(الجزء الثاني)
التشكيل السردي للنص:
تلجأ القصيدة عند البهاء حسين إلى السرد باعتباره ركيزة أساسية تستند عليه، وتحاول أن تلغي الفواصل بين القصيدة والقصة، وقد أطلق الدكتور عز الدين إسماعيل على هذا النوع من الشعر اسم القصيدة القصصية، ويرى أن "كل الأنواع الأدبية تصبو إلى مستوى التعبير الدرامي ... التعبير الدرامي هو أعلى صورة من صور التعبير الأدبي ... فإذا كانت الموسيقى تلخص كل القيم التعبيرية في سائر الفنون فإن العمل الأدبي الدرامي يلخص كذلك كل القيم التعبيرية في سائر فنون القول" (الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية، ص 278) ويتابع الدكتور عز الدين إسماعيل الفكرة مطوِّرًا إياها، فيقول: "فإذا كانت الدراما تعني الصراع فإنها في الوقت نفسه تعني الحركة، الحركة من موقف إلى موقف مقابل، من عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، من فكرة إلى وجه آخر للفكرة، فإذا كانت طبيعة بناء الحياة في مجملها قائمة على هذا الأساس الدرامي فلا غرو أن تتسلل الخاصية الدرامية في كل جزئية من جزئيات هذا البناء" (السابق، ص 279) ثم يتحدث عن التفكير الدرامي، ويربط بينه وبين الفن القصصي والشعري، ويقول "ولعلنا الآن قد اقتربنا من الحديث عن درامية التفكير الشعري ... وكما تطورت القصة نحو القصة الدرامية كذلك تطور الشعر من الغنائية الصرف إلى الغنائية الفكرية، وصارت أروع القصائد الحديثة العالمية هي أولا وقبل كل شيء قصائد ذات طابع درامي من الطراز الأول" (السابق، ص 279، 281) أما الدكتور جلال الخياط فقد أشار في كتابه الأصول الدرامية في الشعر العربي إلى أننا إذا " أردنا أن نجزم بأنَّ الشعر القديم غنائي محض فهناك أشكال درامية اتخذت طريق الشعر القصصي بسرد حادثة أو حوادث مع وصف أو إفصاح عن شعور وموقف ورأي، وكان للشاعر أن يطوّر حكاياته لو وجد الدافع أو أدرك أبعاد الأجناس والأنواع الأدبية المختلفة" (الأصول الدرامية في الشعر العربي، ص65) ومما سبق نستنتج أن الشعر القصصي له أصوله في الشعر العربي منذ القدم، ولكن الشاعر الحديث أضاف الكثير من روحه وثقافته وثقافة عصره وتطوره، فصارت القصيدة في شكلها السردي الدرامي مختلفة تماما، فإذا انتقلنا إلى قصيدة النثر بكل ما تتصف به من مغايرة فإننا أمام تصور مختلف لاستخدام فكرة الدراما في القصيدة، فإذا انتقلنا إلى قصيدة البهاء حسين فإننا نلاحظ ارتباط السرد بالرؤية الفكرية في النص الشعري بحيث يشكلان كلاهما ضفيرتين متداخلتين لا يمكن الفصل بينهما، أو وجهين لعملة واحدة؛ إذ أصبحت الرؤية هي الروح بالنسبة للسرد والسرد هو الجسد الذي تتجسد فيه الروح/الرؤية، فالرؤية هي الروح والسرد هو الجسد، وكل منهما كاشف للآخر، ومبرز له، وتطور السرد في القصيدة هو في الحقيقة تطور للرؤية، واندفاعها نحو التشكُّل أكثر وأكثر حتى تصل إلى اكتمالها مع اكتمال السرد، لقد استطاع البهاء حسين بهذا الشكل من الصياغة أن يشكِّل لنفسه نمطا مميزا من قصيدة النثر بحيث نستطيع أن نلمحها من بين عشرات، بل مئات القصائد، فهو – وإن كان يسير في إطار الرؤية الكلية لقصيدة النثر، ومقولاتها الفاعلة – قد استطاع أن يميز قصيدته عن غيره من الشعراء، ويتضح ذلك إذا قارنا قصيدته من حيث الشكل والصياغة بقصائد شعراء آخرين لهم أيضا نمطهم الخاص، أمثال الدكتور عيد صالح، وفتحي عبد السميع، ومحمد حربي، وغيرهم، فسوف يتضح التمايز بين هذه الأنماط من حيث الشكل والصياغة، وهو ما يدفعنا إلى الرجوع إلى طبيعة التمايز بين أنماط قصيدة النثر، ذلك التمايز الذي صاحب تلك القصيدة منذ بداياتها، فالقالب الكتابي لقصيدة النثر ليس جامدا، ولكنه يقدِّم آليات متنوِّعة وأحيانا مختلفة للكتابة يختصُّ بها كل شاعر، أو مجموعة من الشعراء، فإذا نظرنا إلى شعراء أمثال سركون بولص وسليم بركات وأمجد ريان وغيرهم فسوف نجد التجربة الكتابية عندهم مختلفة تماما عن التجربة عند كل من نوري الجراح وقاسم حداد مثلا، ومختلفة أيضا عن تجربة الكتابة النسوية في الشكل والصياغة، ومن ثم فإن قصيدة النثر لاتعتمد شكلا واحدا في صياغتها، وتبقى خصوصية الشاعر في صوغ تجربته محكومة بقدرته على حفر مجرى خاص به تتدفق فيه مياه الإبداع من المحيط الكبير الذي تمثله الأطر العامة لقصيدة النثر بمقولاتها الفلسفية الحاكمة لها، وقد استطاع البهاء حسين أن يجد له مكانا خاصا به على ضفاف قصيدة النثر، وهو مكان – كما أشرنا سابقا – يستطيع المتلقي أن يتعرف عليه بوضوح.
أما الحركة والصراع اللذان هما من تجليات الدراما فإنهما ملمحان بارزان بوضوح في قصيدة البهاء حسين؛ فالشاعر ينتقل من موقف إلى موقف مقابل، ومن عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، كما ينتقل من فكرة إلى وجه آخر للفكرة، وفي كل جزئية من القصيدة يعرض ملمحا من الرؤية للشخصيات التي ترد في النص، ويتنقل بين الشخصيات مبرزا الصراع الدرامي بين رؤاها المختلفة، وكاشفا عن التناقضات أحيانا، يقول الشاعر:
نعم يا عبير
أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين
وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبي
أسرّبه من تحت الباب
الآن
وأنا أتذكر مفترق الطرق التي وضعتك فيه
كتمثال مصدوم
أضم كفي، ربما التقينا في خطوط يدي
الزمن العداد الذي يحصى سنواتنا
قبل أن ننتهي منها
الحب الذي تربكنا تصرفاته
واليد التي تقود صاحبها إلى مصيره
المدقات التي تخترعها أقدام المحبين
كلهم خذلوني
حتى جيهان التي تركتك من أجلها
هجرتني وبقيتُ بيد واحدة
الحب أب مختل
يقتل أبناءه بحجة تأديبهم
في البداية يمكن النظر إلى هذا المقطع من القصيدة على أنه نوع من المونولوج الداخلي؛ ذلك أن عبيرا ليست موجودة في لحظة التكلم، والتوجه بالحديث إليها في هذه الحالة ليس منطقيا، ومن ثم يمكن تصور أن الشاعر استدعاها إلى بؤرة اللحظة الراهنة في ذهنه؛ ليتحدث إليها مفصحا عن مكنون نفسه، وكاشفا عن شعوره الحقيقي، ذلك الشعور الذي يتضمن ثنائية ضدية واضحة برزت في قوله (أنا الوغد الذي أحبك) فالجانب الأول من تلك الثنائية هو وصف نفسه بالوغد، والوغد في اللغة (صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من وغُدَ، والوَغْدُ: الأَحمقُ الدَّنِيءُ الرَّذْلُ، والوَغْدُ: الضَّعِيفُ الجسم، والوَغْدُ: خادمٌ القومِ بطَعام بطنه، ورَجُلٌ وَغْدٌ: ضَعِيفُ العَقْلِ، والوغد هو أَحْمَقُ، دَنِيءٌ، خَسِيسٌ، وَغْلٌ، والجمع: أوْغاد ووُغْدان، ووِغْدانُ، ووغد الرّجل: كان رذلاً دنيئًا صغير العقل ''وغُد في معالجة أموره العائليّة''.) ومن الملاحظ أن الوصف بالوغد صفة سلبية في جميع أحوالها ومعانيها، أما الجانب الآخر من الثنائية فهو (الذي أحبك) والحب يحمل المشاعر الإنسانية للطرف المحبوب، ولكن الصراع داخل النفس الشاعرة بين طرفي الثنائية (وغد – أحب) كان في صالح الصفة السلبية، فانتقل الشاعر من موقف وشعور إلى موقف وشعور آخرين، وإذا عرفنا أن الوغد صفة مشبهة تدل على الثبوت، وأن (أحب) فعل، والفعل يدل على الحركة يتضح أن الانتصار لصالح الثابت/الوغد على حساب المتغير/أحب شيءٌ مؤكَّدٌ، ومن ثم كان حديثه التالي مباشرة (وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبي أسرّبه من تحت الباب) انتصارا لهذا الثابت/الوغد على حساب المتغير/أحب، نلاحظ البناء الدرامي لهذا المقطع، ذلك البناء الذي يتحرك ضمن الصراع الحاكم لسيرورة النص؛ فالشاعر يتنقل بين المواقف والمشاعر والأفكار، فينتقل من فكرة أن عبيرا لا تخطر على باله إلى النقيض، وهو أن عبيرا تحتل مكانا مركزيا في ذهنه من خلال حضورها الفعلي على المستوى اللفظي، والمستوى المعنوي؛ لتكرِّس سيطرتها الفعلية على الذهن، وإمساكها بخيوط الرؤية، وتسربها في أنسجة النص بأكمله، وقد أشرنا سابقا إلى أن حضور جيهان/الحياة التي اختارها الشاعر، وقرر أن يعيشها كان حضورا باهتا بالقياس إلى حضور عبير التي قرَّر التخلص منها، ومن كل ما يتعلق بها، وهنا تتلبَّس الرؤية بالسرد – كما أشرنا سابقا – فتطور الرؤية مرتبط بتطور السرد، وقد بدا ذلك واضحا من خلال المقطع الذي أشرنا إليه، فإذا ربطنا هذا المقطع بما ورد في بداية النص سنكتشف انتقال الشاعر من موقف إلى موقف مغاير، ومن عاطفة إلى عاطفة، ومن فكرة إلى فكرة، وهو الأساس الدرامي الذي يستند عليه السرد، يقول:
لا تخطر على بالى " عبير "
مع أنها كانت تحب رائحتي حين أفرح
كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي
وأنا أحببتها مؤقتاً
لأني لا أستطيع العيش بدون حب
لطالما عاملت صدرها بانتهازية
كنت أقضم قطعة منه في كل مرة
وأحتفظ بها في سلة الذكريات
لطالما رأيت الحب على أنه جسد
حين يكون بلا عيب
يكتمل حبي
فإذا كان قد أقر في هذا الموقف بنسيان عبير فقد أقر في الموقف السابق أنها في بؤرة الاهتمام والتذكر، هذا على المستوى المعنوي، أما على المستوى اللفظي فقد تحدث في هذا المقطع عن عبير باستخدام أداة النفي (لا) الداخلة على الفعل المضارع، والدالة على نفي الحاضر والمستقبل، (لا تخطر على بالي عبير) فقد استخدم أداة النفي (لا) وألحق بها الفعل المضارع، وهي في هذه الحالة تدل على نفي الحاضر والمستقبل إلا إذا كانت هناك قرينة دالة على نفي أحدهما دون الآخر، وهذا يعني أن (عبيرا) لا وجود لها في خاطره حاليا، ولن يكون لها وجود أيضا في المستقبل، ولكنه في المقطع السابق تحدث إليها بصيغة المخاطب (نعم يا عبير) وإذا كان حضوره في هذا المقطع واضحا فإن حضور عبير في المقطع السابق كان طاغيا، وهذا يؤيد ما قلناه من أن تطور الرؤية مرتبط بتطور السرد؛ لأن الرؤية متلبِّسة بالسرد كما أشرنا سابقا، وقد نجحت القصيدة في إبراز ذلك بوضوح، وإضافة إلى ذلك نجد الانتقال من الحديث عن عبير إلى الحديث عن جيهان، وقد أشرنا سابقا إلى أنهما تمثلان وجهين مختلفين، أو مرحلتين في حياة الأنا الشاعرة، فعبير تمثل الماضي/حياة القرية، وجيهان تمثل حياة المدينة، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا بالتفصيل، وهو ما دفعنا إلى القول بأن النص الشعري عند البهاء حسين منفتح على احتمالات معرفية وحدسية وخيالية متعددة، وأن هذا النص في أساسه يعبِّر عن الحساسية الحضارية الكبيرة المتأسِّسة على القلق النفسي الذي يصبغ حياة الشاعر المعاصر، فهو ليس نصا مباشرا يعبر عن تجربة حياتية ينقلها الشاعر بتفاصيلها بقدر ما هو نص يفجِّر تلك المواقف والمشاعر والأفكار المتداخلة والمتناقضة والمتفاعلة والغامضة التي تحتل بؤرة النفس الشاعرة وتؤرقها، وقد تدفعها أحيانا إلى نوع من الجنون غير المعروف الأسباب، ولكنه يعبر عن العتمة التي يعيشها الإنسان المعاصر، ونتيجة لذلك نجد الشاعر ينتقل من موقف إلى موقف مقابل، ومن عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، ومن فكرة إلى وجه آخر للفكرة، وهو الأساس الدرامي الذي قامت عليه طبيعة بناء الحياة، كما أشار الدكتور عز الدين إسماعيل، ومن ثم فإن تأويل النص ينقلنا من دائرة مغلقة على الذات إلى دائرة منفتحة على العالم، وهو ما سنشير إليه.
أشكال السرد:
إن استخدام السرد الحكائي في النص الشعري يرتقي بهذا النص، ويخرج به من أفق التعبير الذاتي إلى أفق التعبير الموضوعي، ذلك الأفق الذي يتميز بالرؤية العميقة المستوعبة للفعل الإنساني وتموجاته المختلفة، وصراعاته الداخلية والخارجية، ومن المعروف أن هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسرد عند ارتباطه بعنصر الزمن، وهي السرد المتسلسل (المتتابع) وهو سرد الأحداث وفق تسلسلها الزمني المنطقي، فينتقل المبدع من البداية إلى الوسط إلى النهاية، وهو الذي يتوافق مع منطق الأحداث في الزمن، والنوع الثاني هو السرد المتقطع، وهو عكس النوع الأول؛ إذ نجد المبدع لا يلتزم بالتسلسل المنطقي للأحداث، فمن الممكن أن يبدأ من الذروة، أو منتصف الأحداث، أو نهايتها، ثم يعود إلى البداية، وهكذا لا يلتزم المبدع بالتسلسل المنطقي للأحداث في الزمن، ولكنه يخلق تسلسلا يرتضيه وفق رؤيته الفنية والفكرية للعمل الإبداعي، وأما النوع الثالث من السرد فهو السرد التناوبي، وهو الذي يعتمد فيه المبدع على تناوب الأحداث، فقد يروي المبدع قصة معينة، أو يتحدث في موضوع معين، ثم ينتقل إلى قصة أخرى، ثم يعود إلى القصة الأولى، أو ينتقل إلى قصة ثالثة، وهكذا، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك ترابطا دلاليا بين كل ما رواه المبدع، أو خطا دراميا مشتركا يربط بين ما رواه المبدع في البداية، وما ظننا فيه أنه خرج عن الموضوع إلى موضوع آخر، ومعنى ذلك أن المبدع في السرد التناوبي يصنع لنفسه خطا دراميا معينا يربط بين أجزاء النص، وإن ظنناه خرج عن الموضوع الذي يتحدث فيه، فإذا انتقلنا إلى قصيدة "البنت الطيبة التي أحبت أصابعي" فإننا لا نجد السرد يتمحور حول خط مستقيم يتصاعد متجها من البداية إلى النهاية، ولكننا نجد الشاعر يربط مشاهد متعددة، مبتدئا من اللحظة الآنية متجها نحو الماضي في بداياته الأولى، ثم يعود من البداية إلى الحاضر، دون تسلسل في الأحداث؛ إذ يضطر أحيانا إلى العودة مرة أخرى إلى الماضي، وفي كل ذلك يسرد بعض الأحداث التي تخدم تطور السرد، وقد بدا ذلك واضحا في حديثنا السابق عن حركة المعنى وإنتاج الدلالة، فقد تحدث الشاعر في المقطع الأول عن عبير بحسبانها مرحلة من مراحل حياته الماضية، وأنها الآن لا تخطر على باله، أي أنه يتحدث في اللحظة الآنية عن مرحلة من مراحل حياته الماضية، ذاكرا صفات تلك المرحلة، ومعنى ذلك أن السرد هنا مرتبط بالزمن الحاضر، وقد بدت عبير مرحلة ماضية انتهت من حياته وصارت مجرد ذكرى، ولكنه ينتقل إلى الحديث إلى عبير مباشرة في حوار يبدو اعترافا بما ارتكبه في الماضي، ولكنه اعتراف المقر بما فعل، وليس النادم على ما فعل، ثم ينتقل إلى فشل كل اختياراته حين يقول (كلهم خذلوني/ حتى جيهان التي تركتك من أجلها/ هجرتني وبقيت بيد واحدة ....) ثم يعود إلى الحديث عن الماضي مع عبير (كانت عبير تنظر إلى يدي كمعجزة/ كانت تقارنها بأمها ...) ويستطرد الشاعر في الحديث عن عبير، ومواقفه معها كأنه في حديث مباشر معها (تذكرين حين أردت أن أعريك تحت المطر في محطة الرمل/ حين دوَّنت تاريخ اللقاء بأحد الدواوين/ اليوم أنا أتصفحه بعد خمسة وعشرين عاما/ وجدت اسمك في الصفحة الأخيرة) ثم ينتقل إلى الحديث عن جيهان وما فعلت به (غدَّارة جيهان يا عبير كالمطبات/ كحفرة مفاجئة ...) من الملاحظ أن السرد هنا لا يسير على وتيرة واحدة في تسلسل منطقي، ولكنه يختار من القصة ما يلائم الرؤية التي يريد التعبير عنها، وهو ما أشرنا إليه أيضا سابقا من أن الرؤية متلبِّسة بالسرد، وقد نجح الشكل السردي – السرد المتقطع – الذي اعتمده الشاعر في صبغ القصيدة بالديناميكية المطلوبة، والبعد عن الرتابة والملل اللذين قد يصيبان النص الشعري إذا لم ينتبه الشاعر إلى فاعلية السرد وقدرته على الاستحواذ على المتلقي؛ ليتابع إلى النهاية محاولا الربط بين الأنسجة التي قد تبدو مختلفة ومتباينة؛ ليصل إلى الرؤية الكامنة وراء شبكة العلاقات التي نسجها الشاعر في النص.
وفي النهاية نستطيع القول إنه على الرغم من أن الشكل المباشر للنص يبدو بسيطا؛ إذ يرصد تجربة قد تبدو ذاتية مباشرة تنبني على رصد حياة الأنا الشاعرة وعلاقتها بالآخر/الأنثى/عبير/جيهان، فإن التأمل العميق للنص يأخذنا إلى زاوية تأويلية بعيدة المدى، وأكثر عمقا مما يبدو عليه التشكيل البسيط للنص؛ إذ تتجلى المعاناة الإنسانية بملامحها المختلفة، وزواياها المتعددة، وتتقاطع بعض الزوايا أحيانا فتتصارع في بعض التفاصيل، كما قد تتكامل أحيانا في تفاصيل أخرى؛ لترصد الرؤية العامة للمعاناة الإنسانية، ومن ثم فإن النص يستدعي المهمَّش والبسيط/التجربة الإنسانية البسيطة فيضعهما في متن الرؤية ومحور الفعل الشعري.
(للدراسة جزء ثالث)
التشكيل السردي للنص:
تلجأ القصيدة عند البهاء حسين إلى السرد باعتباره ركيزة أساسية تستند عليه، وتحاول أن تلغي الفواصل بين القصيدة والقصة، وقد أطلق الدكتور عز الدين إسماعيل على هذا النوع من الشعر اسم القصيدة القصصية، ويرى أن "كل الأنواع الأدبية تصبو إلى مستوى التعبير الدرامي ... التعبير الدرامي هو أعلى صورة من صور التعبير الأدبي ... فإذا كانت الموسيقى تلخص كل القيم التعبيرية في سائر الفنون فإن العمل الأدبي الدرامي يلخص كذلك كل القيم التعبيرية في سائر فنون القول" (الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية، ص 278) ويتابع الدكتور عز الدين إسماعيل الفكرة مطوِّرًا إياها، فيقول: "فإذا كانت الدراما تعني الصراع فإنها في الوقت نفسه تعني الحركة، الحركة من موقف إلى موقف مقابل، من عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، من فكرة إلى وجه آخر للفكرة، فإذا كانت طبيعة بناء الحياة في مجملها قائمة على هذا الأساس الدرامي فلا غرو أن تتسلل الخاصية الدرامية في كل جزئية من جزئيات هذا البناء" (السابق، ص 279) ثم يتحدث عن التفكير الدرامي، ويربط بينه وبين الفن القصصي والشعري، ويقول "ولعلنا الآن قد اقتربنا من الحديث عن درامية التفكير الشعري ... وكما تطورت القصة نحو القصة الدرامية كذلك تطور الشعر من الغنائية الصرف إلى الغنائية الفكرية، وصارت أروع القصائد الحديثة العالمية هي أولا وقبل كل شيء قصائد ذات طابع درامي من الطراز الأول" (السابق، ص 279، 281) أما الدكتور جلال الخياط فقد أشار في كتابه الأصول الدرامية في الشعر العربي إلى أننا إذا " أردنا أن نجزم بأنَّ الشعر القديم غنائي محض فهناك أشكال درامية اتخذت طريق الشعر القصصي بسرد حادثة أو حوادث مع وصف أو إفصاح عن شعور وموقف ورأي، وكان للشاعر أن يطوّر حكاياته لو وجد الدافع أو أدرك أبعاد الأجناس والأنواع الأدبية المختلفة" (الأصول الدرامية في الشعر العربي، ص65) ومما سبق نستنتج أن الشعر القصصي له أصوله في الشعر العربي منذ القدم، ولكن الشاعر الحديث أضاف الكثير من روحه وثقافته وثقافة عصره وتطوره، فصارت القصيدة في شكلها السردي الدرامي مختلفة تماما، فإذا انتقلنا إلى قصيدة النثر بكل ما تتصف به من مغايرة فإننا أمام تصور مختلف لاستخدام فكرة الدراما في القصيدة، فإذا انتقلنا إلى قصيدة البهاء حسين فإننا نلاحظ ارتباط السرد بالرؤية الفكرية في النص الشعري بحيث يشكلان كلاهما ضفيرتين متداخلتين لا يمكن الفصل بينهما، أو وجهين لعملة واحدة؛ إذ أصبحت الرؤية هي الروح بالنسبة للسرد والسرد هو الجسد الذي تتجسد فيه الروح/الرؤية، فالرؤية هي الروح والسرد هو الجسد، وكل منهما كاشف للآخر، ومبرز له، وتطور السرد في القصيدة هو في الحقيقة تطور للرؤية، واندفاعها نحو التشكُّل أكثر وأكثر حتى تصل إلى اكتمالها مع اكتمال السرد، لقد استطاع البهاء حسين بهذا الشكل من الصياغة أن يشكِّل لنفسه نمطا مميزا من قصيدة النثر بحيث نستطيع أن نلمحها من بين عشرات، بل مئات القصائد، فهو – وإن كان يسير في إطار الرؤية الكلية لقصيدة النثر، ومقولاتها الفاعلة – قد استطاع أن يميز قصيدته عن غيره من الشعراء، ويتضح ذلك إذا قارنا قصيدته من حيث الشكل والصياغة بقصائد شعراء آخرين لهم أيضا نمطهم الخاص، أمثال الدكتور عيد صالح، وفتحي عبد السميع، ومحمد حربي، وغيرهم، فسوف يتضح التمايز بين هذه الأنماط من حيث الشكل والصياغة، وهو ما يدفعنا إلى الرجوع إلى طبيعة التمايز بين أنماط قصيدة النثر، ذلك التمايز الذي صاحب تلك القصيدة منذ بداياتها، فالقالب الكتابي لقصيدة النثر ليس جامدا، ولكنه يقدِّم آليات متنوِّعة وأحيانا مختلفة للكتابة يختصُّ بها كل شاعر، أو مجموعة من الشعراء، فإذا نظرنا إلى شعراء أمثال سركون بولص وسليم بركات وأمجد ريان وغيرهم فسوف نجد التجربة الكتابية عندهم مختلفة تماما عن التجربة عند كل من نوري الجراح وقاسم حداد مثلا، ومختلفة أيضا عن تجربة الكتابة النسوية في الشكل والصياغة، ومن ثم فإن قصيدة النثر لاتعتمد شكلا واحدا في صياغتها، وتبقى خصوصية الشاعر في صوغ تجربته محكومة بقدرته على حفر مجرى خاص به تتدفق فيه مياه الإبداع من المحيط الكبير الذي تمثله الأطر العامة لقصيدة النثر بمقولاتها الفلسفية الحاكمة لها، وقد استطاع البهاء حسين أن يجد له مكانا خاصا به على ضفاف قصيدة النثر، وهو مكان – كما أشرنا سابقا – يستطيع المتلقي أن يتعرف عليه بوضوح.
أما الحركة والصراع اللذان هما من تجليات الدراما فإنهما ملمحان بارزان بوضوح في قصيدة البهاء حسين؛ فالشاعر ينتقل من موقف إلى موقف مقابل، ومن عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، كما ينتقل من فكرة إلى وجه آخر للفكرة، وفي كل جزئية من القصيدة يعرض ملمحا من الرؤية للشخصيات التي ترد في النص، ويتنقل بين الشخصيات مبرزا الصراع الدرامي بين رؤاها المختلفة، وكاشفا عن التناقضات أحيانا، يقول الشاعر:
نعم يا عبير
أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين
وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبي
أسرّبه من تحت الباب
الآن
وأنا أتذكر مفترق الطرق التي وضعتك فيه
كتمثال مصدوم
أضم كفي، ربما التقينا في خطوط يدي
الزمن العداد الذي يحصى سنواتنا
قبل أن ننتهي منها
الحب الذي تربكنا تصرفاته
واليد التي تقود صاحبها إلى مصيره
المدقات التي تخترعها أقدام المحبين
كلهم خذلوني
حتى جيهان التي تركتك من أجلها
هجرتني وبقيتُ بيد واحدة
الحب أب مختل
يقتل أبناءه بحجة تأديبهم
في البداية يمكن النظر إلى هذا المقطع من القصيدة على أنه نوع من المونولوج الداخلي؛ ذلك أن عبيرا ليست موجودة في لحظة التكلم، والتوجه بالحديث إليها في هذه الحالة ليس منطقيا، ومن ثم يمكن تصور أن الشاعر استدعاها إلى بؤرة اللحظة الراهنة في ذهنه؛ ليتحدث إليها مفصحا عن مكنون نفسه، وكاشفا عن شعوره الحقيقي، ذلك الشعور الذي يتضمن ثنائية ضدية واضحة برزت في قوله (أنا الوغد الذي أحبك) فالجانب الأول من تلك الثنائية هو وصف نفسه بالوغد، والوغد في اللغة (صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من وغُدَ، والوَغْدُ: الأَحمقُ الدَّنِيءُ الرَّذْلُ، والوَغْدُ: الضَّعِيفُ الجسم، والوَغْدُ: خادمٌ القومِ بطَعام بطنه، ورَجُلٌ وَغْدٌ: ضَعِيفُ العَقْلِ، والوغد هو أَحْمَقُ، دَنِيءٌ، خَسِيسٌ، وَغْلٌ، والجمع: أوْغاد ووُغْدان، ووِغْدانُ، ووغد الرّجل: كان رذلاً دنيئًا صغير العقل ''وغُد في معالجة أموره العائليّة''.) ومن الملاحظ أن الوصف بالوغد صفة سلبية في جميع أحوالها ومعانيها، أما الجانب الآخر من الثنائية فهو (الذي أحبك) والحب يحمل المشاعر الإنسانية للطرف المحبوب، ولكن الصراع داخل النفس الشاعرة بين طرفي الثنائية (وغد – أحب) كان في صالح الصفة السلبية، فانتقل الشاعر من موقف وشعور إلى موقف وشعور آخرين، وإذا عرفنا أن الوغد صفة مشبهة تدل على الثبوت، وأن (أحب) فعل، والفعل يدل على الحركة يتضح أن الانتصار لصالح الثابت/الوغد على حساب المتغير/أحب شيءٌ مؤكَّدٌ، ومن ثم كان حديثه التالي مباشرة (وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبي أسرّبه من تحت الباب) انتصارا لهذا الثابت/الوغد على حساب المتغير/أحب، نلاحظ البناء الدرامي لهذا المقطع، ذلك البناء الذي يتحرك ضمن الصراع الحاكم لسيرورة النص؛ فالشاعر يتنقل بين المواقف والمشاعر والأفكار، فينتقل من فكرة أن عبيرا لا تخطر على باله إلى النقيض، وهو أن عبيرا تحتل مكانا مركزيا في ذهنه من خلال حضورها الفعلي على المستوى اللفظي، والمستوى المعنوي؛ لتكرِّس سيطرتها الفعلية على الذهن، وإمساكها بخيوط الرؤية، وتسربها في أنسجة النص بأكمله، وقد أشرنا سابقا إلى أن حضور جيهان/الحياة التي اختارها الشاعر، وقرر أن يعيشها كان حضورا باهتا بالقياس إلى حضور عبير التي قرَّر التخلص منها، ومن كل ما يتعلق بها، وهنا تتلبَّس الرؤية بالسرد – كما أشرنا سابقا – فتطور الرؤية مرتبط بتطور السرد، وقد بدا ذلك واضحا من خلال المقطع الذي أشرنا إليه، فإذا ربطنا هذا المقطع بما ورد في بداية النص سنكتشف انتقال الشاعر من موقف إلى موقف مغاير، ومن عاطفة إلى عاطفة، ومن فكرة إلى فكرة، وهو الأساس الدرامي الذي يستند عليه السرد، يقول:
لا تخطر على بالى " عبير "
مع أنها كانت تحب رائحتي حين أفرح
كانت تحب أصابعي وترى فيها عدة طرق إلى قلبي
وأنا أحببتها مؤقتاً
لأني لا أستطيع العيش بدون حب
لطالما عاملت صدرها بانتهازية
كنت أقضم قطعة منه في كل مرة
وأحتفظ بها في سلة الذكريات
لطالما رأيت الحب على أنه جسد
حين يكون بلا عيب
يكتمل حبي
فإذا كان قد أقر في هذا الموقف بنسيان عبير فقد أقر في الموقف السابق أنها في بؤرة الاهتمام والتذكر، هذا على المستوى المعنوي، أما على المستوى اللفظي فقد تحدث في هذا المقطع عن عبير باستخدام أداة النفي (لا) الداخلة على الفعل المضارع، والدالة على نفي الحاضر والمستقبل، (لا تخطر على بالي عبير) فقد استخدم أداة النفي (لا) وألحق بها الفعل المضارع، وهي في هذه الحالة تدل على نفي الحاضر والمستقبل إلا إذا كانت هناك قرينة دالة على نفي أحدهما دون الآخر، وهذا يعني أن (عبيرا) لا وجود لها في خاطره حاليا، ولن يكون لها وجود أيضا في المستقبل، ولكنه في المقطع السابق تحدث إليها بصيغة المخاطب (نعم يا عبير) وإذا كان حضوره في هذا المقطع واضحا فإن حضور عبير في المقطع السابق كان طاغيا، وهذا يؤيد ما قلناه من أن تطور الرؤية مرتبط بتطور السرد؛ لأن الرؤية متلبِّسة بالسرد كما أشرنا سابقا، وقد نجحت القصيدة في إبراز ذلك بوضوح، وإضافة إلى ذلك نجد الانتقال من الحديث عن عبير إلى الحديث عن جيهان، وقد أشرنا سابقا إلى أنهما تمثلان وجهين مختلفين، أو مرحلتين في حياة الأنا الشاعرة، فعبير تمثل الماضي/حياة القرية، وجيهان تمثل حياة المدينة، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا بالتفصيل، وهو ما دفعنا إلى القول بأن النص الشعري عند البهاء حسين منفتح على احتمالات معرفية وحدسية وخيالية متعددة، وأن هذا النص في أساسه يعبِّر عن الحساسية الحضارية الكبيرة المتأسِّسة على القلق النفسي الذي يصبغ حياة الشاعر المعاصر، فهو ليس نصا مباشرا يعبر عن تجربة حياتية ينقلها الشاعر بتفاصيلها بقدر ما هو نص يفجِّر تلك المواقف والمشاعر والأفكار المتداخلة والمتناقضة والمتفاعلة والغامضة التي تحتل بؤرة النفس الشاعرة وتؤرقها، وقد تدفعها أحيانا إلى نوع من الجنون غير المعروف الأسباب، ولكنه يعبر عن العتمة التي يعيشها الإنسان المعاصر، ونتيجة لذلك نجد الشاعر ينتقل من موقف إلى موقف مقابل، ومن عاطفة أو شعور إلى عاطفة أو شعور مقابلين، ومن فكرة إلى وجه آخر للفكرة، وهو الأساس الدرامي الذي قامت عليه طبيعة بناء الحياة، كما أشار الدكتور عز الدين إسماعيل، ومن ثم فإن تأويل النص ينقلنا من دائرة مغلقة على الذات إلى دائرة منفتحة على العالم، وهو ما سنشير إليه.
أشكال السرد:
إن استخدام السرد الحكائي في النص الشعري يرتقي بهذا النص، ويخرج به من أفق التعبير الذاتي إلى أفق التعبير الموضوعي، ذلك الأفق الذي يتميز بالرؤية العميقة المستوعبة للفعل الإنساني وتموجاته المختلفة، وصراعاته الداخلية والخارجية، ومن المعروف أن هناك ثلاثة أشكال رئيسية للسرد عند ارتباطه بعنصر الزمن، وهي السرد المتسلسل (المتتابع) وهو سرد الأحداث وفق تسلسلها الزمني المنطقي، فينتقل المبدع من البداية إلى الوسط إلى النهاية، وهو الذي يتوافق مع منطق الأحداث في الزمن، والنوع الثاني هو السرد المتقطع، وهو عكس النوع الأول؛ إذ نجد المبدع لا يلتزم بالتسلسل المنطقي للأحداث، فمن الممكن أن يبدأ من الذروة، أو منتصف الأحداث، أو نهايتها، ثم يعود إلى البداية، وهكذا لا يلتزم المبدع بالتسلسل المنطقي للأحداث في الزمن، ولكنه يخلق تسلسلا يرتضيه وفق رؤيته الفنية والفكرية للعمل الإبداعي، وأما النوع الثالث من السرد فهو السرد التناوبي، وهو الذي يعتمد فيه المبدع على تناوب الأحداث، فقد يروي المبدع قصة معينة، أو يتحدث في موضوع معين، ثم ينتقل إلى قصة أخرى، ثم يعود إلى القصة الأولى، أو ينتقل إلى قصة ثالثة، وهكذا، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك ترابطا دلاليا بين كل ما رواه المبدع، أو خطا دراميا مشتركا يربط بين ما رواه المبدع في البداية، وما ظننا فيه أنه خرج عن الموضوع إلى موضوع آخر، ومعنى ذلك أن المبدع في السرد التناوبي يصنع لنفسه خطا دراميا معينا يربط بين أجزاء النص، وإن ظنناه خرج عن الموضوع الذي يتحدث فيه، فإذا انتقلنا إلى قصيدة "البنت الطيبة التي أحبت أصابعي" فإننا لا نجد السرد يتمحور حول خط مستقيم يتصاعد متجها من البداية إلى النهاية، ولكننا نجد الشاعر يربط مشاهد متعددة، مبتدئا من اللحظة الآنية متجها نحو الماضي في بداياته الأولى، ثم يعود من البداية إلى الحاضر، دون تسلسل في الأحداث؛ إذ يضطر أحيانا إلى العودة مرة أخرى إلى الماضي، وفي كل ذلك يسرد بعض الأحداث التي تخدم تطور السرد، وقد بدا ذلك واضحا في حديثنا السابق عن حركة المعنى وإنتاج الدلالة، فقد تحدث الشاعر في المقطع الأول عن عبير بحسبانها مرحلة من مراحل حياته الماضية، وأنها الآن لا تخطر على باله، أي أنه يتحدث في اللحظة الآنية عن مرحلة من مراحل حياته الماضية، ذاكرا صفات تلك المرحلة، ومعنى ذلك أن السرد هنا مرتبط بالزمن الحاضر، وقد بدت عبير مرحلة ماضية انتهت من حياته وصارت مجرد ذكرى، ولكنه ينتقل إلى الحديث إلى عبير مباشرة في حوار يبدو اعترافا بما ارتكبه في الماضي، ولكنه اعتراف المقر بما فعل، وليس النادم على ما فعل، ثم ينتقل إلى فشل كل اختياراته حين يقول (كلهم خذلوني/ حتى جيهان التي تركتك من أجلها/ هجرتني وبقيت بيد واحدة ....) ثم يعود إلى الحديث عن الماضي مع عبير (كانت عبير تنظر إلى يدي كمعجزة/ كانت تقارنها بأمها ...) ويستطرد الشاعر في الحديث عن عبير، ومواقفه معها كأنه في حديث مباشر معها (تذكرين حين أردت أن أعريك تحت المطر في محطة الرمل/ حين دوَّنت تاريخ اللقاء بأحد الدواوين/ اليوم أنا أتصفحه بعد خمسة وعشرين عاما/ وجدت اسمك في الصفحة الأخيرة) ثم ينتقل إلى الحديث عن جيهان وما فعلت به (غدَّارة جيهان يا عبير كالمطبات/ كحفرة مفاجئة ...) من الملاحظ أن السرد هنا لا يسير على وتيرة واحدة في تسلسل منطقي، ولكنه يختار من القصة ما يلائم الرؤية التي يريد التعبير عنها، وهو ما أشرنا إليه أيضا سابقا من أن الرؤية متلبِّسة بالسرد، وقد نجح الشكل السردي – السرد المتقطع – الذي اعتمده الشاعر في صبغ القصيدة بالديناميكية المطلوبة، والبعد عن الرتابة والملل اللذين قد يصيبان النص الشعري إذا لم ينتبه الشاعر إلى فاعلية السرد وقدرته على الاستحواذ على المتلقي؛ ليتابع إلى النهاية محاولا الربط بين الأنسجة التي قد تبدو مختلفة ومتباينة؛ ليصل إلى الرؤية الكامنة وراء شبكة العلاقات التي نسجها الشاعر في النص.
وفي النهاية نستطيع القول إنه على الرغم من أن الشكل المباشر للنص يبدو بسيطا؛ إذ يرصد تجربة قد تبدو ذاتية مباشرة تنبني على رصد حياة الأنا الشاعرة وعلاقتها بالآخر/الأنثى/عبير/جيهان، فإن التأمل العميق للنص يأخذنا إلى زاوية تأويلية بعيدة المدى، وأكثر عمقا مما يبدو عليه التشكيل البسيط للنص؛ إذ تتجلى المعاناة الإنسانية بملامحها المختلفة، وزواياها المتعددة، وتتقاطع بعض الزوايا أحيانا فتتصارع في بعض التفاصيل، كما قد تتكامل أحيانا في تفاصيل أخرى؛ لترصد الرؤية العامة للمعاناة الإنسانية، ومن ثم فإن النص يستدعي المهمَّش والبسيط/التجربة الإنسانية البسيطة فيضعهما في متن الرؤية ومحور الفعل الشعري.
(للدراسة جزء ثالث)