عبد القادر علي الجاعوني - تأثير الأدب العربي في الأدب الأوربي

المقدمة:

في هذا العصر الذي تجتاح فيه مدنية الغرب الأقطار العربية فتنتقل إليها علومها وآدابها، يحسن بنا أن نلقي نظرة إلى الوراء، لنرى كيفية تمثيل الآداب العربية للدور نفسه في عصور مضت، وكيف أن احتكاك العرب بالغربيين كان له أثر ظاهر في آدابهم.
ومن البديهي أن يكون التأثير ضئيلا في منطقة الآداب، وأن يكون بارزا ملموسا في منطقة العلوم، لأن الأمم تتعصب لآدابها وتأنف أن تدخل فيها عناصر أجنبية من تلقاء نفسها.
ولهذا رأينا العرب تهافتوا على العلوم الفارسية واليونانية وغيرها، أما آدابهم فظلت محافظة على صبغتها العربية وقلما تأثرت بآداب هاتين الأمتين.
ولقد مثل الغرب نفس الدور، فقد تهافت على نقل العلوم التي اشتغل بها العرب إبان نهضتهم العلمية، ووقف مكتوفا أمام الآداب العربية إما مستغربا أو مترفعا إزاء الآداب الشرقية التي برزت أمامه بأثواب لم تألفها عينه من قبل، وليس من المعقول أن يكون ذلك التأثير قد حصل دفعة واحدة بل إنه اتخذ سبيلا تدريجيا حمل بين طياته كثيرا من العناصر الفنية، وشيئا من الأفكار الشرقية، وبدعا من الظلال الشعرية، وغير ذلك مما لا يقع تحت حصر.
تاريخ هذا التأثير في القرون الوسطى:
(من القرن العاشر إلى القرن الخامس عشر)
لما حلت اللغات الوطنية محل اللغة اللاتينية، وشاع استعمالها بدلا منها، ظهر في فرنسا نوع جديد من الشعر يدل على وجهة اجتماعية جديدة، وكان هذا الشعر شديد الشبه بنوع ظهر في الأندلس العربية، ولهذا شاعت النظرية القائلة بأن شعراء جنوبي فرنسا - برقانس - تأثروا بالأدب الأندلسي.
وهذا الشعر الجديد الذي ظهر في فرنسا، قد صور الحب - كما صوره الغزل الغربي - بشكل جديد، مثير للشعور، غني بالصور الخيالية، مفعم برقة الاستعطاف وشدة التيتم الذ يقرب حد العبادة.
ومن المرجح أن هذه الطريقة في الغزل لم يكن منشؤها العادات الاجتماعية في ذلك العصر؛ لأن المرأة كانت منحطة، ولأن الفروسية تأبى أن تفرض على رجالها هذا النوع من التصنع العاطفي لمنافاته للروح الحربية ومخالفته مثل الكمال التي فرضتها الكنيسة في تلك العصور.
وبقيت هذه النظرية قائمة حتى القرن التاسع عشر عندما قام النقاد يطلبون وثائق خطية وعندما أخفقوا في إيجادها تحولوا إلى الطرف الآخر وقالوا بنفيها.
أما الأبحاث الحديثة فقد بينت لنا أن الشعراء المغنين تروبادور في فرنسا قد أخذوا من الأندلس أساليب الغزل الجديدة.
قال الأستاذ (جب) في تراث الإسلام في القرن الحادي عشر بلغ الشعر قمة ازدهاره بعد أن مرت عليه قرون طويلة يتابع فيها نموه، والغزل لا يزال أكثر أنواعه شيوعا يفتتحون به كثيرا من قصائدهم. هذه كانت طريقة الجاهليين تبعها الشعراء في عصور التمدن الإسلامي. إذ ذاك كثر الشعر الغنائي وصقلته المدنية، وزادته أناقة ورقة مصطنعة، وأصبح الغزل في أقصى حالاته نوعا من التصوف. وفي وسط هذا التهوس ظهر الشعراء العذريون ونظريتهم الأفلاطونية التي وجدت في الأندلس مرتعا خصبا، وأشهر من دان بها ابن حزم صاحب (طوق الحمامة) الذي عدها من وسائل تزكية النفس.
هذه الروح الرومانطيقية المغالية هي التي انتقلت إلى منشدي القرون الوسطى وشعراء الغرب الغنائيين وولدت فيما بعد الشعر الخيالي. أما كيفية انتقالها فيقول الباحثون إن ذلك جرى بواسطة الزجل أو الشعر العامي الذي استنبطه عرب الأندلس، وأدخلوا فيه شيئا من روح الشعر الغربي وأسلوبه، فنسج على منواله الأسبانيون، وأصبح هذا الرجل الشعبي حلقة الاتصال بين الشعر الغربي وشعر أوربا الجنوبية. لقد عثروا مؤخرا على مجموعة أشعار أسبانية من نوع (الفيلانسيكو) وهو الشعر العامي الذي لا يختلف عن الزجل العربي، والمجموعة لابن قزمان الذي عاش في أوائل القرن الثاني عشر. وكل ما في شعره يدل على أصل عربي إلا اختلافا قليلا في طريقة الوزن الذي يعتمد على الحركات لا على المقاطع كالشعر الإنكليزي.
وأخيرا كل القرائن تجتمع لتظهر أن هذا الغزل الجديد بروحه وطريقته كان مصدره الغزل العربي في الأندلس، ولا يخفى أن الغزل شاع في الشعر العربي من أقدم عصوره.
في صقلية وإيطاليا:
ولم ينحصر تأثير الشعر الأندلسي في فرنسا فحسب، بل تعداها إلى إيطاليا وصقلية، ولقى الشعر العربي مشجعا من الملوك والأمراء النرمنديين فقد استعمل الشعراء الإيطاليون أوزانه لنظم أشعارهم إلا أن (بترارك لم يرق له هذا الأدب الدخيل فثار عليه وعلى العرب في كتاباته.
ومن النواحي التي أثر فيها الأدب العربي: ناحية القصص والأمثال فقد ثبت مؤخرا لدى الباحثين أن كثيرا من القصص والأمثال في ألمانيا وفرنسا ترجع إلى أصول عربية، وكما انتقلت الألفاظ على ألسنة السواح والتجار، والمحاربون من الصليبين كذلك تنوقلت القصص والحكايات والأمثال إلى آدابهم، ويرجح أن أبوكاشيو قد نقل حكاياته الشرقية من مصادر شفهية.
ومن البديهي أن الأدب العربي مليء بالأمثال والقصص ذات المغزى الأخلاقي والأدبي الذي تسرب بعضه - فيما أعلم - من مصادر هندية أو فارسية أو يونانية، ولقد صادفت هذه الأمثال قبولا مرضيا عند الغربيين فنقلها اليهود استحسانا إلى الآداب الغربية، من ذلك كتاب السندباد المتحدر من أصل هندي؛ ثم مجموعة حكم وأمثال، وأقوال فلسفية ترجمت إلى الأسبانية واللاتينية أو غيرهما. وهذان الكتابان كان لهما أثرا خاص في النثر الأسباني الذي اعتمد على النثر العربي في أول عهده وكانت الترجمة الأولى لكتاب (كليلة ودمنة) في أوربا من العربية إلى الأسبانية. أما في باقي اللغات فقد نقل عن ترجمة لاتينية قام بها أحد اليهود ثم انتشرت في الأقطار الأوربية.
وأخيرا وصلت بعد تغيير وتحوير إلى اللغة الفرنسية تحت اسم جديد أمثال (بيدبا) المنقولة رأسا عن الفارسية وكانت أحد المصادر التي استقصى منها لافونتين الشهير أمثاله الموضوعة على ألسنة البهائم.
وعرف الأسبان فن المقامات عند العرب فنسجوا على منوالها في بعض رواياتهم، وفي جملة ما وضعوه كتاب يدعى (الفارس سيفار) يروي سلسلة مغامرات مقتبسة من أصول عربية.
ولا نزال نرقب الباحثين في إثبات ما لرسالة الغفران من التأثير في الآداب الغربية، إذ المظنون أنها كانت أحد العناصر التي أدخلها (دانتي) في تأليفه رواية (الكوميديا الآلهية).
ثم كان عصر الانبعاث، وهو عصر إحياء الآداب اليونانية القديمة والانصراف عما سواها، ولم يلبث الناس أن سئموا الأنظمة البيانية وجنحوا إلى الخيال والألوان. ففي سنة 1704 ترجمت روايات ألف ليلة وليلة) إلى الفرنسية وكان هذا نتيجة للأسفار، وبدء الاستعمار في الشرق ونتيجة انجذاب الغربيين بسحر الشرق الذي مازال يستهويهم بغرائبه وأسراره وألوانه الزاهية قال مارتان في كتابه: (الشرق في الأدب الفرنسي) إن دراسة الشرق في أوربا ابتدأت في القرن السابع عشر، وتكونت ونمت في القرن الثامن عشر الذي يعد بحق عصر الأدب الشرقي في أوربا. هذا القرن الذي كثر فيه البحث العلمي الجاف، وكثرت فيه الويلات والانقلابات فكان أهله متعطشين إلى الخيال، ولذا كثر فيه التأليف في موضوعات شرقية وامتلأت الروايات بأبطال شرقيين، فوضع (راسين) مثلا روايته بايزيد ثم ظهرت روايات (فولتير) التمثيلية الشرقية والرسائل الفارسية لمونتسكيو وفي إنكلترا ظهرت (رؤيا مرزا) و (راسلاس).
على أن هذه التآليف المقلدة كانت على جانب من الضعف والركاكة، ولهذا يهملها تاريخ الأدب العربي لأنها شوهت قسما من صفحاته. وكان لحركة الاستشراق التي بدأت في فرنسا صدى في أوربا، وكانت ألمانيا أسبق الجميع إلى اقتباس بعض مظاهر الأدب الشرقي. وقام كثيرون من شعراء ألمانيا (الرومانطيقيين) يستوحون الخيال الهندي والفارسي وكان قائد الحركة هردر وبعد وكان (جوته) أول من اعتمد الأسلوب الخيالي الشرقي لأنهم أرادوا أن يتعزوا بالخيال عن الحقائق المؤلمة. على أن تآليفهم الأدبية لم تكن ذات قيمة تذكر لأن التقليد غلب عليها، إلا أنها أدت للأدب خدمة جلى إذ فتحت للأدباء بابًا جديداً ما يزال يلجه الكثيرون.
أما في فرنسا، فقد كتب (فكتور هوجو) قصائده المعروفة (بالمشرقيات) وصدرها بهذه الجملة (في عهد لويس الرابع عشر كان جميع الناس (هلينيين) أي طلاب الثقافة اليونانية؛ أما اليوم فجميعهم مستشرقون أي طلاب للثقافة الشرقية)، لكنه مع شغفه بالثقافة الشرقية لم تبلغ معرفته بها الحد الذي وصل إليه الكتاب الألمان أمثال غوتي وسواه.
وفي إنجلترا نرى نفس هذه الحركة التي تهتم بالسطحيات، ولا تتغلغل إلى جوهر الأشياء؛ فهناك قام سكوت يسعى لإبراز رواياته الشرقية بحلة شرقية. واقتدى به غيره من الروائيين، وتبعه في ذلك بيرون قبل ذلك، ونجح في تحبيب الشرق إلى الغربيين، وتبعه في ذلك مور في روايته.
ففي هذه الأحوال جميعها أخطأ أدباء الأدب الغربي فهم الأدب الشرقي، واستعملوه للتزيين والتلوين أي أخذوا منه القشور وأنكروا الحقائق المنطوية تحتها، وأعرضوا عن الميراث المعنوي الذي قدمه الشرق للعالم. ومع هذا فالقرن التاسع عشر لم يعدم كاتبا يبين لنا الصلة الجوهرية بين الشرق والغرب في شخص فتزجرلد فنقل (رباعيات عمر الخيام) إلى الإنكليزية، وقد أبدع في نقلها حتى قيل إنها إنكليزية بقدر ما هي فارسية.
الخلاصة:
هناك ثلاثة أدار ظهر فيها تأثير الأدب الإسلامي في الغرب وجاء بنتائج متماثلة إن لم تكن متعادلة. أولها في العصور الوسطى، ثم بعد مرور عصر الانبعاث في القرن الثامن عشر، ثم في القرن التاسع عشر، وكان التأثير على أشده في القرون الوسطى عندما اقتبس الغرب عن الشرق بعض العناصر الفنية التي دخلت في تكوين أدبه. أما بعد سيادة الأدب اليوناني فلم يأت الاحتكار إلا بنتائج ضئيلة، وكانت المنتجات الأوربية الشرقية أشبه شئ بنوادر أو تحف غربية تثير الفضول ولا تتعدى التقليد. هذا في القرن الثامن عشر، أما في القرن التاسع عشر فقد ظهر في ألمانيا حركة مثمرة لم تدم طويلا. وفي سائر أوربا كان الناس في القرن الماضي ينظرون شزرا إلى كل ما هو أجنبي. وقد أسكرهم التبجح بالسيادة العالمية. أما في القرن الحالي فقد أخذوا يغيرون وجهة نظرهم، ويشعرون أن دائرتهم مهما اتسعت فهي أضيق من أن تشغل العالم بأسره، وتأكدوا بأن هناك خارج منطقتهم كنوزا يجب أن تكتشف.

(القدس)
عبد القادر علي الجاعوني بكالوريوس في العلوم

مجلة الرسالة - العدد 681 بتاريخ: 22 - 07 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...