عبدالسلام ناس عبد الكريم - كتاب «مصادر الموشح الأندلسي»… حفر في التراث الشفهي الغنائي -

الموشح شكل أدبي شعري أكد حضوره في الأندلس العربية، وهو نوع له أصول شفهية وغنائية، ولكن هذه المصادر تبقى دائما ضبابية وغير واضحة. ولكي يزيح الحجاب عن غموضها أنجز حولها، ميشال نيكولا، المختص في اللغات السامية المقارنة وفي تاريخ الأديان دراسة حفرية بمعنى الكلمة من خلال مؤلفه: «مصادر الموشح الأندلسي ورسالة في الزجل».
وقد استهلت الدراسة مباحثها بتحديد بعض الاصطلاحات والمفاهيم المفتاحية المؤسسة، وعلى رأسها الموشح والستارة. ثم اتجهت إلى بحث أصول هذين اللفظين الاصطلاحيين توصيفا وتحليلا وتصنيفا ومقارنة، من خلال إلحاقهما بالجذور التصريفية والمعجمية ثم مقارنتهما داخل نطاق العائلة اللغوية الناظمة للغات المشرقية الآرامية والعبرية والعربية. وفي تأطير الظاهرة وربطها بمناخاتها التاريخية والحضارية، بيّن الكاتب أن النشيد الكورالي في مدرسة زرياب في قرطبة كان مزدهرا. فالكورال كان محددا من خلال مصطلح الستارة الناتج بدون شك عن تحوير الكلمة الأرمينية سيدرا، من بمعنى صفّ وشكل. كما يمكن أن يكون أيضا بمعنى توليف النشيد والشعر وفق نظام العروض. وهكذا فمن المؤكد أن كلمة سيدرا بمعنى الكورال كانت قد نقلت من العراق إلى الأندلس على غرار كلمة الموشح مع غيرها من المصطلحات والكلمات ذات الأصل الأرميني غير المعروفة في اللغة العربية، قبل تعريب بلاد الرافدين. وينتهي في تحليله إلى أن شعر الموشح كان يحظى في العراق بسمات أخرى كالبغدادي والمقام، وكان مرفقا بأدوات الموسيقى. وفي أيامنا الفرق الوحيد بين الموشّح المدنّس )الغنائي( والموشح المقدس)الترتيلي( يتجلى في استعمال أو غياب آلات الموسيقى في أماكن العبادة. مع التذكير بأن قبل الإسلام والمسيحية كانت الممارسة الكورالية المصحوبة بالآلات معتادة وجارية في نطاق المعابد.
يعتقد نيكولا أن التقليد الجاري في بلاد الرافدين انتقل عبر أصناف عديدة من الغناء: الموشح والمواليا والقواما أو القوما الخ… التي انتشر أغلبها خارج حدود البلاد. وإن وجود صنف من الموشح في المشرق (سوريا، لبنان) يفترض أن يكون صادرا عن الموشح العراقي لا الأندلسي، لأن العراقي خلافا للأندلسي هو مؤلف باللغة المنطوقة أو الدارجة. وأن تصميم أبياته هو أقل رقيا ويفتقر غالبا للقوافي الداخلية. وفي إطار الموشح السوري يوجد صنف خاص يسمى الموشح الحلبي، وهو قريب من الموشح العراقي، خاصة بلاد الرافدين العليا في منطقة الجزيرة. وهو يلحق بصنف خاص في غرب الفرات الذي يختلف قليلا عن موشح الداخل وجنوب الرافدين. وبعد عودته من الأندلس إلى الشرق بات الموشح حاليا أكثر تحقّقاً، خاصة في توزيعات الأبيات. ولإغناء المقارنة يحيل نيكولا إلى رأي محمد مهدي البصير، الذي يرى أن الموشح العراقي هو أقل ترسيما على صعيد العروض، وأقل تعقيدا مقارنة مع الموشح الأندلسي. ويعقّب المؤلف بأن الموشح العراقي بقي ببساطة على حاله القديم، بينما في الأندلس أصبح فنا شعريا بشكل كامل. والتساؤل نفسه يظلّ بدون إجابة في عمل بطرس الجميّل، حينما وازى بين الموشح اللبناني والموشح الأندلسي. ففي هذا الأخير لم تفلح مساعي ابن قزمان من أجل تلقيح الموشح بالزجل في محاولته لتطوير الزجل والارتقاء به إلى المستوى الأدبي. إن هذا المنحى في استعمال الدارجة لم يؤثر في الموشح الأندلسي لأن شعراءه كانوا أيضا فحولا في كتابة النمط الشعري العروضي إلى جانب تأليفهم للموشح.
يرى ميشال نيكولا أنّ كل محاولة تتوخّى اعتبار الموشحات الأندلسية عنصرا متحوّلا عن العروض العربي مآلها الفشل، لأن مؤلفي الموشحات حاولوا إدخال الأشطار والمجزوءات أو الأبيات المركبة إلى البحور العربية فلم يصلوا في أبعد الأحوال إلا إلى إنتاج بنية شعرية هجينة مناقضة للشعر الكلاسيكي. وعلى النقيض من الشعر الكلاسيكي فإن الموشحات هي أناشيد مقطعية على نحو صارم. ومن ناحية أخرى لا يمكن أن تلتبس بالشعر العربي المسمّى بالمسمّط لمجرد أن هذا الأخير هو ذو بناء مقطعي.
وبخصوص ظهور الموشحات في الأندلس ثمة فرضيتان: هل هذا السّمت المقطعي للموشح نتاج تحول عن الشكل المقطعي للمسمّط من العصر العباسي، مع فارق وحيد محتمل جلب من تأثير العربية الشفاهية أو من اللغات غير العربية؟ أم يتعلق الأمر بتحول بسيط فاصل مع قواعد العروض العربي بغرض الإبقاء على العمق الشعري؟ وفي رأي المؤلف لقد فند بعض الباحثين الأطروحتين معا بدون أن يعرضوا فرضيات أخرى تكون أكثر توافقا .فإذا كانت اللغة المشتركة وهي اللغة العربية الكلاسيكية تشي بأنها وحّدت بين الموشح والمسمط، فالعروض يفرق بينهما. فلا شيء يدل على أن الموشحات الأولى كانت تتبع العروض العربي، وحتى التنوع في الأبيات يقدم خصوصيات مجهولة في الشعر العربي المقطعي أو المشطور. وبشكل خاص ما يتعلق بالانشطار المعتاد في بيت ما.
وعلى صعيد التوليف المكتوب فإن النوعين العربيين الموشح والشعر العربي الكلاسيكي المقطعي أو غيره تعايشا بجانب واحد في الأندلس العربية، من غير أن يتداخل أحدهما بالآخر أو يهدده. وعلى صعيد الفن الغنائي كما يشدد الجاحظ على ذلك فإن الغناء العربي هو وثيق الصلة بالعروض العربي وهذا مفهوم بالتمام. وتجدر الإشارة إلى أن كلمة الشعر قبل أن تعلق بدلاتها الأدبية الصارمة كانت أوثق ارتباطا في العربية ذاتها بمعنى النشيد أو الترتيل، وحتى أيامنا هذه لا زالت تستعمل في جنوب الجزيرة العربية بهذا المعنى الذي أضحى مع تنامي السيرورة مختفيا في العربية المسماة أدبية، وبالتالي أمسى غائبا عن معاجمها أيضا. إنّ القصيدة والنشيد الغنائي لهما إذن أصل مشترك. وهذا هو مبدأ موسيقى الغناء العربي التي أنتجت العروض العربي، إلى حدّ أن البحر العروضي الأكثر قدما في البناء سميَ الرّجز. ويجعلنا ذلك نستخلص على ضوء التعليل أعلاه أن الموسيقى العربية النموذجية كانت ذات إيقاع حيّ وراقص باستثناء الترتيل الجنائزي. والأمر يختلف عن الإيقاع البطيء للموشح إذ أن دلالة جذر ر.ج.ز ومشتقاته يحيل إذن إلى الحركة الحية. وفي الجوهر إن البحر استمد الاسم بسبب غياب حروف اللين الطويلة.
ان اقدم اشارة وصلتنا عن الموشح توجد في وثيقة مكتوبة صادرة في كتاب عن التأليف الموسيقي هو «رسالة في خبر صناعة التأليف» ليعقوب بن إسحاق الكندي، حيث يستعمل الكاتب كلمة الموشح لا ليصف بيتا شعريا، وإنما لمجرد تمييز نوع من الغناء. وبالتالي فإن استعمال عبارة الموشح من طرف الكندي تستمدّ البرهان على أسبقية الموشح العراقي على الموشح الأندلسي وبالوقت ذاته فإنما تفحص في الواقع التحليل الاشتقاقي الذي يربط الموشح بالجذر العربي (و.ش.ح). وبالإضافة إلى ذلك فحتى أيامنا هذه تستعمل كلمة الموشح بذات المعنى الموصول بالغناء، ولاسيما في دول الشرق الأدنى (العراق، سوريا، لبنان) مع التوضيح بأنه داخل مجموع هذه الدول تستعمل الكلمة لتمييز نوع من الغناء خاص لا تربطه علاقة مرجعية مع الموشح الأندلسي، الذي لا يبدو غريبا عنها في الوقت ذاته. وهكذا ، وبحسب ما سعينا إلى توضيحه، فإنه إذا كانت كلمة موشح قد حددت في الأصل شكل شعر مكتوب، وهو ما تم تقبله على نحو خاطئ من طرف الجميع كنوع من البديهة، فلن يمكننا فهم لماذا ربط الباحثون دائما الموشح البدئي بالغناء فاتحين المجال على هذا النحو لغموض يظل متعذر الحل إلى يومنا. إن أسبقية الغناء على أشكال الشعر وكل أشكال النثر يبرر ارتباط مصطلح الموشح بنوع من الغناء قبل أن يحدد صنفا من الشعر. فضلا عن أنه مذكور باعتباره غناء سابقا عن ترسيخ هذا الصنف الشعري المتعارف عليه بهذا النحو المسمى في إشارة الكندي السابقة.
وفيما يخصّ الارتباط المباشر للموشح بالغناء أحال الباحث على رأي محمد عناني بصدد الإجماع على أن الموشحات كانت في الأصل موصولة بالموسيقى والغناء (الموشحات الاندلسية ( وأن العديد من الباحثين يدققون الأمر على نحو أن الموشح كان في الأصل كورالا (جوقة) بل إن منهم من ذهب أبعد من ذلك بتأكيده على أن زرياب 852م هو الناقل للموشحات عبر نظام النوبات. فتلك الموشحات البدائية بحسب هذه الأطروحة تمثل بالتالي الامتداد لنوع شعري موجه لصنف من الغناء بما يحتويه من اتساق الأبيات ومن تنظيم عروضي. ولقد أمسى مقبولا من طرف كل الباحثين أن زرياب شق على مستوى الفن الشفوي والغنائي مسارا تجديديا في الأندلس تم تصديره إلى عموم العالم العربي الإسلامي. مضيفين بأن هذا النوع الشعري كان عليه أن يتضمن ليس فقط توليفات نقلها زرياب بل وأخرى مكتوبة من طرفه أيضا ومغنّاة حسب صيغ التقاليد العراقية التي يسبح فيها. وأن هذا الفن لم يكن معروفا قبل زرياب بالأندلس.
إن الحضور الراسخ للموشح ببلاد الرافدين ينبع من تجذره التاريخي المديد وفي تلازمه مع الشعور الديني.وإن غناء الكنائس العراقية يشهد بذلك أيضا. إن مختلف حركات الصوفية الإسلامية التي ظهرت بالعراق كان الغناء يمتد في رحمها بقوة وكذلك انتشار وامتداد مدارسها نحو البلدان الإسلامية المجاورة. وكل ذلك لعب دورا في إدخال أنواع من الموسيقى الاحتفالية بإيران.
وباعتباره عودته من الأندلس فإن محي الدين بن عربي أدخل الموشح الصوفي لتركيا للاستعمال الصوفي.وحديثا في تركيا يعدّ عثمان الموصلي 1923 م على سبيل المثال سيّد هذا النوع من الغناء والموسيقى. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن ثمة اجتياح عارم نحو الدول الإسلامية الأخرى بآسيا الوسطى من طرف هذا النوع الموسيقي المتمثل في الموشح والمسمَّى أيضا بالمقام .

٭ كاتب مغربي

عبدالسلام ناس عبد الكريم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...