عزة مصطفى عبد العال - لازالت تنتظر.. قصة

حمل مخلته فوق ظهره وابنته بين يديه, ضمها إلى صدره فتشبثت برقبته, سار ببطء حتى وصل محطة القطار ومن خلفه زوجته وأمه, لازال الوقت باكراً لم يصل القطار بعد, تلفت حوله وجد حجراً مرتفعاً عن الأرض فجلس عليه ووضع طفلته على ساقه, بحركة مباغتة مسح دمعة سقطت قسراً لينفض حزن عينيه وهو يقول بمرح مصطنع :

سأذهب لأهزم العدو وأحرر الوطن .
ماذا تقصد يا أبي ؟
سأذهب إلى الحرب وأعود سريعاً .
لكني أريدك معي .. من سيحكي لي الحواديت ومن سيحضر لي الحلوى التي أحبها ؟
انتظريني سوف أعود بسرعة .
وعد يا أبي ؟
وعد يا حبيبتي.

جاء القطار وتزاحم الركاب يندفع بينهم الجنود بقوة .. نهض بتثاقل واستقل مكانه بجوار النافذة.. ألقى عليها النظرة الأخيرة.. فتلوح له بمرح :

لا تنس يا أبي سأنتظرك هنا .

هز رأسه بابتسامة وأمل في أن يرسم غد أفضل لابنته بانتهاء المعركة, عادت الصغيرة مع أمها تسألها بحزن :

متى سيعود أبي ؟

ردت وهي تواري نظرة زائغة:

عندما تنتهي المعركة .

جلست أمام التلفاز تبحث عن أخبار المعركة, ولم تعرف أي معركة سيتحرر فيها الوطن حتى غلبها النوم, وفي الصباح ذهبت إلى المحطة, رأت الحجر الذي جلس عليه أمس خاوياً فوقفت بجواره تنتظر, حتى جاء القطار, لمحت بائع السميط فنادت عليه وسألته ببراءة :

هل رأيت أبي مع الجنود ؟

رد بعد تفكير :

ما اسمك يا صغيرة ؟
اسمى منى ويدعوني أبي ميمي .. وأنت ما اسمك ؟
عمو أحمد .
عمو أحمد كأبي.. أبي أيضاً اسمه أحمد !
اسمعيني يا ميمي عودي إلى بيتك وعندما أراه سأخبرك .

عادت تتعثر في خطواتها وهي تقول لنفسها ” ربما يعود غدا ” , وكل غد يجئ تذهب إلى المحطة وتسأل عنه كل من يأتي مع القطار فيمازحها الأغراب ويحنو عليها كل العارفين لأبيها من الباعة الجائلين وأهل الحي.. حتى جاء اليوم الذي عرفت فيه خبر النصر فأسرعت إلى المحطة ووقفت تنتظر وصول القطار عندما رأت الجنود يتوافدون مجموعات مجموعات غمرتها الفرحة وحيتهم تحية النصر لكن لم يكن أبوها بينهم , رأها بائع السميط تبكي فقال لها :

لا تحزني ربما يعود غداً فهم يأتون تباعاً .

مسحت دموعها وغادرت المحطة بعد أن وعدته بأن تعود في الغد.

ومع أول أشعة الشمس كانت تأخذ مكانها فوق الحجر المرتفع عن الأرض وانتظرت حتى جاء القطار الأخير لهذا اليوم ولم يكن به سوى جندي واحد فقط ركضت نحوه وسألته بلهفة :

هل رأيت أبي ؟

نظر إليها بشقة وسألها :

ما اسمه ؟
اسمه أحمد بائع الخبز .

اغرورقت عيناه بالدموع وحملها بين ذراعيه وقال بصوت خافت كأنه ينبعث من عالم بعيد :

نعم رأيته وهو يحمل الراية .
ما الراية ؟
الراية هي علم بلادك .
ذلك العلم ذا الألوان الثلاثة ؟
نعم حمله أبوك وخاف أن يسقط منه على الأرض فتشبث به حتى ثبته وسقط هو .
ماذا تقصد ؟
أقصد إنه أرسلني بهدايا كثيرة لأخبرك إنه سيمكث هناك يحرس العلم .
ومتى سيعود ؟
لا أعرف لكن ربما يأتي يوماً ونذهب إليه .

سار معها إلى البيت ليخبر أهله, يحمل مخلته فوق ظهره وفي قلبه الكثير من القصص وشيء من الألم .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...