتر يارب، بدلا من ياساتر يارب. تخرج منه محبوكة وهو يضع ساقا فوق أخرى، على نحو لافت للنظر.
إنه ربيب أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي علمه كيف يواجه المجتمع كشخصية مرموقة، هي الأولى بالعناية والتقدير، حتى صار يتقدم خطوة إلى الأمام مع كل نجاح، فهو شخصية لا تعرف التنازل مطلقا. لاحظ عدم وجود صورة فوتوغرافية عشوائية له. دائما أنيق، مهندم، منتبه للكاميرا حتى لو بدا متجاهلا هذا الأمر، وكأن اللقطة عفوية، يذكرني دائما بسعد باشا زغلول واحمد بك شوقي. وضعية تصوير لا مجال فيها للتواضع، ثمة اعتزاز واضح بالنفس، ومعرفة مقدارها بين الناس. لم لا، فهو صديق الملوك والرؤساء، الأشد مدعاة للاحترام، كان يستقبلهم في مسكنه، لا يذهب إلى القصور إلا نادرا، هم يطلبون زيارته، كشخصية أسطورية لا بد من رؤيتها والتحاور معها.
أى مهابة تلك، وأي تقدير لفكرة «الفن» تركها للأجيال القادمة بعده.
كنت أراه، في مبنى التلفزيون المصري عند حضوره اجتماعات مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون، كعضو مبجل فيه. أو لإجراء بروفات لأحد الأعمال. لكن اللحظة الفاصلة هي حضوري بروفات أغنية «من غير ليه» التي صاغ كلماتها الشاعر الغنائي الشهير مرسي جميل عزيز ليؤديها عبد الحليم حافظ. لحنها عبد الوهاب لعبد الحليم. وهناك تسجيل نادر له وهو يؤديها وهو مريض. وكان من المنتظر أن يغنيها فور عودته من رحلة علاجه بلندن، ولكن وافته المنية هناك في 30 اذار/مارس 1977 وعاد ليدفن في مصر، بعد رحلة عمر تراجيدية مع الألم والحزن والمجد والشهرة والثراء والمرض، كواحد من علامات الغناء العربي.
إدخر عبد الوهاب هذه الأغنية، محتفظا بتسجيل نقي لها بصوته، مصاحبا عوده، منكرا في الوقت ذاته وجود هذا اللحن أمام إلحاح معظم المطربين والمطربات، الذين أرادوا الفوز به، حتى حانت اللحظة التي قرر فيها إصدارها بصوته.
كنت هناك، فوجئت بصديق لي، مهندس السهرة المسؤول عن الصيانة الفنية والهندسية بالمبنى الشهير. قادم للتو من ستوديو 35 بالدور الثاني بالإذاعة، هذه القاعة الكبرى التي لعلعت داخلها معظم الأصوات العربية الشهيرة، بروفات وتسجيلا.
كانت فرصة لا تعوض. ذهبت إلى الاستديو. كانت هناك إجراءات مشددة لمنع دخول أي زائر أو متطفل.
بادرني عامل الاستديو.
– أرجوك، لا تتسبب في قطع أرزاقنا. الأمر ليس بهذه السهولة.
حاولت معه، فأحضر زكريا عامر، أشهر مهندس صوت في تاريخ الإذاعة المصرية. عندما علم الرجل بإعجابي الشديد بالأستاذ. بعدما أوجزت له تاريخ انشغالي به. أيضا، كان هناك شىء آخر. غير حضور هذه اللحظات، هاجس شرير لي نحو ما، ربما يكون هذا العمل هو آخر ما سيقدمه إلى الجمهور العربي. فالرجل بلغ من الكبر عتيا. سيفوتني الكثير إذا لم أدرك هذه اللحظات.
رأيت في مبنى التلفزيون «ماسبيرو» كل نجوم مصر والوطن العربي في كافة المجالات، الموسيقى، الفن، الأدب، السياسة والرياضة، ألخ. لكنه كان أمرا عاديا. اثنان فقط، أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، كنت أتمنى رؤيتهما، لكني لم ألحق بهما. فقد رحلا قبل عملي هناك بسنوات عديدة.
رحت أتأمل هذا الرجل الأسطوري، وهو يتابع العمل مع الأوركسترا بأكملها، التي كانت أمامنا في القاعة الفسيحة خلف الزجاج. كانوا يعزفون ويتم التسجيل في وقتها، ثم يتم الاستماع للقطعة، ويبدأ بعدها الحذف أو التغيير أو مواصلة التوزيع على النحو السابق عزفه. كنت مشدودا إلى عبد الوهاب وهو يردد الأنغام والكلمات موازيا للتسجيل. بريق صوته، لزمته الشهيرة، نزوعه إلى القرار، كان الرجل متوهجا رغم هذا العمر، رأس مستدير، صلعة لامعة، وجه أبيض مشرب بلون وردي، كانت رأسه أقرب إلى رأس تمثال مصقول، تم دهانها بورنيش لامع. كنت في لحظة مثيرة، وجدته يخفض صوته ويحدث زكريا عامر، بعدما رمقني بنظرة سريعة، تحدثا قليلا. لكني شعرت أن هذا الحوار يدور حولي. بالفعل، وجدته، بعد هذه المحادثة ينظر لي، ملوحا بابتسامة خفيفة؛ لم أتحرك من مكاني حينها، ولكني أجبته بابتسامة مماثلة. انشغالي برؤيته وهو يعمل ويصنع فنا خالدا كان أقوى من أي شيء آخر. لكني، في النهاية شعرت بالارتياح لعدم تذمره من وجودي.
وكنت أنتظر إلى النهاية، عندما ينهي العمل بكلمة: هايل.
وقبل أن ينصرف يلتف حوله أفراد الفرقة الموسيقية. ليبدأ حوارا ساحرا مليئا بالمداعبات والقفشات وبعض النكات. ربما يلقي بمزحة كالقنبلة. ينفجر الجميع بالضحك ولكنه لا يضحك، يقف شامخا، مبتسما فقط، كان ممتشق القوام. أنيق جدا، يتحرك بتأن، بدلة وبالطو وكوفية، اللون الأزرق هو المفضل له. يرتدي الجاكت ثم البالطو فوقه ثم يلف الكوفية حول رأسه ورقبته خلال خطواته القليلة بالممر. محتسبا لبرودة الجو خارج الاستديو. يختفي داخل الأسانسير حيث ينتظر العامل خروجه. تنتظره سيارته الزرقاء على باب الوزير أسفل المبنى. في دقائق معدودة تصل إلى بيته على بعد 2 كم، بجزيرة الزمالك على الضفة الأخرى النيل. نظام حديدي صارم أحاط به نفسه، الدقة، والنظام، التعقل في كل شيء، لا مجال للمفاجآت.
في النهاية تدرك لماذا استطاع هذا الرجل التربع على قمة الغناء والموسيقى العربية كل هذا الوقت.
أتذكر بأسى، عندما كانت أجهزة الراديو في كل مكان، البيوت، المقاهي، المحلات الكبرى، الورش الصغيرة، تنبعث منها أصوات قامات العصر، في «حديث السهرة»: طه حسين، العقاد، المؤرخ الشهير محمد شفيق غربال، وكثيرون غيرهم، أيضا الحوارات الشائقة مع نجوم هذا الزمان في كل المجالات، لعلعة أساطين دولة التلاوة، الشيخ محمد رفعت، مصطفى إسماعيل، المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد. المنشدون الكبار، محمد الفيومي، يوسف البهتيمي، محمد الطوخي، نصر الدين طوبار، سيد النقشبندي. أما ملوك الطرب، فحدث، بوثاقة وطمأنينة، أن الوطن العربي كان يهتز من المحيط إلى الخليج، على أصوات أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، محمد عبد المطلب، ليلى مراد، نجاة، ألخ. لم يكن هناك ما يجرح الأذن، أو يؤذيها. كانت هذه الحشود تصدح بجذل، وترتفع بفنها إلى عنان السماء، فالمنافسة غير هينة، عدد المتميزين بوضعهم الأسطوري غير قليل، الأنداد على قدر هائل من الموهبة والمهارة، إذا لم ترتفع إلى مستوى اللحظة تم سقوطك ونسيانك. لم يكن غريبا إذن هذا التألق، الذي يضفي بظلاله على الجميع.
النهضة التي شهدتها مصر في كافة المجالات وضعتها على قائمة اهتمامات المواطن العربي، وشكلت وجدان أجيال عديدة، من المشرق إلى المغرب، كانت تتطلع إلى نموذج ومثال.
كنت واحدا من هؤلاء الذين ولدوا في بداية الستينيات. تفتح وعيي على هذا الثراء المذهل في السينما والمسرح والفن والأدب. لا أستطيع نسيان المقدمة المذهلة الذي وضعها الموسيقار محمد عبد الوهاب لأغنية «إنت عمري» التي شدت بها أم كلثوم في بداية تعاونهما معا. كانت تتردد في كل مكان حينها، أذكر، هذا المدخل المشحون بالفخامة والخيلاء، والإيقاعات الرائعة، موسيقى لم تكن شائعة في الأغنيات السابقة لسيدة الغناء، كان ما حدث زلزالا فنيا، تم التحضير له جيدا.
محمد عبدالوهاب، الذي حارت البشرية في تحديد تاريخ مولده، وكأنه أحد الأسرار الكبرى، التي ينبغي عدم إفشاءها، متوقفين عند ثلاثة أعوام مختلفة دون حسم: 1901. 1902. 1910. وإن كان 1902 هو الأقرب للحقيقة حسب بعض المقربين منه وبعض الذين عملوا معه وهو صغير. كان ملء السمع والبصر، منذ بداياته حتى اللحظة الأخيرة لوفاته الدراماتيكية عندما انزلق فوق الأرض وهو يمارس هواية المشي داخل مسكنه، ليصاب برضوض عديدة وجلطة دماغية، ويفارق الحياة بعدها بأيام في 1991/5/3.
إنه لأمر نادر في التاريخ، أن يعمر المرء طويلا، وهو يحيا تحت أضواء المجد والشهرة والنجاح، مزدهرا، متألقا، يعلو نجمه يوما بعد يوم، عبر خط تصاعدي لا يعرف الانكسار، ويحوز على كل الألقاب الكبرى في عصره، الأستاذ. اللواء. الدكتور. موسيقار الأجيال. هذا الذي تبلورت موهبته في الربع الأول من القرن العشرين، تلك الحقبة الذهبية التي اختمرت فيها كل معالم النهضة الحديثة. تعلم العزف على آلة العود وتشرب الإتقان على أحد فقهاء الموسيقى العربية، العظيم محمد القصبجي، أحد الأفذاذ المقتدرين الذين يجيدون التعامل الساحر مع الآلة الرائعة، وهو الذي أحدث ثورة لحنية بأعماله القليلة الخالدة، «رق الحبيب» لأم كلثوم، و»ياطيور» لأسمهان، ومقطوعته التي لا تنسى «ذكرياتي».
كان محمد عبد الوهاب يؤمن بالثراء اللحني، والرشاقة، والبذخ أحيانا في التوزيع الموسيقي، معتقدا أن الموسيقى بلا زخارف كالمرأة الصلعاء. تجد في معظم أعماله سلاسة وانسجاما، وصيرورة إيجابية تؤكد احترامه للتجارب في جميع أنحاء العالم. إطلاعه الواسع على الموسيقى العالمية والكلاسيكيات الكبرى، جعلته من أكبر فناني العرب جنوحا وتمردا على القوالب القديمة، رغم النمط المحافظ الذي اتخذه لنفسه ولأسرته كمرجعية هامة في حياته….
عكس الصبية الصغار، تعدى اهتمامي، في عمر مبكر إلى الإلتفات إليه . كان الرجل مفرطا في دقته، متحكما في أدائه الصعب، ألاحظ ذلك وأنا أستمع إلى روائعه الخالدة «الجندول» و»كليوباترا» و»الكرنك» و»أعجبت بي». سيمفونيات صغيرة، ذات منحى صارم، تتجاوز التقاليد الغنائية المتوارثة. هناك أيضا الأدوار والمواويل والمنولوجات «من قد ايه كنا هنا» و»الليل لما خلي» و»مريت على بيت الحبايب» و»أحب اشوفك كل يوم» الخ. ما زلت، حتى هذه اللحظات، أدندن معه بعض المقاطع نشوانا ومستمتعا.
محمد عبد الوهاب، صاحب الطقوس الخاصة، والوسواس القهري في النظافة، المتشائم من فكرة المرض والموت، كان العامة يتندرون عليه بمحبة، فهم يعلمون عنه كل هذه الأشياء، يقولون إنه يغسل الصابونة بصابونة أخرى قبل أن يغسل يديه! وينصتون إلى لثغة السين عندما يحولها إلى ثاء وهو يقول – مثلا- ياثاتر يارب، بدلا من ياساتر يارب. تخرج منه محبوكة وهو يضع ساقا فوق أخرى، على نحو لافت للنظر.
إنه ربيب أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي علمه كيف يواجه المجتمع كشخصية مرموقة، هي الأولى بالعناية والتقدير، حتى صار يتقدم خطوة إلى الأمام مع كل نجاح، فهو شخصية لا تعرف التنازل مطلقا. لاحظ عدم وجود صورة فوتوغرافية عشوائية له. دائما أنيق، مهندم، منتبه للكاميرا حتى لو بدا متجاهلا هذا الأمر، وكأن اللقطة عفوية، يذكرني دائما بسعد باشا زغلول واحمد بك شوقي. وضعية تصوير لا مجال فيها للتواضع، ثمة اعتزاز واضح بالنفس، ومعرفة مقدارها بين الناس. لم لا، فهو صديق الملوك والرؤساء، الأشد مدعاة للاحترام، كان يستقبلهم في مسكنه، لا يذهب إلى القصور إلا نادرا، هم يطلبون زيارته، كشخصية أسطورية لا بد من رؤيتها والتحاور معها.
أى مهابة تلك، وأي تقدير لفكرة «الفن» تركها للأجيال القادمة بعده.
كنت أراه، في مبنى التلفزيون المصري عند حضوره اجتماعات مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون، كعضو مبجل فيه. أو لإجراء بروفات لأحد الأعمال. لكن اللحظة الفاصلة هي حضوري بروفات أغنية «من غير ليه» التي صاغ كلماتها الشاعر الغنائي الشهير مرسي جميل عزيز ليؤديها عبد الحليم حافظ. لحنها عبد الوهاب لعبد الحليم. وهناك تسجيل نادر له وهو يؤديها وهو مريض. وكان من المنتظر أن يغنيها فور عودته من رحلة علاجه بلندن، ولكن وافته المنية هناك في 30 اذار/مارس 1977 وعاد ليدفن في مصر، بعد رحلة عمر تراجيدية مع الألم والحزن والمجد والشهرة والثراء والمرض، كواحد من علامات الغناء العربي.
إدخر عبد الوهاب هذه الأغنية، محتفظا بتسجيل نقي لها بصوته، مصاحبا عوده، منكرا في الوقت ذاته وجود هذا اللحن أمام إلحاح معظم المطربين والمطربات، الذين أرادوا الفوز به، حتى حانت اللحظة التي قرر فيها إصدارها بصوته.
كنت هناك، فوجئت بصديق لي، مهندس السهرة المسؤول عن الصيانة الفنية والهندسية بالمبنى الشهير. قادم للتو من ستوديو 35 بالدور الثاني بالإذاعة، هذه القاعة الكبرى التي لعلعت داخلها معظم الأصوات العربية الشهيرة، بروفات وتسجيلا.
كانت فرصة لا تعوض. ذهبت إلى الاستديو. كانت هناك إجراءات مشددة لمنع دخول أي زائر أو متطفل.
بادرني عامل الاستديو.
– أرجوك، لا تتسبب في قطع أرزاقنا. الأمر ليس بهذه السهولة.
حاولت معه، فأحضر زكريا عامر، أشهر مهندس صوت في تاريخ الإذاعة المصرية. عندما علم الرجل بإعجابي الشديد بالأستاذ. بعدما أوجزت له تاريخ انشغالي به. أيضا، كان هناك شىء آخر. غير حضور هذه اللحظات، هاجس شرير لي نحو ما، ربما يكون هذا العمل هو آخر ما سيقدمه إلى الجمهور العربي. فالرجل بلغ من الكبر عتيا. سيفوتني الكثير إذا لم أدرك هذه اللحظات.
رأيت في مبنى التلفزيون «ماسبيرو» كل نجوم مصر والوطن العربي في كافة المجالات، الموسيقى، الفن، الأدب، السياسة والرياضة، ألخ. لكنه كان أمرا عاديا. اثنان فقط، أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، كنت أتمنى رؤيتهما، لكني لم ألحق بهما. فقد رحلا قبل عملي هناك بسنوات عديدة.
رحت أتأمل هذا الرجل الأسطوري، وهو يتابع العمل مع الأوركسترا بأكملها، التي كانت أمامنا في القاعة الفسيحة خلف الزجاج. كانوا يعزفون ويتم التسجيل في وقتها، ثم يتم الاستماع للقطعة، ويبدأ بعدها الحذف أو التغيير أو مواصلة التوزيع على النحو السابق عزفه. كنت مشدودا إلى عبد الوهاب وهو يردد الأنغام والكلمات موازيا للتسجيل. بريق صوته، لزمته الشهيرة، نزوعه إلى القرار، كان الرجل متوهجا رغم هذا العمر، رأس مستدير، صلعة لامعة، وجه أبيض مشرب بلون وردي، كانت رأسه أقرب إلى رأس تمثال مصقول، تم دهانها بورنيش لامع. كنت في لحظة مثيرة، وجدته يخفض صوته ويحدث زكريا عامر، بعدما رمقني بنظرة سريعة، تحدثا قليلا. لكني شعرت أن هذا الحوار يدور حولي. بالفعل، وجدته، بعد هذه المحادثة ينظر لي، ملوحا بابتسامة خفيفة؛ لم أتحرك من مكاني حينها، ولكني أجبته بابتسامة مماثلة. انشغالي برؤيته وهو يعمل ويصنع فنا خالدا كان أقوى من أي شيء آخر. لكني، في النهاية شعرت بالارتياح لعدم تذمره من وجودي.
وكنت أنتظر إلى النهاية، عندما ينهي العمل بكلمة: هايل.
وقبل أن ينصرف يلتف حوله أفراد الفرقة الموسيقية. ليبدأ حوارا ساحرا مليئا بالمداعبات والقفشات وبعض النكات. ربما يلقي بمزحة كالقنبلة. ينفجر الجميع بالضحك ولكنه لا يضحك، يقف شامخا، مبتسما فقط، كان ممتشق القوام. أنيق جدا، يتحرك بتأن، بدلة وبالطو وكوفية، اللون الأزرق هو المفضل له. يرتدي الجاكت ثم البالطو فوقه ثم يلف الكوفية حول رأسه ورقبته خلال خطواته القليلة بالممر. محتسبا لبرودة الجو خارج الاستديو. يختفي داخل الأسانسير حيث ينتظر العامل خروجه. تنتظره سيارته الزرقاء على باب الوزير أسفل المبنى. في دقائق معدودة تصل إلى بيته على بعد 2 كم، بجزيرة الزمالك على الضفة الأخرى النيل. نظام حديدي صارم أحاط به نفسه، الدقة، والنظام، التعقل في كل شيء، لا مجال للمفاجآت.
في النهاية تدرك لماذا استطاع هذا الرجل التربع على قمة الغناء والموسيقى العربية كل هذا الوقت.