عبدالعزيز أمزيان - بعض ألوان المجاز والاستعارة والإيحاء في المجموعة القصصية "حبر على الهامش" للقاص والمبدع مبارك حسني

في ملك المبدع مبارك حسني خمس مجموعات قصصية،
ـ "رجل يترك معطفه"، منشورات مرايا، طنجة 2006.
ـ "الجدار ينبت ها هنا"، منشورات مرايا، طنجة، 2008.
ـ "القبض على الموج"، دار التنوخي للنشر، الرباط، 2011.
-حبر على الهامش، منشورات إديسيون بلوس، الدار البيضاء، 2017.
كاتب في باريس، قصص ومحكيات، منشورات إديسون بلوس، الدار البيضاء، 2019.
أول ما يلفت الانتباه في الكتابات القصصية للكاتب مبارك حسني هو عناوين هذه المجموعات القصصية، ذات المنحى الشعري الصرف، والعتبات النصية ذات الاتجاه المجازي المحض، ما يعطي الانطباع على أن الكاتب حسني مبارك، يمتلك حسا جماليا لائقا، ويحوز تذوقا فنيا رائقا . حس جمالي ينم عن مقدرة ثقافية غنية، وتذوق فني يشي بثراء معرفي متباين، ولا تنحصر هذه الميزة في عناوين المجموعات القصصية فحسب، بل تتعداها إلى عناوين القصص، التي أحاطها المبدع أيضا بأنفاس ابتكاراته الاستعارية، وأشاعها بأضواء إبداعاته ألإيحائية، كما هو واضح في المجموعة القصصية "حبر على الهامش" التي ارتسمت عناوينها بأبهى أبارقها، وانكتب مدادها بأجمل ومضاتها ، في خمس عشرة قصةː " سرة العين، زرادشت في مكان بعيد، عند أقدام الشلال، مخلب الرجل الأنيق، العين والذبابة، أضغاث عاشق ورقي، حب في بحر الليل، المرأة الجالسة، حكاية بيضاوية، هوس برائحة الليل، غواية الرهان، حوار مع بائعة شقراء، حب في حديقة ما..، خرافة عن الخوف، ومن الحجر ما كتب.
وتتسع هذه الميزة، لتشمل المتن الحكائي، باعتباره مجموع الوقائع الواردة في القصة، إذ نلفيه يتلون بزخارف الاستعارة، وينقشها بفسيفساء الإيحاء، وهي تعمم على جميع قصص "حبر على الهامش" المجموعة القصصية التي هي قيد التحليل والنظر، ففي قصة "سرة العين" نقرأ على سبيل -المثال لا الحصر- ( ص 3)" نقطتا برق حاد تلقيان في ركن الكوخ المهجور لعوادي الريح والمطر واليبوسة أشعة خيطية رقيقة تقصم ظهر الظليل الغباري حواليه وتجعله، هو، يرتعش ويحس بالرغبة تسري في مسارات دمه المتشعبة الذي دار دورة واحدة وسخن"
فحين نتأمل هذا المقطع السردي على سبيل المثال، تتراءى لنا لغة المجاز ساطعة، لا تخطئها عين، ولا تتخطاها ملكة التمييز، إذ العلاقة هنا بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في الأغلب هي المشابهة. في قصة " زرادش في مكان بعيد" نقرأ ( ص 10)" وضع في الجدار يمينا، صورة عنقود يعانق قنينة "بوردو" وتفنن في كتابة جملة " مرحبا باخوس" لعل عطفة من السيد تمنحه قطرات حية من النشوة" وفي نفس القصة، نقرأ " في الجدار المقابل ألصق صورة بالأبيض والأسود للمغنية فرانسواز هاردي. تتراقص ظلال سحر رونقي في أفق عينيها الأسيويتين كدعوة للإبحار في الشوق" نفس الملاحظة تنطبق على هذا المقطع السردي.
الملمح الآخر الذي يجتذب القارئ، ويستميله، هي لغة السرد، التي تتدفق بسلاسة، وتفيض بانسجام، إذ لا تصادف فيها أي تعقيد لفظي، ولا تعقيد معنوي، تجري الكلمات في اتساق، ويتصل بعضها ببعض في وئام، لها في النفس وقع آسر، وفي الوجدان أثر أخاذ، بما تتضمنه من إيحاءات، وما تستضرمه من دلالات. نقرأ في قصة "حب في بحر الليل" (ص 35)"رأيت البحر يضحك للشمس ويضحك للعالم. ربما لأن الشمس كانت وديعة ولطيفة الملمس. وربما لأن الموج كان هادئا ورقيق المعشر. وربما لأن الشاطئ ذاك الصباح لم يكن ممتلئا. ربما كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت البحر يضحك. لكن حين بدت حسناوات في عمر الصبا الربيعي يجرين بفرح فوق الرمل الذهبي تسبقهن البسمات الصارخة الفتنة لاح جليا من أين حل المرح بالبحر." هذا المقطع السردي، وغيره من المقاطع السردية في جميع نصوص المجموعة القصصية، ينحو هذا المنحى في اللغة، ويحذو هذا الأثر في الكلمات، إذ تبرق في تناغم، و تومض في تآلف. فضلا عن ما يتفتق عنها من مضامين جليلة، وما تبتكره من معاني بديعة.
وهناك أيضا تقنية أخرى، تسترعي الانتباه، في الكتابة القصصية، وتستوقف النظر، وهي أن القاص مبارك حسني، يمتلك حدسا إبداعيا، في سرد الأحداث، ويقبض على نواصي السرد، قبض فنان موهوب، ويحرزها كما لو كانت مخلوطة بدمه، وممزوجة بأوصاله، لا يجد عناء، ولا مشقة في استبصارها، ولا يلقى تعبا ولا محنة، في استجلائها، فتأتيه طوعا، كما لو كانت صكوكا طبعت في خلده، قبل أوان الكتابة والإلهام، ونماذج مسكوكة في خياله، قبل وقت التدوين والمكاشفة. وهذه التقنية التي أشرنا إليها، لا يكاد يخلو منها أي نص، ما دام كل نص هو سرد متتابع لوقائع ترد في المحكي، يلحقه تحول، يخضع في الغالب لقانون السردية، الذي يتولى تنظيمه والتحكم فيه.
ويمكن أن أستدل على ذلك بمتوالية حكائية الآتيةː قصة " حب في حديقة ما..." (ص 66)" شيء ما في المكان لم تقبله العين. تراكم القمامة الداكنة مثل نجود صغيرة منفرة أو تكاثف الغيوم الشتوية من فوق في سماء هابطة كالقدر الذي ينذر بحلول الظلام؟ ربما السببان معا، أي الزبالة والغيم كانا وراء شعوره ذاك. يضغطان على الأمنية في تحقق الرغبة، كل رغبة من أدناها الى أقواها، ويسحبان النظر كان تواقا لإحياء الذكرى، نحو الركون بعيدا في باطن الذات التي تذكرت عشقها القديم، تذكرت مكانه القديم.."
تناول الكاتب مبارك حسني في المجوعة القصصية، مواضيع مختلفة، ذات أبعاد اجتماعية، ونفسية، وعاطفية، وواقعية،، وسخر لها أدوات فنية متنوعة، ووظف مقومات جمالية متباينة، من أحداث وشخصيات، وحوار ووصف، ومكان وزمان وتقنية الاسترجاع والاستباق، وخطاطات سردية، التي تنتظم وفق بنية البداية والوسط والنهاية، وغيرها من التقنيات التي اتخذها وسائل برزت مقاصد المتن القصص، وأبعاده الإنسانية، كل ذلك بلغة سلسة، اتكأت على المجاز والاستعارة، والإيحاء، والحدوس السردية، واستندت على طاقة إبداعية خلاقة، وفي قالب فني رائق، وصياغة جمالية لائقة.


عبد العزيز أمزيان

* جريدة الاتحاد الاشتراكي، صفحة "الثقافة" لعدد اليوم 19/04/2022.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...