كانت المأمورية الأولى لى فى الخدمة العسكرية .. استلام تقفيصات حديدية من وحدة المهندسين العسكريين القريبة .. بمجرد أن تخطت السيارة أمن البوابة .. لمحته قبل أن انزل من السيارة .. يمشى بخيلائه الذى لاتخطئه العين .. لطالما كان يبهرنا بقوامه الممشوق وعضلاته المفتولة التى واظب على بنائها فى الساحة الشعبية حيث نقطن متجاورين .. وأيضاً فى رفع الأثقال عند عم حسنين فى الشارع ز. حيث محط أنظار الفتيات ..
التفت جهتى عندما سمع صوت ارتطام إقفال باب السيارة الثقيل .. التقت عينانا .. بادرته :
– صباح الخير يا لولو ..
امسك بيدي متلفتاً حوله .. ابتسم بخفة واستنكار .. خافضاً صوته :
– لأ لأ .. لولو إيه هنا .. أنا هناالشويش علي .. إزيك يا أستاذ .. قصدي أهلاً يافندم ..
فرحت فى داخلي لأنه عرفني .. فقد كان يكبرنا سناً .. وله نجوميته فى الشارع .. لذا كنت أظن أنه لن يعرفني .. تداركت خطئي :
– والله زمان ياشويش على .. ماحدش شافك فى الشارع من يوم عزاء فايز ..
– انت إيه اللى جابك هنا – يافندم – والله الواحد نفسه مكسورة من ساعتها .. مابحبش أقابل حد ..
– معايا جواب استلام تقفيصات .. ومعايا عساكر هايحملوها لوحدتنا .. انت زعلان ليه .. انت ماكنتش قادر تقول .. كفاية انك كنت مهموم ومستخبى كل أجازة ..
كان قد انفجر باكياً بعد انتهاء عزاء جارنا فايز .. اصطحبناه بعيداً ليهدأ .. كان الشارع قد أظلم تماماً .. انسلوا مبتعدين .. لم يعد يحتمل السكوت .. كمن يزيح حجر عن صدره .. كان يهذي :
– كنت على الجسر معه منذ الصباح .. اثناء تركيبه على القناة .. ضربتنا غارة الطائرات عند الظهر .. لما أفقت .. كانوا يجهزون لدفن الزملاء على عجل فى مزرعة قريبة مهجورة .. قلت لهم .. صاحب الحذاء الأبيض الخفيف هناك ده .. فايز .. جاري ..
عاد للبكاء ثانية .. اصطحبته فى الظلام الى منزله فى الشارع الخلفي .. أغلق الباب خلفه .. بلا تحية ولا أبِه حتى من أنا ..
تكتم الأمر حتى مابعد توقف الحرب .. وبدء الأجازات .. كان فى حيرة من أمره .. كلما علم بترقب عودة فايز .. أو فشل بحث الأسرة عنه فى السجلات ..
– تعال معايا أسلمك التقفيصات .. انا عارف الصول هناك .. ها خليه يخلصك على طول .. مش انتم اللى كان اخوات فايز معزومين عندكم على الغدا يوم أبوه ما جاب الخبر من السجلات .. عرفت كده من شعبان بتاع الفراشة لما جاب الكراسى .. ودورنا عليهم .. شافهم رايحين لكم الصبح ..
– أيوه .. بيجولنا علشان المكتبة والكتب .. ويومها قالوا لأمى عايزين ناكل رقاق .. كان العيد الكبير زى ما أنت عارف .. وكان عيد سبعة يناير كمان .. اول ما قعدنا وبدأت امى تقطع الرقاق .. وتقسم الصينية واحنا كلنا بنضحك وكل واحد بيختار نصيبه .. سمعنا دوشة غير صوت العيال فى العيد .. قمنا جرى .. وبدل العيد .. بقى العزاء .. الله يرحمه ..
– الله يرحمه .. كان حبيب الجميع ..
كنا قد اقتربنا من المخزن .ز أشرت للسيارة بالاقتراب .. سهل لنا الشويش على إجراءات الاستلام .. حمل الجنود التقفيصات فى السيارة .. سلمت عليه بحرارة ..
اتجهت السيارة إلى وحدتنا .. كان فايز ماثلاً فى مخيلتى طوال الطريق .. فى بداية مراهقتنا .. كان يحضر جميع مناسبات الحى .. يحاول استعراض صوته الأجش فى الغناء بين استياء وصخب وضحك الجميع .. لم نكن نندهش عندما نجده فى المسجد فى صلاة الفجر فى رمضان .. أو يتبع شلة الصبية خلف المسحراتى ليستعرض صوته هو الآخر .. بل كان يزداد تعلقنا به واصطحابنا له .. ذهب للتجنيد وقت التحاقى بالجامعة .. لم أعد أراه إلا لماماً .. كنت اسأل
إخوته عنه .. فقد كانوا يقضون معظم أمسياتهم معنا .. بين الكتب والموسيقى .
أول إجازة لى بعد هذا اللقاء مع لولو .. مررت بمنزل فايز متجهاً إلى بيتنا .. لم يكن تفكيرى فيه قد توقف .. كما لو كان واقفا ًفى المدخل .. خلفه ظلام الداخل .. فى غبش المغرب .. دققت فيه مقترباً غير مصدق .. أنفاسى متسارعة .. كان أبوه .. مرتدياً بعض من ملابس ابنه .. فايز .. التشابه مخيف .. خاصة بالبيريه .. التقطت أنفاسى :
– مساء الخير ياعم جرجس ..إزى صحتك دلوقت ..
– الحمد لله يابنى .. إيه احوال الجيش .. صحيح هدأت الأحوال وقربوا من فك الاشتباك زى ما بيقولوا ..
– إن شاء الله .. سلم لى على الأولاد .. بالليل هاشوفهم ..
غادرته مسرعاً إلى البيت .. قال أبى أن عم جرجس عرف مكان مقبرة فايز وبيزورها فى المناسبات ..
نزلت ليلتها للخروج مع الأصدقاء .. كان دكان عم جرجس مضيئاً حتى هذا الوقت المتأخر .. مررت به :
– إزيك ياعم جرجس .. بتسمع أطلال أم كلثوم .. إيه الرواقة دى ..
– تعال أقعد معايا شوية .. ما أنت فى أجازة .. بتفكرنى بالغالى .. تعالى إحكى لى عنه أيام ما كنتم فى المدرسة ..
– أقولك إيه ولا إيه .. دا تاريخ .. الا صحيح أنت عرفت مكانه وبتزوره ..
– حقاً دى حكاية .. فضلت أدور واسأل لغاية السجلات ما حددت لى مقبرة عند مزرعة مهجورة .. قال لى المسؤول هناك أنهم إستدلوا عليه من شهادة عسكرى كان جاره .. وعرفه من حذاؤه الأبيض الخفيف .
sadazakera.wordpress.com
التفت جهتى عندما سمع صوت ارتطام إقفال باب السيارة الثقيل .. التقت عينانا .. بادرته :
– صباح الخير يا لولو ..
امسك بيدي متلفتاً حوله .. ابتسم بخفة واستنكار .. خافضاً صوته :
– لأ لأ .. لولو إيه هنا .. أنا هناالشويش علي .. إزيك يا أستاذ .. قصدي أهلاً يافندم ..
فرحت فى داخلي لأنه عرفني .. فقد كان يكبرنا سناً .. وله نجوميته فى الشارع .. لذا كنت أظن أنه لن يعرفني .. تداركت خطئي :
– والله زمان ياشويش على .. ماحدش شافك فى الشارع من يوم عزاء فايز ..
– انت إيه اللى جابك هنا – يافندم – والله الواحد نفسه مكسورة من ساعتها .. مابحبش أقابل حد ..
– معايا جواب استلام تقفيصات .. ومعايا عساكر هايحملوها لوحدتنا .. انت زعلان ليه .. انت ماكنتش قادر تقول .. كفاية انك كنت مهموم ومستخبى كل أجازة ..
كان قد انفجر باكياً بعد انتهاء عزاء جارنا فايز .. اصطحبناه بعيداً ليهدأ .. كان الشارع قد أظلم تماماً .. انسلوا مبتعدين .. لم يعد يحتمل السكوت .. كمن يزيح حجر عن صدره .. كان يهذي :
– كنت على الجسر معه منذ الصباح .. اثناء تركيبه على القناة .. ضربتنا غارة الطائرات عند الظهر .. لما أفقت .. كانوا يجهزون لدفن الزملاء على عجل فى مزرعة قريبة مهجورة .. قلت لهم .. صاحب الحذاء الأبيض الخفيف هناك ده .. فايز .. جاري ..
عاد للبكاء ثانية .. اصطحبته فى الظلام الى منزله فى الشارع الخلفي .. أغلق الباب خلفه .. بلا تحية ولا أبِه حتى من أنا ..
تكتم الأمر حتى مابعد توقف الحرب .. وبدء الأجازات .. كان فى حيرة من أمره .. كلما علم بترقب عودة فايز .. أو فشل بحث الأسرة عنه فى السجلات ..
– تعال معايا أسلمك التقفيصات .. انا عارف الصول هناك .. ها خليه يخلصك على طول .. مش انتم اللى كان اخوات فايز معزومين عندكم على الغدا يوم أبوه ما جاب الخبر من السجلات .. عرفت كده من شعبان بتاع الفراشة لما جاب الكراسى .. ودورنا عليهم .. شافهم رايحين لكم الصبح ..
– أيوه .. بيجولنا علشان المكتبة والكتب .. ويومها قالوا لأمى عايزين ناكل رقاق .. كان العيد الكبير زى ما أنت عارف .. وكان عيد سبعة يناير كمان .. اول ما قعدنا وبدأت امى تقطع الرقاق .. وتقسم الصينية واحنا كلنا بنضحك وكل واحد بيختار نصيبه .. سمعنا دوشة غير صوت العيال فى العيد .. قمنا جرى .. وبدل العيد .. بقى العزاء .. الله يرحمه ..
– الله يرحمه .. كان حبيب الجميع ..
كنا قد اقتربنا من المخزن .ز أشرت للسيارة بالاقتراب .. سهل لنا الشويش على إجراءات الاستلام .. حمل الجنود التقفيصات فى السيارة .. سلمت عليه بحرارة ..
اتجهت السيارة إلى وحدتنا .. كان فايز ماثلاً فى مخيلتى طوال الطريق .. فى بداية مراهقتنا .. كان يحضر جميع مناسبات الحى .. يحاول استعراض صوته الأجش فى الغناء بين استياء وصخب وضحك الجميع .. لم نكن نندهش عندما نجده فى المسجد فى صلاة الفجر فى رمضان .. أو يتبع شلة الصبية خلف المسحراتى ليستعرض صوته هو الآخر .. بل كان يزداد تعلقنا به واصطحابنا له .. ذهب للتجنيد وقت التحاقى بالجامعة .. لم أعد أراه إلا لماماً .. كنت اسأل
إخوته عنه .. فقد كانوا يقضون معظم أمسياتهم معنا .. بين الكتب والموسيقى .
أول إجازة لى بعد هذا اللقاء مع لولو .. مررت بمنزل فايز متجهاً إلى بيتنا .. لم يكن تفكيرى فيه قد توقف .. كما لو كان واقفا ًفى المدخل .. خلفه ظلام الداخل .. فى غبش المغرب .. دققت فيه مقترباً غير مصدق .. أنفاسى متسارعة .. كان أبوه .. مرتدياً بعض من ملابس ابنه .. فايز .. التشابه مخيف .. خاصة بالبيريه .. التقطت أنفاسى :
– مساء الخير ياعم جرجس ..إزى صحتك دلوقت ..
– الحمد لله يابنى .. إيه احوال الجيش .. صحيح هدأت الأحوال وقربوا من فك الاشتباك زى ما بيقولوا ..
– إن شاء الله .. سلم لى على الأولاد .. بالليل هاشوفهم ..
غادرته مسرعاً إلى البيت .. قال أبى أن عم جرجس عرف مكان مقبرة فايز وبيزورها فى المناسبات ..
نزلت ليلتها للخروج مع الأصدقاء .. كان دكان عم جرجس مضيئاً حتى هذا الوقت المتأخر .. مررت به :
– إزيك ياعم جرجس .. بتسمع أطلال أم كلثوم .. إيه الرواقة دى ..
– تعال أقعد معايا شوية .. ما أنت فى أجازة .. بتفكرنى بالغالى .. تعالى إحكى لى عنه أيام ما كنتم فى المدرسة ..
– أقولك إيه ولا إيه .. دا تاريخ .. الا صحيح أنت عرفت مكانه وبتزوره ..
– حقاً دى حكاية .. فضلت أدور واسأل لغاية السجلات ما حددت لى مقبرة عند مزرعة مهجورة .. قال لى المسؤول هناك أنهم إستدلوا عليه من شهادة عسكرى كان جاره .. وعرفه من حذاؤه الأبيض الخفيف .
نتائج البحث عن “الحرب” – الصفحة 2 – صدى: (ذاكرة القصة المصرية )
(السرد القصصي ظاهرة تتجاوز مجال الأدب بكثير ، فهو أحد المقومات الأساسية لفهمنا للواقع المعيشي) ميشيل بوتور