أسامة إسبر - أحد الدروس التي يعلّمها الشعرُ العظيم

تُشكِّلُ القراءة علاجاً، أو حلاً في الأوقات العصيبة، وقد تكون بديلاً للصلاة، ولطقوس عبادة كثيرة لم تنفع الإنسان في وجه الشدائد. وها نحن نرى الآن دور العبادة مغلقة، والناس أكثر تشكيكاً بوجود قوى ما ورائية قادرة على حمايتهم. وكان جدنا الشاعر السوري أبو العلاء المعري قد أشار إلى هذا العجز في بيته الشهير:

أفيقوا أفيقوا يا غواةُ فإنما
دياناتُكم مَكْرٌ من القدماء

ولا يتجلى العجز في الدين فحسب، بل في العلم أيضاً، إذ نراه عاجزاً عن تقديم حلّ حتى الآن في وجه فيروس مندفع يحصد البشر، فيما الناس يفرون منه مذعورين وعالقين بين العجزين، ذلك أنهم متروكون على هذه الأرض كي يصارعوا محاولين إطالة حياتهم قدر الإمكان، فيما يطاردهم الموت في جميع الأمكنة، كما لو أن بيت المعري التالي مكتوب للحظتنا الراهنة:

نفرُّ من شرْبِ كأسٍ وهي تَتْبعُنا
كأننا لمنايانا أحبّاء

وفي هذا الزمن الذي نعيش فيه تنحرف الأديان بشعائرها وطقوسها عن هدفها الجوهري، أي عن كونها قراءة عميقة للوجود وللغز الإنسان، وتتحوّل إلى مجرد شعائر للدفن والأعراس أو تُوظَّف كمبررات لقتل الآخر أو تصنيفه أو إفراغه في القالب الطائفي. وفي هذا الزمن الذي يتّسم بالقلق وترقب الأخبار، صارت متابعة الشاشات سبباً للكآبة والإحباط، وهي لا تقدم لنا إلا أرقام الوفيات، والعدد المتزايد للإصابات، ونسمع عن بلدان غير قادرة على تقديم كمامة لمواطنيها أوجهاز تنفس صناعي وهذا أبلغ تعبير عن عجزها عن خدمتهم ودليل آخر على أن هاجسها كرسي السلطة وأرباح النخبة.

لا أجد في هذا الجو المشحون بالقلق متعة إلا في قراءة الشعر، فهو يقودني خارج ثرثرة الوجود وتفاهاته إلى عوالم أكثر تكثيفاً وغنى. وإذا كانت القصيدة عظيمةً فإنها تساعدك على قراءة العالم وسماعه وشمه وتذوقه بحواس مختلفة، وعلى رؤية نفسك في خضم الوجود متفتحاً كوردة تبث العطر حولها. وفي هذا الجو الذي يتسم بالعزلة وإقفار المقاهي والمنتزهات والمسارح وصالات السينما والمطاعم واللقاءات الجماعية وانعدام التواصل تعيد القصيدة العظيمة بناء صلتك مع عالم ينهار حولك. وشعرتُ بقوة الشعر حين وجدت نفسي أمد يدي وأبدأ بقراءة قصائد أبي العلاء المعري، مبتدئاً بديوان سقط الزند ومنتقلاً إلى اللزوميات، هذا الشاعر الذي جمع بين الفكر والشعر، وتبنى موقفاً من الوجود اتسم بالعزلة والزهد والنباتية ورفض تناول اللحوم والبيض واللبن، كي لا ”يفجع" الحيوان. وسبق عصره في الوقوف على مسافة احترام وعدم اعتداء على الطبيعة، وهذا ما لم نرغب بفعله وما ندفع ثمنه اليوم. انتقد أبو العلاء المعري الأديان ورفض كذبتها عن الوجود، واعتبر البشر ملوِّثين للأرض نظراً لتراكم أخطائهم، داعياً إلى طوفان يغسلها، كما لو أنه يستعيد في شعره غضب الإله السومري إنليل:

والأرض للطوفان محتاجةٌ
لعلَّها من دَرَنٍ تغتسلْ.

نظر المعري إلى البشر كما لو أن وجودهم نسمة عابرة، أو فقاعة زبد سرعان ما تختفي، ويحطمهم الزمن كأنهم زجاج وينسى أنهم كانوا هنا:

يُحطّمنا ريبُ الزمان كأننا
زجاجٌ ولكن لا يُعَادُ له سبْك

وفي بيت آخر، يمدح الموت ويعتبره راحة من هذا الوجود المتعب:

ما أوسعَ الموت، يستريحُ به الجسمُ
المُعنّى ويخفتُ اللجبُ.

وفي بيت آخر لا يرى في العالم احتمالاً آخر غير الموت، كما لو أنه يصف الحياة الحالية:

لو نُخلَ العيشُ لما حصلت
شيئاً سوى الموت يدُ الناخلِ

بعد المعري، عشت أياماً مضيئة في شهر نيسان مع تي. إس إليوت، وخاصة قصيدته الأرض الخراب، والتي يقول في مطلعها "نيسان أقسى الشهور"، وها نحن في شهر نيسان، الذي نسينا فيه مجيء الربيع، بسبب هجوم الطبيعة الشرس على أعدائها بني البشر، حيث وصل عدد ضحايا كورونا في هذا الشهر إلى أرقام مخيفة. وفي الأرض الخراب يقودك الشعر إلى طقوسه الجمالية كي ترى بعين الشاعر عالماً لا يتعظ يقود الناس فيه أنفسهم إلى الخراب، ويطوي الموت الحشود التي تتدفق في الشوارع والجسور، كما لو أنها لم توجد من قبل:

مدينة زائفةٌ
تحت الضباب البنيّ لفجرٍ شتائي
تدفَّق حشْدٌ فوق جسر لندن، وكان غفيراً،

ولم أتصور أن الموت محا عدداً بهذا الحجم.

وفي قصيدة الأرض الخراب يرثي إليوت الحضارة الغربية التي تسير على طريق التدهور مشيراً إلى الجمال الثقافي والإبداعي الذي امتلكته مرة في الأزمنة الكلاسيكية، أما ابن الحضارة الغربية الحالي فلا يعرف إلا كومة من الصور المحطمة:

أية جذور تتمسّك، وأية أغصان تنمو
في هذه النفايات الحجرية؟
أيها الإنسان
أنت عاجزٌ عن القول أو التخمين لأنك
لا تعرف إلا كومة من الصور المحطمة، حيث تسلّط الشمس نارها،
حيث لا تمنح الشجرة اليابسة ظلا، ولا الجندب راحة، ولا يصدر عن الصخرة
الجافة صوتُ ماء.

ومن الشعراء الآخرين الذين أجد قراءتهم مغنية في هذا الوقت العصيب الشاعر الأمريكي روبنسون جيفرز الذي لم يُترْجَم بعد إلى اللغة العربية. كفر روبنسون جيفرز بالحداثة وشعرها، وتبنى موقفاً نقدياً من شعر ت. إس. إليوت وعزرا باوند، واتهم شعر الحداثة بافتعال الغموض والابتعاد عن القراء، ولذلك صُنف كشاعر ضد الحداثة، وافتتح لنفسه طريقا خاصاً به حقق له جماهيرية ضخمة بين القراء، وله قصائد تشكك في جدوى الوجود البشري ووجود الله، وتوحي بأن في الطبيعة ما هو أفضل من البشر، كما لو أنه يكرر ما قاله المعري قبله منذ زمن طويل، حين قال:

أفضلُ من أفضلهم صخرةٌ
لا تظلم الناس ولا تكذبُ

كان روبنسون جيفرز من شعراء التشاؤم، ولم يؤمن بإله لهذا الوجود بل اعتبر أنه من الأفضل للإنسان أن يعبد الطبيعة، ذلك أن إله الأديان التوحيدية لم يقدم حلاً له ولم يخرجه من مأزقه وحوّل الإنسان الإله ووظفه كأداة للغزو والتهميش وتبرير الجريمة. وفي إحدى قصائد جيفرز التي تحمل عنوان ”علامة إرشاد“ يدعو إلى محبة الأشياء والنأي عن بني البشر، وسيكون أفضل للإنسان أن يولد من صخرة بدل أن يولد من امرأة، ذلك أن الأشياء هي الله وفيها تكمن القداسة:

أيتها المتحضّر، يا من يتساءل كيف يمكن أن يصبح إنسانياً من جديد:
أصْغ إليَّ كي تعرف كيف:
انطلقْ إلى الخارج، أحببْ الأشياء لا الناس، وانأى بنفسك حالاً عن بني البشر،
اترك تلك الدمية تحتضر. فكّر إذا شئت كيف تنمو الزنابق،
تمدَّد على صخرةٍ صامتة إلى أن تشعر بقداستها
اجعل شرايينك باردة،
انظر إلى النجوم الصامتة، اجعل عينيك
تتسلقان السلم الكبير خارج حفرة نفسك وحفرة الإنسان.
إن الأشياء رائعة الجمال، وسيتبعُ حبُّك عينيكَ.
إن الأشياء هي الله، وستحبّ الله، وليس هذا عبثاً،
ذلك أننا نكنّ مشاعر لما نحب ونقاسمه طبيعته.
وإذا ما نظرتَ إلى الخلف على امتداد أشعة النجوم سترى
أن هناك مكاناً تحت قبة السماء حتى للبشرية، تلك الدمية المسكينة.
وها هي صفاتها ترمّم فسيفساءها حولك،
وعناصر قوتها ومرضها،
وأنت حرّ الآن كي تصبح حتى بشرياً
لكن بعد أن تولد من الصخر والهواء،
وليس من امرأة.

انتقد الشعراء العظام منذ فجر التاريخ الممارسات الخاطئة، وأشاروا إلى الاعتداء على الطبيعة، وحذروا من الأرض الخراب وأنذروا بالطوفان، وتنبأوا بما سيحدث لنا وسط مدن الحداثة وما بعدها، حيث نلوذ مذعورين وراء الجدران من خطر يتربص بنا في الكلام والمصافحة والعناق والهواء والماء والأشياء المحيطة بنا، كما لو أننا نرى الخوف يكمن في هذه الأشياء كما رآه إليوت في حفنة من التراب في قصيدة الأرض الخراب:

وسأريكَ شيئاً مختلفاً عن
ظلكَ في الصباح يخطو خلفكَ
أو ظلك في المساء يرتفع كي يلاقيكَ
سأريكَ الخوفَ في حفنة من التراب.

أثناء هذه الإقامة القلقة والمضطربة، والتي يشعر الإنسان فيها أنه في محطة انتظار، ولا يعرف متى الرحيل أو إلى أين، تقدم قراءة قصائد تي. إس. إليوت وروبنسون جيفرز وأبي العلاء المعري نوعاً من العزاء، والطمأنينة التي تلهم الإنسان أن يتحلى بالشجاعة في وجه الشدائد، لأنها تساعده على معرفة أن حياته في العمق والجوهر لحظوية وعليه أن يعيشها بامتلاء حتى وهو يواجه الأخطار، وهذا أحد الدروس التي يعلمها الشعر العظيم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...