د. مدحت عبد الجواد - قراءة نقدية لقصة (في شارع شبرا) للدكتور سيد شعبان...

تحية تقدير للناقد البارع عمرو الزيات حيث حرك رغبتي؛ لمطالعة هذه القصة عندما قرأت تعليقه، ولاسيما أنها عمل مغاير لكل ما سبق من أعمال للدكتور سيد شعبان.
تتجلى عبقرية القاص في مدى قدرته على انتقاء، واختيار بدائل أسلوبية بعينها، وتشكيلها وتوجيهها وجهة بذاتها؛ لتعبر عن مشاعره، ومدى قدرته على التأليف والمزج بين هذه البدائل؛ ليصبح عمله صورة لعالمه الأدبي، ومن هنا على الناقد رصد هذه البدائل والكشف عن جمالياتها، دون محاولة لتلمس أسباب الاختيارات التي قد يعجز المبدع نفسه عن تبريرها.
الأسلوب والإيقاع : ورد بالقصة ( 135 فعل )، ( 35 فعلا ماضيًا ) و( 100 فعل مضارع ) ولم يرد فيها فعل الأمر مطلقًا ..هذا يدلل على أن معدل الحركة باستخدام المضارع حوالي( 74 ٪ ) وهذا يعطي إشارة إلى مدي مايتصف به أسلوب المبدع من حيوية وحركة، كما يبين قوة حيوية القصة وتفاعلها الذي يبرز من خلال قوة المؤشر الأسلوبي الحركي ودمجه مع الألفاظ الإيقاعية .
- الصور البلاغية ( وردت الاستعارة 60 مرة – والكناية 70 مرة – والتشبيه والمجاز 10 مرات) هذا باعتبار تداخل الصور وصلاحيتها للتعبير عن أكثر من وجهة .
وهذا يعطينا دلالات قاطعة على قوة الجانب الدلالالي الأسلوبي في سرد الماتع دكتور سيد شعبان على أن هذه القيم تشكل نسبًا مرتفعة في الدلالات الكلية إذا ما قيست بعدد كلمات النص، من هنا نسطيع أن نقول أن تكثيف الأحداث والرمزية داخل النص جاءت ذات دلالات عالية وذلك لارتفاع معدلات الكناية داخل العمل وهى تشير للرمزية والتكثيف .
الموضوع والحبكة : تدور الأحداث داخل حافلة ركاب، انتقى المبدع شرائح اجتماعية بعينها؛ ليجعلهم ركابًا للحافلة، ومن ثم يصبحون محور الأحداث وأبطال العمل، ويمكننا تقسيم المشهد قسمين :
أ – داخل الحافلة : ( السائق – المحصل – شاب وفتاة – بائع متجول – امرأة متصابية – شيخ معمم وملتح )
ب – خارج الحافلة : ( لوحات إعلانية – ماسبيرو – رجال الأمن – المسؤولون – العامة نساء ورجال )
مغزى الموضوع : تكثيف الإحساس بالألم المنبعث من معاناة شرائح المجتمع المختلفة، مع بث روح الأمل من خلال تطلعات الشخصيات ورغباتها....
قام المبدع بتكثيف الأحداث بالظلال والإيحاءات الخارجية من خلال المشاهد خارج الحافلة .
من سمات السرد لدى المبدع ( الوصف ) : الوصف بالمقدمة كان تهيئة سريعة ومكثفة تمتاز بالجماليات الرائعة التي تأخذنا إلى عالم كئيب ينتظرنا داخل هذه الحافلة .
وصف الحافلة بالتهالك والقدم ، كما وصف الركاب يبين أننا في مجتمع مطحون يعاني الحياة وقسوتها.... كذلك وصف الرغبات ...ووصف اللقطات السريعة لكافة الأحداث وكأنه مصور يلتقط بعدسته صورًا هنا وهناك .
المفارقات التصويرية الرمزية : من أهم خصائص الأسلوب ومميزاته، تارة يجمع بين حالة الحافلة المتهالكة وحالة السائق المتعطلة مع زوجته ، ثم مفارقة لتبرز حالة الشباب والفتوة ورغبات الشاب والفتاة ، مفارقة أخرى تحوي اسقاطات رمزية ودينية تكشف عن فساد بعض رجال الدين وسقوطهم أمام الرغبات التي تمثلت في امرأة متصابية ...وهكذا
التكثيف : المعاناة من حرارة الجو والمعاناة من ضيق العيش ثم المعاناة من تبدل الحال في مقارنة بين الشباب والكهولة، وضياع العمر، والتعلق بالأمل والرغبات ثم الربط بين الإعلانات الكاذبة والأحاديث الخادعة ..
ترتيب أحداث تحدث ضجة حول حادث عابر؛ لإظهار دور وبطولة رجال الأمن في مقابل دور المسؤول الذي يتحين الفرص، ويستفيد من المواقف ويحقق منها المكاسب .
صورة الشائعات المقصودة التي تنتشر بسرعة؛ لتعبر عن قطاعات من الشعب وأحاديث وسلوكات العامة الذين يندفعون دون وعى إلى كل شيء .
التبئير : المبدع يروي بصيغة الغائب فالتبئير خارجى؛ لأن الرواية والأحداث تأتي بصيغة الغائب، وهذه الصيغة أتت مناسبة للأحداث حيث استطاع من خلالها أن ينفذ إلى عالم السائق الخفي ؛ ليكشف لنا أدق أسرار حياته الزوجية مع زوجته التي أصبحت عبئًا عليه ومعاناة، ويكشف عن ضياع عمره ، والكثير من الأحداث الخفية، ولن يستطيع أن يصنع المبدع هذه الروابط الخفية ويتجول دون هذا التكنيك الفني .
العنوان : منذ الوهلة الأولى يقدم تركيبًا يفتقد إلى أحد المتممات التي تحتاج إلى تنقيب؛ لتهدأ النفس، فالعنوان مثير للتساؤلات ...مجتزأ من التراث، مرتبط بالمتلقي الذي يعشق المناطق الشعبية، وخاصة المناطق التراثية، وهذا الحي يجمع بين عبق التاريخ الماضي والحاضر.
الزمان والمكان : أبدع المنشيء في توظيف الزمان والمكان فاختار شهر يونيو في فترة شديدة الحرارة وجعل الزمان متحركا مع الحدث كما في لفظة ( الآن )، ثم جعل المكان، وكأنه يطالع نظرية أينشتين فمكان داخل الحافلة، ومكان متحرك يتمثل في حركة الحافلة من شارع لآخر..
- من الجمال : ( الحافلة على غير عاداتها مصابة بالخرس )، كيف يوظف هذا العنصر؟
وكنت أتوقع أنه سيقدم فيما بعد شيئًا غير متوقع كان هو الباعث لاختلاف العادة .... وتكرر نفس المعنى ( حافلة مصابة بالخرس ) بعد عدة جمل ... لكن المفاجأة أنه وظف ذلك؛ ليصنع مفارقة لحالة الحافلة بعد تبدل حالة السائق والركاب، فلم تعد الحافلة مصابة بالخرس بل صارت صاحبة نشيطة بل صارت أحاديث المدينة .
- توقعات القاريء : إذا كان القاريء يتوقع أن يقدم له حلولا فهذا ليس من طبيعة المبدع في كل قصصه، وليس هذا من سمات القاص بل هو عمل المفكر والفلسفي، والمصلح الاجتماعي، أما القاص فإنه يطلق العنان ويرصد الأحداث ويعبر عن المشاعر ولا يتقمص دورًا ليس له .
- بنية الحبكة : وإن كانت بنية الحبكة تدور حول مشهد متكرر مألوف، وظاهرة لطالما تناولها الكتاب والأدباء إلا أن المبدع تناولها وفق منهجية مختلفة تتميز بالسرد الماتع والتناول العبقري ، لعلنا هنا أمام تكنيكات فنية تنبثق من جماليات اللغة، وتوظيف المفارقات، وتكثيف الأحداث والربط البارع من المبدع بين الأحداث المتشابهة من جهة للتكثيف، والمفارقة من جهة لإبراز المشاعر.
- الشخصيات : جمع بين الشخصيات البسيطة والمركبة، والعميقة للتغلغل في أعماق النفس البشرية والوصول إلى صراعات النفس وتضارب الرغبات وتنازعها.
الرموز : الرمز هو من أنواع الصورة وقد يشكل عقبة وحجر عثرة أمام القاريء غير الحصيف، لكن المبدع هنا يشكل الرمز بأسلوب يسير من خلال التصوير الاستعاري والكناية وغيرها من الأساليب اللغوية ....
وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نشكر الأديب الرائع د/ سيد شعبان .





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...