أدب السجون د. خالد محمد عبدالغني - سجن الواحات.. "كتاب جديد يرصد حال المعتقلين الشيوعيين والإسلاميين في سجون عبد الناصر"

يضم هذا الكتاب لمؤلفه الشاب محمد عبدالغني بين دفتيه على أريعة فصول ومقدمة وملحق للصور وقائمة بالمراجع . وقد صدر الكتاب حديثا عن دار الهيئة الاستشارية للنشر والتوزيع في 200 صفحة من القطع الصغير. ويعرض الكتاب لكيف حوله الشيوعيون لمدينة فاضلة مارسوا فيه حياتهم الكاملة .
وقد جاء الفصل الأول بعنوان "الحياة السياسية في مصر في عصر عبد الناصر" ويحتوي على لمحة تاريخية عن الحياة السياسية قبل يوليو 1952 والمتمثلة في نشأة الأحزاب والحياة الليبرالية التي عاشتها مصر منذ ميلاد التجربة الحزبية بمصر إلى مطلع القرن العشرين، عندما تمخضّت الحركة الوطنية المصرية، في مواجهة الإحتلال البريطاني عن مولد الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل باشا. ويذكر الكتاب أن الميلاد الحقيقي للتجربة الحزبية ، جاء بعد قيام ثورة 1919 والتي أفرزت قيادة ثورية ، تبلورت تنظيمياً فيما بعد ، عبر ظهور حزب الوفد بزعامة سعد زغلول باشا، المُعبر عن القوى الثورية، التي حملت لواء تحقيق مطالب الثورة، وإلى جواره جاءت أحزاب أخرى وصفت بأنها أحزاب "الأقلية". وعرفت الحياة السياسية المصرية ثقافة الإنتخابات، وتداول السلطة، بالرغم من تدخلات القصر، والإحتلال، التي أفسدت التجربة وأفرغتها من مضمونها. ولأن هذه الفترة السابقة علي يوليو 1952 كانت فترة مخاض ينبئ بميلاد دولة عصرية , لذلك كان من الطبيعي أن تنتعش الحركة الثقافية. وفي الجزء الثاني من الفصل الأول والذي جاء بعنوان "الحياة السياسية في أعقاب ثورة 23 يوليو" ويتناول الكتاب أسباب قيام ثورة يوليو 1952 والتي بدأت بإنقلاب عسكري قاده تنظيم "الضباط الأحرار".
ويتناول الكتاب الوضع السياسي في تلك الفترة ويقر بأن نظام يوليو 1952 قد تعامل مع الوضع السابق ،عبر سياسة الهدم الشامل، فقرر الإجهاز على التجربة الحزبية عبر قرار إلغاء الأحزاب السياسية، في يناير 1953 بعد سلسلة من الإجراءات إستهدفت إذلال النخبة السياسية الحزبية. بعدها "أممّت" الدولة السياسة ،بإتباعها لنظام الحزب الواحد أو التنظيم الشمولي الأوحد، والذي تغير إسمه من "هيئة التحرير"، إلى "الإتحاد" - حيث بدأت فكرة التنظيم السياسي الواحد تجد أرضية لنفسها وذلك بسبب تأثر عبدالناصر بنظام "تيتو" في يوغوسلافيا وفرانكو في إسبانيا- بسياسية الحزب الواحد كانت أهم أسباب صدور "الاتحاد القومي"، ثم تغييره إلى "الإتحاد الإشتراكي" ، ثم إلى "حزب مصر"، واخيراً إلى "الحزب الوطني".في عصر الرئيس السادات. وكان هناك صراع شديد داخل قيادة مجلس الثورة، فقد كان هناك جناح يقوده بعض الضباط مثل خالد محيي الدين ويوسف صديق يدعو أفراده إلي عودة القوات المسلحة إلي ثكناتها بعد إزاحة الملك والدعوة لإصلاح الحياة السياسية وكان هناك تيار آخر رفض هذه الدعوة وسعي إلي تعطيل الأحزاب وتطهير نفسها، كان على رأس هذا التيار الرئيس جمال عبدالناصر وبعض أنصاره كانوا ضد فكرة التعددية الحزبية ومع الاتجاه إلي سياسة الحزب الواحد، مما أدى إلى صدور قرار حل الأحزاب الذي صدر في 1953. ويتناول الكتاب "حرية الصحافة في التجربة الناصرية" فيذكر إن عهد الرئيس جمال عبدالناصر من أكثر العهود التي شهدت تقييدًا لحرية الصحافة والصحفيين بداية من تقييد حق إصدار الصحف وتأميمها لتكون لسان حال النظام بعد أن كان حق الصدور قبل ثورة يوليو بالاخطار، لكن ذلك لم يكن الشكل الوحيد من أشكال انتهاكات حرية الصحافة، حيث كانت هناك الرقابة الصارمة على كل ما ينشر في الصحف ثم اعتقال الصحفيين المعارضين أو المخالفين لفكر عبد الناصر الذي اعتبر تلك القبضة الحديدية ضرورة حتمتها وضعية الصراع الطبقي في مصر فكانت ترى حتمية تثبيت دعائم حكمها في ظل وجود قوي داخلية وخارجية متعددة رافضة لهذه الحكومة. ويؤكد المؤلف على أن جمال عبد الناصر من أكثر القادة والحكام العرب اهتماماً بالصحافة إلى حد الهوس، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أكثرهم على الإطلاق. فهو قارئ نهم ليس لما يُكتب في صحافة بلاده فحسب، بل ويحرص على أن تُقدم له يومياً ملخصات وافية مترجمة لأهم تقارير ومقالات كبرى الصحف العالمية. وغنيٌ عن القول إن هذه الخصلة بقدر ما هي جيدة في الحكام إذا ما انطلقت من الرغبة في التثقيف الذاتي وتوسيع معارف القائد، بقدر ما تتحوّل إلى نزعة مرضية تسلطية إذا ما كان الغاية منها ترصد النقد الصريح لسياساته أو أي سلبيات في قيادته، وهذا هو بالضبط لٰب المشكلة وأحد أهم الأخطاء القاتلة في التجربة الناصرية.
ويأتي الفصل الثاني بعنوان "معتقل الواحات" يتناول هذا الفصل الوصف التفصيلي لسجن "جناح" الذي تميزت الحياة فيه بالبدائية فقد ترك لنزلاءه ليدبروا حياتهم بأنفسهم ، يقيمون مرافق الخدمة في السجن بما يتناسب مع امكاناتهم وظروف المكان، لم يكن بالمنطقة مياة ولا كهرباء ولا مطابخ ولا أفران وعليهم أن ينقلوا ماءهم في جرادل من مكان يبعد حوالي خمسة كيلو متر إلى أن دبروا مد مواسير المياة إلى السجن فهم يقومون بإعداد طعامهم وتجهيز خبزهم وبأعمال الزراعة وتربية الطيور والدواجن وكان على إدارة السجن أن تجلب لهم الدقيق وبعض المواد الغذائية وتقوم بالحراسة الخارجية.
ويعرض الكتاب بالتفصيل لـ "سجن المحاريق" الذي اعتقل فيه أكثر من 400 مفكر وأديب وشاعر زجت بهم الأقدار قبل نهاية الخمسينيات في هذا المعتقل. كانت نخبة من عقل مصر يومذاك يمثلون كل الاتجاهات: إخوان ، ماركسيون، ليبيراليون، التقوا في معتقل كان اسمه فقط يبث الرعب في قلوب الرجال. وفي نهاية الفصل نتعرف على نقطة التحول لإلغاء التعذيب داخل المعتقل، ويتحول لمعسكر مفتوح يشع فكرا وثقافة وأدبا وفنا .
ويحمل الفصل الثالث عنوان "أدب السجون " ونتعرف فيه على ما هو أدب السجون ونعرف أنه نوع من الأدب يعني بتصوير الحياة خلف القضبان، يناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يومياتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن .
كما أن أدب السجون على عكس المعتقد ليس نوعاً مستحدثاً من الآداب، بل أنه قديم لدرجة يصعب معها تحديد الحقبة التي ظهر فيها للمرة الأولى، فدائماً كانت تجربة السجن مُلهمة للأدباء والشعراء، ومثال على ذلك الشاعر أبي فراس الحمداني، الذي نظم قصيدته الخالدة التي مطلعها "أراك عصي الدمع"، والتي أنشدتها كوكب الشرق أم كلثوم، وهو واقع بالأسر حبيساً بسجون الروم، وارتبط الإبداع الأدبي بتجارب السجن والاعتقال، حتى أنه تم استحداث تصنيف جديد ضمن تصنيفات الأدب، فقط كي يخصص لهذا اللون من الإبداعات وسُمي "أدب السجون" . وأدب السجون لم يثر حيرة العامة أو الجماهير فقط، بل أنه شغل الأدباء أنفسهم والنقاد لفترة طويلة، وتناولت أعمال أدب السجون العديد من الدراسات الأدبية، محاولة التوصل إلى أسباب ظهور ذلك النوع، وكذا تناوله النقاد بالتحليل والتأويل استخلاصاً لمواطن الجمال به. وفي نهاية الفصل عرض لعدد من نماذج أدب السجون في مصر والوطن العربي .
أما الفصل الرابع "الحياة الأدبية والثقافية داخل السجن" فيقول المؤلف :"إن الأعمال الأدبية على نحو الخصوص والأعمال الفنية بصفة عامة، تأتي نتاج تجارب وخبرات والمشاعر المسيطرة على المبدع، فأنه يخرج تلك الطاقات الهائلة المختزنة بداخله يسطرها على الأوراق، و كان ذلك أول أسباب ظهور ذلك النوع من الأدب، والذي يعرف أو يصنف تحت مسمى أدب السجون ..فوقوع المبدع في الأسر أو إيداعه أحد المعتقلات، بالتأكيد يكون له أثر ما في نفسه، عادة ما يكون شعوراً بالغضب وفي أحيان أخرى يكون بالألم، وفي بعض الحالات النادرة أظهر المبدع مشاعر الندم في أعماله، لكن في كل الأحوال كان العامل النفسي، هو السبب المباشر في إنتاج هذا النوع من الآداب، أي أدب السجون سواء قصة أو رواية أو شعراً. فأصدرت الفرق الماركسية المتناحرة فكرياً مجلات "الطريق" و"الأفق"، و"الهواء". وأسس عبدالستار الطويلة وكالة أنباء السجن "واس" التى تجمع الأخبار اليومية من إذاعات العالم بواسطة الراديو الذى أرسلته لهم "مجموعة روما"، كما أنشأوا "معرضاً للكتاب " حيث كان السجناء يحصلون على كتب متعددة أثناء الزيارات ومن خلال السجانين المتعاونين ، كما كانت تلك الكتب تصلهم من “مجموعة روما” وتكوّن لديهم أعدادا ضخمة من الكتب زادت عن 10 الآف كتاب ففهرسوها ورتبّوا طريقة الإستعارة وأقيمت ندوات لعرض أهم ما فيها، وكان الإحتفال الكبير بوصول ثلاثية نجيب محفوظ حيث تهافت الجميع على قراءتها، ومع كثرة المؤلفات أنشأوا مشغلا لكتابة وتجليد الكتب المؤلفة وأشرف عليها العامل السابق بشركة الورق الأهلية “صابر زايد” باستخدام أدوات بسيطة منها الكلّة المصنوعة من الدقيق، ونجحوا فى إقامة معرض للكتاب بالسجن لأعمال المبدعين منهم ومن بينها رواية “الشمندورة” لمحمد خليل قاسم وروايتان لإبراهيم عبد الحليم ومسرحية “الخبر” لصلاح حافظ وأعمال مترجمة منها رواية “أندروميرا” التى ترجمتها مجدى نصيف وكذلك رواية “عريان بين ذئاب” وترجمها فخرى لبيب، ودراسة عن ثورة 1919 لمحمد خليل ودواوين شعرية لفؤاد حداد وسمير عبد الباقى والشاعر الفلسطينى المعتقل معهم “معين بسيسو” وأخرين، بالإضافة لعشرات الكتب والدراسات فى مختلف المجالات لمبدعين منهم محمد صدقى الذى عرف بجوركى مصر ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وزكى مراد وفتحى خليل ومشاريع أدبية وشعرية لعدد آخر منهم صنع الله ابراهيم وعبد الحكيم قاسم وكمال القلش وفؤاد حجازى ومتولى عبد اللطيف ومهران السيد ومحمود شندى وكمال عمار ومحسن خياط ورؤوف نظمى (الدكتور محجوب عمر) وغيرهم الكثير. حيث تدفق الإبداع المسرحى من الكثيرين فتألق المهندس على الشريف وآخرين فى تمثيل المسرحيات المترجمة والمحلية التى كتبها فى السجن نعمان عاشور وميخائيل فرج وصلاح حافظ وكانت العروض تتم بين فرجات العنابر، لكن المهندس فخرى لبيب وضع تصميما لمسرح رومانى مدرّج فى فناء السجن وقام المساجين بالتنفيذ، وصمموا على الإنتهاء من البناء قبل يوم المسرح العالمى فى 27 مارس 1961.
أما الفصل الخامس والأخير فيحمل عنوان "الحياة الاقتصادية وأنشطة أخرى داخل السجن" ويتناول فيه المؤلف كيف أقيمت مزرعة كبيرة نتيجة لإستصلاح مئة فدان من الأراضي المتاخمة للسجن، فحمل المعتقلون الفؤوس والمعاول وعملوا في تقليب التربة بناء على تعليمات المعتقلين من خبراء الزراعة، لمدة ستة أشهر، ثم بذروا البذور، وكان الحصاد وفيراً من طماطم وخيار وبطيخ وخضار. وهكذا حقق المعتقلون الاكتفاء الذاتي من الطعام خصوصاً بعد ان قاموا بتربية الدواجن، وكان مأمور السجن يحصل على بعض أقفاص الخضار ويقدمها هدايا الى المسؤولين. وتم الاشتراك في معرض الانتاج الزراعي في المحافظة وحصل المعتقل على المركز الأول". وفي نفس السياق وعند انتقال المعتقلين من الإخوان إلى سجن الواحات أرادت الحكومة إجهاد الإخوان، فعملت على إنشاء مزرعة قريبة من السجن، وكلفت الإخوان بإصلاح هذه الأرض، عاش الإخوان في سجن المحاريق حتى 2 مايو 1964، وعاش معهم الشيوعيون في نفس السجن، حتى تدخل الرئيس السوفييتي، خروشوف، وأفرجت الحكومة عن الشيوعيين جميعًا، وقامت بترحيل الإخوان إلى سجن قنا.
مسجد الشيوعيين
ومن اللافت للنظر أن الإخوان فى المعتقل كانوا يعتبرون الشيوعيين كفارا، وكانوا وراء شائعة أن الشيوعيين ملحدون وكانوا يرفضون صلاة الشيوعيين معهم ويؤكدون أن الله لن يقبلها. لذلك طلب الشيوعيون من مأمور قسم الواحات تخصيص غرفة لأداء الصلاة، ووضعوا فوقها يافطة وفوق اليافطة كتبوا عبارة بخط عريض تقول "مسجد الشيوعيين". ومن الطريف هنا أن نذكر إن إمام المصلين كان واحداً من عتاة الشيوعيين آنذاك هو الدكتور محمد عمارة الكاتب والمفكر الإسلامي حاليا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...