في المكتبة كتاباتٌ متنوعة عن “المثقف” عربية ومعربة، وبحدود مطالعاتي لم أعثر على كتابات حاولت تحديدَ مفهوم “المثقّف الديني النقدي” وتشكّله في مجتمعنا، وكيفية ولادة هذا المفهوم كبذرة منتصف القرن الماضي، وكيف أن هذه البذرةَ سرعان ما أُجهضت فماتت قبل استنباتها ونموّها في المجتمع العراقي.
بعد نشر مقالتي في صحيفة الصباح بعنوان: “ولادة مجهضة لبذرة مثقف ديني عراقي”، الصادرة في بغداد بتاريخ 12 كانون أول 2020، والتي كانت محاولةً أوليةً للكشف عن شيءٍ من توصيفِ هذا المفهوم وفهمِه، وبيانِ ملامح هويته وحدودها، والسياق الذي يمكن أن يتشكّل فيه. بادر بعضُ الأصدقاء ممن قرأوا المقالَ مشكورين في إثراء النقاش حول مفهوم “المثقّف الديني النقدي”، وأثار قراءُ آخرون أسئلةً إنكارية حول إمكان تحقّق مصداق واقعي لهذا المفهوم. أسعدني النقاشُ والأسئلة، لأن النقاشَ يغربل الأفكارَ ويمحّصها وينقّحها ويعمّقها، النقدُ العلمي والنقاشُ المنطقي ضربٌ من الاهتمامِ بالأفكار والاحتفاءِ بها وتكريمِ صاحبها.
لا أريد أن أخوضَ في التعريف اللغوي والاصطلاحي لكلمة “المثقف”، فذلك خارج غرض مقالتي. القول في هذا الموضوع لا يخرج عن الأقوال الكثيرة المتنوعة، فعندما كتبتُ كلمةَ “مثقف” في google كان عداده يحصي حوالى ٧،٩٩٠،٠٠٠ نتيجة بالعربية فقط. أما كلمة cultured الانجليزية فأخبرني محركُ البحث أنها جاءت في حوالى ٩١،٦٠٠،٠٠٠ نتيجة، لحظةَ كتابة هذا المقال.
مفهومُ “المثقف” غامضٌ مشوّش بالعربية. ومفهومُ “المثقف الديني” أشدُّ غموضًا، لأنه قلّما يجري استعمالُه، ونادرًا ما نقرأ كتابات عنه. كلُّ النقاشات والأسئلة حول مقالتي المشار إليها تمحورت حول إمكان اجتماع “مثقف” و”مؤمن” أو “متدين”. أنكر البعضُ اجتماعَ هاتين الصفتين المتضادتين لدى إنسان واحد، لأنه يرى أن إحداهما تنفي الأخرى، لذلك شدّد على أن: “مَنْ يكون مثقفًا لن يكون مؤمنًا، ومن يكون مؤمنًا لن يكون مثقفًا”، وكان يشير لذلك كمسلَّمة، وكأنها واحدةٌ من اليقينيات الراسخة في الثقافة العراقية. يسارع كثيرون لنفي صفة الثقافة عن المؤمن، لأنهم يفترضون التضادَّ بين الإيمان والثقافة، بنحو صارت كأنها بداهةٌ لا تتطلب برهانًا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وأمسى لكلٍّ من: المثقف المتدين فضاؤه الفكري وحياته الثقافية، والمثقف غير المتدين فضاؤه الفكري وحياته الثقافية، وتمدّد الفضاءُ الثاني ليبتلع كلَّ شيء يتصل بالثقافة، فأضحى مفهومُ المثقف لا يصدق إلا على غير المتدين. تسيّدُ هذا التقليدِ في الثقافة العراقية يعود إلى مجموعة من العوامل المختلفة، من أهمها:
1. “مركزية الشعر في الثقافة العراقية” الحديثة، الذي دعمه الدورُ الطليعي للعراق في تدشين الحداثة الشعرية، بولادة الشعر الحر في أربعينيات القرن الماضي في قصائد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وغيرهما. ما عزّز اختزالَ الثقافة بالأدب خاصة، والمثقف بالشاعر. فكلُّ من يطمح أن يكون مثقفًا ينبغي أن يكون شاعرًا أولًا وقبل كلِّ شيء، واتسع فضاءُ الكتابة الشعرية لمن لا يمتلكون موهبةً، وأغوى الأذكياء الذين يمتلكون مواهبَ في غير الشعر، ممن تعِدُ مواهبُهم بولادة مثقف كبير، لو شاؤوا أن يتكونوا تكوينًا علميًا صبورًا.
2. الحضورُ المهيمن لليسار الأممي والقومي على الحياة الثقافية في العراق منذ منتصف القرن العشرين، ومواقفُ بعض الكتاب الاستئصالية المتسرعة حيال الدين والحياة الروحية والشعائر والفرائض الدينية، إلى الحدِّ الذي تقرأ فيه للبعض مواقفَ تذهب إلى: “أن كلَّ ما هو ديني ليس عقليًا وكلَّ ما هو عقلي ليس دينيًا”.
وئـامُ الحُبِّ والحــربِ
التربيةُ تغذّيها العواطفُ قبل العقل
3. القطيعةُ بين الحوزات ومعاهد العلوم الدينية من جهة، والجامعات من جهة أخرى، وهي قطيعةٌ فرضتها عواملُ مجتمعية ودينية، وسياساتُ الأنظمة الحاكمة، وفرضها الوضعُ الخاص لهذه المؤسّسات وحذرُها من الانفتاح على منتديات الثقافة والآداب والفنون في المجتمع، وشيوعُ فتاوى تكرّس هذه القطيعة، مثل: حرمة الفنون السمعية والبصرية، وحرمة كتب الضلال. وإن كانت بعض المبادرات الرائدة في الحوزة تستحق التبجيل، مثل المبادرة الشجاعة للشيخ محمد رضا المظفر بتأسيس منتدى النشر وكلية الفقه لاحقًا، وانفتاح الكلية على نخبة من أساتذة الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في جامعة بغداد، بغض النظر عن هويتهم الاعتقادية وحياتهم الدينية. كان يحدثني الصديق السيد هاني فحص عن أساتذته الزائرين من جامعة بغداد، الذين تأثر بهم يوم كان تلميذًا في كلية الفقه قبل أكثر من نصف قرن، كان هو ومجموعةٌ من زملائه العراقيين واللبنانيين في حوزة النجف الأشرف، مثل السيد محمد حسن الأمين والسيد مصطفى جمال الدين، وغيرهم، ممن اهتموا بالثقافة والأدب الحديث، وانفتحوا على الفضاء الثقافي والأدبي خارج الحوزة.
4. تجربةُ الجماعات الدينية المريرة في السلطة بعد 2003، وفشلُها في الوفاء بوعودها الرومانسية، وإخفاقُها في بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها، وغيابُها كليًا عن المشهد الثقافي الفاعل والمؤثر، وما يحفل به من إصدارات وفعاليات ومواسم أدبية وثقافية.
كلُّ ذلك وغيرُه من عوامل مباشرة أو غير مباشرة عمل على تكريس قناعة بأن الثقافة والمثقف لا علاقة له بالإيمان والدين والتدين.
في ضوء تعريفي للدين بوصفه أفقًا للعيش في عالم المعنى، يكفل إنتاج معنىً روحي وأخلاقي وجمالي للحياة، لا أرى تضادًا بين أن تكون متدينًا مثقفًا. هذا ليس ممكنًا فقط، بل يتحقّق مصداقُه على الدوام في كلِّ الأديان في مختلف المجتمعات والأزمنة.
يبتني مصطلحُ “المثقّف الديني النقدي” في مجتمعنا على رؤية لا تجد مفارقة أو تضادًا بين أن يجتمع العقل النقدي، مع الإيمان بالله ووحيه ورسوله “ص”، وقيم الدين الروحية والأخلاقية والجمالية. وذلك ما يتحدث عنه الواقعُ والتاريخ، إذ لا يمكن لخبير بتاريخ الفلسفة وعلم الكلام وعلوم الدين أن ينفي عقلانيةَ وإيمانَ وتديّنَ متكلمي المعتزلة وغيرهم، وفلاسفة مسلمين، وذلك ما تتحدث عنه حياتُهم الخاصة وآثارُهم، فقد اجتمع لدي هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين العقلُ النقدي مع الإيمان والتدين. ولسنا في مقام إحصاء واستقراء المؤمنين وأصحاب التجارب الروحية المشرقة من مفكري الإسلام أمس واليوم.
لا يمكن لأي خبير تجاهل بصمةَ الفكر الفلسفي واللاهوتي لمحمد إقبال في الدعوة لإعادة بناء الفكر الديني في الإسلام في ضوء رؤية جديدة. وكانت دروسُ وأعمالُ الشيخ محمد عبده العقلانية النقدية بدايةً لدخول الثقافة في مصر عصرَها التنويري المتدفق كالشلال، عبر تلامذته المباشرين وتلامذة مدرسته، مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ أمين الخولي، وطه حسين… والعشرات غيرهم. وكانت لأعمالِ السيد محمد حسين الطباطبائي ودروسه الفلسفية وغيرِها بصمتُها المضيئة في الحياة الثقافية في إيران في الحوزات وخارجها. وكتابُه “الميزان في تفسير القرآن الكريم”، الذي ألفه في 20 مجلدًا، تفسيرٌ يتضمن مباحثَ متنوعة، يحضر فيها العقلُ النقدي للطباطبائي، وتتكشف ثقافتُه الخصبة الموسوعية. كما يعكس “تفسير التحرير والتنوير” للشيخ محمد الطاهر بن عاشور بصيرةً تراثيةً مضيئة، وثقافةً موسوعيةً حديثة، وعقلانيةً نقديةً شجاعة.
كنت أذهبُ لزيارة السيد الشهيد محمد باقر الصدر باستمرار في سبعينيات القرن الماضي، أسأله بمختلف أسئلة الدين والدنيا، وكان يتدفق تفكيره بعقلٍ تحليلي نقدي، يفصح عن ثقافته الثرية المتنوعة. تحدث أكثر من مرة الصدرُ عن قراءاته لمؤلفات حديثة من عدة مجلدات خارج حقل التراث، وهو يشير إلى أنه كان يطالعها من الغلاف إلى الغلاف، وكان يستحضر شيئًا من مفاهيمها وأفكار مؤلفيها في سياق أحاديثه.
إن لم يصدق على: محمد عبده ومحمد إقبال والطاهر بن عاشور وأمين الخولي والطباطبائي والصدر وأسماء عديدة غيرهم، مفهومُ “مثقف ديني نقدي” فمن هو هذا المثقف إذا؟!
عبد الجبار الرفاعي
مفكر عراقي، متخصص في الفلسفة. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العرب
بعد نشر مقالتي في صحيفة الصباح بعنوان: “ولادة مجهضة لبذرة مثقف ديني عراقي”، الصادرة في بغداد بتاريخ 12 كانون أول 2020، والتي كانت محاولةً أوليةً للكشف عن شيءٍ من توصيفِ هذا المفهوم وفهمِه، وبيانِ ملامح هويته وحدودها، والسياق الذي يمكن أن يتشكّل فيه. بادر بعضُ الأصدقاء ممن قرأوا المقالَ مشكورين في إثراء النقاش حول مفهوم “المثقّف الديني النقدي”، وأثار قراءُ آخرون أسئلةً إنكارية حول إمكان تحقّق مصداق واقعي لهذا المفهوم. أسعدني النقاشُ والأسئلة، لأن النقاشَ يغربل الأفكارَ ويمحّصها وينقّحها ويعمّقها، النقدُ العلمي والنقاشُ المنطقي ضربٌ من الاهتمامِ بالأفكار والاحتفاءِ بها وتكريمِ صاحبها.
لا أريد أن أخوضَ في التعريف اللغوي والاصطلاحي لكلمة “المثقف”، فذلك خارج غرض مقالتي. القول في هذا الموضوع لا يخرج عن الأقوال الكثيرة المتنوعة، فعندما كتبتُ كلمةَ “مثقف” في google كان عداده يحصي حوالى ٧،٩٩٠،٠٠٠ نتيجة بالعربية فقط. أما كلمة cultured الانجليزية فأخبرني محركُ البحث أنها جاءت في حوالى ٩١،٦٠٠،٠٠٠ نتيجة، لحظةَ كتابة هذا المقال.
مفهومُ “المثقف” غامضٌ مشوّش بالعربية. ومفهومُ “المثقف الديني” أشدُّ غموضًا، لأنه قلّما يجري استعمالُه، ونادرًا ما نقرأ كتابات عنه. كلُّ النقاشات والأسئلة حول مقالتي المشار إليها تمحورت حول إمكان اجتماع “مثقف” و”مؤمن” أو “متدين”. أنكر البعضُ اجتماعَ هاتين الصفتين المتضادتين لدى إنسان واحد، لأنه يرى أن إحداهما تنفي الأخرى، لذلك شدّد على أن: “مَنْ يكون مثقفًا لن يكون مؤمنًا، ومن يكون مؤمنًا لن يكون مثقفًا”، وكان يشير لذلك كمسلَّمة، وكأنها واحدةٌ من اليقينيات الراسخة في الثقافة العراقية. يسارع كثيرون لنفي صفة الثقافة عن المؤمن، لأنهم يفترضون التضادَّ بين الإيمان والثقافة، بنحو صارت كأنها بداهةٌ لا تتطلب برهانًا منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وأمسى لكلٍّ من: المثقف المتدين فضاؤه الفكري وحياته الثقافية، والمثقف غير المتدين فضاؤه الفكري وحياته الثقافية، وتمدّد الفضاءُ الثاني ليبتلع كلَّ شيء يتصل بالثقافة، فأضحى مفهومُ المثقف لا يصدق إلا على غير المتدين. تسيّدُ هذا التقليدِ في الثقافة العراقية يعود إلى مجموعة من العوامل المختلفة، من أهمها:
1. “مركزية الشعر في الثقافة العراقية” الحديثة، الذي دعمه الدورُ الطليعي للعراق في تدشين الحداثة الشعرية، بولادة الشعر الحر في أربعينيات القرن الماضي في قصائد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وغيرهما. ما عزّز اختزالَ الثقافة بالأدب خاصة، والمثقف بالشاعر. فكلُّ من يطمح أن يكون مثقفًا ينبغي أن يكون شاعرًا أولًا وقبل كلِّ شيء، واتسع فضاءُ الكتابة الشعرية لمن لا يمتلكون موهبةً، وأغوى الأذكياء الذين يمتلكون مواهبَ في غير الشعر، ممن تعِدُ مواهبُهم بولادة مثقف كبير، لو شاؤوا أن يتكونوا تكوينًا علميًا صبورًا.
2. الحضورُ المهيمن لليسار الأممي والقومي على الحياة الثقافية في العراق منذ منتصف القرن العشرين، ومواقفُ بعض الكتاب الاستئصالية المتسرعة حيال الدين والحياة الروحية والشعائر والفرائض الدينية، إلى الحدِّ الذي تقرأ فيه للبعض مواقفَ تذهب إلى: “أن كلَّ ما هو ديني ليس عقليًا وكلَّ ما هو عقلي ليس دينيًا”.
وئـامُ الحُبِّ والحــربِ
التربيةُ تغذّيها العواطفُ قبل العقل
3. القطيعةُ بين الحوزات ومعاهد العلوم الدينية من جهة، والجامعات من جهة أخرى، وهي قطيعةٌ فرضتها عواملُ مجتمعية ودينية، وسياساتُ الأنظمة الحاكمة، وفرضها الوضعُ الخاص لهذه المؤسّسات وحذرُها من الانفتاح على منتديات الثقافة والآداب والفنون في المجتمع، وشيوعُ فتاوى تكرّس هذه القطيعة، مثل: حرمة الفنون السمعية والبصرية، وحرمة كتب الضلال. وإن كانت بعض المبادرات الرائدة في الحوزة تستحق التبجيل، مثل المبادرة الشجاعة للشيخ محمد رضا المظفر بتأسيس منتدى النشر وكلية الفقه لاحقًا، وانفتاح الكلية على نخبة من أساتذة الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في جامعة بغداد، بغض النظر عن هويتهم الاعتقادية وحياتهم الدينية. كان يحدثني الصديق السيد هاني فحص عن أساتذته الزائرين من جامعة بغداد، الذين تأثر بهم يوم كان تلميذًا في كلية الفقه قبل أكثر من نصف قرن، كان هو ومجموعةٌ من زملائه العراقيين واللبنانيين في حوزة النجف الأشرف، مثل السيد محمد حسن الأمين والسيد مصطفى جمال الدين، وغيرهم، ممن اهتموا بالثقافة والأدب الحديث، وانفتحوا على الفضاء الثقافي والأدبي خارج الحوزة.
4. تجربةُ الجماعات الدينية المريرة في السلطة بعد 2003، وفشلُها في الوفاء بوعودها الرومانسية، وإخفاقُها في بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها، وغيابُها كليًا عن المشهد الثقافي الفاعل والمؤثر، وما يحفل به من إصدارات وفعاليات ومواسم أدبية وثقافية.
كلُّ ذلك وغيرُه من عوامل مباشرة أو غير مباشرة عمل على تكريس قناعة بأن الثقافة والمثقف لا علاقة له بالإيمان والدين والتدين.
في ضوء تعريفي للدين بوصفه أفقًا للعيش في عالم المعنى، يكفل إنتاج معنىً روحي وأخلاقي وجمالي للحياة، لا أرى تضادًا بين أن تكون متدينًا مثقفًا. هذا ليس ممكنًا فقط، بل يتحقّق مصداقُه على الدوام في كلِّ الأديان في مختلف المجتمعات والأزمنة.
يبتني مصطلحُ “المثقّف الديني النقدي” في مجتمعنا على رؤية لا تجد مفارقة أو تضادًا بين أن يجتمع العقل النقدي، مع الإيمان بالله ووحيه ورسوله “ص”، وقيم الدين الروحية والأخلاقية والجمالية. وذلك ما يتحدث عنه الواقعُ والتاريخ، إذ لا يمكن لخبير بتاريخ الفلسفة وعلم الكلام وعلوم الدين أن ينفي عقلانيةَ وإيمانَ وتديّنَ متكلمي المعتزلة وغيرهم، وفلاسفة مسلمين، وذلك ما تتحدث عنه حياتُهم الخاصة وآثارُهم، فقد اجتمع لدي هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين العقلُ النقدي مع الإيمان والتدين. ولسنا في مقام إحصاء واستقراء المؤمنين وأصحاب التجارب الروحية المشرقة من مفكري الإسلام أمس واليوم.
لا يمكن لأي خبير تجاهل بصمةَ الفكر الفلسفي واللاهوتي لمحمد إقبال في الدعوة لإعادة بناء الفكر الديني في الإسلام في ضوء رؤية جديدة. وكانت دروسُ وأعمالُ الشيخ محمد عبده العقلانية النقدية بدايةً لدخول الثقافة في مصر عصرَها التنويري المتدفق كالشلال، عبر تلامذته المباشرين وتلامذة مدرسته، مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ أمين الخولي، وطه حسين… والعشرات غيرهم. وكانت لأعمالِ السيد محمد حسين الطباطبائي ودروسه الفلسفية وغيرِها بصمتُها المضيئة في الحياة الثقافية في إيران في الحوزات وخارجها. وكتابُه “الميزان في تفسير القرآن الكريم”، الذي ألفه في 20 مجلدًا، تفسيرٌ يتضمن مباحثَ متنوعة، يحضر فيها العقلُ النقدي للطباطبائي، وتتكشف ثقافتُه الخصبة الموسوعية. كما يعكس “تفسير التحرير والتنوير” للشيخ محمد الطاهر بن عاشور بصيرةً تراثيةً مضيئة، وثقافةً موسوعيةً حديثة، وعقلانيةً نقديةً شجاعة.
كنت أذهبُ لزيارة السيد الشهيد محمد باقر الصدر باستمرار في سبعينيات القرن الماضي، أسأله بمختلف أسئلة الدين والدنيا، وكان يتدفق تفكيره بعقلٍ تحليلي نقدي، يفصح عن ثقافته الثرية المتنوعة. تحدث أكثر من مرة الصدرُ عن قراءاته لمؤلفات حديثة من عدة مجلدات خارج حقل التراث، وهو يشير إلى أنه كان يطالعها من الغلاف إلى الغلاف، وكان يستحضر شيئًا من مفاهيمها وأفكار مؤلفيها في سياق أحاديثه.
إن لم يصدق على: محمد عبده ومحمد إقبال والطاهر بن عاشور وأمين الخولي والطباطبائي والصدر وأسماء عديدة غيرهم، مفهومُ “مثقف ديني نقدي” فمن هو هذا المثقف إذا؟!
عبد الجبار الرفاعي
مفكر عراقي، متخصص في الفلسفة. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العرب