عبر أشرطة القضبان التي تلمع في المدى، تتحرك الأجسام بظلال شبحية، تتصادم في الضوء الشحيح الناشع من أعمدة الفلورسنت التي تطل من الخارج، وحول فوانيس هذه الأعمدة، تتماوج في علو، دفعات البخار الكثيف، شتوية وباردة، وتضيع في سماء داكنة بلا نجوم.
ثمة أصوات تزعق، وتنادي بأسماء، نبرات بعضها واضح، وبعضها بلا معنى، لكنها جميعا قلقة. نداءات واهنة لبائع عجوز: جلدة كارنيه.. رباط بيادة.. أمواس حلاقة. يكررها هكذا طوال الوقت. يتوقف حين يناديه أحدهم من نافذة القطار، ثم يعود الصوت رخوا، يقطع الرصيف مرات لا نهائية بطول القطار: جلدة للكارنيه … رباط بيادة … أمواس حلاقة.
يتصادف أن يلتقي الواحد منا بوجه يعرفه، هذا يحتاج تحديقا في الوجوه المتشابهة. وجه (فواز مطاوع) وحده يغمرني الآن، حضور كثيف موحش داخلي، وحركة الأحذية الثقيلة تسحقني، وهم يتنقلون بين عربات القطار الجاثم هكذا، كأن لا له ولا عليه. ويتصادمون بأجسادهم الصلبة، والأفرولات المموهة، وحقائب الهندباج فوق أكتافهم، فلا يلتفت أحدهم للآخر، ولا يقول: معذرة.
كثيرون يتحركون بطول الرصيف، ويدورون بلا سبب حول سرية المستجدين التي تجلس في صفوف على مِخَلهم المنتفخة، ويدخنون في مشهد شبه جماعي غير أنهم غارقون في الصمت، كما لو كانوا في سديم.
ينتفض القطار فجاة، مثل كائن خرافي يخرج عن سبات السنين، تصطك العجلات والعربات، صرخات الحديد مجرّحة مسحولة. تخفت أشباحهم في الظلام، وتعلو هتافات غامضة، كان أحدهما برتبة مساعد، عرفته من بدلة الفسحة التي بدت مميزة بين الأفرولات، أدركت أنه يقوم بمهمة التشهيلات.
قال للآخر: تمام كده.
قال: بتوع ( الشلوفة ) يركبوا العربية الأولى، والسويس اللي وراها.
ناوله أوراقًا، طواها بسرعة. اتجه ناحيتهم، لا زالوا في مواقعهم، وبصيص سجائرهم يلمع في الظلمة، كدت أقول له أنهم هدف سهل للطائرات المغيرة.
تدافعوا بأثقالهم، وطرقات الأحذية الجديدة ترن على بلاط الرصيف، والأبواب تبتلعهم في سكون، وأطراف سجائر تطفو، كزهرات على مياه راكدة.
وأنا أتوجه إلى العربات الأخيرة، أملاً في درجة أخف من الزحام، ألقيت نظرة على الرصيف، كان البعض لازال يتلكأ كمحاولة أخيرة للبقاء، ونداءات البائع تتلاحق وتعلو قليلاً: جلدة للكارنيه .. رباط بيادة .. أمواس حلاقة، فيما اهتز القطار، الذي بدأ يتحرك في اتجاه القضبان التي تلمع وتضيق في أفق رمادى مطبق، يبدو قائمًا هناك، بلا فرح أو ضجر.. قائمًا فحسب.
sadazakera.wordpress.com
ثمة أصوات تزعق، وتنادي بأسماء، نبرات بعضها واضح، وبعضها بلا معنى، لكنها جميعا قلقة. نداءات واهنة لبائع عجوز: جلدة كارنيه.. رباط بيادة.. أمواس حلاقة. يكررها هكذا طوال الوقت. يتوقف حين يناديه أحدهم من نافذة القطار، ثم يعود الصوت رخوا، يقطع الرصيف مرات لا نهائية بطول القطار: جلدة للكارنيه … رباط بيادة … أمواس حلاقة.
يتصادف أن يلتقي الواحد منا بوجه يعرفه، هذا يحتاج تحديقا في الوجوه المتشابهة. وجه (فواز مطاوع) وحده يغمرني الآن، حضور كثيف موحش داخلي، وحركة الأحذية الثقيلة تسحقني، وهم يتنقلون بين عربات القطار الجاثم هكذا، كأن لا له ولا عليه. ويتصادمون بأجسادهم الصلبة، والأفرولات المموهة، وحقائب الهندباج فوق أكتافهم، فلا يلتفت أحدهم للآخر، ولا يقول: معذرة.
كثيرون يتحركون بطول الرصيف، ويدورون بلا سبب حول سرية المستجدين التي تجلس في صفوف على مِخَلهم المنتفخة، ويدخنون في مشهد شبه جماعي غير أنهم غارقون في الصمت، كما لو كانوا في سديم.
ينتفض القطار فجاة، مثل كائن خرافي يخرج عن سبات السنين، تصطك العجلات والعربات، صرخات الحديد مجرّحة مسحولة. تخفت أشباحهم في الظلام، وتعلو هتافات غامضة، كان أحدهما برتبة مساعد، عرفته من بدلة الفسحة التي بدت مميزة بين الأفرولات، أدركت أنه يقوم بمهمة التشهيلات.
قال للآخر: تمام كده.
قال: بتوع ( الشلوفة ) يركبوا العربية الأولى، والسويس اللي وراها.
ناوله أوراقًا، طواها بسرعة. اتجه ناحيتهم، لا زالوا في مواقعهم، وبصيص سجائرهم يلمع في الظلمة، كدت أقول له أنهم هدف سهل للطائرات المغيرة.
تدافعوا بأثقالهم، وطرقات الأحذية الجديدة ترن على بلاط الرصيف، والأبواب تبتلعهم في سكون، وأطراف سجائر تطفو، كزهرات على مياه راكدة.
وأنا أتوجه إلى العربات الأخيرة، أملاً في درجة أخف من الزحام، ألقيت نظرة على الرصيف، كان البعض لازال يتلكأ كمحاولة أخيرة للبقاء، ونداءات البائع تتلاحق وتعلو قليلاً: جلدة للكارنيه .. رباط بيادة .. أمواس حلاقة، فيما اهتز القطار، الذي بدأ يتحرك في اتجاه القضبان التي تلمع وتضيق في أفق رمادى مطبق، يبدو قائمًا هناك، بلا فرح أو ضجر.. قائمًا فحسب.
مهام ثقيلة. قصة: سيد الوكيل
عبر أشرطة القضبان التي تلمع في المدى، تتحرك الأجسام بظلال شبحية، تتصادم في الضوء الشحيح الناشع من أعمدة الفلورسنت التي تطل من الخارج، وحول فوانيس هذه الأعمدة، تتماوج في علو، دفعات البخار الكثيف، شت…