يبدو الصباح مثلجاً للغاية اليوم، كانت السحب البيضاء القطنية تفترش سماء زرقاء ندية فوقي، وبدا في الجو رائحة الفجر النضرة، الشوارع المغسولة حديثًا بأمر خليفة المسلمين تلألأت بقطرات خفيفة محمولة من عباب السماء، إنه شتاء العام 180 منذ هجرة المصطفى الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، لطالما حملتُ غرامًا خفيًّا لشتاءات بغداد، البرودة الخفيفة اللاذعة، الشجيرات العارية من أوراقها بينما تحمل أيكاتها ألف عصفور وعصفور يصطفون كعناقيد عنب شهية، رذاذ مطري عذب يهطل في كل حين، نقاءٌ يستحيل وصفه يُفعم كل الأشياء ويكسبها سكينة غريبة تنتشر كأنفاس في الهواء حتى تسكن قلبي.
خرجتُ لساحة الدار في تلك الساعة المبكرة لأنظفه قبل ضوضاء الظهيرة، اسمي هو فيروز، أبي أحد كبار تجار بغداد، تطل دارنا على ربوة جميلة معشوشبة ومخضرة وبهية المنظر، تظلل باب دارنا شجرة صفصفاء عملاقة، لاطالما لعبتُ تحت فروعها الوارفة وأنا بعدُ طفلة، فوق الربوة وليس بعيدًا كثيرًا تقع دار عالمٍ جليل، يعده الجميع حجة في النحو واللغة، إنه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكل صباح كنتُ أراقب جموعًا غفيرة من شتى الطلاب يتسابقون نحو داره، ولقد كان هذا منذ زمنٍ طويل حين رأيتُه وسط الجموع للمرة الأولى!
طويلًا، مهيبًا وشديد البياض تكسو الحمرة وجهه على الدوام، بدا شابًّا جدًا ومختلفًا جدًا عن كل من يحيط به، أذكر كم استرعى على انتباهي للغاية حينها، مضت السنون وأنا أخرج كل يوم فجرًا وأراقبه يغذ خطاه نحو دار معلمه، مع الأيام عرفتُ من هو، اسمه عمرو بن عثمان بن قنبر، كان واحدًا في جمع غفير منذ زمن طويل لكن اليوم تعرف الدولة العباسية كلها باسمه، وصار يشير إليه مليون أصبع بمجرد عبوره، لقد كشف عن علم غزير وذاكرة جبارة وكدٍّ لا يكلّ لتسجيل والانتفاع بأنهار العلم التي لا تنضب لمعلمه، ذاع شأنه لمّا التقى مع حجة النحو الكسائي في البصرة، وناظره لكنه خسر منه بيد أن ذلك عاد عليه بكل نفع، علمتُ بعدها كيف أنه قصد تعلم الحديث والفقه في أول رحلته لطلب العلم ثم أخطأ يومًا في النطق بإعراب كلمة، ولما صاح به شيخه أن قد لحنتَ، أقسم بالله أن يجد علمًا يبرع فيه حتى لا يلحننّه أحدٌ قطّ، وقد كان حقا!
أحبه معلمه كثيرًا وكان يهتف بشوشاً مرحباً مبتسماً فور أن يدخل داره قائلًا: مرحبًا بالزائر الذي لا يملّ، ولم يقلها قط لأحدٍ غيره من الألوف المؤلفة من تلامذته!
أكثر ما أحببتُ هو هذا اللقب الجديد الذي أطلقه عليه الناس: سيبويه أي رائحة التفاح، فقد كان في وجهه حمرة مشرّبة ببياض تشبه تمامًا تلك التي تغلف تفاحة ربيعية نضرة، ضحكتُ حينها لأنني لا أكاد أتخيل لقبًا يليق به أكثر، لقد فرغ من تأليف كتاب يمتدحه عشرات العلماء في كل مكان، أعلم أنه الآن في السادسة والعشرين، أعلم أن وقت اقترابه قد حان، أعلم أنه سيمر على دارنا مسرعًا كعهدي به أبدًا ليس ينظر لشيء خلا أمامه، يسير متلهفًا عجولًا وتشي خطواته بحماسة لا مثيل لها ، فدار معلمه هي الأثيرة عنده.
في ذلك العام سيتوفى الخليل بن أحمد، وستتوقف زيارات الشاب سيبويه إليه، بعدما صار منبرًا وحجة ومرجعًا ليس له من مثيل، رحل سيبويه أيضاً وهو في ريعان شبابه، وفي قليل العمر الذي عاشه في ربوع الأض سيترك من وراءه علمًا يخلد اسمه أبد الدهر لكل مريدي اللغة العربية.
لطالما درسنا عن سيبويه وطالعانا اسمه في كتب النحو، لكنه دائمًا كان في مخيلتي شيخًا جليلًا بشعر ولحية بيضاوان كالثلج، وآخر ما جال ببالي أن يكون شابًا نضرًا عفيّا، وأن يتوفى كذلك، وسيبويه ليس اسماً مركبًّاً غامضاً كما ظننتُ دائماً بل هو رائحة التفاح التي كانها العالم الشاب الفذ قلبًا وقالبًا.
خرجتُ لساحة الدار في تلك الساعة المبكرة لأنظفه قبل ضوضاء الظهيرة، اسمي هو فيروز، أبي أحد كبار تجار بغداد، تطل دارنا على ربوة جميلة معشوشبة ومخضرة وبهية المنظر، تظلل باب دارنا شجرة صفصفاء عملاقة، لاطالما لعبتُ تحت فروعها الوارفة وأنا بعدُ طفلة، فوق الربوة وليس بعيدًا كثيرًا تقع دار عالمٍ جليل، يعده الجميع حجة في النحو واللغة، إنه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكل صباح كنتُ أراقب جموعًا غفيرة من شتى الطلاب يتسابقون نحو داره، ولقد كان هذا منذ زمنٍ طويل حين رأيتُه وسط الجموع للمرة الأولى!
طويلًا، مهيبًا وشديد البياض تكسو الحمرة وجهه على الدوام، بدا شابًّا جدًا ومختلفًا جدًا عن كل من يحيط به، أذكر كم استرعى على انتباهي للغاية حينها، مضت السنون وأنا أخرج كل يوم فجرًا وأراقبه يغذ خطاه نحو دار معلمه، مع الأيام عرفتُ من هو، اسمه عمرو بن عثمان بن قنبر، كان واحدًا في جمع غفير منذ زمن طويل لكن اليوم تعرف الدولة العباسية كلها باسمه، وصار يشير إليه مليون أصبع بمجرد عبوره، لقد كشف عن علم غزير وذاكرة جبارة وكدٍّ لا يكلّ لتسجيل والانتفاع بأنهار العلم التي لا تنضب لمعلمه، ذاع شأنه لمّا التقى مع حجة النحو الكسائي في البصرة، وناظره لكنه خسر منه بيد أن ذلك عاد عليه بكل نفع، علمتُ بعدها كيف أنه قصد تعلم الحديث والفقه في أول رحلته لطلب العلم ثم أخطأ يومًا في النطق بإعراب كلمة، ولما صاح به شيخه أن قد لحنتَ، أقسم بالله أن يجد علمًا يبرع فيه حتى لا يلحننّه أحدٌ قطّ، وقد كان حقا!
أحبه معلمه كثيرًا وكان يهتف بشوشاً مرحباً مبتسماً فور أن يدخل داره قائلًا: مرحبًا بالزائر الذي لا يملّ، ولم يقلها قط لأحدٍ غيره من الألوف المؤلفة من تلامذته!
أكثر ما أحببتُ هو هذا اللقب الجديد الذي أطلقه عليه الناس: سيبويه أي رائحة التفاح، فقد كان في وجهه حمرة مشرّبة ببياض تشبه تمامًا تلك التي تغلف تفاحة ربيعية نضرة، ضحكتُ حينها لأنني لا أكاد أتخيل لقبًا يليق به أكثر، لقد فرغ من تأليف كتاب يمتدحه عشرات العلماء في كل مكان، أعلم أنه الآن في السادسة والعشرين، أعلم أن وقت اقترابه قد حان، أعلم أنه سيمر على دارنا مسرعًا كعهدي به أبدًا ليس ينظر لشيء خلا أمامه، يسير متلهفًا عجولًا وتشي خطواته بحماسة لا مثيل لها ، فدار معلمه هي الأثيرة عنده.
في ذلك العام سيتوفى الخليل بن أحمد، وستتوقف زيارات الشاب سيبويه إليه، بعدما صار منبرًا وحجة ومرجعًا ليس له من مثيل، رحل سيبويه أيضاً وهو في ريعان شبابه، وفي قليل العمر الذي عاشه في ربوع الأض سيترك من وراءه علمًا يخلد اسمه أبد الدهر لكل مريدي اللغة العربية.
لطالما درسنا عن سيبويه وطالعانا اسمه في كتب النحو، لكنه دائمًا كان في مخيلتي شيخًا جليلًا بشعر ولحية بيضاوان كالثلج، وآخر ما جال ببالي أن يكون شابًا نضرًا عفيّا، وأن يتوفى كذلك، وسيبويه ليس اسماً مركبًّاً غامضاً كما ظننتُ دائماً بل هو رائحة التفاح التي كانها العالم الشاب الفذ قلبًا وقالبًا.