عبد الحفيظ بولزرق - شهادات من التاريخ منصفة : الشريعة الإسلامية تقر التسامح الديني

من الجدير افتتاح هذا المقال بشهادة للعلامة الفرنسي (غوستاف لوبون ) يقول فيها :

" رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفا أن مسامحة محمد لليهود و النصارى كانت عظيمة إلى الغاية ، و انه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص ، وسنرى كيف صار خلفاؤه على سنته ، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أوالمؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب "[1].

هذه شهادة لأحد المنصفين يشهد فيها للإسلام بإقرار مبدأ التسامح و هو في الحقيقة كنه الحرية في اختيار الغير لما يريدون حتى بالنسبة للمعتقد ، فحرية المعتقد في الشريعة الإسلامية حق مكفول لذا وجدنا ضمن أبواب الفقه ما ينص على ذلك فوجدنا بابا بأحكام أهل الذمة و بابا للمستأمنين و بتفصيلات عديدة لا نذكرها ولكن يهمنا أن نعلم أن الإسلام يحمي فيما يحميه من حقوق أهل الذمة – حق الحرية ، و أول هذه الحريات : حرية المعتقد و التعبد ، فلكل ذي دين دينه و مذهبه ، لا يجبر على تركه إلى غيره ، و لا يضغط عليه أي ضغط ليتحول منه إلى الإسلام [2] ، و بالتالي لا نعجب إذا لم نجد في التاريخ على مر العصور ذكرا لمحاولة إكراه لشعب من الشعوب على دخول الإسلام ، ذلك أن الضابط الشرعي في القضية قوله سبحانه و تعالى :" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " [3].

فالتسامح الديني هو السمة الغالبة في المجتمعات الإسلامية فالحرية الدينية كانت شيئا معاشا و ليست مجرد خط على ورق فالإرغام الديني هو ضد التسامح الديني إذ تعرض المسلمون في الماضي و يتعرضون في الوقت الحاضر - كما يقول الدكتور إحسان محمد الحسن – إلى محاولات طائشة لإرغامهم على ترك الإسلام من جانب دعاة بعض الأديان الأخرى ، و لكننا لا نرى في الإسلام مثل هذا الإرغام بل بالعكس نرى حرص المسلمين على منح الحريات الدينية لأصحاب الملل و الطوائف الأخرى غير المسلمين ، و نرى حثا للمسلمين على عدم إرغام أحد على ترك دينه و الدخول في الإسلام [4].

و في ذكر أسبقية الشريعة الإسلامية في إقرار الحرية الدينية و ضبط موقف الأغلبيات تجاه الأقليات و منها الدينية ، يقول الدكتور والمفكر الإسلامي ( محمد عمارة ) : " جاء الإسلام فسلك الاختلافات في إطار الوحدة ، و جعل التنوع هو السنة و القاعدة والقانون ، و وضعه لبنات في البناء الجامع .. و قرر أن (( الآخر )) هو جزء من (( الذات )) ، و ذلك لأول مرة في تاريخ الشرائع و الأمم و الدول و الحضارات " [5]

و نظرا لكون الشرائع الإسلامية شرائع عملية فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما أسس دولة الإسلام سن فيها بنودا نظمت العلاقة بين المسلمين و غير المسلمين و وضع دستورا لذلك هو " صحيفة المدينة " التي ضمن فيها حرية الاختلاف على أساس المعتقد من جهة بل تعدى ذلك إلى احترام و حماية مقدساتهم المؤسساتية ، و هذه مقتطفات من " الصحيفة " تنقل للتدليل[6]:

" يهود أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم و للمسلمين دينهم ..و من تبعنا من يهود فإن لهم النصر و الأسوة ، غير مظلومين و لا متناصر عليهم .. و أن بطانة يهود و مواليهم كأنفسهم .. و إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، على اليهود نفقتهم و على المسلمين نفقتهم ، و إن بينهم على من حارب هذه الصحيفة .. و إن بينهم النصح و النصيحة ، و البر المحض من أهل هذه الصحيفة ، دون إثم ، لا يكسب كاسب إلا على نفسه " .

" (( .. و لنجران و حاشيتها ، و لأهل ملتها )) ، و لجميع من ينتحل دعوة النصرانية .. جوار الله و ذمة محمد رسول الله على أموالهم ، و أنفسهم ، و ملتهم ، و غائبهم و شاهدهم ، و عشيرتهم ، و بيعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير .. أن أحمي جانبهم ، و أذب عنهم و عن كنائسهم و بيعهم وبيوت صلواتهم ، و مواضع الرهبان ، و مواطن السياح ، حيث كانوا من بر أو بحر ، شرقا و غربا، بما أحفظ به نفسي و خاصتي و أهل الإسلام من ملتي " .

" لا يجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الإسلام ، و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، و يخفض لهم جناح الرحمة و يكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا و أين كانوا مكن البلاد .. "

" .. فلا يغير أسقف من أسقفيته ، و لا راهب من رهبانيته .. " .

كما عرف التاريخ الإسلامي أيضا صورا كثيرة من صور التسامح الديني و إقرار الحرية الدينية للشعوب نذكر منها [7]:

ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل إيلياء – القدس – نص على حريتهم الدينية ، و حرمة معابدهم وشعائرهم – و هو ما رواه الطبري – يقول : " هذا ما أعطى عبد الله بن عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان : أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم و كنائسهم و صلبانهم و سائر ملتها ، لا تسكن كنائسهم ،و لا تهدم و لا ينتقص منها ، و لا من حيزها ، و لا من صليبها ، و لا من شيء من أموالهم ، و لا يكرهون على دينهم ، و لا يضار أحد منهم . و لا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود .. " .

و في عهد خالد بن الوليد لأهل عانات : " ... و لهم أن يضربوا نواقيسهم ، في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار ، إلا في أوقات الصلاة ، و أن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم " .

و لقد نذكر بعض صور التسامح الديني التي تكفلها الشريعة الإسلامية و التي حدد بعضا منها الدكتور ( إحسان محمد الحسن ) كمايلي[8]:

1- سماحة الجدل و أدب الحوار " و لا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " [9].

2- حكمة الدعوة و حسن أسلوبها : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن " [10]

3- مسالمة المخالفين في الدين الذين لا يعتدون على المسلمين : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين " [11]

4- محاربة التعصب في شتى صوره و تشجيع التآخي بين الناس للإنسان : " و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر ورزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " [12]

إذن ..كانت هاته صور من السماحة التي تقرها الشريعة الإسلامية على أمل أن يفتح الله علينا من نعيمه و علمه فنوافيكم بإذن الله تعالى بمقالات أخرى مبرزة لعظمة الإسلام و حكمته .


الهوامش و المراجع :

[1] - القرضاوي : يوسف : غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ، باتنة ، دار الشهاب ، ص 21
[2]- نفس المرجع ، ص 18
[3] - سورة البقرة : الآية 256
[4]- الحسن : إحسان محمد : علم الاجتماع الديني ، الأردن ، دار وائل للنشر و التوزيع ، ط 1 ، 2005 ، ص 110
[5]- عمارة : محمد : الإسلام و الأقليات " الماضي ، الحاضر و المستقبل ، القاهرة ، مكتبة الشروق الدولية ، ط 1 ، 2003 ، ص 12
[6]- للاستزادة من مقاطع الصحيفة و التعليقات عليها ، أنظر : عمارة محمد ، نفس المرجع ، ص ص 14-20
[7]- القرضاوي ، مرجع سابق ، ص 20
[8]- الحسن : إحسان محمد ، المرجع السابق ، ص ص 110، 111
[9]- سورة العنكبوت : الآية 46
[10] - سورة النحل : الآية 125
[11] - سورة الممتحنة : الآية 08
[12] - سورة الإسراء : الآية 70



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...