رواية "أوراق شمعون المصري" للدكتور أسامة عبد الرءوف، رواية فخمة ومغايرة و تأتي فخامتها –لا من حجمها فقط الذي يتجاوز 600 صفحة-، ولكن من محتواها المعرفي التاريخي و والديني والإنساني بشكل عام و الذي لا يستطيع تناوله إلا مثقف كبير قضى عدة سنوات في قراءة التاريخ و الأديان والفلسفات والعلوم المختلفة ، ثم مارس عملية تشريح وتحليل نقدي وإنساني لهذا المحتوى المعرفي كي يقدمه في قالب درامي ممتع ، فالرواية بهذا الشكل يمكن أن تمثل نوعا من المعرفة. الدرامية أو الدراما المعرفية. كما أنها رواية مغايرة لما هو سائد الآن في الإصدارات الروائية الغزيرة والتي تدور حول تيمات متشابهة مع اختلاف في طريقة التناول. والروايات التاريخية تثير –كما هو معتاد- كثيرا من الجدل حول العلاقة بين التاريخ و الخيال ، ومساحات التداخل بينهما ، والإطار الذي يمكن أن يتحرك فيه الكاتب حتى لا تطغي فكرة التاريخ على الإبداع أو تطغى فكرة الإبداع والخيال على ما هو متفق عليه في المصادر التاريخية. وينقسم رد فعلي المتلقي تجاه هذه القضية إلى
اتجاهين بارزين، اتجاه يرى أن الكاتب من حقه أن يمارس حريته في تناول القضايا التاريخية والدينية، فالهدف ليس هو إنتاج التاريخ المتعارف عليه بشكل سردي ، بل الهدف هو تحقيق عملية الإثارة والتشويق و الإمتاع الدرامي حتى ولو تعارض ذلك مع بعض ما هو معروف تاريخيا.
واتجاه ثان يرى أن التاريخ هو الإطار الذي ينبغي أن يتحرك فيه الكاتب بخياله كيفما شاء ، ولكن دون تدخل معرفي ذاتي إلا في المساحات الإنسانية مع الحفاظ على الهيكل العام، وذلك حفاظا على الموضوعية التاريخية. ولعلنا نتذكر بعض ردود الأفعال العالمية منذ سنوات على فيلم أمريكي يدعي أن بني إسرائيل هم بناة الأهرامات، ورأينا أيضا ردود الأفعال المحلية على مسلسل أحمس الذي منع من العرض لخطأ فني يتعلق بزي المحاربين والخلط بين الزي الروماني والزي المصري القديم.
من هنا تأتي صعوبة كتابة الرواية التاريخية التي تحتاج إلى سنوات من القراءة والتقييم والنقد والاختيار أثناء ممارسة الفعل السردي.
وكما أشرنا من قبل ، فنحن أمام مثقف كبير ومبدع كبير استطاع صهر الموضوعات التاريخية المختلفة داخل بنية سردية محكمة، فجاءت رواياته لتقف على أعلى قمة الإنتاج الروائي العربي منذ عقود.
وكان عنوان الرواية " أوراق شمعون المصري" أحد العوامل التي ساهمت في إنجاح الرواية، فهو عنوان متعدد الدلالات ، كما انه يحمل شيئا من المراوغة وجذب انتباه القارئ الذي يحاول أن يتعرف إلى الدوافع الأيدلوجية وربما السياسية وراء شمعون المصري هذا، ولأي حقبة زمنية ينتمي .
ومع الصفحة الأولى يتضح أن شمعون هذا كان أحد الذين خرجوا مع نبي الله موسى وبني إسرائيل هربا من فرعون، ومع ذلك فشمعون لم يكن إسرائيليا أو عبرانيا خالصا، فهو ابن لأب من بني إسرائيل و أم مصرية، وكان لهذا الجين المصري أثره الواضح في تشكيل وجدان وشخصية شمعون ليصبح أكثر انفتاحا على العالم، بدلا من (الانغلاق) المعهود عن بني إسرائيل ثم اليهود فيما بعد. يحكي السارد (شمعون) بضمير المتكلم ما حدث له ولبني إسرائيل بدءا من رحلة الخروج وحدوث التيه في برية سين أو قادش برنيع ، لتصبح الرواية بهذا الاختيار نوعا من السيرة الذاتية، لكنه سيرة ذاتية لشخص يتحول إلى بطل ملحمي بمساعدة الأقدار ، وبعض المصادفات الدرامية. وكان شمعون عند الخروج طفلا في السابعة من عمره، حتى صار شابا وكهلا وشيخا، فالفضاء الزماني في الرواية يمتد – وفق رؤية المؤلف- إلى ستين سنة من بداية الخروج، وهو فضاء زمني كبير أتاح للكاتب ان يتحرك في مناطق نفسية مختلفة، وأن يعيش كثيرا من التحولات(النفسية) و(الفكرية)، واستطاع الكاتب بذكاء أن يلقي على لسان ذلك الطفل كثيرا من الأسئلة الوجودية الكبرى التي تتعلق بالله والوجود والابتلاء ، كل ذلك بحرية – لأنه طفل- لكننا نعلم يقينا أن المؤلف الضمني implied author هو الذي يقف وراء هذه التساؤلات . القضية المركزية في الرواية هي فكرة التيه ، لكنه يتناوله بمنظور مختلف، فهو تيه مجتمعي وفردي يحاول أن يحلل ويفسر فيه الكاتب هذه الأزمة الوجودية، ولماذا تصل بعض الأجيال إلى مرحلة التيه على المستويين الفردي والجمعي. وهو أثناء عملية التشريح والتحليل هذه، يشير بقوة إلى أحد أهم الأسباب من وجهة نظره ، وهي تكلس الفكر وخاصة الفكر التقليدي الذي يمثله شيوخ بني إسرائيل بفهمهم التقليدي للنصوص في مواجهة جيل الشباب الذي يمثله يوشع ابن نون. وهو يمارس هنا عملية الإسقاط بحرفية وذكاء، فهو لا يتناول أحداثا تاريخية مجردة، بل يقرؤها من خلال واقعنا المعاصر، ليقول لنا إن الأحداث الإنسانية تتكرر وتتشابه، وأن التيه الحالي يمكن أن نجد أسبابه ونحن نمارس عملية تفكيك لتيه بني إسرائيل. لكن الأمر لم يتوقف عند تيه بني إسرائيل فقط، بل امتد إلى تيه آخر عربي مواز لتيه بني إسرائيل عندما قرر الفتى شمعون التمرد على بني إسرائيل (ونبي الله موسى) وترك الصحراء ليبدأ رحلة أخرى حين التقى مصادفة بإحدى القبائل العربية التي كانت تتجه إلى مملكة أدوم للتجارة ثم تعود إلى" بكة" حيث النزاع بين قبيلة جرهم وقبيلة خزاعة على تولي أمر البيت الحرام، وتأمل موقف بني إسماعيل وبقية العرب من هذه القضية، وبهذه (الحيلة الدرامية) استطاع الكاتب أن يوسع فضاء الرواية المكاني ليشمل مساحة جغرافية كبيرة تضم كثيرا من العرقيات والمعتقدات والشعوب والقبائل و الآلهة ، ويعيد صياغتها من خلال تحولات إنسانية ونفسية تنتمي إلى واقعنا، فلا يشعر القارئ بأي نوع من الملل، فالإنسان هو الإنسان في حالاته المختلفة، قوة وطغيانا واستبدادا وضعفا وحبا وعاطفة وشهوة.
ربما لا يختلف اثنان على قدرة الكاتب المدهشة على السرد والوصف والحوار، واستخدام تقنيات سردية معروفة في البنى السردية، من خلال لغة فخمة ومهيبة . ومع ذلك ، فلا يمكن أن نغض الطرف عن العلاقة التي أشرنا إليها في بداية هذه المقالة عن العلاقة بين التاريخ والخيال ومساحة الحرية التي يمكن أن يمارس فيها الكاتب إبداعه. فالكاتب مثلا جعل ذلك الطفل أو الشاب شمعون يعرف اللغة السريانية التي كان يستخدمها أهل مملكة إدوم، على الرغم من أن اللغة السوريانية (باتفاق الباحثين) لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فهي لغة (حديثة نسبية) تفرعت من اللغة الآرامية.
ومن الأمثلة أيضا على تلك التساؤلات المشروعة، هي كيفية جعل النزاع بين جرهم وخزاعة معاصرا للنبي موسى على الرغم من أن المصادر التاريخية ترجح ان ذلك النزاع كان في عصر المسيح، ولا يوجد مصدر تاريخي واحد يشير إلى ذلك التزامن، إلا اجتهاد المؤلف الذي نقدره لكننا نختلف عليه.
وكذلك في قصة أصحاب السبت، حيث جعلها الكاتب تحدث في زمن موسى، وأغلب المفسرين أنها حدثت في زمن داود أو على الأقل في زمن غير زمن موسى، كما أنها بشكل عام لم يكن لها وظيفة فنية أو درامية، ويمكن الاستغناء عنها دون إخلال ببنية الرواية.
وهناك قضايا أخرى كثيرة من الصعب أن نشير إليها في هذه المقالة والتي تحتاج إلى كتاب مستقل لتناولها، لكن ذلك لا ينفي ما أكدناه من قبل من أن " أوراق شمعون المصري" رواية فخمة تقف على هرم الإبداع العربي.
اتجاهين بارزين، اتجاه يرى أن الكاتب من حقه أن يمارس حريته في تناول القضايا التاريخية والدينية، فالهدف ليس هو إنتاج التاريخ المتعارف عليه بشكل سردي ، بل الهدف هو تحقيق عملية الإثارة والتشويق و الإمتاع الدرامي حتى ولو تعارض ذلك مع بعض ما هو معروف تاريخيا.
واتجاه ثان يرى أن التاريخ هو الإطار الذي ينبغي أن يتحرك فيه الكاتب بخياله كيفما شاء ، ولكن دون تدخل معرفي ذاتي إلا في المساحات الإنسانية مع الحفاظ على الهيكل العام، وذلك حفاظا على الموضوعية التاريخية. ولعلنا نتذكر بعض ردود الأفعال العالمية منذ سنوات على فيلم أمريكي يدعي أن بني إسرائيل هم بناة الأهرامات، ورأينا أيضا ردود الأفعال المحلية على مسلسل أحمس الذي منع من العرض لخطأ فني يتعلق بزي المحاربين والخلط بين الزي الروماني والزي المصري القديم.
من هنا تأتي صعوبة كتابة الرواية التاريخية التي تحتاج إلى سنوات من القراءة والتقييم والنقد والاختيار أثناء ممارسة الفعل السردي.
وكما أشرنا من قبل ، فنحن أمام مثقف كبير ومبدع كبير استطاع صهر الموضوعات التاريخية المختلفة داخل بنية سردية محكمة، فجاءت رواياته لتقف على أعلى قمة الإنتاج الروائي العربي منذ عقود.
وكان عنوان الرواية " أوراق شمعون المصري" أحد العوامل التي ساهمت في إنجاح الرواية، فهو عنوان متعدد الدلالات ، كما انه يحمل شيئا من المراوغة وجذب انتباه القارئ الذي يحاول أن يتعرف إلى الدوافع الأيدلوجية وربما السياسية وراء شمعون المصري هذا، ولأي حقبة زمنية ينتمي .
ومع الصفحة الأولى يتضح أن شمعون هذا كان أحد الذين خرجوا مع نبي الله موسى وبني إسرائيل هربا من فرعون، ومع ذلك فشمعون لم يكن إسرائيليا أو عبرانيا خالصا، فهو ابن لأب من بني إسرائيل و أم مصرية، وكان لهذا الجين المصري أثره الواضح في تشكيل وجدان وشخصية شمعون ليصبح أكثر انفتاحا على العالم، بدلا من (الانغلاق) المعهود عن بني إسرائيل ثم اليهود فيما بعد. يحكي السارد (شمعون) بضمير المتكلم ما حدث له ولبني إسرائيل بدءا من رحلة الخروج وحدوث التيه في برية سين أو قادش برنيع ، لتصبح الرواية بهذا الاختيار نوعا من السيرة الذاتية، لكنه سيرة ذاتية لشخص يتحول إلى بطل ملحمي بمساعدة الأقدار ، وبعض المصادفات الدرامية. وكان شمعون عند الخروج طفلا في السابعة من عمره، حتى صار شابا وكهلا وشيخا، فالفضاء الزماني في الرواية يمتد – وفق رؤية المؤلف- إلى ستين سنة من بداية الخروج، وهو فضاء زمني كبير أتاح للكاتب ان يتحرك في مناطق نفسية مختلفة، وأن يعيش كثيرا من التحولات(النفسية) و(الفكرية)، واستطاع الكاتب بذكاء أن يلقي على لسان ذلك الطفل كثيرا من الأسئلة الوجودية الكبرى التي تتعلق بالله والوجود والابتلاء ، كل ذلك بحرية – لأنه طفل- لكننا نعلم يقينا أن المؤلف الضمني implied author هو الذي يقف وراء هذه التساؤلات . القضية المركزية في الرواية هي فكرة التيه ، لكنه يتناوله بمنظور مختلف، فهو تيه مجتمعي وفردي يحاول أن يحلل ويفسر فيه الكاتب هذه الأزمة الوجودية، ولماذا تصل بعض الأجيال إلى مرحلة التيه على المستويين الفردي والجمعي. وهو أثناء عملية التشريح والتحليل هذه، يشير بقوة إلى أحد أهم الأسباب من وجهة نظره ، وهي تكلس الفكر وخاصة الفكر التقليدي الذي يمثله شيوخ بني إسرائيل بفهمهم التقليدي للنصوص في مواجهة جيل الشباب الذي يمثله يوشع ابن نون. وهو يمارس هنا عملية الإسقاط بحرفية وذكاء، فهو لا يتناول أحداثا تاريخية مجردة، بل يقرؤها من خلال واقعنا المعاصر، ليقول لنا إن الأحداث الإنسانية تتكرر وتتشابه، وأن التيه الحالي يمكن أن نجد أسبابه ونحن نمارس عملية تفكيك لتيه بني إسرائيل. لكن الأمر لم يتوقف عند تيه بني إسرائيل فقط، بل امتد إلى تيه آخر عربي مواز لتيه بني إسرائيل عندما قرر الفتى شمعون التمرد على بني إسرائيل (ونبي الله موسى) وترك الصحراء ليبدأ رحلة أخرى حين التقى مصادفة بإحدى القبائل العربية التي كانت تتجه إلى مملكة أدوم للتجارة ثم تعود إلى" بكة" حيث النزاع بين قبيلة جرهم وقبيلة خزاعة على تولي أمر البيت الحرام، وتأمل موقف بني إسماعيل وبقية العرب من هذه القضية، وبهذه (الحيلة الدرامية) استطاع الكاتب أن يوسع فضاء الرواية المكاني ليشمل مساحة جغرافية كبيرة تضم كثيرا من العرقيات والمعتقدات والشعوب والقبائل و الآلهة ، ويعيد صياغتها من خلال تحولات إنسانية ونفسية تنتمي إلى واقعنا، فلا يشعر القارئ بأي نوع من الملل، فالإنسان هو الإنسان في حالاته المختلفة، قوة وطغيانا واستبدادا وضعفا وحبا وعاطفة وشهوة.
ربما لا يختلف اثنان على قدرة الكاتب المدهشة على السرد والوصف والحوار، واستخدام تقنيات سردية معروفة في البنى السردية، من خلال لغة فخمة ومهيبة . ومع ذلك ، فلا يمكن أن نغض الطرف عن العلاقة التي أشرنا إليها في بداية هذه المقالة عن العلاقة بين التاريخ والخيال ومساحة الحرية التي يمكن أن يمارس فيها الكاتب إبداعه. فالكاتب مثلا جعل ذلك الطفل أو الشاب شمعون يعرف اللغة السريانية التي كان يستخدمها أهل مملكة إدوم، على الرغم من أن اللغة السوريانية (باتفاق الباحثين) لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فهي لغة (حديثة نسبية) تفرعت من اللغة الآرامية.
ومن الأمثلة أيضا على تلك التساؤلات المشروعة، هي كيفية جعل النزاع بين جرهم وخزاعة معاصرا للنبي موسى على الرغم من أن المصادر التاريخية ترجح ان ذلك النزاع كان في عصر المسيح، ولا يوجد مصدر تاريخي واحد يشير إلى ذلك التزامن، إلا اجتهاد المؤلف الذي نقدره لكننا نختلف عليه.
وكذلك في قصة أصحاب السبت، حيث جعلها الكاتب تحدث في زمن موسى، وأغلب المفسرين أنها حدثت في زمن داود أو على الأقل في زمن غير زمن موسى، كما أنها بشكل عام لم يكن لها وظيفة فنية أو درامية، ويمكن الاستغناء عنها دون إخلال ببنية الرواية.
وهناك قضايا أخرى كثيرة من الصعب أن نشير إليها في هذه المقالة والتي تحتاج إلى كتاب مستقل لتناولها، لكن ذلك لا ينفي ما أكدناه من قبل من أن " أوراق شمعون المصري" رواية فخمة تقف على هرم الإبداع العربي.