د. مصطفى أحمد علي - الصرمان تلفان

من التعبيرات المأثورة، التي قلّ استعمالها بين أبناء هذا الجيل، في العامية السودانية، قولهم: "الصرمان تلفان"، ويقابله في الفصيح، قولهم: "صاحب الحاجة أرعن".
وتعرف العامية السودانية، الصيغة الفعلية: اصطرم، يصطرم، بمعنى احتاج، كما تعرف الاسم: صرمة، بمعنى الحاجة، إلى جانب الصفة المشبهة: صرمان، بمعنى محتاج.
وفي (قاموس اللهجة العامية في السودان) لأستاذنا عون الشريف، رحمه الله:"..اصطرم احتاج. قال حاج العاقب: "يا عدّتي في الشدائد حين أصطرما". صرمة حاجة، ومن أقوالهم الصرمة أدَبة! (أي أن الحاجة ابتلاء!)، وإن بانت لك صرمة عند القرد قول له يا سيدي. قال عبد الله أخو الحاردلو:
صدقوا القايلين مو عاقل المصروم( ومعناها): ليس المحتاج بعاقل، ( ومنها): الصرمان بيجيب موية بروده..".
ومن مرادفات "صرم"، في العامية السودانية، "حوج". وفي (قاموس اللهجة العامية السودانية): "..حوّج، جعله يحتاج: الله لا حوّجني ليك، والحاجة: ما يُحتاج إليه.
والراجح أن دلالة (ح و ج)، لم تقتصر على معنى الافتقار إلى الشيء وطلبه، وانصرفت إلى معنى آخر هو "الشيء"، من حيث هو. نقول: الحاجة دي شنو: الشيء دا شنو؟ ولا يقتصر الأمر في ذلك على العامية السودانية فحسب، بل يشمل طائفة واسعة من لهجات العرب، في وادي النيل والمغرب العربي وجزيرة العرب.
واشتهرت أغنية أم كلثوم التي وردت فيها كلمة (حاجة) بمعنى شيء، وفيها تقول:
"..انت مابينك وبين الحب دنيا
دنيا ماتطولها ولا حتى بخيالك
أمّا نفس الحب عندي (حاجة) تانية
(حاجة) أغلى من حياتي ومن جمالك،
انت فين والحب فين ظالمه ليه دايما معاك؟..."
وفي غناء المغنية (الحجازية؟) شروق:
تشبه الصبح ونهار العيد بدري
يا غريب صار لي (حاجة) قريبة.
ومن العبارات الذائعة الشائعة في المغرب، قولهم: "بغيت شي (حاجة)، أي شيئاً.
وعرفت مادة (ح و ج)، تطوّراً دلالياً جديداً في اللهجة السودانية التي استحدثت كلمة( حَوْجة) للتعبير عن المأربة، أو مايفتقر إليه الإنسان ويطلبه، واحتفظت بصيغة(حاجة)، لتدلّ على (الشيء) من حيث هو.
ومما ورد في لسان العرب: "الحاجة والحائجة، المأربة، معروفة. وقوله تعالى: "ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم". قال ثعلب: يعني الأسفار. وجمع الحاجة حاجٌ وحِوَجٌ. قال الشاعر:
لقد طالما ثبّطتني عن صحابتي
وعن حِوَجٍ قضاها من قضائيا
وهي الحوجاء. وجمع الحائجة حوائج...والحاجُ جمع حائجة. قال الشاعر:
وأرضع حاجة بلبان أخرى
كذاك الحاجُ ترضع باللبان" أ.ه.
ولم يكتب لصيغة الجمع (حاج) الذيوع في العربية المعاصرة، وإن احتفى بها الشاعر الشركسي المصري، (عزيز اباظة)، وأوردها على لسان (العباسة) أخت الرشيد، تخاطب زوجها (جعفر بن يحيى البرمكي)، وتبثّ فيها مشاعر الحبّ والعشق والحرمان والجوى، في أبيات بلغت من الفصاحة والجزالة، مبلغاً قلّما يدركه ناشئة كُتّاب العربية من هذا الجيل.
قال رحمه الله:
شواكل من وجدٍ تصلّيتَ نارها
فكاتمتها إن المحبّ كتومُ
إذا ما اشرأبّت بين جنبيّ صبوةٌ
تداعت لها نفسٌ عليك رءومُ
أدافع لا أُطفي ظمائي وغلّتي
ووِردك صافٍ والجوانحُ هيمُ
تصابرتَ عن حقّ البعول وحاجِها
ونهنهت عنها النفسَ وهي كظيمُ
أما (حوجة) السودانية، فقد بلغت شأوأً عظيماً في مراقي "الفصحى" في عناوين الصحافة والتلفزيون وتقارير التجارة والاقتصاد، فصرنا نسمع ونقرأ عن "حوجة" البلاد في الوقود، و"حوجتها" في القمح، و"حوجتها" في الدواء.
ورحم الله الشنفرى حين قال:
فَقَد حُمَّت (الحاجاتُ) واللَيلُ مُقمِرٌ
وَشُدَّت لِطِيّاتٍ مَطايا وَأَرُحلُ.

د. مصطفى أحمد علي،
الرباط، مارس ٢٠٢١م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...