أفنان القاسم - الذئاب والزيتون

احتكمت الخيول والذئاب ، قرب أحد حقول الزيتون ، إلى أحد القادمين من الشمال. كان قادماً لأجل أن يستثمر الثمر الذي تحتاج مصانعه إلى زيته الصافي ، فوجد الخيول بحوافرها مبعدة إياها عن الأشجار ، وقالت الخيول: "هذه الحيوانات الجبانة ، أيها السيد القادم من الشمال ، تريد اغتصاب حقلنا ، وقتلنا ، ونحن ، كما ترى ، نعيش أباً عن جد في ظل الزيتون ، ولنا سروج مذهبة ، صنعتها لنا زوجاتنا ، وقضت في صنعها سنين وسنين ، حتى إذا ما علا أحد عليها ارتاح ، وبدا جميلاً.

وانحنى أحد الخيول ، ورفع القادم من الشمال على ظهره ، فعمته الراحة ، وأحس فعلاً بأنه عال وجميل ، مثل الأشجار ، وأنه في مستوى واحد منها.
وقالت الذئاب: "هذه الخيول من الشعوب ، أيها السيد القادم من الشمال ، تطردنا كلما اقتربنا من أشجار الزيتون ، وأردنا أن نستظل بورقها ، هكذا نحن منذ الزمن القديم ، نبحث عن بقعة تدفئنا ، فنحس بأنفسنا كأننا شخص واحد غير منفصم . وبعد أن جعلتك الخيول فارسها ، بإمكانك أن تفعل شيئاً لأجلنا ، نحن من كان ينتظرك منذ زمن بعيد".

ورفضت الخيول رأي القادم من الشمال ، القائل ، في حضرة الطرفين ، بأن تعيش الذئاب والخيول معاً ، وقالت: "حقاً للذئاب عيون ذهبية ، وأجسام ممشوقة ، ولكن لها أيضاً عادات قديمة في الغدر ، وأنياب ماضية ، وهي لن تتردد عن سفك الدماء. طوال عمرها تعيش في الجبل أو السهب ، في الضباب وفي البرد ، ما معنى أن تأتي عندنا؟".

ورفضت الذئاب رأي القادم من الشمال ، القائل ، في حضرة الطرفين ، بأن تعيش الخيول والذئاب معاً ، وأخذته على حدة . وقالت له أنها من جنس يختلف ، والحقل لها وحدها لا يكفيها ، وهو منذور لها منذ الأزل. وعندما اقترح القادم من الشمال أن تعيش الذئاب مع ذئاب أخرى في بلده ، لها ما لها ، وعليها ما عليها ، رفضت الاقتراح ، وذكرت القادم من الشمال بأنها خارجة على القانون دوماً ، وأنها ما قدمت إلا تحقيقاً لمشاريعها الخاصة بها أولاً، ثم لمشاريعه هو في استثمار الحقل ، وأنه أمام تعالي الخيول وعنادها لن يحقق من مأربه شيئاً ، أما معها فسيضمن سير مصانعه على الأقل نصف قرن من الزمن ، عندما رأت في وجهه إمارات التردد بدلاً من الشعور بالذنب ، جعلت اثنين منها شابين ينشبان أظافرهما في ذيل معطفه وقميصه ، وباقي الذئاب تبكي وتنتحب مهيبة بالقادم من الشمال أن يسمع صراخ الإنسانية ، ولكي ينجو بنفسه ، أخذ يضربها بحذائه حتى أنزف له الدماء من خراطيمه ، ولكنها لم تطلقه . وصاحت الذئاب بالقادم من الشمال: "أنت مخلصنا ، فلا تنس وعدك لنا!" وصاح القادم من الشمال بالذئاب: "أنت ظلي المتحضر رغم أنك ذئاب أكرهك مثلما أكره شمس هذه المنطقة المحرقة! أيتها الذئاب البشعة!" وعادت الذئاب تصيح: "نحن ذئاب بشعة ، ونحن فخورون بذلك! أما أنت فستبقى أحد القادمين من الشمال ، يفصلنا عنك تاريخنا ، ويجمعنا بك تاريخك. والمهم أن نقتل ونطرد تلك الخيول المتوحشة ، فهي قذرة ومحبة للدم وأنانية ، وما نريده هو النظافة ولا شيء غير النظافة!" وراحت الذئاب تشحذ الأنياب ، والرائحة الكريهة تفوح ، أشداقها وتجعل القادم من الشمال يقفل أنفه مشمئزاً ، وحاول إيقافها ، فقال: "دعوني أمتطيها واحداً واحداً ، فتلك الخيول على رشاقتها تفتقد العقل الذي عندكم ، وسأبعدها إلى الصحراء دون قتال". فشكت الذئاب في قدرته ، وشكت في نيته ، ولم تستمع إليه ، راحت تحضر للقتال ، فصراعها القديم لن ينتهي إلا بالدم ، وبالدم تحقق مهمتها ، وتسمع الخيول المؤمنة صلاة الذئاب ، فتطرب للتراتيل ، ثم ترميها بنظرات الاحتقار دون مبالاة كأنها كلابها.

وعندما اكتشفت الخيول ما تعزم عليه الذئاب ، كشفت للقادم من الشمال عن قلقها ، فهداها بالبلاغة والمال أو الخمر وبعض النساء. وانسكبت الدماء أنهاراً تحرق أشجار الزيتون ، فاشتعل في الليل أحمر ، وقضت الذئاب ليلتها ، وهي تغرس أنيابها في جثث الخيول ، فتصير الدماء بركاً ، ويصعد منها الدخان ، وتنفتح في الجسم جروح كثيرة في أماكن عديدة.

_________

هببت من نومي فزعاً ، أحس بأنياب الذئاب تنغرس في جسدي. وما لبثت أن وصلتني طرقات على الباب ، ولم تمهلني الطرقات ، إذ ازدادت ارتفاعاً. قفزت من السرير، وبعجلة ، فتحت الباب ، فألفيت طفلة متكومة على نفسها كوردة الجبل. سألتني بصوتها العذب:

-ألم يأت عندك شوقي؟

انحنيت حتى لامست كتفها ، وكان الضوء المتسلل من شق الباب يرشق وجهها الأسمر ، فيندف شعرها في الليل:

-لا يا شاطرة ، لم يأت عندي شوقي.

تخلصت من يدي ، وتراجعت خطوة:

-نحن نبحث عنه ، فلهو لم يعد للدار.

ثم أشارت بيدها ، وهي تومئ أسفل الدرجات:

-هناك أبي ينتظر.

وجاء صوت جهوري ، فطن وشديد ، ينادي:

-إيمان!

فجرت الطفلة حتى رأس الدرج ، وأبوها يسأل:

-هل وجدته؟

-السيد يقول لم ير شوقي.

نقلت خطواتي حتى استطعت أن أتبينه . كان يقف أسفل المصباح ، قصيراً ، صلباً ، يتجلى على جبهته قلقه على ولده.

-لا ، أشكرك ، إنني أبحث عن الولد ، فهو لم يعد للدار . ولأن من عادته أن يأتي عندك ، قلت ربما احتجزته لسبب ما.

هبطت الدرجات ، والطفلة تقفز في حضن الليل.

سألته ، وأنا أسلم عليه:

- هل من عادته أن يتأخر هكذا؟

- لا ، وهذا دافع الغرابة.

- غريب حقاً.

قالت الطفلة لأبيها : - تعال نسأل هناك.

وأشارت نحو مركز جنود الاحتلال في الوادي.

أجاب الأب :- إنه لا يذهب إلى هناك يا إبنتي.

- وهل بحثت في المنطقة؟

- بحثنا ، لكننا لا نجد له أثراً.

- بحثتم تماماً؟

- أظن . أليس كذلك يا إيمان؟

- لم نبحث فوق الهضبة.

قلت: بإمكاننا أن نبحث حتى شجرة الزيتون,

واستأذنت لارتداء ملابس ، وعدت بسرعة لتقطع الليل . وبعد خطوات ، انتبهت على الطفلة تمسك بيدي . كانت أصابعها باردة.

وثمة رعشة فيها كالنفخة اللذيدة ، وكنا نسير صامتين : أين ذهب الولد؟ أين يمكن أن يذهب؟ ليس من الطبيعي أن يختفي على هذا النحو! فكرت بجنود الاحتلال المنتشرين في الوادي ، وبالذئاب على الهضبة ، ونظرت إلى الأب الكاتم لأنفاسه ، فانقبض قلبي.

أخذنا نسير في قلب الهضبة ، في الطريق الحجري ، وكانت النجمات قد أخذت تتناثر على الصخور بضوئها البارد . وأسفل شجرة الزيتون وقفنا ، وكانت تفرش أغصانها في الليل دون حركة ، وكأنها جمدت منذ دهور. وكان ضوء السماء يضفي عليها لوناً فضياً بارداً انعدمت فيه الحياة.

اختفى الرجل ، وهو يبحث ، وأخذت الطفلة تشد يدي بقوة. أحسست بقطرات العرق تسيل من أصابعها ، وتذوب في راحتي ، ولكن يدها ظلت باردة كقطعة الثلج. استدرت نحوها ، فوجدتها تحدق في الليل.

تركتني فجأة ، وراحت تقفز جارية. ناديتها ، فلم تلب ، كانت تريد اللحاق بأبيها. وفي اللحظة ذاتها ، تسلل من هذا الصفاء العتم صوت رخو راح يسيل في السمع: عواء إبن آوى أو ذئب! مما جعلها تعود بسرعة ، وتلتصق بي ، ضامة نفسها من حولي ، وهي تردد:- الذئب !الذئب!

وضعت يدي على شعرها ، وقلت:

-لا تخافي ! لا تخافي!

كنت أجمع رطوبة الشعر ورغوة العواء وهذه اللزوجة السوداء في كل مكان والتي لا يمكن وضع حد لها. عاد العواء من جديد يثير النفور والتقزز ، ويعزز في النفس سخريته ، ويبعث فيها اشمئزازها.

ابنا آوى والذئاب في كل مكان تماماً مثلما كان حلمي المرعب ، وتذكرت جدي عندما قال لي إنها فصيلة غريبة أتت من الشمال ، ذئاب كانت صغاراً، ضعافاَ، تتمزق مخالبها اذا ما سارت فوق الصخور. وإذا ما نفض جدي سوطه ، متباهياً بقواه! وكم كان يهزأ من ذكرها ، ويحتقرها! لكنها عندما كبرت ، قتلت أبي ، مزقته بأنيابها الحادة ، وتمكنت من شرب دمه بهدوء حتى القطرة الأخيرة ، والتهمته حتى العظم ، ثم صارت لها البيارات مفتوحة.

طوال الوقت ، لم تنبس الطفلة بحرف واحد ، كانت تستسلم على ذراعي ، مسلمة لي أمرها: لقد كان العواء موتها! أردت أن أفعل شيئاً، فانتبهت على خطوات تتدحرج صوبي. جاء الأب يلهث، فسألته:

-هل وجدت أثراً؟

أجابني:

-هناك ابن آوى أو ذئب ، وقد عدت لآخذ البنت للدار ، ولأجلب عصا أو أي شيء آخر.

وقفزت الطفلة على يدي أبيها ، وتسلقته بلهفة ، ثم احتضنته ، ودفنت رأسها في عنقه. وما لبث الأب أن رجاني:

-اذهب يا سيدي ، اذهب . لن أزعجكم بالبقاء. ما عليك سوى أن تذهب وسأبحث وحدي. أكثر الله من أمثالك!

وسار خطوة ، فقلت:

-سأنتظر ريثما تعود ، سنتعاون معاً ، وأنا بدوري أريد الاطمئنان على الولد.

لم يفه بحرف واحد ، راح يعدو بالبنت ، دائراً من وراء الهضبة. وما أن اختفى حتى تعالى العواء من جديد ، فشعرت بوحدتي ، وخوفي ، وضممت ذراعي من حولي ، وسرت خطوة ، فتعثرت بحجر تناولته ، ونقلت ثلاثة أحجار أخرى ، وتوغلت في الاتجاه الذي ذهب اليه الرجل قبل أن يعود بالبنت ، فإذا بجسم يرتطم بقدمي ، ثم يقفز ، وفج بريق شرس من عينين كاسرتين ما لبث أن انسحق في الليل. وسمعت وقع خطوات قصيرة عادية تلاشى ، فابتلعت لعابي ، وتقدمت ببطء ، ثم حثثت خطاي ، فإذا بصوت ناحل مجنون يئن في الليل ، كأن القلب مذبوح ، والنصل يغوص! أنين طويل طويل طويل ، عميق عميق عميق ، عمق واد بلا منتهى: عو... و ... و ...! رحت أعدو حتى وطئت باب المغارة ، كانت الحفلة تقوم هناك أربعة : ثلاثة ذئاب وابن آوى تتزاحم رؤوسها في الوعاء الدسم! صيحة من الأعماق أطلقتها ، ورحت أصب حجارتي لأكسر شهوة الرؤوس. فقفزت مذهولة ، وهمرت بثغور دموية ، ورمقتني بأعينها الذهبية الكامدة التي تضيء وتنطفئ ، ولذعرها راحت تصطدم بأجسامها الممشوقة التي تتحرك بخفة وليونة ، كما لو كانت تضرب بالسياط ، كانت قد ابتعدت من فوق الصخور ، هابطة نحو الوادي ، وأنا أسمع أنفاسها القصيرة المتلاحقة ذات الصفير.

تقدمت بحذر ، جامعاً حجارة أخرى في الوقت نفسه ، الى أن رأيته ، ولم أصدق أني رأيته! كانت دماء الطفل قد أصبحت بركاً ، صعد منها دخان ، وانفتحت بالجسم جروح كثيرة في أماكن عديدة . انحنيت ، ونقلت على ذراعي ذات الشكل الطريف الوحشي لأعضاء بشرية معجونة بالدماء. وسرت عدة خطوات ، فاذا بنصل يبرق كعين الذئب ، كأن حربة بندقية تناولتها ، وتابعت طريقي حتى شجرة الزيتون . وكانت أنفاس الأب الصغيرة المتلاحقة قد راحت تصلني ، وسمعته يسأل عن مقربة:

-هل وجدته؟

وعندما وقف قبالتي ، قلت له :

-وجدته!

وألقيت الأشلاء بين يديه ، فانشل ، وعجز عن الصراخ ثم زحف عني مبتعداً ، وقد بدأ يصلني بكاؤه المكتوم . التفت فيها حولي حذراً ، فرأيت بقعاً حمراء تدور بالشجرة ، وتأملت أغصانها الفضية ، المفروشة ، بثمرها الصامت بالليل ، كنا معاً فوق الهضبة ، أنا وشجرة الزيتون والبقع الحمراء ، وفي الوادي بعض الذئاب ، كانت قد ذهبت لتأتي بأخرى . ونظرت مرات الى الشجرة ، ونظرت مرات الى الحربة ، وجاءني عواء الذئاب من بعيد ، فعزمت على البقاء استعداداً للمواجهة القادمة. أشعلت النار في أكوام من العشب جمعتها ، وتحرك الزيتون مع مجرى الريح.


أفنان القاسم

* من مجموعة "الذئاب والزيتون ، الدار العربية للكتاب ، تونس 1983 ، ص 137-147


** قصة مقابل فرانز كافكا "أبناء آوى وعرب" من مجموعته "المسخ"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...