الدكتور السيد الجميلي - نفحات إيمانية.. أنت أيها الإنسان(١)

الانسان كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما ـ سمى إنسـانـا لأنه عهـد إليـه فنسي .. وليس هـذا القول مقصورا ولا موفوقاً على ابن عبـاس وحـده، ولكن ذهب اليـه أيضاً قوم معتبرون من أهل اللغة العربية، وقد ذهبوا إلى أقـوال مستفيضة في اشتقاقات مختلفة لا ترى داعيا لسردها.
لكن الذي يهمنا هو أن نستطلـع الإنسان وصفاته وجبلته وفطرته في آيـات القـرآن الكـريـم الـتـي تعرضت للانسان، وصـورت كل دقائقه ودخائله المستوردة قبل الظاهرة البادية تشريحاً دقيقاً لا مزيد عليه.
وليس معقولاً ولا متصوراً ولا مقبولاً بعد هذا البيان والتمحيص الدقيق الـرائع أن تستهـدي أو نسترشد برأي زيد أو عمرو، فإن البراهين والقرائن البينات واضحة لا غموض فيهـا ولا عجمـة ولا التباس ولا التـواء. وإنما يلجـا المتلقى أحيانا الى مصادر أخـرى ليفهم ما استعجم ومـا استغلق عليه، لكن هنا قوله تعالى -حاشاه ذلك - لا نرى أدنى ذرة من غموض، فإنه ليس بعد قـول الله تعالى قول ولا بعـد أمـره أمر، ولا بعد بيائه مطمع لاستزادة.
لم يخلق الإنسـان عبثـا، ولن يترك سدى، فهو مخلوق للعبـادة مثل الجن تمـامـاء وقـد كـان خلق الإنسـان مسبـوفـا بخلق الجن ببضعة آلاف من السنين، قـال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} «الذاريات : ٥٦» وليس مقصوداً بالعبادة في الآية الشريفة العبادة الظاهرة المأمور بها الإنسان من عبـادات بدنية ومعاملات وغيرها على ما ذهـب الـيـه بعض المفسرين وشايعهم هذا الرأي بعض ذوي الرأي لكن المراد بالعبادة كما نقل ابن قتية - رحمه الله - عن بعض أشياخه هي التوحيد.
ذلك لأن التـوحيـد هـو أسـاس الرسل والأنبياء جميعا، ومن كان توحيده غير مبرور وغير خالص كان مردوداً عليه وكان عملـه كلـه مشوياً بالفساد والبطلان، لأنه بعدم تسديده وتوفيقه في التوحيد يكون خاسرا لكل شيء.
والإنسان ضعيف بقطـرتـه لا يقوى على كثير من أقضيـة الـحـيـاة من تلقاء نفسه أو مع إرسال نفسه على هواها، لذلك كان من حظه أن يستعين بالله وأن تكون استعانته بالله مستمرة متجددة لأنه من غير معـونـة الله لا يمكن أن يجـد التوفيق اليـه سبيلا، ولا تنفـع الدنيا جميعها لو ساندت أو مالأت انسانا مكتوباً عليه الشقاء موعوداً بالخسران ورحم الله المتنبي حين قال : ولا ينفـع الجيش الـكـثـيـف التفافة على غير منصور وغير معان والإنسان ضعيف أمـام نفسه وأمام شهواته التي تغريه وتفتح العبادات كلها وهـو مفتـاح دعـوة أمامه أبواب الفتن على مصاريعها ولذلك قال تعالى : {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} «النساء : ۲۸». ويتقوى هذا الضعيف بمعونة الله ومعاضدته .. ومن ثم فإن صيرورة الضعف قـوة والـوهن صلابة أمـر مـرهـون بـالانسـان نفسه، فإن مفتاح الأمر في يده.
ثم إن الانسان قد فطر على الظلم والكنود والكفر فهو مقذوع بصفات ذميمة في آيات كثيرة من القـرآن الكريم، فالحق تبارك وتعالى يقول : {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} «سـورة الحج : ٦٦» ويقول أيضا في سـورة ابـراهيم : {إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} « : ٣٤» ثم يقول : {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُور} «سورة الزخرف : ١٥».. من ثم فإن الإنسان منعوت بأشد أنواع الظلم فهو «ظلوم» وهـو شـديـد الكفر «كفور» واستعمال القرآن لصيغ المبالغة يعطى الايحاء القـوى البليغ للتدليل على استـدامـة الإنسان على الـظـلـم والـكـفـر والجحود.
وإذا كان الانسان كنـودا لربه الذي خلقـه وسـواه، فكيف يكون منصفا لمخلوق مثله؟؟ قال تعالى : {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} «العاديات : ٦» فكان الأولى والأليق أن يكون طائعاً خاشعاً مخبتا لبارئه وخـالقـه وصـاحب النعم والآلاء التي لا تحصى ولا تعد.
لذلك فإن أولى الأبصار والبصائر يتوقعون الشر والغدر والخديعة من البشر من بني جلدتهم، لأنـه متى كان الانسان عافا ظالماً لنفسه فإنه لا يكـون ولا يمكن أن يكون منصفاً لغيره، وهو بالكفر والظلم يكون قد فوت على نفسه الخير العميم والرضوان المقيم في جنات النعيم.
ولم يترك الله تعالى الإنسـان تتجاذبه أهوال الطبيعة، ومكـايـد أعدائه وإنـما حـذره منها، وحسر عنها اللثام، وطرح عنهـا النقـاب حتى لا تكون له حجـة ولا يكون له عذر في عدم النـأي والاحتراس والاحتراز منها.
أهم أعـداء الإنسان في الطبيعة وفي حياته الدنيوية هـو الشيطان وتسويله، واستدراجه وتغـريـره ولذلك كان التنبيه عليـه واضحاً وقويا.
قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِين} «يوسف : ٥» وقال : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} «يس : الآيات ٦٠ ، ٦١ ، ٦٢».
لذلك كان من أعجب العجب أن يشيح الإنسان بوجهه عن طريق سعادته، وينخرط في المعاصي والمبـاذل والشهـوات بـان يصير منقادا للشيطـان الـذي هـو أعـدى أعـدائه، وتنكب طـريق الجـادة المستقيمة رغم تحذيره من تغرير، ومن تسويله وغوايته.
ثم يكون التحذير للانسان الذي يلتفت عن النصائح المـامـور بـهـا ويتفلت مـن الـتـحـذيـرات مـن الشيطان ولا يلقى لها بالاً، فيقـول الحق تبارك وتعالى تنبيها له على هذه الغفلة : (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقي معاذيره؟ «القيامة : الآيتان ١٤ و ١٥».
ويقول : {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} «القيامة : ٣٦».
ثم يكون الخطاب الإلهي في غاية الرقة والبلاغة : {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} «الانفطار : ٦».
ولما لم يكف الإنسان عن موالاته وممـالأتـه للشيطـان بـالـضـلال والإضلال والتضليل كان محكوماً عليـه بـالشقاء والنبذ، من حيث أصبح ماليا مهجـورا من ربـه ومليكه لخروجه عن الهـدايـة والارشاد : {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} «العاديات : ٦».
وليس الإنـسـان خـاسرا على عمـومـه ولا على الإطلاق وإنـما مستثنى من الخسران أو من أولئك أهل الإيمان وأهل الصبر وأهـل الحق وأرباب الخير وعمل البر وصـالـحـات الأعـمال، وإن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» «العصر الآيتان : ۲ ، ۳».
في النهاية يستحق الانسـان هـذا الدعاء الذي قرره رب العزة : {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} «عبس : ١٧».
لذلك فلا يجب أن يحزن الإنسان على مضرة نالته أو مساءة لحقته من إنسان، لأن هذا هو المتوقع والمظنـون من الإنسان بفطـرتـة المشوبة بضـلال وعبث الشيطان الذي تحول بها عن استقامتهـا الى انحرافات مستهجنة مبغوضة.
ونسألك اللهم العفو والعـافيـة في الدنيا والآخرة، وسبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب اليك.
من كتاب "تلبيس إبليس" تأليف العلامة ابن الجوزي .. دراسة وتحقيق أبى سماحة العلامة الموسوعى الجليل الدكتور السيد الجميلى
رحمه الله رحمة واسعة

اللهم تقبل من أبى
صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...