د. ماهر عبد المحسن - مجموعة “فاتحة لصاحب المقام”.. من منظور وجودي

عندما يقدم الناقد على تناول عمل ينتمي إلى المجموعات القصصية أو الشعرية أو حتى المقالية فإنه، بطبيعة الحال، يقرأ العمل أفقيا بنحو كلي، ثم يعود للكتابة بالمنطق نفسه مستشهدا ببعض الأمثلة من المجموعة موضوع الدراسة، غير أن هناك نوعا من الأعمال يحتاج إلى التوقف عند أجزائه ووضعها تحت مجهر البحث والتحليل، لأنها تحمل من الرموز والدلالات ما يستدعي تلك الوقفة التأملية العميقة، ومن هذه الأعمال المجموعة القصصية “فاتحة لصاحب المقام” للكاتب المبدع أحمد رجب شلتوت، التي سنتناولها الآن في هذا المقال.
وبهذا المعنى تضعنا المجموعة في حرج، لأن القراءة الأفقية الكلية حتما ستظلم الكثير من القصص، والقراءة الرأسية الجزئية تحتاج إلي دراسة تفصيلية يتجاوز حجمها حجم هذا المقال الصغير خاصة أن المجموعة تحتوي على ما يجاوز الخمسين قصة، لذلك سنحاول أن نتخذ طريقا وسطا يحقق الميزتين مستفيدين من كون المجموعة، من ناحية الشكل، تنقسم إلى قسمين، وكل قسم يضم نمط خاص من القص يمكن دراسته بمفردة كعمل مستقل، كما يمكن دراسته في سياق جدلية فكرية تجمع بينه وبين القسم الآخر، ووفقا لهذا الاحتمال الأخير ستمضي قراءتنا.
إذا بدأنا بالغلاف كواحد من المداخل الهامة إلى عالم المجموعة ، فسنجد نافذة متهالكة، نصف مفتوحة، تتصدر منزل قديم متآكل الجدران، وأمامها عربة يد متهالكة أيضا ومقلوبة علي الأرض. فتحة النافذة أمام القارئ تعكس معني الفضول وتستدعي فكرة التلصص التي طرحها سارتر في “الوجود والعدم” . والحقيقة أن الروح السارترية ستظل سارية على مدار المجموعة بقسميها وإن كانت جدلية “الوجود والعدم” سوف تغلب علي قصص القسم الاول، المرتبط بعلاقة الأنا بالآخر، حيث تتخذ شكل الصراع بين ” الحياة والموت” ، كما ستغلب على قصص القسم الثاني، المرتبط بعلاقة الأنا بالأنا، روح التأمل الفلسفي في الطبيعة والموجودات بنحو يذكرنا بتأملات روكنتان في رواية “الغثيان”.
ويؤكد الغلاف تلك الروح الفلسفية الوجودية في طلاء النافذة الذي يتراوح ما بين الأخضر والأسود في رمزية تعكس علاقة التجاور التي بين الحياة والموت، والتي تصل إلى درجة التداخل في الطلاء الاخضر المائل إلى الاسمرار على الضلفة اليسرى المفتوحة من النافذة، كما توحي قتامة الألوان التي تبطن ضلف النافذة من الداخل، ولمعانها من الخارج بأن الذين يسكنون هذه البيوت تبدو عليهم مظاهر الحياة من الخارج بينما هم، في الحقيقة، يحملون بذور فنائهم في الدخل، أو أنهم موتي يتحركون وكأنهم أحياء!
يؤكد هذا المعني عربة اليد المتهالكة، التي ترمز إلى قلة الحيلة وضيق ذات اليد، فوسيلة الرزق أضعف من أن تحقق للمتعبين حياة كريمة، غير أن وجود العربة في صدارة المشهد إنما يعكس حضورا قويا للوسيلة والإصرار على السعي لمواصلة الحياة ولو بأقل القليل.
عنوان المجموعة “فاتحة لصاحب المقام”، الذي يتقاطع مع عربة اليد في صورة الغلاف يوحي بوجود بعد روحاني يغلف حياة البسطاء، وأن وسيلتهم للعيش تتأرجح ما بين السعي الحثيث لطلب الرزق وبين التوسل بالزيارة والدعاء للأولياء الصالحين، هذا بالرغم من أن القصة التي تحمل العنوان نفسه تنحو أكثر باتجاه المجاز والرمز الذي يبعد عن المعنى المباشر الذي قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى.
وصورة الغلاف، بهذا المعنى، تلخص الاتجاه العام للمجموعة وتقدم مجموعة من المفاتيح التأويلية التي يمكن أن تساعد في فهم العمل وتفسيره.
وفي هذا السياق، سينقسم مقالنا إلى مبحثين: جدل الأنا والآخر، وجدل الأنا والأنا.
جدل الأنا والآخر:
علاقة الأنا بالآخر من السمات الأساسية جدا في المجموعة، ويمكن أن نلحظ ذلك منذ الإهداء، والكلمات الافتتاحية، ففي الإهداء نقرأ:
“إليهما:
محمد وشذى… جناحي المحلقان بعيدا.. بعيدا حيث لا خرائب”
فمن الواضح أن الكاتب يهدي كتابه لابنيه، على الأرجح، وهما جزء منه بطبيعة الحال، غير أنه جزء ينطوي على مفارقة وجودية صارخة، لأنهما يرتبطان به وينفصلان عنه في الآن نفسه، وفي كل الأحوال فهما وسيلته للفرار من الواقع الخرب، سواء بالحلم أو بالحقيقة.
فهناك دائما ميل إلى التوحد بين الكل والأجزاء، بين الأنا والآخر، يتأكد ذلك في استدعاء مقولة خوسيه ساراموجو:
” إن كل واحد منا هو القلق الخاص بنا جميعا”
فالقلق، وهو تجربة وجودية أصيلة، هو الذي يوحد الفرد مع المجموع بحيث يكون الناتج كيانا كليا شاملا، فالقلق عندما يتسرب من الفرد إلى الجماعة إنما يجسد شكلا من أشكال التعاطف الإنساني الذي يحيل الخبرة الذاتية إلى تجربة مشتركة، ويتأكد ذلك بنحو أكثر في مقولة بابلو نيرودا:
“ربما لم أعش حياتي قط، ربما عشت حيوات الآخرين”
فالمشاركة هنا ليست بصدد تجربة جزئية، كالقلق، تعكس مظهرا واحدا من تجليات الوجود، ولكنها تعكس خبرة الحياة نفسها، ما يجعل فكرة التعاطف هي السمة الأبرز في علاقات الأنا بالآخر، وهذا ما سنلاحظه في العديد من قصص المجموعة، بل يمكننا القول إن علاقة شلتوت (الكاتب نفسه) بشخصيات العمل إنما هي لون من التعاطف الذي لا يمكن أن نتعاطى مع القصص ونفهمها دون أن نضعه في الاعتبار.
وإذا كانت فكرتي الموت والحيلة في الرزق هما المهيمنتان على القسم الأول من المجموعة، فإن تعاطف الكاتب ( الراوي غالبا) يتضح من خلال تناوله لهاتين الفكرتين بنحو يغلب عليه المجاز والإيماء بحيث لا تستطيع أن تميز بين حقيقة الموت وفكرته، أو بين الرزق ووسيلته. فالأمور كلها تظل في منطقة رمادية أو بينية تعكس مواقف الإنسان المهمش الذي يعيش كالميت، ويسعي دون أن يدركه التوفيق.
ففي أولي قصص المجموعة ” تحقيق الحلم” يلتقي صديقان بعد سنوات طويلة من الغياب، وقد حقق أحدهما الثراء المادي الكبير بينما ظل الآخر علي حاله البائس، حياة متواضعة وأحلام مجهضة، بالرغم من كونه صاحب مبادئ، وقد خسر الكثير من جراء هذه الأخلاقية التي تنزع نحو المثالية في عالم غارق في ماديته. ويأتي لقاء الصديقين بمثابة تحد جديد في صراع لا ينتهي ابدا بين الاتجاهين االمتعارضين، ويدور الحوار في شكل مباراة يبدو فيها بطلنا الطرف الضعيف، غير أن الصديق الغني، إمعانا في التحدي، يعرض على صديقه الفقير رهانا مغريا، بأن يمنحه مليونا من الجنيهات لمدة عام مقابل التخلي عن مبادئه، غير أن المفاجأة أنه يقرر أن يتخلى عن مبادئه في الحال ويقتل صديقه بعد أن يتسلم منه المليون جنيها، فيقول في نفسه:
“فتح درج مكتبه، أخرج العقد مكتوبا، وقعه كطرف أول، أراني الشيك، أشار إلي أصفار المليون وهو يعدها، نصحني قبل أن أوقع، أمامك عام إما أن تتغير وتنجح وتفوز بالأموال، وأما أن ترد المليون كاملا، كان علي ثقة من فشلي وتبديد الأموال، وكنت أدرك أني الآن فقط تغيرت فعلا، لن انتظر عاما لتثبت له أحقيتي بالمليون، تكفيني دقائق عشر، لتحصل على الأموال ونسختي من العقد ثم أقتله وأفر بعيدا” ( فاتحة لصاحب المقام، ص١٣).
تنتهي القصة عند هذه الكلمات، ولا ندري هل نفذت الشخصية انتقامها أم لا، فالأخلاقية التي عاشت بها طوال هذه السنوات، وتحملت الذل والمهانة من الجميع وهي تعيش على حد الكفاف، عاجزة عن الثأر وتغيير ، من المستبعد أن تتغير في لحظة، خاصة أنها امتلكت مليون جنيها في دقائق. فربما كان القرار الخطير الذي اتخذته بقتل الصديق الغني، مجرد خاطر داخلي في النفس، وظل هكذا دون أن يخرج إلى حيز التنفيذ. وهنا ينبغي أن نلاحظ مسألة الارتباط بين فكرة الموت والحيلة في الرزق، فالخاطر الذي أتي لبطل القصة كان ينطوي على خدعة لصديقه تمكنه من الفوز بالمال والفرار بعيدا.
ويمكننا أن نعثر علي المعني نفسه في قصة “الذي جري” ، التي تدور حول سائق تاكسي يعمل طوال اليوم من أجل لقمة العيش، ويلقى الكثير من العنت من قبل الزبائن الذين يشككون في مصداقية أجرته حتى أنه يطرح سؤالا وجوديا متكررا ” ما الذي جري للناس ؟!”.
وتمضي أحداث القصة لمعرفة الذي جرى، وفي لحظة مصيرية يصدم السائق أحد المارة الذي ظهر أمامه فجأة، فلم يستطع أن يتفاداه، ولا يجد أمامه من سبيل سوى الهرب، فاختبأ في أحد الحارات الجانبية، ثم عاد ماشيا علي قدميه لمعرفة ما جري، لكنه يكتشف عدم وجود حادث من الأساس، لنقرأ:
“ليس ثمة قتيل في الشارع، لا جثة لأحد على الأسفلت، لا دم متخثر، لم أجد شيئا مغطي بالجرائد، ولا بشرا يتحلقون، وليس ثمة آثار لأي شيء على الأسفلت، تلفت يمينا ويسارا، تمثال نهضة مصر يواجهني، ومديرية الأمن غير بعيدة، صور الرجل الكبير تملأ الحوائط، جنود كثيرون مرشوقون في الأسفلت، وليس ثمة جثة” (ص١٦).
وكما كان الموت فكرة في رأس بطل قصة “تحقيق الحلم” فنجده هنا وهما في خيال بطل القصة الحالية، فبالرغم من أن السائق رأي الواقعة بعينيه لأنه هو الذي كان يقود السيارة إلا أن الواقع جاء خلوا من الحادث برمته ما يجعل القارئ يشك في سلامة إدراك السائق. ولأن البطل هو الراوي فيمكنك أن تشك في القصة برمتها التي يرويها علي لسانه، يؤكد ذلك تساؤله هو نفسه:
“لكن هل أجد من يصدقني؟ هل ينصفني شاهد؟ كان لابد من الفرار” (ص١٥).
إن قضية الشك هي مفتاح الإجابة عن السؤال الرئيسي ” ما الذي جري للناس؟”. فكل الأشخاص لها عالمها الخاص الذي تحكمه قوانين ذاتية لا يفهمها إلا أصحابها، وهي عوالم متداخلة على مستوى الحياة من الخارج، لكنها تمثل حقيقة مستقلة ومنعزلة في داخل كل شخص على حدة، ما يجعل سوء الظن هو السمة الغالبة على العلاقات بين الناس بالرغم من كونهم يشتركون في المعاناة نفسها ويخضعون لذات القوة الخفية التي تقهرهم دون رحمة، وفي هذا المعني يقول:
“أغلب الركاب يظنوني سارقا، أخي أيضا يظنني كذلك” (ص١٤).
فالذي جري للناس هو أن أحدا لم يعد يفهم الآخر، لأن كل واحد يتحدث بلغة غير التي يتحدث بها الآخر، ويسلك في تصرفاته بنحو مختلف عن الآخر، ما جعل كل منهم يري ما لا يراه الآخرون، حتي المرأة البعيدة التي كانت تبيع لعب الأطفال في الشارع تطرح السؤال نفسه، لأنها لا تجد من يشتري بضاعتها في ظل وجود أناس يؤثرون الفرجة على الشراء في إشارة إلي حالة العجز التي أصابت الجميع، فتقول:
“من صباحية ربنا والعيل بيرقص والناس بيتفرجوا، غيرت البطارية مرتين والناس لا حد منهم اشترى ولا حد مشي” (ص١٦).
ويتبدى التداخل بين فكرتي الموت والرزق، في المشهد الذي تحل فيه لمة الناس حول المرأة التي تبيع لعب الأطفال محل لمة الناس حول الحادث الذي لم يحدث، فكلاهما يعكس المعني العميق للفرجة الذي لا يميز بين الموت والحياة، فالناس التي لا تموت ولا تملك القدرة علي العيش بنحو يتناسب مع آدميتها، لا تجد سوي خيار الفرجة خاصة إذا كان المشهد المأساوي يخص آخرين، وإن كنا نشارك في مأساويته دون أن نشعر بنحو ما عبر الكاتب ببراعة قائلا:
“خلسة اندسست بين الواقفين، كانت اللمة حول امرأة مقعدة تبيع لعبا للأطفال، كانت الدمية الكبيرة على هيئة طفل يرتدي قبعة، بين شفتيه سيجار، وتنبعث منه أصوات موسيقي، الطفل الدمية يرقص، والواقفون يعجبون بينما المرأة المقعدة تزفر: ما الذي جرى للناس؟” (ص١٦).
والذين لا يموتون يعيشون في اغتراب، “فالذي لم يتخطفه الموت أدركه النسيان” (ص٢٧). وهي تجربة وجودية عميقة تكشف عن معني السكن، فالاغتراب داخل الوطن يرتبط بالانتقال من مسكن إلي مسكن، ومرعي بطل قصة ” المبخرة والمجمرة” يعاني الشعور بالاغتراب نتيجة انتقاله من الريف إلي المدينة، بالرغم من أنه انتقل إلي أطراف المدينة في منطقة “ابو النمرس” ، إلا أن فقدانه للدفء يجعله يعبّر عن اغترابه بعباره يرددها كثيرا: ” أبو النمرس مدينة باردة” (ص٢٧).
ولأن الغربة شعور داخلي فقد اختار مرعي ” ابو النمرس” كمكان للسكن لأنها الأقرب للعاصمة، المكان الذي يصرف منه معاشه، فيقول:
“أنا في كل الأماكن غريب. وما دامت الغربة واحدة فلأسكن المكان الأقرب” (ص٢٨).
وكما يرتبط الموت بالبحث عن الرزق يرتبط الرزق بالاغتراب، فتقول سعاد ابنه مرعي التي انتقلت معه للعيش في ” أبو النمرس”:
“أخي طار فوقهما إلي العراق وعاد ميتا، ومثله زوجي الذي مات هناك في الصحراء، ماتا غريبين، ضاعا، وانت يا أبي مثلهما… أنت حر في سكناك يا أبي، أما أنا فكل الأماكن عندي سواء” (ص٢٩).
والذين يعيشون في اغتراب ولا يقتلهم الجوع أو البرد يملكون الحيلة لانتزاع الرزق، فيحوّل مرعي الخاطر الذي انبثق في ذهنه كومضة خاطفة، أثناء استدفائة بحرارة المجمرة من هجمة البرد، إلى أداة للارتزاق بحيث تكون مجمرة في الليل ومبخرة في النهار، فنقرأ:
“كل المطلوب منه أن يشعل البخور ويسير، يتوقف أمام الدكان أو البيت صائحا: صلي علي النبي. يطلق بخوره ويمد يده، فتمتد أياد أخرى بقطع من العملة المعدنية، ويظل يجوب الطرقات” ( ص ص٣٠-٣١).
ورغم كل شيء يظل الدفء الإنساني هو العلاج لكل أوجاع البشر، فالمعاناة الناجمة عن خبرة الالم هي العنصر المشترك الذي يوحد البشر خاصة في لحظات الضياع والسقوط. ربما يكون الموت موقفا حديا أخيرا، لكن تظل الحياة أفقا مفتوحا من الإمكانيات وميدانا خصبا للعديد من الممارسات. فأن تعيش يعني أن تجاوز الموت في كل لحظة، وهؤلاء المهمشون، المقصيون بعيدا عن المنابع الصافية للوجود، لا يملكون إلا التعاطف الذي يعينهم علي مواصلة السير.
فما زال مرعي يعاني الاغتراب، والبرودة تنهش جسده كل يوم لقاء قروش قليلة يلقي في حجر ابنته حين يعود إلى مأواه في الليل، وكان من الممكن أن يسقط في أي لحظة لولا وجود الابنة التي منحته الدفء وقت أن تحول جسده إلى لوح من الثلج:
“تدلك يديه بيديها الدافئتين. تدمع عيناه بينما يحاول أن يبتسم، تضمه سعاد بحنو ممزوج بالخوف، يذوب في حضنها، تدمع عيناه وهو يهمس: تصدقي يا سعاد لأول مرة منذ عمر طويل أشعر بالدفء” (ص٣١).
جدل الأنا والأنا:
تغلب النزعة الوجودية علي القسم الثاني من المجموعة، التي تحمل عنوان ” رؤى”، كما القسم الأول، غير أننا لا يمكن أن نتجاهل أن كاتبنا ليس فيلسوفا محترفا يمارس الكتابة الأدبية كسارتر، ولكنه أديب علي الأصالة يقدم رؤيته الإبداعية بنحو إنساني يتماس مع بعض قضايا الفلسفة بمعناها الوجودي الواسع من قبيل الهوية، القلق، الانتظار، الموت.
وبهذا المعني ينبغي أن نلاحظ أن ثمة انحرافا أو تعديلا في الخبرة الوجودية في ثوبها الأدبي عند شلتوت عنها عند سارتر خاصة في القسم الأول من المجموعة الذي تناول جدلية العلاقة بين الأنا والآخر. فالآخر عند سارتر كان جحيما بالنسبة للأنا، في حين أنه كان شريكا في المعاناة ومن ثم كان مصدرا للتعاطف عند شلتوت.
وبالمعني نفسه يمكننا أن نقرأ القسم الثاني، فمنذ القصص الأولي يتبدى لنا الحضور الطاغي للأنا، وأزمتها الذاتية النابعة من الروح التأملية التي تطغي على الوعي بحيث يجد نفسه طوال الوقت في حالة من البحث والتساؤل، وإن بطريقة غير مباشرة، عن حقيقة ذاته ومعني حياته.
ففي قصة “الظل والقربان” يقف البطل أمام المرآة وهو ممسك بصورة قديمة ورسالة لم يزل بها بعض من العطر، وكلما أحس بالأسى أحرق واحدة من الاثنتين، وعندما انتهي منهما وتخلص تماما من الأسي اشتعلت النار في جسده. واذا أردنا أن نفهم القصة فعلينا أن ننظر إلى مفردات الواقع البسيطة التي تحيط بالبطل باعتبارها رموزا تعكس العلاقة المتداخلة بين الماضي والحاضر، فالمرآة هي الحاضر التي يعكس حالته البائسة ويفضح شعوره بالآسي الناجم عن فقد الزوجة أو الحبيبة الموجودة في الصورة، ويومئ إليها بسريان النار في فستانها حتى وجهها. والصورة والرسالة المعطرة ترمزان إلى الماضي الذي لم يزل يمارس تأثيره عليه ويتحكم في حاضره من خلال ملامح الأسى التي يرسمها على وجهه.
والمفارقة ذات الدلالة أن التخلص من الذكريات المؤلمة بحرق أشياء الماضي لا يحقق للبطل التحرر من أسر الماضي، فثمة وحش يقف في الخلفية يعيد إليه الأسي مرة أخري كلما تخلص من أحد أشيائه، حتي أنه يتضخم ويرقص ثملا في اللحظة التي تشتعل فيها النيران في جسده بعد أن تخلص من الأسي تماما. ربما كان يرمز الوحش إلى الزمن وربما إلى الحب أو الحنين، لكنه في كل الأحوال يملك الكلمة الأخيرة في حسم الصراع الداخلي وصياغة كلمة النهاية.
وبالرغم من أن العلاقة تبدو وكأنها علاقة أنا بآخر، إلا أنها في الحقيقة علاقة أنا فردية بذاتها، لأن الآخر لا وجود له علي الحقيقة وإنما وجوده علي مستوي الوعي، من خلال التذكر. والملاحظ أن تجربة بطلنا المغرقة في الذاتية، التي تخلو من آخر عدا ذاته وأشياء العالم الخارجي ستتكرر في قصص أخرى من المجموعة، وأن خبرة الشعور بالوحدة سيكون لها الصدارة في العديد من المواقف.
وتتبدي تجربة الوحدة، التي تعادل الاغتراب في قصص القسم الأول، في قصة “وحيدان” حيث تتماهي شخصية البطل مع عصفوره المحبوس في القفص وقد توقف عن الغناء، فيقول معبرا عن وحدته:
“وحدي.. لم يعد الكتاب أنيسا، والذكريات باتت كئيبة، والزمان توقف. يستبد بي الضجر، أغادر الفراش إلى المطبخ، أحمل كوب الشاي إلى الصالون، ولما أفرغ منه أعود للتمدد في الفراش” ( ص٨٣).
وخلافا لروكنتان، بطل سارتر، لا يعاني بطل شلتوت من الغثيان و إنما من الضجر، فالحياة في وحدة، في ظل شعور قاس برتابة الحياة وتوقف الزمن هو ما يدفعه للشعور بالضجر. والمفارقة أن العصفور نفسه يتصرف داخل القفص بالطريقة نفسها وكأنه يعاني خبرة الضجر التي يستشعرها صاحبه. وفي كل الأحوال لا يمكث بطلنا طويلا ولا يستسلم لتلك الحالة السلبية، وإنما يسعي لتحرير العصفور أولا ثم نفسه بعد ذلك، بعد أن يطير العصفور ولا يعود، ويكتشف البطل أنه لم يكن في وحدة حقيقية في جود العصفور الذي كان يأنس به. وفي هذا المعنى يقول:
“أفتح كل النوافذ لكن العصفور البطر لا يعود. طائر الضجر اللعين ينفرد بي، يستبد. رغم بطره إلا أن عصفوري كان أنيسا. فلأغادر بحثا عنه” (ص٨٤).
والضجر يرتبط بالانتظار، فكلاهما خبرتان إنسانيتان عميقتان تعكسان حالة الإنسان عندما يكون وحيدا، وعلاقته بالطبيعة والكائنات. فالوحدة تدفع البطل للتأمل والانتظار الذي يعقبة الملل، فنقرأ:
” أكملت انتظاري بالوقوف عند الزاوية، بضجر أعاود النظر في ساعتي، قبل أن أرسل ناظري يمسحان الأفق بحثا عمن أنتظر. لم أفلح في قتل الملل فقررت الانصراف” (ص٨٦).
وفي خطوة ذات دلالة يطرح كاتبنا خبرة الانتظار في سياق علاقته بالكائنات الحية من دون الإنسان، وهي العلاقة التي تعكس نمطا من التعاطف الكوني بين الذات والعالم الغارق بؤسه. يتبدى ذلك في تلك النظرة المتأملة، التي لا تفارق الأنا تجاه تفاصيل الحياه الصغيرة، والتي تتعلق بمصائر كائنات ضعيفة لا تملك القدرة علي العيش في أمان، فتدفع حياتها ثمناً لضعفها، فنقرأ في قصة ” انتظار” وصفا دقيقا للحظات فاصلة يقف فيها عصفور صغير فوق السور:
“يتأهب للطيران، يشرع الجناحين، كأنه يجربهما قبل الانطلاق، يتراجع، يخفضهما، يطويهما، يمكث عائدا للتلفت والوقوف على ساق واحدة يبادلها كل ثانيتين. ولما يمل يشرع في المشي فوق إفريز الشرفة. يخطو بتؤدة من حافة السور لمنتصفه ثم يعاود الوقوف، كأنه ينتظر شيئا” (ص٨٥).
إننا أمام واحدة من تجليات روح الرواية الجديدة، لدي ناتالي ساروت بخاصة، التي تُعني برصد ديناميات الحدث قبل حدوثه، فهي نظرة ميكروسكوبية تكشف عن الإرهاصات الأولي للأحداث الجسام. والحدث الجسيم هنا هو موت الطائر الحر الطليق في لحظة عبثية كان بطلها طفل يلهو بنبلة لاصطياد العصافير، وكذا موت القط المذعور تحت عجلات سيارة مسرعة أثناء فراره من لا شيء في قصة ” خلاص”.
وبالرغم من أن ساروت كانت تخوض تحديا أكبر عندما كانت ترصد الإرهاصات البسيطة للأحداث الأكثر بساطة، مثل قرار الشراء لدي الواقفين أمام واجهات المحلات، إلا أن شلتوت لا يختلف كثيرا، لأنه لا يكتب تطبيقا لنظرية سابقة مثل رواد الرواية الجديدة، وانما يكتب بدافع من التعاطف الإنساني مع مخلوقات العالم الضعيفة، ولأنه عندما يفعل ذلك إنما يكشف في الوقت نفسه عن الضعف الإنساني، خاصة إذا فهمنا القصص بالمعني الرمزي، فثمة نوع من التماهي بين شخوص القصص والحيوانات الأليفة التي ترتبط معها بعلاقة ما، صريحة أو ضمنية، وفي كل الأحوال تأتي هذه العلاقة علي مستوي التأمل الانعكاسي الذي يجعل الشخصية تري نفسها العاقلة في الآخر غير العاقل، وتستشرف مصيرها المؤلم، القادم لا محالة إذا لم تتعلم من الدرس الكوني الذي تفرضه قوانين الطبيعة. فربما يكون في الموت خلاصا، لكنه خلاص العجزة واليائسين الذين لا يعرفون سوى الفرار اختيارا، وفي هذا المعنى نقرأ:
“وعند آخر الشارع توقفه سيارة مسرعة يجد نفسه محاصرا بين عجلاتها والأسفلت، وعندما لحقتُ به لم يعدو مواصلا فراره، فقد تخلص من خوفه حينما ثبتته عجلات السيارة علي الأسفلت” ( ص٨٦).
وفي واحدة من مظاهر التجربة الوجودية الأكثر إثارة وطرافة في الوقت نفسه، تأتي قصة “عيون” التي تردنا إلى فلسفة النظرة عند سارتر. فجحيم الآخر الذي يقتحم الأنا يرتبط بالنظرة التي تجمدني في مكاني وتحيلني إلى مجرد موضوع للتأمل والفضول القاسي الذي لا يخلو من دلالة اتهام تجاه ما نقوم به في الخفاء معتقدين ألا أحد يرانا. غير أن القسوة الحقيقية إنما تنبع من تلك النظرة التي لا تصادف موضوعا يصلح للإدانة، ومع ذلك تواصل تحديقها في الأنا الذي يمارس حياته اليومية في سلام معتقدا أنه ينعم بالمشروعية المطلقة لمجرد كونه موجودا دون أن يتحمل مسؤولية هذا الوجود، فنقرأ:
“تضيق بنظرات الرجل. منذ دخولك المقهى وعيناه تتابعانك. لم يخف نظراته الفاضحة لفضوله، لكن إن التقت عيناكما تلجأ نظراته للفرار، يرميهن بين قدميك” ( ص٩٦).
بالرغم من أن بطلنا يشعر بالضيق من نظرات الآخر الفضولي، إلا أن كاتبنا، وخلافا لسارتر، لا يقدم لنا رؤية واضحة عن الشخصية محور الحدث سوي كونها تجلس في مقهى وتشعر بالاضطراب تجاه نظرات الآخر، وفي المقابل يجعل من هذا الآخر موضوعا لنظرة الأنا المتأملة، ما يجعلنا نعرف عنها أكثر مما نعرف عن البطل، يتبدى ذلك في تلك الكلمات:
” تفكر في توبيخه، تهم بأن تسأله في غضب عن سر تحديقه فيك، لكن كبر سنه والأسى الطافح من ملامحه يمنعانك، وإن لم يبددا ضيقك… تهم بالخروج فينهض، يسبقك إلي الشارع وهو يخبط بالفرشاة الخشنة علي صندوقه الخشبي” ( ص٩٦).
إن سارتر يتحدث عن النظرة المجردة التي تكبل الوجود لأنه كان معنيا بقضية الحرية، غير أن شلتوت يتحدث عن النظرة الحية التي تنبع من معاناة المهمشين الباحثين عن الرزق لأنه كان معنيا بقضية العيش. يؤكد ذلك أنه يعبر عن المعني بكلمة “عيون” وسارتر يستخدم تعبير ” النظرة”، ما يعني أن سارتر يبحث في فعل النظر، بينما يبحث شلتوت عن صاحب النظرة، لذلك كان يتساءل ” من هو؟” ، وهو التساؤل الذي اتضحت إجابته في نهاية القصة:
“تبحث عن بقايا نظراته بين قدميك علها تخبرك شيئا، ترى حذائك وقد غطته أتربه كثيفة، حينئذ فقط تدرك سر فضوله” (ص٩٦).
وأخيرا يمكننا أن نقول إن ” فاتحة لصاحب المقام” إنما هي فاتحة للإنسان الضائع في دائرة التيه، الإنسان الذي يبحث عن مكان متواضع وسط الزحام، الذي يكافح من أجل الوجود بالرغم من افتقاده لأسباب العيش. إنه نبي بغير رسالة، ولي دون مريدين، ثائر صامت دون جماهير تسمع صرخته وتمجد ثورته، عدا كاتب مبدع مهموم بقضاياه في قامة أحمد رجب شلتوت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...