سِيماء الكِتاب (غلافه، حجمه، علامة دار نشره، سعره، وقبل كلّ شيء عنوانه واسم مؤلفه) هي التي تجذب قارئاً ما لاقتنائه، ثم قراءته. تأتي القراءة استجابةً لجاذبية هذه العلامات التي تميّز كتاباً عن كِتاب. إنّ هذه العلامات هي التي تحرك في القارئ ما اسمّيها "غريزة الكتاب" أي الهاجس الخفيّ الذي يحرّك الروحَ القرائية كي تخرج من مكمنها العميق وتروح تجوب الشوارع والأكشاك والمكتبات بحثاً عن كتابٍ ظلَّ يبعث بإشارات الاقتناء والقراءة من مكان قريب أو بعيد.
وقعتُ في شراك هذه الغريزة مُذْ كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية، وإذ يعود التلاميذ إلى بيوتهم بعد انقضاء ساعات الدراسة، أروح أذرَعُ الأرصفةَ بحثاً عن غلاف جذّاب لكتاب يروي فضول غريزتي الشّرهة، بين مئات الأغلفة والعنوانات التي يفرشها باعةُ الكتب في مفترق الطرق والأسواق. كان سحر الكتاب المعروض في الهواء الطّلق ينبعث من سحرٍ آخر تنشره المدينة من ثنايا سريرها المضمّخ بعطر الورق القديم الذي تفترشه، وكنت مأخوذاً بهذا العطر كما يُؤخَذ مراهقٌ بغريزته إلى مخدع الأفكار والأخيلة الباذخ بمفاتن عرائسه الورقية.
لم أصحُ من حلمي البعيد حتى اليوم، ولا أزال أتبع ذلك العطرَ الورقي ما أن تعلق عيناي بأذيال كتابٍ ينهض عنوانُه من قارعة الطريق ويسير أمامي إلى حيث أعلم ولا أعلم. كان أقوى عطرٍ ورقيّ اجتذبَ غريزتي مُذ عرفتُ القراءة، عطرَ سلسلة كتب (الهلال) ومجلاتها، الواصلة بالطائرة، بسعر عشرة قروش. كنت أبذل جهوداً شاقّة كي أغادر البيت وفي جيبي القروش التي سأدفعها ثمناً لكتاب واحد من هذه السلسلة. ثم لمّا تعلمتُ حيلة الكتابة، عمدْتُ إلى أن أنشر في الكتاب الذي أؤلّفه عطرَ الخيال المعتَّق الذي يُشبِع غريزةَ القارئ من عطر ورق الصحف القديم.
نَمَتْ غريزتي، غريزة الكِتاب، يوماً بعد يوم، وكِتاباً بعد كتاب، وكنت أتأخّر عن رفقة صفّي المدرسيّ كي أنعم وحدي بصُوَر العودة إلى البيت المبثوثة في طريقي: شجرة تنمو بهدوء خلف سياج، عمود كهرباء يرقد مع مصباحه بعد سُهاد، صندوق بريدٍ مطليّ باللون الأحمر، كتاب ملقى في صندوق قمامة، نافذة مفتوحة تتسلّل منها نغماتُ عودٍ نحيلة، أسَد من الأسُود التي صارعَها (بِشر بن عوانة). كنت أعانق هذه المسّرات اليومية بحاستي النامية، وألقي عليها التحية المناسبة، أو أعيد تشكيلها وأضمّها إلى كنوز غريزتي المتفتحة. كنت أستذكر في مسيري أبيات قصيدةٍ من "النمط الصعب والمخيف" هاذياً بألفاظها وأنغام أوزانها وشكل سـطورها المجزّأة إلى شـطرين متقابليـن، متصفّحـاً فـي ذهنـي (الكشكول) الذي نقلَ منه معلّمُنا القصيدة على السبورة السوداء. كان شكل دفتر القصائد في يد المعلم يختلف عن شكل كتاب المطالعة المطبوع لمرحلتنا الابتدائية السادسة، ففطنتُ حينذاك إلى أنّ النصوص تختلف باختلاف مصادرها، وأنّ الكتُب تستتر مثل أشكال الحياة على طريق عودتي إلى البيت فتستولي على اللبّ بسـيماء ومضامين مختلفة، ثم إلى وجود مؤلّفين يُرسِلون النصوصَ من موقع مجهول. كم تُقْتُ آنذاك إلى أن أكون واحداً من هؤلاء المُرسِلِين الثاوين في قلعة الكتابة منذ أمد غير معلوم. وعند هذه المرحلة من أحلام الطريق كنت ألوي اتجاهي نحو العمق المتواري من المدينة، ساعياً وراء كتابٍ يختلف شكله عن أشكال الكتُب المدرسية، معتقداً أنّي على موعد مع قدَر مجهول عند دكّة ورّاق أو دكّان عطّار، أو أنّي سأختلي بأسَدٍ في فلاة مقفرة.
يحقّ لي الآن، بعد توطّد هذه الغريزة وتساميها، وانضمامها إلى ممتلكات مشغلي، أن أعيد رسمَ طرق البصرة التي غالباً ما أكتشف نفسي سائراً فيها نصفَ سنوات القرن العشرين، برواسمها وشواخصها وشخصياتها، مكرّراً الخطواتِ نفسها التي قادتْني إلى مخابئ السِّحر الأوّل وأروقة الخيال الفتيّ، وهي تثوي في ذاكرة لم تهرَم ساعة، ولم تقصُر بوصة، ولم تَنسَ حرفاً، من قراءة أوّل كتابٍ أو صحيفة.
أتذكّرُ ستّةَ مواقع لبيع الصحف والمجلات والكتُب في مداخل (سوق الهنود) وأركانها، وثلاث مكتبات كبيرة تحت شرفات هذه السّوق ونوافذها ولافتات "مغازاتها" وعيادات أطبائها وصيدليّاتها ومحلات بهاراتِها؛ ومثل هذا العدد من المكتبات في الشارع الرئيس بالعشّار، ومكتبات أخرى في البصرة القديمة، فمِن غير هذه المراصد الورقية لا تستطيع عينُ الزمان أن ترصُد مكاناً واحداً داخل مدينةٍ قامت بأكملها على أسواق الورّاقين، ومدارس الفكر الإسلامي، وحلقات الدرس النحويّ، وملتقيات الشِّعر، وأصوات الرفض والاحتجاج، وحكايات النهر والبحر والصحراء.
أتذكّر أنّني اشتريتُ كتاباً من مكتبة (إلياس دورنة) بدينارٍ لا قيمـة لـه. كـان الكتـاب مـن مؤلفات (غوركي) الذي تاقت إليه غريزتي، وقصُرَت عنه يدي، وكنت أغدو على المكتبة بين وقت وآخر في نهاية الدوام الصباحيّ، أيامَ كنت طالباً بالثانوية المركزية في العشّار، أشاهد كتابي على الرفّ وأطمئن على بقائه، وأمنّي النفسَ بشرائه. فلما ملكْتُ ثمن الكتاب، وكان ديناراً من ضروب الدنانير الملكيّة التي أبطلَ العهدُ الجمهوريّ الجديد استعمالها، أسرعتُ إلى اقتناء كتاب غوركي. اكتشفَ صاحب المكتبة حقيقة ديناري، لكنّه قَبِلَه من دون اعتراضٍ على قيمته الزائلة، وخرجتُ من المكتبة بكتاب ثمين مقابل دينار قديم. هذه حكاية لا تحدث إلاّ في زمان المدينة الذي تزدهر فيه غريزةُ الكتاب العليا، وتنخفض فيه غرائزُ الحياة الدنيا وزيفُها.
(من: السرد والكتاب)
وقعتُ في شراك هذه الغريزة مُذْ كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية، وإذ يعود التلاميذ إلى بيوتهم بعد انقضاء ساعات الدراسة، أروح أذرَعُ الأرصفةَ بحثاً عن غلاف جذّاب لكتاب يروي فضول غريزتي الشّرهة، بين مئات الأغلفة والعنوانات التي يفرشها باعةُ الكتب في مفترق الطرق والأسواق. كان سحر الكتاب المعروض في الهواء الطّلق ينبعث من سحرٍ آخر تنشره المدينة من ثنايا سريرها المضمّخ بعطر الورق القديم الذي تفترشه، وكنت مأخوذاً بهذا العطر كما يُؤخَذ مراهقٌ بغريزته إلى مخدع الأفكار والأخيلة الباذخ بمفاتن عرائسه الورقية.
لم أصحُ من حلمي البعيد حتى اليوم، ولا أزال أتبع ذلك العطرَ الورقي ما أن تعلق عيناي بأذيال كتابٍ ينهض عنوانُه من قارعة الطريق ويسير أمامي إلى حيث أعلم ولا أعلم. كان أقوى عطرٍ ورقيّ اجتذبَ غريزتي مُذ عرفتُ القراءة، عطرَ سلسلة كتب (الهلال) ومجلاتها، الواصلة بالطائرة، بسعر عشرة قروش. كنت أبذل جهوداً شاقّة كي أغادر البيت وفي جيبي القروش التي سأدفعها ثمناً لكتاب واحد من هذه السلسلة. ثم لمّا تعلمتُ حيلة الكتابة، عمدْتُ إلى أن أنشر في الكتاب الذي أؤلّفه عطرَ الخيال المعتَّق الذي يُشبِع غريزةَ القارئ من عطر ورق الصحف القديم.
نَمَتْ غريزتي، غريزة الكِتاب، يوماً بعد يوم، وكِتاباً بعد كتاب، وكنت أتأخّر عن رفقة صفّي المدرسيّ كي أنعم وحدي بصُوَر العودة إلى البيت المبثوثة في طريقي: شجرة تنمو بهدوء خلف سياج، عمود كهرباء يرقد مع مصباحه بعد سُهاد، صندوق بريدٍ مطليّ باللون الأحمر، كتاب ملقى في صندوق قمامة، نافذة مفتوحة تتسلّل منها نغماتُ عودٍ نحيلة، أسَد من الأسُود التي صارعَها (بِشر بن عوانة). كنت أعانق هذه المسّرات اليومية بحاستي النامية، وألقي عليها التحية المناسبة، أو أعيد تشكيلها وأضمّها إلى كنوز غريزتي المتفتحة. كنت أستذكر في مسيري أبيات قصيدةٍ من "النمط الصعب والمخيف" هاذياً بألفاظها وأنغام أوزانها وشكل سـطورها المجزّأة إلى شـطرين متقابليـن، متصفّحـاً فـي ذهنـي (الكشكول) الذي نقلَ منه معلّمُنا القصيدة على السبورة السوداء. كان شكل دفتر القصائد في يد المعلم يختلف عن شكل كتاب المطالعة المطبوع لمرحلتنا الابتدائية السادسة، ففطنتُ حينذاك إلى أنّ النصوص تختلف باختلاف مصادرها، وأنّ الكتُب تستتر مثل أشكال الحياة على طريق عودتي إلى البيت فتستولي على اللبّ بسـيماء ومضامين مختلفة، ثم إلى وجود مؤلّفين يُرسِلون النصوصَ من موقع مجهول. كم تُقْتُ آنذاك إلى أن أكون واحداً من هؤلاء المُرسِلِين الثاوين في قلعة الكتابة منذ أمد غير معلوم. وعند هذه المرحلة من أحلام الطريق كنت ألوي اتجاهي نحو العمق المتواري من المدينة، ساعياً وراء كتابٍ يختلف شكله عن أشكال الكتُب المدرسية، معتقداً أنّي على موعد مع قدَر مجهول عند دكّة ورّاق أو دكّان عطّار، أو أنّي سأختلي بأسَدٍ في فلاة مقفرة.
يحقّ لي الآن، بعد توطّد هذه الغريزة وتساميها، وانضمامها إلى ممتلكات مشغلي، أن أعيد رسمَ طرق البصرة التي غالباً ما أكتشف نفسي سائراً فيها نصفَ سنوات القرن العشرين، برواسمها وشواخصها وشخصياتها، مكرّراً الخطواتِ نفسها التي قادتْني إلى مخابئ السِّحر الأوّل وأروقة الخيال الفتيّ، وهي تثوي في ذاكرة لم تهرَم ساعة، ولم تقصُر بوصة، ولم تَنسَ حرفاً، من قراءة أوّل كتابٍ أو صحيفة.
أتذكّرُ ستّةَ مواقع لبيع الصحف والمجلات والكتُب في مداخل (سوق الهنود) وأركانها، وثلاث مكتبات كبيرة تحت شرفات هذه السّوق ونوافذها ولافتات "مغازاتها" وعيادات أطبائها وصيدليّاتها ومحلات بهاراتِها؛ ومثل هذا العدد من المكتبات في الشارع الرئيس بالعشّار، ومكتبات أخرى في البصرة القديمة، فمِن غير هذه المراصد الورقية لا تستطيع عينُ الزمان أن ترصُد مكاناً واحداً داخل مدينةٍ قامت بأكملها على أسواق الورّاقين، ومدارس الفكر الإسلامي، وحلقات الدرس النحويّ، وملتقيات الشِّعر، وأصوات الرفض والاحتجاج، وحكايات النهر والبحر والصحراء.
أتذكّر أنّني اشتريتُ كتاباً من مكتبة (إلياس دورنة) بدينارٍ لا قيمـة لـه. كـان الكتـاب مـن مؤلفات (غوركي) الذي تاقت إليه غريزتي، وقصُرَت عنه يدي، وكنت أغدو على المكتبة بين وقت وآخر في نهاية الدوام الصباحيّ، أيامَ كنت طالباً بالثانوية المركزية في العشّار، أشاهد كتابي على الرفّ وأطمئن على بقائه، وأمنّي النفسَ بشرائه. فلما ملكْتُ ثمن الكتاب، وكان ديناراً من ضروب الدنانير الملكيّة التي أبطلَ العهدُ الجمهوريّ الجديد استعمالها، أسرعتُ إلى اقتناء كتاب غوركي. اكتشفَ صاحب المكتبة حقيقة ديناري، لكنّه قَبِلَه من دون اعتراضٍ على قيمته الزائلة، وخرجتُ من المكتبة بكتاب ثمين مقابل دينار قديم. هذه حكاية لا تحدث إلاّ في زمان المدينة الذي تزدهر فيه غريزةُ الكتاب العليا، وتنخفض فيه غرائزُ الحياة الدنيا وزيفُها.
(من: السرد والكتاب)