ألقى الدكتور طه حسين بك محاضرة في نادي الخريجين المصري يوم الجمعة، عنوانها (الأدب المقارن وأثره في التقريب بين الأمم) بدأها بتصويب كلمة (مقارن) رداً على من يخطئونها فقال: إن القرن في اللغة الحبل الذي يقرن به بين بعيرين، فما الذي يمنع أن يقرن بين شاعرين أو فكرتين لنرى ما بينهما من أوجه الشبه والاختلاف؟ بل إن (المقارنة) أدق من (الموازنة) التي يدعون إلى استعمالها، لأن الموازنة تقتضي تفضيل شيء على شيء، وليس في المقارنة تفضيل.
ثم قال: إن الأدب المقارن ليس حديثاً كما يقولونه، لأن الناس منذ عصور قديمة قاسوا بعض الآداب إلى بعض، كما فعل هيروديت، إذ تحدث عن تأثر اليونانيين بعض الآداب المصرية القديمة، وكما فعل العرب في صدر العصر العباسي، إذ ترجموا الآداب، وتحدثوا عن التراث الفني للأمم التي نقلوا عنها. أما في العصر الحديث، فقد تعمق المحدثون النظريات القديمة في المقارنة بين الآداب، ووضعوا لها أصولاً وقواعد، حتى تكون فن الأدب المقارن الذي يرجع البعض نشأته إلى أوائل القرن الماضي، ويقول آخرون إنه نشأ في أواسط القرن الماضي، ويقول غيرهم إنه حديث جداً، فعهده أوائل هذا القرن.
وتحدث بعد ذلك عن تأثر أدب الرومان بأدب اليونان وأثره فيه، وعما نشأ من التفاعل بين الأدبين من ظهور ألوان في الأدب العربي بعد الإسلام يختلف عما كان قبله، فقد فتح العرب الأمم المجاورة لهم واتصلوا بها وهي ذات حضارة قديمة، فأثروا بها، وتغيرت حياتهم، وتمتعوا بالترف المادي والترف المعنوي، فلم يكتفوا بسكن الدور والقصور، بل استحدثوا ألواناً من الفن لم يكن لهم بها عهد. فشعراء الحجاز مثلاً رأوا أنفسهم أمام فنون وافدة عليهم من الفرس والروم وغيرهم، هي فنون الغناء والموسيقى والرقص، فكان لها في نفوسهم أبلغ الآثار، فيرعوا في الغزل واللهو على نحو لم يكن في الجاهلية، وحدث هذا في الحجاز وبه الأماكن المقدسة، فما بالك بالعراق وخاصة بغداد في عصر العباسيين الذي امتاز بالدراسات الثقافية والفلسفية، فلم يكتف الشعراء بملكاتهم، بل اخذوا بهذه الدراسات وانتفعوا بنتائجها وأفكارها واستعملوا مصطلحاتها في أشعارهم. وكذلك شأن العر بالأندلس، بل هم أكثر إمعاناً في هذا السبيل لمتاخمتهم ومعاشرتهم للأوربيين الذين تأثروا هم أيضاً بالآداب العربية الأندلسية. وقال إن الأمة الفارسية بعدما استعادت لغتها القديمة ظلت تتابع الثقافات والآداب العربية وتتأثر بها.
ثم انتقل إلى أوربا في عهد النهضة، فبين كيف ازدهرت الآداب والفنون بإيطاليا في القرن السادس عشر، وأخذت أوربا الشمالية عنها هذه الآداب والفنون، قم ما كان بعد ذلك من تطلع الفرنسيين إلى الأدب الإنجليزي وانشغالهم به.
ساق الدكتور طه كل ذلك ليصل منه إلى ما يحدثه تبادل الآداب والفنون بين الأمم من التقريب والتأليف، وأن ذلك حري أن يصد تيار الجنون الذي يعتري الأمم في فترات مختلفة، ثم ليصل أخيراً إلى ما ينبغي أن نفعله الآن، فقال إننا أخذنا بالحضارة الحديثة في حياتنا المادية، فلم نعد نركب الحمر وننتقل بالإبل، ولكننا لم نتقدم في أدبنا عن ذلك، فلا زلنا نكتفي بما عندنا، ونزهد في آداب غيرنا، ونعتمد في مترجماتنا إلى ما يقصد به اللهو والتسلية، فيجب أن نقبل على الآداب الأجنبية، نتفهمها، ونأخذ عنها، ونحاكيها، ثم نبتكر بعد الاستفادة منها، ليكون لنا أدب يؤخذ عنا كما نأخذ عن غيرنا.
تعقيب:
الذي نعرفه أن الأدب المقارن هو الدراسة التي تقوم على المقارنة بين أدب وأدب للبحث عما يتشابهان وما يختلفان فيه من الخصائص والموضوعات وما إلى ذلك. وقد كان حديث الدكتور طه في هذا في أول المحاضرة عندما قال إن القدماء كان لهم نظرات في قياس بعض الآداب إلى بعض، وإن المحدثين تعمقوا تلك النظرات ووسعوا ونظموا الدراسات للمقارن بين الآداب. ولكن حديثه بعد ذلك - وهو معظم المحاضرة وموضوعها - كان في شيء آخر - على ما نفهم - هو انتقال الآداب من أمة إلى أخرى وتأثير أدب في آخر، وأثر هذا في التقريب بين الأمم؛ وقد دعا في ختام محاضرته إلى أن لا نكتفي بأدبنا وإلى أن نأخذ من آداب غيرنا، فهل الأخذ من الآداب الأجنبية يسمى أدباً مقارناً؟ هذا وقد فجعنا الدكتور طه في أدبنا العصري الذي تكون من إنتاجه وإنتاج غيره ممن سائر أساتذتنا أدباء الجيل، فهم منذ عشرات السنين يطلبون الآداب الأجنبية ويتفهمونها ويترجمونها ويحاكونها، ونزعم إنهم ابتكروا بعد الاستفادة منها، وإذا الدكتور طه حسين يقول إننا مكتفون بما عندنا وزاهدون في آداب غيرنا. . . بل يقول أنا واقفون في حياتنا الأدبية عند ما يقابل ركوب الإبل والحمر في حياتنا المادية! ففيم كان ما كان؟. . .
ومن ظريف المفارقات إنه يقول ذلك في نادي خريجي القسم الإنجليزي في كلية الآداب الذين يوجهون جهودهم الأدبية كلها إلى دراسة الأدب الإنجليزي وإذاعته بالإذاعة المصرية التي توليه من عنايتها ما لا يظفر به أدبنا!
مجلة الرسالة - العدد 756
← بتاريخ: 29 - 12 - 1947
ar.wikisource.org
مجلة الرسالة/العدد 756 - ويكي مصدر
ثم قال: إن الأدب المقارن ليس حديثاً كما يقولونه، لأن الناس منذ عصور قديمة قاسوا بعض الآداب إلى بعض، كما فعل هيروديت، إذ تحدث عن تأثر اليونانيين بعض الآداب المصرية القديمة، وكما فعل العرب في صدر العصر العباسي، إذ ترجموا الآداب، وتحدثوا عن التراث الفني للأمم التي نقلوا عنها. أما في العصر الحديث، فقد تعمق المحدثون النظريات القديمة في المقارنة بين الآداب، ووضعوا لها أصولاً وقواعد، حتى تكون فن الأدب المقارن الذي يرجع البعض نشأته إلى أوائل القرن الماضي، ويقول آخرون إنه نشأ في أواسط القرن الماضي، ويقول غيرهم إنه حديث جداً، فعهده أوائل هذا القرن.
وتحدث بعد ذلك عن تأثر أدب الرومان بأدب اليونان وأثره فيه، وعما نشأ من التفاعل بين الأدبين من ظهور ألوان في الأدب العربي بعد الإسلام يختلف عما كان قبله، فقد فتح العرب الأمم المجاورة لهم واتصلوا بها وهي ذات حضارة قديمة، فأثروا بها، وتغيرت حياتهم، وتمتعوا بالترف المادي والترف المعنوي، فلم يكتفوا بسكن الدور والقصور، بل استحدثوا ألواناً من الفن لم يكن لهم بها عهد. فشعراء الحجاز مثلاً رأوا أنفسهم أمام فنون وافدة عليهم من الفرس والروم وغيرهم، هي فنون الغناء والموسيقى والرقص، فكان لها في نفوسهم أبلغ الآثار، فيرعوا في الغزل واللهو على نحو لم يكن في الجاهلية، وحدث هذا في الحجاز وبه الأماكن المقدسة، فما بالك بالعراق وخاصة بغداد في عصر العباسيين الذي امتاز بالدراسات الثقافية والفلسفية، فلم يكتف الشعراء بملكاتهم، بل اخذوا بهذه الدراسات وانتفعوا بنتائجها وأفكارها واستعملوا مصطلحاتها في أشعارهم. وكذلك شأن العر بالأندلس، بل هم أكثر إمعاناً في هذا السبيل لمتاخمتهم ومعاشرتهم للأوربيين الذين تأثروا هم أيضاً بالآداب العربية الأندلسية. وقال إن الأمة الفارسية بعدما استعادت لغتها القديمة ظلت تتابع الثقافات والآداب العربية وتتأثر بها.
ثم انتقل إلى أوربا في عهد النهضة، فبين كيف ازدهرت الآداب والفنون بإيطاليا في القرن السادس عشر، وأخذت أوربا الشمالية عنها هذه الآداب والفنون، قم ما كان بعد ذلك من تطلع الفرنسيين إلى الأدب الإنجليزي وانشغالهم به.
ساق الدكتور طه كل ذلك ليصل منه إلى ما يحدثه تبادل الآداب والفنون بين الأمم من التقريب والتأليف، وأن ذلك حري أن يصد تيار الجنون الذي يعتري الأمم في فترات مختلفة، ثم ليصل أخيراً إلى ما ينبغي أن نفعله الآن، فقال إننا أخذنا بالحضارة الحديثة في حياتنا المادية، فلم نعد نركب الحمر وننتقل بالإبل، ولكننا لم نتقدم في أدبنا عن ذلك، فلا زلنا نكتفي بما عندنا، ونزهد في آداب غيرنا، ونعتمد في مترجماتنا إلى ما يقصد به اللهو والتسلية، فيجب أن نقبل على الآداب الأجنبية، نتفهمها، ونأخذ عنها، ونحاكيها، ثم نبتكر بعد الاستفادة منها، ليكون لنا أدب يؤخذ عنا كما نأخذ عن غيرنا.
تعقيب:
الذي نعرفه أن الأدب المقارن هو الدراسة التي تقوم على المقارنة بين أدب وأدب للبحث عما يتشابهان وما يختلفان فيه من الخصائص والموضوعات وما إلى ذلك. وقد كان حديث الدكتور طه في هذا في أول المحاضرة عندما قال إن القدماء كان لهم نظرات في قياس بعض الآداب إلى بعض، وإن المحدثين تعمقوا تلك النظرات ووسعوا ونظموا الدراسات للمقارن بين الآداب. ولكن حديثه بعد ذلك - وهو معظم المحاضرة وموضوعها - كان في شيء آخر - على ما نفهم - هو انتقال الآداب من أمة إلى أخرى وتأثير أدب في آخر، وأثر هذا في التقريب بين الأمم؛ وقد دعا في ختام محاضرته إلى أن لا نكتفي بأدبنا وإلى أن نأخذ من آداب غيرنا، فهل الأخذ من الآداب الأجنبية يسمى أدباً مقارناً؟ هذا وقد فجعنا الدكتور طه في أدبنا العصري الذي تكون من إنتاجه وإنتاج غيره ممن سائر أساتذتنا أدباء الجيل، فهم منذ عشرات السنين يطلبون الآداب الأجنبية ويتفهمونها ويترجمونها ويحاكونها، ونزعم إنهم ابتكروا بعد الاستفادة منها، وإذا الدكتور طه حسين يقول إننا مكتفون بما عندنا وزاهدون في آداب غيرنا. . . بل يقول أنا واقفون في حياتنا الأدبية عند ما يقابل ركوب الإبل والحمر في حياتنا المادية! ففيم كان ما كان؟. . .
ومن ظريف المفارقات إنه يقول ذلك في نادي خريجي القسم الإنجليزي في كلية الآداب الذين يوجهون جهودهم الأدبية كلها إلى دراسة الأدب الإنجليزي وإذاعته بالإذاعة المصرية التي توليه من عنايتها ما لا يظفر به أدبنا!
مجلة الرسالة - العدد 756
← بتاريخ: 29 - 12 - 1947
ar.wikisource.org
مجلة الرسالة/العدد 756 - ويكي مصدر