الحياة ، الحب ، السرد ، ثلاث دوائر تتداخل بقدر التحامها ، وتلتحم بقدر تداخلها ، لا تخلو الحياة من الحب بوصفه مقوما من مقوماتها يقوم بدور المنظم لأمورها ، والمبرر لوجودها ، تعددت قصصه ، وتنامت سروده ، واتسعت ثقافة الإنسان لتفسح المجال لحكاياته ، ليس مبالغة أن نقول : لا حياة دونما سرد ، ولا سرد دونما حب ، ولا حب دونما سرد ، واتسعت المؤلفات والمقولات لتطرح صفاته متسابقين ، ومتفننين فى تعديدها : الفردوس ، شمس الطبيعة الثانية ، جنة الحياة على الأرض ، بداية الحياة ، منتهاها ، وكما تسابق المفكرون لوضع صفاته تسابقوا فى التأليف عنه :" ما من مؤلف قديم أو حديث تطلع إلى التأليف فى الحب ، إلا وهو يطمح إلى اكتساب أعظم قدر من القراء ، إذ يعرف ما للحب من منزلة فى النفوس ، وتأثير فى الشعور " ( [1] ) ، بسط نفوذه على كل القلوب ، وأشرق على كل النفوس فباحت بما فى دواخلها من شجون وفنون .
انشغل به الفلاسفة فقدموا عصارة قرائحهم ، وطرحوا من خلاله تفسيراتهم للإنسان ، وطرحوا من خلال الإنسان صنوفه وأنواعه ، عرفوه وما عرفوا ، فسروه وما فسروا :" الحب أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالها عن الوصف فلا تدرك حقيقته إلا بالمعاناة. وهو ليس بمنكر في الديانة ولا محظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله عز وجل .... وأما ماهيته فهو: اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في الخليقة في أصل عناصرها."( [2])
وتغنى به وله الشعراء فأبدعوا أفضل ما تردده البشرية من روائع الشعر ، واستمد منه الرواة حكاياتهم وملاحمهم ، وصوروه فارسا قادرا على خوض كل معارك الحياة منتصرا على كل ما عداه .
وفيما بين الشاعر والسارد تداولت الأقلام الحب تعبيرا وتصويرا ، وتبادلت القرائح الأدوار فالشاعر يسرد أحداث الحب ووقائعه ، والسارد يجعل من أبطاله فرسانا بفعل الحب وشعراء حين يمسهم بروحه.
وفى ثقافتنا العربية تبوأ جنسان أدبيان مقدمة الفنون فى التعبير عن الحب ، نعنى : الشعر والسرد على ما بينهما من اتفاق واختلاف فالشاعر يعبر عن تجربته التى تعبر عن نفسها من خلال صوت الشاعر ، فيما يقدم السارد تجارب الآخرين ، أو هو يقارب تجارب الآخرين للدرجة التى يجعلهم يشعرون أنه يعبر عنهم بطريقته الخاصة ، الشاعر يمنح الآخرين تجربته ، والسارد يمنح الآخرين تجاربهم.
والسرد : شفاهيا أو مكتوبا ، شعبيا أو رسميا ، تراثيا أو معاصرا ارتبط بالإنسان ، واستثمر طاقات الحب لا ليجعله معينا يستمد منه بقدر ما جعله شخصية لها فاعليتها فى إنتاج النص أولا ، والدلالة ثانيا.
وقد عرفت الثقافة العربية أشكالا لا تحصى من قصص الحب ، وتعددت مصادر دراسته، وتفسيره وسرد حكاياته فى التراث العربى، واشتهر منها على سبيل المثال لا الحصر :
كتاب الزهرة ، لابن داود الظاهرى .
طوق الحمامة فى الألفة والألاف لابن حزم الأندلسى .
مصارع العشاق لابن الحسين السراج .
الموشى أو الظرف والظرفاء لأبى الطيب محمد بن اسحق الوشاء .
تزيين الأشواق بذكر أشواق العشاق لداود الأنطاكى .
أخبار النساء لابن القيم ( [3] ).
ومع تطور السرد العربى واتساع فضائه واستحداث أنواع أخرى انضافت إلى سياقه بظهور الرواية بوصفها ابنة المجتمع الحديث ، وربيبة الثقافة المعاصرة لم ينفصل السرد عن الحب بوصفه " ظاهرة كونية، وحقيقة علمية، وغريزة أساسية مثل الخوف والغضب والفرح" ( [4] ).
وفى رحلة صعودها إلى المجتمع الإنسانى ومقاربتها دواخله وظواهره اعتمدت الرواية الحب وأفردت له مساحات تحرك فيها زمنيا من كونه تيمة روائية وموضوعة سردية إلى كونه تقنية تلعب دورها فى إنتاج النص وجمالياته والكشف عن طبيعة النفس الإنسانية التى أولتها الرواية عناية خاصة .
غير أن ملاحظة جديرة بالاهتمام يمكن رصدها فى سياق المقارنة بين السارد القديم ونظيره الحديث ، فإن الأول قد اعتمد على المرويات الشعبية ، والحكايات المتداولة مما جعل المتلقى يشعر أنه يقترب من شخصيات كان لها حضورها السابق فى مكان ما ، وجعله يعتمد هذه الحكايات بوصفها نقلا لأحداث حقيقية ، وقد غذى السارد الضمنى هذا الشعور لديه ، وهو ما أدى إلى ظهور أسماء بعينها اكتسبت معنى القداسة السردية حيث نسج الخيال العربى حولها عشرات الحكايات ونسب لها الحكاؤون الكثير من المواقف والأحداث إذ تحولت هذه الشخصيات إلى نموذج إنسانى للسرد تنميه روافد من الحكايات ، كما نجد عند مجنون ليلى ، وجميل بثينة ، وعنترة بن شداد وغيرهم ممن تغنوا بالعشق ، وتغنى الناس بأشعارهم الكاشفة لمكنونات قلوبهم ، ودارت حولهم الحكايات بوصفهم عشاقا وليسوا مجرد بشر مروا على المخيلة الشعبية ونجحت سيطرة الحكائين فى تقديمهم فى صورة الشخصيات الأسطورية المغايرة لما يعرفه الناس من أنواع البشر( [5] ) .
فى المقابل لم يعتمد السارد الحديث المنظور نفسه وإنما خلق نماذجه الإنسانية التى قد تلتقى مع نماذج يمكن للمتلقى أن يعاينها فى حياته ، حيث يراهن المتلقى على واقعية الحدث وإمكانية حدوثه لا على واقعية الأشخاص وكونهم مروا يوما على الحياة ، كما ساهم علم النفس فى إخراج الحب إلى دلالات أخرى عملت على توسيع مفهومه ، وتعديد صوره المغايرة التى تنضاف إلى صور سابقة رسخها التراث العربى ، ولم يعد الحب مجرد صورة للعلاقة العاطفية بين اثنين مختلفى الجنس ، وإنما خرج المفهوم إلى صور ربما تبتعد عن هذا بكثير ، يقول الدكتور محمود الربيعى :" خلال رحلة حياتى الطويلة توحدت روحى القلقة أنا مع الصوفيين ، وأنا مع العذريين وأنا مع الرومانسيين ، وأصبحت فى غضون ذلك كله عاشقا لفن الكلمة ، والإبداع الشعرى ، وفتننى الفناء فى الآخر ، والتضحية من أجل الغير ، وحب الطبيعة ، وقلت مع القائل " الحياة الحب والحب الحياة " – ولكننى وأظننى فى هذا كغيرى – لم أقع على صيغة مرضية لذلك المجهول المراوغ الذى هو الحب ، وذلك لأنى رأيته فى تاريخه الطويل يحاط بستائر كثيفة من المنفعة والنفاق ، وقد انتهى بى الأمر إلى أن أقرب صيغة أرتضيها لنفسى فى معنى الحب أن أجعله مرادفا لمعنى " تجويد العمل "( [6] ).
بداية لابد من الإشارة إلى أن طبيعة الدراسة من هذا النوع ملتزمة بطابع الانتقاء بعد المسح والفحص ، فالحب وإن كان تيمة استأثرت بمساحات روائية كاملة ، فإن القاعدة الأساسية أنه لا تخلو رواية من الحب ، فمادامت الرواية مشغولة بالحياة الإنسانية فإن الحب وغيره من مكونات الحياة الإنسانية سيكون حاضرا فى كل حين ، وسيكون غيابه دليلا عليه وحضوره علامة على فاعليته .
ومن هنا فإن الباحث أو الناقد ( [7] ) فى مقاربتهما للحب عبر السرد يكونان على يقين من أن المساحة أكبر من أن يحاط بها وأن أية محاولة هى قراءة فى مساحة محددة تكون بمثابة استخلاص ذرة ملح من المحيط .
الحب / العتبة .
قد تتعامل الرواية مع تيمة الحب تصويرا موحيا ومعبرا دون أن تطرح المفردة صراحة وهو ما يتجلى فى كثير من الروايات التى قد تتحول كلها إلى حالة من الحب دون أن تذكر اللفظة ذاتها ، ولكن للعنوان رأيا مغايرا حيث تطرح المفردة نفسها مقدمة الإعلان الأول عن مضمون السرد ، والعنوان فى هذا السياق يأخذ عددا من الوضعيات ذات الدلالة ،منها :
أولا : لفظا معرفا مفردا :
الحب : عباس حلمى محمد ( [8] ) .
الحب : محمد جلال ( [9] ) .
ثانيا : معرفة موصوفة : تحيل باستخدام أل العهدية إلى ثمة تعاهد بين السارد والمتلقى ، وتكاد هذه الصيغة تكون الأكثر تكرارا فى هذا الجانب ، ومنها :
الحب الأخير- محمد كامل حسن ( [10] ) .
الحب الأول – إبراهيم عبد الحليم ( [11] ).
الحب الجارف – محمد سليمان موسى ( [12] ).
الحب الحلال – إلياس نقولا ضاهر ( [13] ).
الحب الصادق – عبد المسيح الأنطاكى ([14] ) .
الحب الضائع – طه حسين ( [15] ) .
الحب الطاهر - إسماعيل عبد المنعم ( [16] ).
الحب الطاهر – محمد أحمد رضوان ( [17] ) .
الحب الكبير – حسن ناصر المجرشى ( [18] ) .
الحب المحرم – وداد سكاكينى ( [19] ) .
ثالثا : معرفة مفردة مقترنة بمكان أو زمان :
الحب تحت الأشجار – إسماعيل ولى الدين ( [20]) .
الحب تحت المطر – نجيب محفوظ ( [21] ).
الحب على الصليب – فؤاد القصاص ([22] ) .
الحب فى أرض الشوك – محمد كمال محمد ( [23] ) .
الحب فى أرض القمر – مصطفى وشاحى ( [24] ) .
الحب فى زمن النفط – نوال السعداوى ( [25] ) .
الحب فى المنفى – بهاء طاهر ( [26] ) .
الحب قبل الخبز أحيانا – سلمى شلاش ( [27] ).
والصيغة تتكرر مع التنكير :
حب فوق الصفيح – طلوع المصطفى ( [28] ).
حب فى السعودية – إبراهيم بادى ( [29] )
حب فى كوبنهاجن – محمد جلال ( [30] ).
رابعا : الحب مضافا إليه :
ألوان الحب الثلاثة لعبد السلام العجيلى وأنور قصيبانى ( [31] ) .
سنوات الحب لأمين يوسف غراب ( [32] ) .
ضحايا حب – محمد بن التهامى ( [33] ) .
عصر الحب – نجيب محفوظ ( [34] ) .
قصة حب – يوسف إدريس ( [35]).
قصة حب عصرية – شريف حتاتة ([36] ).
قصة حب مجوسية – عبد الرحمن منيف ( [37] ) .
قصة حب من يونيو 1967 – عصام دراز ( [38] ) .
العتبة / الاستهلال .
تفضى العتبة بوصفها مبتدأ إلى النص بوصفه خبرا ، فإذا كانت القاعدة ألا رواية دونما حب ، وأن الرواية بقدر ارتباطها بالحياة تعمد إلى تضفير مجموعة من التيمات التى يكون الحب أحد أهم مكوناتها الأساسية والعتبات فى هذا السياق تنقسم إلى نوعين أساسيين :
النوع المباشر : أو الذى يحمل قدرا ما من المباشرة وهو ذلك النوع الذى رصدناه سابقا ، من خلال تجلى مفردة الحب وظهورها فى العتبة النصية ( العنوان ) ، وفيها تصبح عملية السرد محاولة للإحاطة بالحب ورصد مجاله المسيطر على مقتضيات السرد بأكمله ، فى رواية " الحب تحت المطر " ينشغل النص بطرح الحب كما تعيشه الشخصيات ويكاد الحب يكون مساحة موزعة على النص كله محدثا نوعا من أنواع التناغم الذى يتجلى منذ الاستهلال السردى ، حيث يرسم الروائى مشهدا متحركا يبدو صاخبا للوهلة الأولى : " تيار من الخلق لا ينقطع . يتلاطم فى جميع الاتجاهات . تند عنه أصوات من شتى الطبقات . ويشكل فى جملته خليطا من ألوان الطيف " ( [39] ) ، وفى قلب هذا الصخب يتجلى الحب فى قلب المشهد وقد اقتربت الكاميرا من طرفيه فى هدوء :" سارا جنبا إلى جنب صامتين . هى فى فستان بنى قصير وشعرها الأسود يتهدل حول الرأس وفوق الجبين ، وهو بقميصه الأزرق وبنطلونه الرمادى وشعره المرسل إلى اليمين ، فى عينيها نظرة عسلية مستطلعة ، وفى عينيه جحوظ خفيف ولكنه يوائم تماما أنفه الحاد المستقيم وبقدر ما استسلمت للمشى كان هو يتحين الفرص . قال :
الزحام لا يطاق .
فتمتمت باسمة :
ولكنه مسل للغاية .
واعتبر ردها مناورة لطيفة ليس إلا . بل استجابة لرغبته القلبية " ( [40] ) ، للوهلة الأولى يبدو التناقض قائما بين خلفية الشارع ومشهد الحبيبين ، ولكن ثمة مساحات من الالتقاء تتأسس على : الألوان الموصوفة والداخلة فى ألوان الطيف ، حركة المشى المنتظمة ، التناسق القائم فى التواؤم بين أجزاء جسم مرزوق ، ثم رؤيتها للزحام مسليا رغم تعليقه ، إن الحب الذى يجعلها ترى النظام فى قلب الفوضى .
النوع غير المباشر: وهو النوع الذى لا يفصح فيه العنوان عن الحب كما فى الصورة السابقة ، وإنما يتجلى دون سابق إعلان سابق تطرحه العتبة الأولى ، وفيه يمتد المجال السردى للكشف عنه بعد التعمق قليلا فى السرد ، وهو يأخذ وضعيتين :
الأولى : عبر التصريح كما فى استهلال بائع الفستق :" كيف تقع المرأة فى الحب ؟
عندما ترى الرجل من زاوية مختلفة " ( [41] )
بعدها تعتمد الرواية فكرة الحب ظاهريا وهو ما يمكن التعويل عليه تماما فى التوقف عند التيمات الأساسية فى الرواية ، فالحب يقوم بدور الرابط ذى الطبيعة الإنسانية والفنية ، فعلى الجانب الإنسانى كان للحب الدور الفاعل فى تشكيل وعى وفاء ومن ثم منحها القدرة على قيامها بدور الراوية للدرجة التى يمكن القول معها لولا الحب ما كانت الرواية ، فلقد تأسس النص على وعى وفاء الذى لم يكن ليتشكل لو لم ترتبط بحب أشرف بوصفه مفجر الوعى لديها ، ومن ثم كان النص نفسه نتيجة منطقية لهذا الارتباط، وكان بث رسالة النص و الكشف عن الشخصيات وتشكيل وعى المتلقى عبرها نتيجة لهذا الوعى الجديد الذى ارتكز على منطقية الحدث ، حدث التوافق والتواصل الروحى بين الرجل والمرأة بوصفهما عنصرى الحياة ونواة تشكيل العالم مهما اختلفت الرؤى ، وهو ما يصب فى تأكيد فكرة الرحلة الوجودية التى يعيشها أشرف ووفاء وغيرهما من الشخصيات التى شكلت بعناية لتقديم أدوار تبدأ من نطاق الفن وتنتهى عند إطار الواقع الذى قد يردها المتلقى إليه ليؤكد واقعيتها أو ليجد لها مساحة دالة فى الواقع المعيش أو اللحظة التاريخية الراهنة سعيا لمحاولة تفسير واقعه أو تشكيل وعيه بغية رؤية أعمق لعالمه .
الثانية : عبر الإيحاء كما فى " امرأة الرسالة " :" فك أزرار المغلف بأصابع راعشة . شوقا أو رعبا لا يعرف ، لكنه تأكد أنه سمع ضربات قلبه تقفز فوق السطر . عثر عليه ممحوا بأحمر شفاه أزرق ، ثم صفعته موجة انبعثت من وهج رائحة حريفة لامرأة بخمر قرنفلة ، تشبه ما فكر أن يكتبه ولم يجرؤ. تعبأه الصوت ، ثم لم يسمع غير أنفاس نهمة لقبلة تلاحق شفاه " ( [42] ).
ولا يكتفى الحب بالإعلان عن نفسه مبكرا عبر العتبة الأولى ، وإنما يمكن للباحث أن يقف على عنصرين واضحين :
الإهداء بوصفه رابطا نصيا واصلا – بحكم موقعه - بين العتبة الأولى والنص ، ورغم كونه منفصلا (لإحالته لخارج النص بحكم تقديمه لشخصيات خارج السرد ، هى من قبيل المسرود له ) ، متصلا ( بحكم تصدره لنص يمثل الهدية الافتراضية ) فإنه فى معظم الأحيان يعمد إلى إشارة جوهرية على الحب الذى يمثل دافعا لتقديمه (الإهداء ) فى الأساس ، والإهداء يطرح أنواعا مختلفة من العلاقات ذات الطابع العاطفى تجمع بين الأهل والأصدقاء والوطن وأبنائه ، والمكان ، والقيم أحيانا ، والحب يتجلى عبر طريقتين : تصريحا به :" لأنك تجيئين قبل البدء وقبل الكل وقبل القلب وقبل القبل ، أحبك أمى " ( [43] )، " إليك ثم إليك ثم إليك ، هل علقت قبلى امراة بدن شوقها جسرا لعبور العشق . أحبك .. هل سمعتها دافئة النبض هكذا لغوص نقطة فى سطر ؟ إلى عكا و إليك" ( [44] )، أو إيحاء : " إلى أطفال غزة ......." ( [45] ) ، " إلى عينى الاثنتين ... أمى ... وأختى رشأ وجميع صديقاتى ، بنت الرياض "( [46] ) ، " إلى فاتن " ( [47] )، " إلى ابنتى غادة ... وإلى ابنى بدر ...، وإلى برارى نجد العظيمة . محاولة للاقتراب من الكائن المؤجل فينا جميعا ( [48] )، " إلى باسل هنا وهناك " ( [49] ).
الاستهلال السردى بوصفه المعزوفة الأولى للسارد ، والخطوات الأولى للمتلقى فى عالم غير عالمه ، عالم رحلة النص بوصفه استثناء للواقع الذى يعيشه ، والاستهلال بهذه الوضعية يأخذ شكل العنصر التشويقى أولا ، والكاشف المبكر على تحقق الحب فى السياق الروائى ، فإذا كان العنوان صيغة تفرض على النص بدرجة ما تحقيق ما يشير إليه مضمون العنوان فإن الاستهلال يمثل الخيوط الأولى الملزمة التى تبتعد كل الابتعاد عن المجانية :" لم تكونى أنت امرأة عادية حتى يكون حبى لك عاديا ، كنت طوفانا يجرف أمامه أشجار القلق وجلاميد الترقب والتروى ، كنت قادمة كوجه الفجر الذى يسقط رهبانية الليل الطويلة ، كنت نازلة على جبين الكوكب المهجور ، وبين يديك ماء ، وحياة ، ومخلوقات ، ودورة شمسية جديدة .
كنت حبيبتى ، ذلك الإتيان الأنثوى العاصف الذى لا يمنح الأشياء تفسيراتها ، بينما يكون اتجاهات جديدة على خريطة الحياة ، يخلق أمما وحضارات ، يغير تواريخ الميلاد وعادات الليل ، والأحلام المعلقة على جدار النهار ، وقوانين الصمت والكلام ، والنظام الأزلى لنبضات القلب " ( [50] ).
وفى "الغرف الأخرى " يعمد الاستهلال إلى العودة للصيغة الشفاهية فى الحكى :" تروى إحدى الحكايات القديمة أن اميرا أحب امرأة من عامة الناس وتزوجها ، ولشدة هيامه بها ، خصص لها قصرا قديما كان قد ورثه عن أبيه ....." ( [51] ) .
السرد
يكاد الحب يكون قاسما مشتركا بين أشكال السرد الروائى ، قديمه وحديثه ، ويمكن للباحث حين يفحص الرواية العربية من هذا المنظور أن يكتشف مرحلتين أساسيتين :
مرحلة الرواية الكلاسيكية و الرومانسية ، وفيها يأخذ الحب وضعية التيمة المقصودة لذاتها .
مرحلة الرواية الواقعية ، وفيها يأخذ الحب وضعية التيمة المقصودة لغيرها، حيث يأتى مشتبكا مع قضايا السرد بشكل عام .
تتسم المرحلة الأولى بسمتين أساسيتين :
ارتباط الكتابة بتجربة ذاتية فى كثير من الأحيان ، وهو ما يؤكده وايلد :" أن كل مؤلف لابد وأن يرسم صورته هو . ينطبق هذا القول على الكلاسيكيين وأنصار الفن للفن – والرومانتيكيين على السواء " ( [52] ).
كون الكتابة عن الحب مقصودة لذاتها توظيفا للحب فى خدمة القيم الإنسانية الأخرى الأقرب إلى الوعظ والإعلاء من شأن الجوانب الإنسانية فى حياة الإنسان .
وهما مرحلتان ينتقل فيهما الحب من كونه موضوعا أو تيمة سردية إلى كونه تقنية تلعب دورها فى سياق نص روائى يدرك تماما علاقات الحب المشتبكة بالمواضعات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، تلك المواضعات التى قد تكون معوقات للحب ، كما قد يكون للحب دوره فى إنمائها والعناية بها وإبرازها فى العالم الروائى .
فى المرحلة الأولى يمكن التمثيل بالكثير من الأعمال المؤكدة لهذا الجانب ، ومنها : أعمل الرواية التاريخية ، وأعمال خليل أفندى الخورى ، وعفيفة كرم ، و محمد حسين هيكل ، و محمد عبد الحليم عبد الله ، ، وإبراهيم عبد القادر المازنى ، وطه حسين ، وغيرهم ممن يشكلون قائمة ممتدة فى سياق الرواية العربية وخاصة فى الأعمال الروائية الأولى التى تمثل القاعدة المؤسسة للرواية العربية ، والتى تؤسس لقاعدة لها أهميتها تشير إلى اهتمام معظم هذه الأعمال – إن لم يكن كلها – بالحكى العاطفى وهو ما يشكل امتدادا للسير الشعبية والحكايات العربية القديمة التى يزدحم بها التراث العربى .
ويمكن رصد إشارات لها دلالتها فيما يعتد به بوصفه بدايات مختلف عليها فى الرواية العربية ( [53] ) فهناك " عذراء الهند" لأحمد شوقى ([54] )، و " القصاص حياة " لعبد الحميد خضر البوقرقاصى ( [55] ) و" الفتاة الريفية " لمحمود خيرت( [56] ) ، و " عذراء دنشواى " لمحمود طاهر حقى ( [57] )، و" فاطمة البدوية "و " بديعة وفؤاد " لعفيفة كرم ( [58] ) .
تمثل روايتا عفيفة كرم تجربة تتسم بالجرأة فى سياقها التاريخى ولكونها تنتمى إلى امرأة فى وقت لم تكن المرأة العربية بقادرة على أن يكون لها صوتها المعبر عن رأى له أثره ، وربما كان لظروف حياة الكاتبة الدور المؤثر فى تشكيل وجدانها وشخصيتها ( [59] )، وتكاد الروايتان تتشابهان فى مقاومة بطلتيهما للتقاليد البالية التى تحد من قدرة الإنسان على أن يعيش حياته حسب إرادته .
تمثل بديعة بطلة الرواية الأولى نموذج المرأة حين تحاول التمسك بقيم مجتمعها المعتدلة ومحاولتها ألا تفقد هويتها بوصفها إنسانا محافظا على وطنيته ، محتمية بثقافة واسعة وجرأة تساعدها على اتخاذ القرار وإبداء الرأى والتمتع بإعمال العقل مما يجعلها نموذجا إنسانيا صالحا لمجتمع يتطلع إلى مستقبل مستنير يتخلص من أدران الماضى وجهالاته ، متطلعة إلى الغرب الأمريكى ممتدحة قيمه الجديدة ، و يرى الدكتور يقطين :" أن هذه الرواية بنيت على قصة حب يرفضها المجتمع ممثلاً في الأم حامية التقاليد الزواج من خادمة، لكن هذا الحافز السردي لم يكن سوى إطار للتعرض للعادات والتصورات الاجتماعية السائدة، وانتقاد مختلف أنماط السلوك المهيمنة. وكان اختيار القيم المختلفة والمتصارعة والتي تمثلها شخصيات مختلفة الثقافة والتكوين والإدراك وتباين المجتمع العربي في سوريا أو في المهجر الأميركي، إطاراً ثانياً تتبدى معه التفاوتات بين المجتمعين وكيفية التصرف فيهما من لدن تلك الشخصيات" ( [60] ).
بديعة فتاة خادمة عند أسرة راقية ، تمنحها أخلاقها مكانة مميزة لدى مخدوميها ، يقع فؤاد ابن الأسرة فى غرامها وتبادله شعوره لكن الأم ترفض زواجه من الخادمة وتدبر مؤامرة مع ابن أختها لطرد بديعة التى تقرر الهجرة إلى أمريكا باحثة عن عمل ومحاولة السلوان ، وتدبر الأمر مع صديقتها لوسيان وفى الباخرة تتعرف على جميلة التى تشكل ضلعا ثالثا للاثنتين ، وفى أمريكا يستقر بهن المطاف ، ويقرر فؤاد الهجرة ليس بحثا عن حبيبته وإنما للتأكد من خيانتها بديعة بفعل إيهام أمه له بذلك ، وهناك تستمر المؤامرة التى تغرق فؤاد فى حياة اللهو التى تفضى به إلى فراش المرض.
بعدها يصل لبديعة خبر أن امها مازالت على قيد الحياة بعد أن أوهموها أنها يتيمة الأم ، تعود بديعة إلى الوطن لتلتقى أمها التى تحكي لها قصتها وكيف اضطرت إلى ترك ابنتها "بديعة" في دير نزولا عند رغبة والديها، لأنها تزوجت رجلا أجنبيا. تعوض الأم ابنتها عن أيام الفقر، تضع بين يديها ثروتها. وتكتمل الأحداث بعودة فؤاد واكتشافه الحقيقة وزواجه من بديعة من جديد وعاشا فى سعادة .
وفى الرواية الثانية يتأسس السرد على قصة الحب التقليدية أطرافها ثلاثة " فاطمة " ، و" حسن ربيب أسرتها الذى أحب فاطمة فلم تبادله الحب فمات كمدا " ، وسليم صابر الفارس الذى وقعت فاطمة فى غرامه وبادلها الغرام ودفعها للهروب معه إلى أمريكا ولكنه يهجرها ويعود إلى بلاده بعد أن أنجبت منه طفلا ، وبعد موت حسن تستمر قصة الحب بين العاشقين مروية على لسان فاطمة التى تقع فريسة الوحدة وظروف الغربة حتى تتلقفها سيدة أمريكا يتكشف السرد عن مرورها بتجربة حب مماثلة .
فى ثمانية وخمسين فصلا تتوالى قصة الحب على لسان فاطمة التى تتبادل السرد مع آليس هاريسون الأمريكية التى التقطتها من الطريق بعد إصابتها بالإغماء ، والساردة تعتمد النظرة العربية السائدة فى الثقافة التراثية عن الحب ، حيث يستهل كل فصل من الفصول ببيت من الشعر يعبر عن هذه الرؤية ، ويكشف عن ثقافة فاطمة : يتصدر الفصل الرابع عشر المعنون " صعود أول درجة من سلم الحب " بيت ابن الفارض من البحر الطويل :
وعِشْ خالياً فالحُبّ راحتُهُ عَناً وأَوّلُهُ سُقْمٌ وآخرُهُ قَتْلُ ( [61] )
والفصل الثالث والعشرون المعنون " ضحية صادقة على مذبح الحب الحقيقى " يتصدره قول الشاب الظريف من البحر البسيط:
رَأَى فَحبَّ فَرامَ الوَصْلَ فامْتَنَعُوا فَرامَ صَبْراً فأَعْيَا نَيْلُهُ فَقَضَى ( [62] ).
ولا يتوقف الجمع بين الشعر والسرد على تصدير الفصول ففاطمة عبر حكايتها لمضيفتها يجرى على لسانها الكثير من أبيات الشعر المنتقاة بعناية ، تقول تعليقا على كلام مضيفتها:" فرحم الله ملكنا الشاعر العاشق القائل:
هُمْ يَحْسُدُوني عَلَى مَوْتِي فَوا أَسَفِي حَتَّى عَلَى المَوْتِ لا أَخْلوُ مِنَ الحَسَدِ "( [63] ) .
والروايتان تعكسان رؤية اجتماعية تتأسس على وعى جديد يكشف عن عقلية المؤلفة ، ومن الملاحظ أن الحب كان وراء الأحداث الكبرى فى الروايتين ، فالفشل فى الحب الذى لم يصمد أمام فعل النظرة الطبقية الاجتماعية دفع بديعة للهجرة إلى أمريكا ، وحماية الحب ومحاولة حمايته كان دافعا وراء هجرة فاطمة هربا مع فارسها الذى لم تستطع قيم التنوير فى المجتمع الجديد أن تؤثر فيه ولم تصمد قيم التنوير هذه إزاء ميراثه الشرقى مما جعله يتخلى عن المرأة التى ضحت من أجله ليتركها فى غربتها عائدا إلى أسرته العربية ، ولم يكن شعوره بالمسؤولية الإنسانية أقوى من مفاهيمه المتوارثة .
وعلى خلفية قصة الحب الفاشلة لفاطمة نحن إزاء قصتين ترتبط الأولى بها مباشرة ، وترتبط الثانية بصورة غير مباشرة ، الأولى عربية خالصة تتمثل فى حب سحن ربيب والد فاطمة الذى يموت حبا فى مشهد تردد كثيرا فى التراث العربى ، العاشق المضحى بحبه ، المستسلم للقدر والموت متمنيا السعادة لمعشوقته :" فابتسم ابتسامة ملائكية على ما فيها من الرعب وقال :
كلا . كلا . لقد نفذ المقدور- لقد تمت التضحية – فيجب أن يموت حسن لتحيا فاطمة – هكذا تقضى إرادة الحب يافاطمة الحبيبة . – كونى سعيدة واحذرى ..
وكان هذا آخر كلام سمعته منه ثم شهق شهقة قوية خرجت بها روحه " ( [64] ) .
سرديا يلعب الحب دوره بوصفه شخصية لها فاعليتها فى السياق السردى بحيث تقترب من مناهضة الشخصيات الأخرى ويكون لها تأثيرها على كثير من شخوص النص ، إذ من الممكن تحميل كل المعانى على الحب بوصفه المحرك لإنتاج الدلالة السردية فى كثير من النصوص .
لقد ارتبطت الرواية الرومانسية بالحب من حيث هو مقصود لذاته ، ومن ثم ارتبطت الرواية بتيمة محددة ، تيمة الحب ، وهو ما كان له أثره على تلقى الرواية بشكل عام فى الثقافة العربية ، وما انعكس على تلقى السينما أيضا ، حيث رسخ فى الأذهان أن الرواية دائما ترتبط بتصوير العاطفة وهى السمة الغالبة على الرواية الرومانسية ، مما شكل إطارا عاما لعلاقة الجمهور بالرواية ( من حيث هى نص مقروء ، أو مرئى سينمائيا ، أو مسرحيا ) ، يقول عبد الحميد جودة السحار:" فقد لمست أن الرواية السينمائية الناجحة عندنا هى الرواية المغرقة فى العاطفية " ( [65] ) ، وربما كانت لهذه النظرة آثارها السلبية التى تلقى بظلالها على تلقى الرواية حديثا ، وهو ما كان مثار سخرية نزار قبانى فى قصيدته الشهيرة " إلى تلميذة " :
قصص الهوى قد أفسدتك .. فكلها
غيبوبة .. وخرافة .. وخيال
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الأبطال.
* * * * *
وفى المرحلة الثانية كان للحياة والحب أن يطورا علاقتهما بفعل طبيعة العصر وظروف الحياة الإنسانية ، حيث تتحول مشاهد الحب وحكاياته ، أو حكاية الحب فى الرواية التى لا يكون الحب فيها بطلا أو تكون حكاية الحب واحدة من حكايات النص ، يتحول الحب إلى واحة وسط فضاء النص ، كما نجد فى قصة الحب بين بثينة ، وطه فى " عمارة يعقوبيان " ( [66] ) حيث تزدحم الرواية بالكثير من التفاصيل المنافية للأخلاق والقيم حتى لتكاد تكون تسجيلا لوقائع اجتماعية بعينها قد يجد المتلقى نفسه مدفوعا للربط بينها وبين ما يعرفه فى الواقع ، وفى ظل ذلك كله تبقى قصة الحب شاهدا على براءة قتلها المجتمع ، كما تبقى دليلا مفتقدا على أن بثينة كانت تتمسك بجانب برئ فقدته حين لم تكتمل قصتها مع طه بخروج طه من المجتمع وتمرده على قوانينه.
لقد انشغلت الرواية العربية كثيرا بوصف قصص الحب والاستغراق فى ذكر ملامحها ، وطرح تفاصيلها ولكن يحسب لها أنها تجاوزت الكثير مما قدمته كتب التراث العربى ، تلك التى انشغلت كثيرا برسم صورتين للحب اعتمدتا على مصدرين أساسيين :" أولهما قصص الحب العذرى التى بولغ كثيرا فيما تنطوى عليه من ضروب الحرمان ، وتتخللها الإغماءات وحالات الاكتئاب وكثيرا ما تنتهى بالجنون والموت ........أما الصورة الثانية وهى الأكثر انتشارا بين العامة فمصدرها الأدب الشعبى والحكايات المتخيلة عن بعض العصور القديمة ، ...... وستلعب الملاذ الجنسية فى هذه الصورة دورا أساسيا وتمثل الرغبة فى المتعة الجنسية الدافع الأول للمغامرة ، والتعرض للأهوال وبذل المال " ( [67] ) .
لقد فرض الحب فى الاشتباك مع كثير من أمور الحياة ، ومع القيم الإنسانية جميعها ، وهو ما جعله يطرح نفسه متداخلا مع كل القضايا التى تداولتها الرواية العربية ، والرواية لا ترى الحب منفصلا وحده عن سائر قضايا إنسان العصر ، فالناس فى عصرنا يحبون وهو يعيشون ، ويمارسون الحب وهم يتخلصون من مشكلات الحياة اليومية ، وهو ما جعل إنسان العصر المأزوم يسعى للحب بوصفه انعتاقا مما يجابهه من أزمات .
سرديا تصب الدلالة فى رافد تشكيل وعى المتلقى بالحب ، الحب من حيث هو عنوان على الحياة ، أو هو كتاب يكتسب متلقيه قدرا أكبر من الإدراك ،والمعرفة بأمور تتعلق به ، إذ لا شيء ينبت هناك خارج دائرة يظللها الحب ، تلك الدائرة التى تمنح الإنسان المحب وعيا بذاته قبل – أو فى الوقت نفسه – وعيه بالآخر ، :" ذلك أن الرجل ، إذ يحب المرأة ، إنما يحب ذاته ، فلا فكاك لأحد عن هوى نفسه ، كما لا فكاك له عن الوعى بذاته ، والذات ، بما هى رغبة ، وشهوة ، وشهية " ( [68] ).
تشير قراءة الرواية إلى أشكال تبدو نمطية لقصص الحب ، يركز معظمها على الحب بين شخصيتين إنسانيتين ، وهى أنماط تكاد تتعدد بتعدد الحالات والحكايات الروائية ، ويمكن رصد عدد من الأنماط التى تكون بمثابة نماذج حصرها لا يعنى تحديدها إذ تتوازى صعوبة الإحاطة بها مع صعوبة الإحاطة بقضايا الرواية العربية ذاتها ، فالأمر فى النهاية يتوقف على عدد من النماذج الدالة التى تكون بمثابة عينة دماء تحلل للتدليل على طبيعة الجسم وما يعانيه ، ومن هذه الأنماط : الحب بين الرجل والمرأة – حب الأهل – حب المكان – حب القيمة – الحب المنحرف .
وترسخ الرواية النمط الأول الذى يأتى فى مقدمة هذه الأنماط جميعها ، الحب بين اثنين ( رجل وامرأة ) ممثلا ثنائية متجددة لآدم وحواء :" وكل امرأة شهية تشتهى كما اشتهى آدم حواء ، فتغوى الرجل الذى يهواها وتهوى به من جنة الفردوس ، عفوا تصعد به إلى جنة فردوسها " ( [69] ) ، ومنتجا ميلادا جديدا ومتجددا من شأنه بث حيوية تتطلبها حياة البشرية على الأرض ، وهى ثنائيات متعددة بتعدد الروايات نفسها :
أشرف ووفاء (بائع الفستق لريم بسيونى ) .
بدر و مريم ( ستر لرجاء عالم ).
جعفر الراوى ومروانة ( قلب الليل لنجيب محفوظ ) .
سعيد وسوزان ( أجملهن لعبد السلام العجيلى ) .
شوقى ولولى ، وآدم وآطاطة (حافة الليل لأمين ريان ).
على الدحال و منيرة الساهى ( القارورة ليوسف المحيميد).
محسن وزهوة ( حالة سقوط لمحمود الوروارى ) ..
ميشيل وفيصل (بنات الرياض لرجاء الصانع )
ناصر ومها ( سقف الكفاية لمحمد حسن علوان ) . ( [70] ).
وهى ثنائيات سردية لم تنل شهرة الثنائيات التى ارتفع بها الشعر العربى حد الشهرة ، فمن ارتفع بهم الشعر كانوا يحيلون إلى ذواتهم بوصفهم أناسا كان لهم حضورهم الواقعى وقد تجردوا من هذا الواقع ليصبحوا نماذج خيالية ، يتسع مجال دلالتهم ولكنه يستقر فى النهاية عند حدود عالمهم ، خلافا للنموذج السردى الذى يحيل إلى الواقع منطلقا من الخيال ليقدم مجموعة من الأشخاص الرامزين للعالم على اتساعه .
فالمحبوبان يريان العالم وفق منظورهما ويريان الأشياء ممررة عبر وعيهما ، ويمكن للحب أن يشكل وعى الإنسان كما أنه يوجه رؤيته للكون والوجود :
"الرجل والمرأة عندما يعملان جنبا إلى جنب فى قضية يؤمنان بها يشعران باندماج لذيد كالتصاق جسد عاشقين ، الكفاح المشترك فيه لذة لا تقل عن لذة الجنس .، فيه إثارة ونشوة ومتعة .
التصاق العقل بين المرأة والرجل هو خطوة أعلى من التصاق القلب والتصاق الجسد ، هو لذة حقيقية ، هو الجنة الثالثة ، إذا كان حب القلب هو الجنة الأولى ، وحب الجسد هو الجنة الثانية ..............." ( [71] ) .
الحب من حيث هو ظاهرة
والظاهرة هنا ليست وليدة العصر الراهن وإنما هى ظاهرة إنسانية تتردد فيها مقولات من شأنها تأكيد الظاهرة ، حيث المقولات القديمة الجديدة تجد صداها فى الحاضر ، ومن ثم فهى مقولات صالحة لإثارة الدهشة ، ولتجديد وعى المتلقى برسوخها فى الفكر الإنسانى ، هكذا يمكننا التوقف عند مقولات الحب المتكررة فى" بنات الرياض " والتى جاءت بوصفها بيانا يتزيا بالطابع الأيديولوجى الذى تغلب عليه روح الوعظ وتصبغه النزعة التعليمية : " عن ميشيل وفيصل أحدثكم الحب مشاعر قلبية لا سيطرة للإنسان عليها ، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، ولولا أن الحب من أغلى الأشياء ، لما ذهب كثير من زمن الأنبياء فيه ، وقد جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المفهوم بأن نار الحب إذا اشتعلت لا يطفئها إلا النكاح وذلك بقوله : (لم ير للمتحابين مثل النكاح) ابن ماجة : 1847، فالحب الذي يبقى مقيداً بلجام العفاف والتقوى لا حرج فيه ، وسبيله الوحيد النكاح، فإن لم يحصل كان الصبر مع مرارته هو الحل الوحيد . إننا نفرق بين الحب كممارسة وسلوك وبين الحب كمشاعر ، فالحلال منه إذا كان مجرد مشاعر ، أما إذا تحول الحب إلى سلوك كلمسة وقبلة وضمة ففي هذه الحالة يكون حكمه حراماً وينتج عنه سلبيات كثيرة لأنه من الصعب على المحب ضبط حبه ، ولكن ما هو الحب الذي نريده ، نريد الحب الذي يغير القلوب والنفوس . نريد الحب الذي يدفع بأصحابه للقيام بأعمال يسطرها لهم التاريخ كأحلى قصة بين متحابين . موقع جاسم المطوع الإلكتروني أصبحت تستهويني قراءة تعليقاتكم على القصة ، فبعد إيميلي الأخير وصلني ما يقارب مائة رسالة ! قرأتها جميعاً لأتأكد أننا شعب اتفق على ألا يتفق ، فمن متعاطف مع قمرة إلى محتقر لها ومن مؤيد لراشد إلى ناقم عليه . أؤكد لكم أنني استمتعت بقراءة كل رأي من آرائكم المتباينة حتى التي أختلف معها . سعيدة أنا بمتابعتكم رسائلي ، وسعيدة أكثر باختلافاتكم لأنها تشير إلى بداية تكوين بعضكم لفكر مستقل عن رأي الأغلبية ، رأي يتقنعون به ويؤمنون بمبادئه ويتمسكون به (أو هذا ما أتمناه) ! وهذه أروع الفوائد التي جنيتها معكم من إيميلاتي " ([72]).
كما أن المقطع السابق - الطويل نسبيا – يقدم مفهوما عصريا بعض الشيئ للحب فإنه يطرح مجموعة من وجهات النظر الاجتماعية حول الحب بوصفه شكلا من أشكال المؤسسة الاجتماعية الإنسانية .
الحب من حيث هو توقع
عندما يحل رجل وامرأة فى رواية فالمتلقى يتوقع قدرا من العواطف التى قد تروح تتشكل فى هدوء ، وقد قدمت الرواية العربية الجديدة نموذجا معبرا عن الحياة العصرية و عاكسا ثقافة العصر ، تجلى عبر رواية " يوميات اثنين مخطوبين " للروائية الشابة هبة سيد عبد العاطى ، التى أقامت نصها الطويل (316 صفحة ) وفق طريقة اليوميات المتبادلة بين سارة و عمر اللذين دخلا فى نطاق علاقة الخطوبة ، ويروح كل منهما يفضى بمشاعره تجاه الآخر وانطباعاته عن الخطوبة وأحداثها فى يوميات تنجح الكاتبة فى إحكامها لتبدو للمتلقى مكتوبة بواسطة الخطيبين ، ولكنها فى الحقيقة نتاج سارد يتابع حياة الشخصيتين والحب الذى يتشكل بينهما فى هدوء ظاهرى يخالف قليلا ذلك الباطن المؤجج بالعاطفة ، والرواية فى مجملها تطرح الحب أفقا متوقعا بين الاثنين ، ولكنها تعمد إلى تضفير هذا الحب مع كل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية متجاوزة اعتماد الحب مصدرا للحكايات إلى اعتماده آلية لتشكيل النص ذاته .
ولا يتوقف عمل الحب على حضوره وإنما تمتد فاعليته على غيابه ،وهو ما يطرحه فتحى غانم فى روايته :" قليل من الحب كثير من العنف " مؤكدا دلالة أن العصر لم يعد يحتمل الحب ، يقول فتحى غانم فى ختام تصديره للرواية :" وما حيلتى ، وما سوف أرويه يحذرنا من الحب ، ويقول لنا إن حياتنا لم تعد تحتمل الحب ، فهو أخطر على حياتنا من العنف ولذلك نحن نحيا فى عصرنا الحالى بـ " قليل من الحب وكثير من العنف " فإلى الذى يهمه أن يعرف المزيد ، ويجد فى نفسه الرغبة فى مشاركتى .. فى الوصول إلى هذه المعرفة . أقدم له تلك الأحداث بحذافيها . كما وقعت بلا زيادة أو نقصان " ( [73] ).
الشخصية.
الحب لا يسرد ولكن يسرد عنه وبه ، ويظل السارد طوال الوقت يردد ما يفعله الحب ، والسارد هنا يأخذ وضعية الراوية ، راوية الحب ، ذلك الراوية المتتبع للحب وأعماله ، وفعله فى القلوب ومن ثم فى البشر ، وتظل المقولات المترددة عن الحب هى من قبيل رؤية النص للحب ، تصويرا له أو لأثره فيه ( النص ) ، فالحب فى علاقته بالرواية يطرح منظورين أساسيين :
الرواية فى تصويرها للحب .
الحب فى تأثيره فى الرواية .
والمنظوران يعبران عن العلاقة الاحتضانية القائمة بين الحب والرواية والتى تجيب عن سؤالين أساسيين :
كيف صورت الرواية الحب ؟ وهل اختلف منظور الإنسان للحب فى الرواية عنه خارجها ؟ وإلى أى مدى تتطابق وجهات نظر الأشخاص فى الواقع مع الأشخاص فى النص ؟.
ما الذى أضافه الحب - من حيث هو موضوع ومن حيث هو شخصية فاعلة – إلى النص السردى ؟ ، وإلى أى مدى لم يكتف الحب بكونه موضوعا يكتب الروائى عنه ، وإنما تحول إلى تقنية تشير إلى أن الروائى يكتب بالحب ولا يكتب عنه ، وانه ليس موضوعا بقدر ما هو عنصر تقنى داخل فى تشكيل عناصر السرد جميعها ، فالحب يهيئ المجال للشخصيات الروائية للدخول إلى مجال الرواية إذ هى قبل الحب مثلها مثل آلاف الشخصيات التى قد لا تحمل من المؤهلات ما يجعلها صالحة للتقدم وفق المنظور الروائى .
والسارد وفق هذا السياق يعتمد على الإحاطة بالحب من حيث هو مجال حيوى يضم الشخصيات والفضاء والزمان واللغة ويمنح النص الجانب الأكثر تأثيرا من معجمه اللغوى ، ومن خطوطه السردية المتقاطعة .
والسارد قد لا يلتزم بدوره السارد المحايد فحسب وإنما لتخرج عن حيادها برواية ما يخصها هى من حيث هى شخصية مسها الحب ، وهو ما يحول النص إلى صيغة من البوح المؤكد بضمير المتكلم ، وحيث تتماهى اللغة من لغة التصوير الشعرى مكتسبة كثيرا من طاقات المجاز ، ومفسحة المجال للمونولوج لتفعيل قدراته ، هكذا يطرح السارد فى " حالة سقوط " مساحات بوحه :" مازلتَ تتساءل: لماذا في كل مرة تحمل فيها حقيبة سفرك وتغطس في زحام المطارات تنتابكَ تلك الأحاسيسُ الأولى التي عرفتها في أول رحلة هروب إلى من أحببت, حين طرتَ إلى عَمان لترى حبيبتك ولو لمرة واحدة، لتراها وأنت تعرف أنها في حضن رجل آخر وعلى سرير آخر، لتراها بعد أن لبست لقب مدام في وقت لم يكن مثلُ هذا اللقب على مقاسها، فجميع الألقاب في وقتها كانت بالنسبة لها إكس إكس لارج" ( [74] ).
وفى " بائع الفستق " تقوم وفاء بالدور نفسه ، وهى تطرح السؤال الأول الذى يكون بمثابة الصوت الأول فى النص :" كيف تقع المرأة فى الحب ؟.
ليشير الصوت إلى متكلم يبدو خارج النص ، يطرح نفسه عبر الاستهلال ليطرح عبر السؤال حدثا غير مؤطر بزمن أو مكان بصورة تقليدية ، والسؤال تنتهى فاعليته بالجواب ليكون السؤال مجرد مثير يفضى إلى ركيزة أساسية تتبقى بعد السؤال والجواب أعنى الرؤية من زاوية مختلفة صانعا قانونا يمكن تطبيقه على الكثير من مواضعات الحياة ويصبح معيارا لرؤية النص ذاته من حيث هو يخلق علاقة مع قارئه ، علاقة ليست بعيدة التشابه عن علاقة الذكر والأنثى تأسيسا على علاقة الحب (القائمة أو التى يؤسس النص لقيامها بين أشرف ووفاء ) مع تبديل طرفى المعادلة ليكون القارئ فى وضعية وفاء ويكون أشرف فى وضعية النص عندها يتبلور سؤال جوهرى : متى يقع المتلقى فى حب النص ؟ عندما يراه من زاوية مختلفة ، وهى زاوية لا تتأسس على اختلاف النظرة أو الزاوية بقدر ما تتأسس على امتلاك المنظور إليه عوامل الاختلاف فالرؤية لا تثبت للشيئ ما ليس فيه ولا تسبغ عليه إلا ما تكتشفه هى فيه فعلامات الاختلاف كائنة هناك .
لقد أسبغت الرؤية المختلفة على أشرف بعض سماتها ليظهر فى صورة تقترب من البطل التقليدى ذى السمات الأسطورية " كان طويلا .. نعم .. رأيت رجليه تكادان تمتدَّان إلى السماء. كان طويلاً وأسمر اللون، وجهه كان نحيفاً، وابتسامته كابتسامة إخناتون. تلك الابتسامة المُتعَبة الساخرة"( [75])
وأنثوية المتلقى تتيح من زاوية أخرى لوفاء أن تزرع فى خيال متلقيها ما لن يكون مستطاعا خارج عملية الالتقاء هذه فالمتلقى خارج هذا النص لا يكون مهيأ بدرجة ما لتقبل اختراق محدودية قدرات الراوى العليم بكل شيئ الذى يتجاوز ههنا قدراته المحدودة ليقص عن أشرف وهو فى بريطانيا وفى أمريكا ، صحيح إنه يعتمد أحيانا على مايرويه أشرف ذاته ولكنها تظل زاوية مختلفة تتجاوز الطرائق التقليدية فى الحكى ، إن مساحة من التأويل يمكنها حل المعضلة الفنية ، مساحة تكمن فى تلك العلاقة الروحية التى تعتمدها وفاء أو تلك التى تتوافر لها (بفعل الحب) والتى تتيح لها ان تعيش حيوات أشرف وأن ترتبط به أو تربط نفسها بسياقه ، أشرف هنا يعيش حياة الغرب المنفتحة ، والمتسمة بالشفافية مما يجعله رمزا لمجتمع يحقق الشفافية فى أكبر صورها فى مقابل حياة المجتمع الشرقى الذى لا يتمكن فيه الشخص من اكتشاف مساحة ما للشفافية مع الذات .
السارد فى الرواية مشدود لشخصياته لا من حيث هى مجرد دمى تتحرك بفعل حركات يديه وإنما من حيث هو عاشق لهذه الشخصيات ، تسرى فيه من روح الفنان فى انجذابه لشخصياته :" فالفنان الذى لا يملك أى إحساس قوى يشده إلى شخصياته ، وبعبارة أخرى إن الفنان الذى لا هم له غير ولعه الشديد بكلماته أو أفكاره فقط – لا يشعر بأية حاجة كى يفكر بمشاكل الشخصيات ، أى لا يحتاج للاهتمام بموضوع قصته أو عمله الفنى . والفنان من هذا النمط لا يقدم شيئا نافعا بل يشبه من يحاكى حركة الشخص أثناء تحريك الدمى التى يصنعها " ( [76]).
يساهم الوصف فى رسم ملامح السرد وتفاصيله وعناصره الأكثر ترددا ، ولأن الحب قيمة مجردة فإنها تجد تحققها عبر الشخصية التى يجتهد الوصف فى تقديمها من خلال مجالها الحيوى ، ذلك المجال
الشخصيات فى رواية الحب أو فى الرواية التى تعتمد الحب واحدا من منظوراتها تنقسم إلى نوعين أساسيين من الشخصيات :
شخصية مباشرة : وتضم فى نطاقها مجموعة الشخصيات الإنسانية المتنوعة بين أساسية وثانوية حسب التقسيم التقليدى للشخصيات ، سواء كانت شخصيات ترتبط بشكل مباشر بالحب فى سياقه الروائى .
شخصية غير مباشرة ولكنها الأكثر تأثيرا ونعنى بها الحب نفسه بوصفه شخصية لها فاعليتها فى سياق النص السردى ، وهو الشخصية ذات الحضور الأقوى والأسمى ،يكون الحب من خلالها هو الإله الخفى الفاعل ، نحن لا نسأل عن مبررات الحب فى الوقت الذى نبحث فيه عن أسباب للكراهية ،الحب مبرر فى ذاته والكراهية مبررة بغيرها ، وهى شخصية تبدو مجردة قد تجد مظهرها الحسى وتجسدها فى واحدة من شخصيات الرواية كما نجد فى شخصية " عين " بطلة " عصر الحب " تلك الشخصية التى جمعت الكثير من صفات الشخصية النموذج المثالى للإنسان ، والتى تشارك الراوى والسارد فى سرد صفاتها " يقول الراوى : إن الحارة نسيت فى أيامها البؤس الجوع والعرى ، وهانت عليها واجبات الزفاف والمرض والدفن . تلاشت الهموم جميعا تحت مظلة عين ، عين الحنون ، القلب الخفاق بالحب ، الجود الوهاب بلا حساب ، التى تدير العمارات لحساب الفقراء والمساكين ، إنها الطل يهطل على القفر فيتركه أخضر يانعا يرقص بماء الحياة . أم الحارة " ( [77] ) ولم تكن الصفات المتوالية فى صورة تشبيهات متعددة ، لم تكن مجرد صفات مبالغة لرسم صورة عين ، وإنما هى مجموعة من الحقائق التى يؤكدها النص ، وما تعدد التشبيهات إلا نوع من توسيع آفاق المتلقى ليتمكن من إفساح المجال لاستيعاب الشخصية وأفعالها التى قد لا يتعودها المتلقى ، لقد كان لتجسد الحب فى " عين " أثره فى وسم العصر كله بعصر الحب ، ذلك العصر المؤطر بحياة عين نفسها بوصفها باعثة الحب ومجسدته ، والتى لولاها ما تجلى الحب ولا فرض نفسه على الراوى الذى وقع هو نفسه فى أسرها فكانت الرواية سيرة للحب الذى لم يكتف بسيطرته على النص وإنما تصدر الرواية كلها بكل ما فيها من أحداث وأشخاص ، وقد كان الراوى حريصا فى نهاية الرواية على بث الإشارة المؤكدة أن الحب لم يمت " يقول الراوى : أن الست عين لم تمت ... رغم أن الذين عاصروا وفاتها لم يعرفوها أو كذلك كانت أغلبيتهم . ما عرفوا إلا ما يتناقله الرواة ولكن ست عين لم تمت .. وحتى اليوم يطلق الناس على المستشفى الذى قام مكان دارها ... " مستشفى الست عين"([78]).
معجم الحب ومقولاته
يفرض الحب معجمه الخاص الذى قد يتجلى فى مفردات تتناثر فى سياق النص ، خالقة نسيجا له طابعه الخاص على مستوى النص ، ومنتجا دلالات تسهم فى إنتاج الدلالة الكلية للنص ، ومسهما فى تشكيل صورة الحب بوصفه شخصية لها فعلها السردى شأنها شأن الشخصيات السردية التى يكون لها فلسفتها الخاصة ، ورغم كونها صيغة خاصة بسياق نصى محدد فإنها تشير بقوة إلى معجم خاص لم يكن ليتشكل ما لم يكن للحب فعله الأقوى ، ومنها:
إن أساس الحب الشريف هو اعتبار شخص المحبوب مقدسا وشرفه مصونا وما لا يبنى على هذا الأساس لا يكون عوض صحيحا([79]).
لا شيء يملأ فراغ الحب إلا الحب نفسه ( [80]).
ستجدين الحب مرة أخرى إنه مع الحياة دائما ( [81]).
الصداقة لا تصلح بديلا عن الحب ( [82]).
كل شيء يبدأ بطيئا ثم يزداد سرعة إلا الحب المغسول بالجنس يبدأ العكس([83] ).
لن أعيش فى وهم . إن لم يصرح لى بحبه خلال مدة أقصاها ثلاثة شهور ، ويخبرنى بوضوح عن مصير علاقتنا ، فسوف أنهى العلاقة بنفسى([84]).
فى مستوى أول تشى مجموعة الصيغ السابقة – ولو بشكل جزئى ولكنه دال - برؤية الحب فى الرواية العربية ، وفى مستوى ثان تطرح جانبا من معجم الحب وسياقه الدلالى المنتج سرديا ، وفى مستوى ثالث تعكس طبية اللغة الشعرية المكثفة التى يضيفها الحب إلى لغة السرد ، حيث تتضافر هذه المقولات مع لغة الوصف وخاصة عندما يكون الوصف منصبا على الجسم الأنثوى وما يكتنزه من محاسن ، حيث يتحول الجسم إلى فضاء موصوف عبر لغة شعرية مكثفة ( [85] )، وفى مستوى رابع يمكن التوقف عند المقولات بإدخال عنصر الزمن الفاصل بين أزمنة كتابتها للكشف عن الفوارق فى التفكير عبر رؤية الحب بين الأجيال وأثر ظروف العصر فى فاعليته فى النفس البشرية ، فقداسة الحب وبساطته وعفويته بوصفها قوانين طرحتها المقولات الأولى مغايرة إلى حد كبير لما تطرحه المقولة الأخيرة ( رواية بنات الرياض ) فالحب فى الأولى كان فارسا يغزو القلوب التى لا يمكنها أن تتحكم فيه ، وهو المسؤول عن مصير الإنسان ، ولكنه فى بات حبا ممنهجا يتحكم فيه الإنسان ويحدد مصيره ( راجع المقولة الأخيرة) ([86]).
لقد لعب الحب فى الرواية عددا من الأدوار ذات التأثير الأهم إذا كان أولها كونه شخصية لها أثرها الفنى ، فليس آخرها أن يكون شاهدا على ثقافة العصر وعلى تلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والحياة وبينهما السرد شاهدا على حركة الحياة .
هوامش وإحالات
[1] - د. محمد حسن عبد الله : الحب فى التراث العربى – المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب – الكويت 1980، ص 6.
[2] - ابن حزم الأندلسى : طوق الحمامة فى الألفة والألاف – مكتبة عرفة – دمشق
[3] - تطول القائمة للدرجة التى تجعل التراث العربى يضم آلاف القصص والحكايات عن الحب ، سواء تجددت الحكايات أو تناقلت بعض المؤلفات قصصا بعينها ، باتت من الشهرة بحيث لم يكن من الممكن تجاوزها فى سياقها ، ويمكن الرجوع إلى التصنيف الذى حدده الدكتور محمد رجب النجار : التراث القصصى فى الأدب العربى ( مقاربة سوسيو- سردية ) – ذات السلاسل – الكويت – ط 1-1995، المجلد الأول ص 592 وما بعدها .
[4] - صبحى درويش : فلسفة الحب – موقع الحوار المتمدن - الحوار المتمدن
[5] - ينبنى ما نعنيه بسيطرة الحكائين على السمة الأساسية للحكاية ، أنها تروى فى الماضى ، وتستمد طاقتها من الماضى ، وهو ما جعل الراوى يستهل سرده بالقول : كان ياما كان فى سالف العصر والأوان ، أو فى بلاد كذا ... وهو ما يعنى أنه لا يقص ما يمكن لمتلقيه متابعته ومعاينته ، إذ يرحل به زمانا أو مكانا ليظل السارد ممتلكا زمام الحقيقة التى ليس بإمكان المتلقى معاينتها أو التأكد منها بصورة أو بأخرى ، ولا يكون أمامه سوى تصديق ما يقال ، وما يبثه السارد فحسب .
[6] - د. محمود الربيعى : فى حدود الأدب – سلسلة كتابات نقدية - الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2008، ص 189 .
[7] - نفرق بين الباحث والناقد فى علاقتهما بالنص ، فالأول يوظف النص لخدمة قضيته كأن يدرس شخصية أو قضية يروح يستخدم النص لخدمة قضيته ، والثانى عند نص أو مشروع إبداعى ليحلل ويفسر وينتقد ويبرز جماليات النص دون أن يكون همه أن يدلل على قضية غير ما يطرحه النص نفسه : راجع : د. مصطفى الضبع : الباحث والناقد والنص – كتاب مؤتمر " الثقافة والجامعة المصرية ، مائة عام من التنوير " – جامعة القاهرة 17-19 فبراير 2008.
[8] - عباس حلمى محمد : الحــــــــــــب – مطبعة محمد محمد مطر – القاهرة 1925.
[9] - محمد جلال : الحــــــــــــب – دار الحرية للطباعة والنشر – القاهرة 1970.
-[10] محمد كامل حسن : الحب الأخير – دار التحرير للطبع والنشر – القاهرة 1959.
[11] - إبراهيم عبد الحليم : الحب الأول – مكتبة 26 يوليو للطبع والنشر – القاهرة 1964.
[12] - محمد سليمان موسى : الحب الجارف – مطبعة الإبيارى – طنطا 1955.
[13] - إلياس نقولا ضاهر : الحب الحلال – بيروت 1960.
[14] - عبد المسيح الأنطاكى : الحب الصادق – دار الهلال – القاهرة 1908.
[15] - طه حسين : الحب الضائع – دار المعارف – القاهرة 1942.
[16] - إسماعيل عبد المنعم : الحب الطاهر- مطبعة دار السفينة – طنطا 1911.
[17] - محمد أحمد رضوان : الحب الطاهر – مطبعة التوفيق – القاهرة 1905.
[18] - حسن ناصر المجرشى : الحب الكبير – نادى الطائف الأدبى – الطائف 1978.
[19] - وداد سكاكينى : الحب المحرم – دار الفكر العربى – القاهرة 1952.
[20] - إسماعيل ولى الدين : الحب تحت الأشجار – مكتبة غريب – القاهرة 1978.
[21] - نجيب محفوظ : الحب تحت المطر – مكتبة مصر – القاهرة 1973.
[22] - فؤاد القصاص : الحب على الصليب – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة 1964.
[23] - محمد كمال محمد : الحب فى أرض الشوك – مؤسسة أخبار اليوم – القاهرة 1980.
[24] - مصطفى وشاحى : الحب فى أرض القمر – دار العلم للطباعة – القاهرة 1974.
[25] - نوال السعداوى : الحب فى زمن النفط – مكتبة مدبولى – القاهرة 1993.
[26] - بهاء طاهر : الحب فى المنفى – دار الهلال – القاهرة 1995.
[27] - سلمى شلاش : الحب قبل الخبز أحيانا – مؤسسة روز اليوسف – القاهرة 1975.
[28] - طلوع المصطفى : حب فوق الصفيح – دار قرطبة – الدار البيضاء 1993.
[29] - إبراهيم بادى : حب فى السعودية - دار الآداب - بيروت – 2007.
[30] - محمد جلال : حب فى كوبنهاجن – دار الحرية للطباعة والنشر – القاهرة 1975.
[31] - عبد السلام العجيلى، وأنور قصيبانى :ألوان الحب الثلاثة – دار العودة – بيروت 1973.
[32] - أمين يوسف غراب : سنوات الحب – الشركة العربية للطباعة والنشر – القاهرة 1962.
[33] - محمد بن التهامي: ضحايا حب - مطبعة فضالة - المحمدية 1973.
[34] - نجيب محفوظ : عصر الحب – مكتبة مصر – القاهرة 1980.
[35] - يوسف إدريس : قصة حب – روز اليوسف - القاهرة 1956.
[36] - شريف حتاتة : قصة حب عصرية – دار الآداب – بيروت 1982.
[37] - عبد الرحمن منيف : قصة حب مجوسية – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1974.
[38] - عصام دراز : قصة حب من يونيو 1967- مكتبة روز اليوسف – القاهرة 1977.
[39] - نجيب محفوظ : الحب تحت المطر – مطبوعات مكتبة مصر – القاهرة – ص 5 .
[40] - السابق نفسه .
[41] - ريم بسيونى : بائع الفستق – مكتبة مدبولى – القاهرة 2007، ص 9.
[42] - رجاء بكرية : امرأة الرسالة – دار الآداب – بيروت 2007، ص 9.
[43] - بثينة العيسى : عروس المطر – المؤسـسة العربية للدراسات والنشر– بيروت 2006، ص 5.
[44] - رجاء بكرية : امرأة الرسالة ، ص 3.
[45] : صبحى فحماوى : حرمتان ومحرم – دار الهلال – القاهرة 2007، ص3.
[46] - رجاء عبد الله الصانع : بنات الرياض ، دار الساقى – بيروت ، ط2، 2006، ص 5.
[47] - خيرى عبد الجواد : العاشـق والمعشوق – مركز الحضارة العربية – القاهرة 1998، ص 5.
[48] - فهد العتيق : كائن مؤجل - المؤسـسة العربية للدراسات والنشر– بيروت 2004، ص 5.
[49] - هالة كوثرانى : الأسبوع الأخير – دار الساقى – بيروت 2006، ص 5 .
[50] - محمد حسن علوان : سقف الكفاية – دار الفارابى – بيروت 2004 ص 6.
[51] - جبرا إبراهيم جبرا : الغرف الأخرى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1988، ص 5 .
[52] - جان برتليمى : بحث فى علم الجمال – ترجمة : د. أنور عبد العزيز – دار نهضة مصر – القاهرة 1970ص 464
[53] - مازالت البدايات الأولى للرواية العربية مختلف عليها تاريخيا وفنيا ، ولم يعد من المنطقى أن تدعى دراسة لنفسها أنها وقعت على الرواية الأولى وإن حاولت إثبات الجانب الفنى المختلف عليه أيضا ، وكل جهد علمى جديد يزحزح البداية عددا من السنوات ، وربما كان على الباحثين التخلص من فكرة محاولة إثبات سبق قطر عربى على آخر وهو تخلص لصالح الموضوعية ، ومرونة الدراسة ، شريطة تجنب الباحثين إصدار الأحكام القاطعة فيما يخص الرواية الأولى .
[54] - أحمد شوقى : عذراء الهند – مطبعة الأهرام – القاهرة 1897. ، صدرت طبعة حديثة من الرواية بمقدمة للدكتور أحمد إبراهيم الهوارى – دار عين – القاهرة 2006.
[55] - عبد الحميد خضر البوقرقاصى : القصاص حياة – مطبعة النجاح 1904.
[56] - محمود خيرت : الفتى الريفى الفتاة الريفية – سلسلة مسامرات الجيب – القاهرة 1905.
[57] - محمود طاهر حقى : عذراء دنشواى – المكتبة العربية- القاهرة 1906.
[58] - عفيفة كرم : فاطمة البدوية – مطبعة جريدة الهدى اليومية – نيويورك 1906. ، وبديعة وفؤاد طبعت فى العام نفسه ، وقد صدرت مؤخرا فى طبعة حديثة بمقدمة للناقد المغربى الدكتور سعيد يقطين – منشورات الزمن – الدار البيضاء .
[59] - ولدت في بلدة عمشيت (لبنان) في 22 تموز 1883 بدأت تعليمها فى الثالثة من عمرها بإحدى المدارس الخاصة ، حتى استكملت تعليمها الابتدائى انتقلت إلى مدرسة راهبات العائلة المقدسة في مدينة جبيل فلم يطل مكثها في هذه المدرسة اكثر من تسعة اشهر حيث تركتها رغما عنها لظروف خطبتها 1897. وهاجرت فى العام نفسه إلى أمريكا حيث مالت هناك للكتابة (1899 ) مالت إلى الكتابة وساعدها صاحب جريدة الهدى على القراءة والإطلاع حتى نضجت موهبتها وكانت واحدة من أوائل الكاتبات العربيات .
أصدرت مجلة "العالم الجديد" النسائية مدة سنتين ولها روايات "بديعة و فؤاد" و"فاطمة البدوية" و "غادة عمشيت" ، وترجمت إلى العربية روايات: "ملكة اليوم" و "نانستي ستاير" و "محمد علي" و"ابنة نائب الملك".
[60] - من مقدمة الرواية فى طبعتها الحديثة .
[61] - عفيفة كرم : فاطمة البدوية ص 62.
[62] - فاطمة البدوية ، ص 110.
[63] - فاطمة البدوية ، ص 238، والبيت من بحر البسيط للوأواء الدمشقى(محمد بن أحمد العناني الدمشقي أبو الفرج) .
[64] - فاطمة البدوية ، ص 116.
[65] - عبد الحميد جودة السحار : السينما والأزهر – مجلة الرسالة الجديدة – العدد الثانى – مايو 1954، ص 46.
[66] - علاء الأسوانى : عمارة يعقوبيان – ميريت للنشر والمعلومات – القاهرة 2002.
[67] - د. محمد حسن عبد الله : الحب فى التراث العربى ، ص 82.
[68] - على حرب : الحب والفناء ، تأملات فى المرأة والعشق والوجود – دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت 1990، ص 24.
[69] - السابق ص 19.
[70] - آثرنا انتقاء ثنائيات تجمع بين روايات قديمة ، وأخرى جديدة ، وروايات لكتاب فى قمة القائمة الروائية العربية ، وكتاب فى طريق التحقق ، تدليلا على استمرار النموذج الثنائى، وهى ثنائيات مرتبة ترتيبا هجائيا لا دخل للقيمة الفنية أو التحقق فى ترتيبها .
[71] - مصطفى أمين : صاحب الجلالة الحب – دار الجيل – بيروت 1991، ص 634 .
[72] - بنات الرياض ، ص 102.
[73] - فتحى غانم : قليل من الحب كثير من العنف – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1996، ص 7.
[74] - محمود الوروارى : حالة سقوط – وعد للنشر والتوزيع – القاهرة 2007، ص 9.
[75] - بائع الفستق ص 9.
[76] - جون كاروز : فى الرواية الأخلاقية – ترجمة : ايشو إلياس يوسف – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1986، ص 87.
[77] - نجيب محفوظ : عصر الحب – ص 9.
[78] - عصر الحب – ص 178.
[79] - فاطمة البدوية ص 238.
[80] - نجيب محفوظ : الحب تحت المطر – مكتبة مصر – القاهرة ، ص 122.
[81] - السابق ص 128.
[82] - السابق ص 143.
[83] - محمود الوروارى : حالة سقوط ص 66.
[84] - بنات الرياض ، ص 227.
[85] - راجع : د. مصطفى الضبع : استراتيجية المكان ، دراسة فى جماليات المكان فى السرد العربى – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 1998، ص 206 وما بعدها .
[86] - كان صلاح عبد الصبور على وعى بهذا التغير عندما قال :
الحب يارفيقتى قد كان فى أول الزمان
يخضع للترتيب والحسبان
(نظرة،فابتسامه فسلام ،فكلام،فموعد،فلقاء)
اليوم..ياعجائب الزمان قد يلتقى فى الحب عاشقان
من قبل أن يبتسما.
................................
..........................
الحب في هذا الزمان يارفيقتي ......
كالحزن . لا يعيش إلا لحظة البكاء
أو لحظة الشبق
الحب بالفطانة اختنق
انشغل به الفلاسفة فقدموا عصارة قرائحهم ، وطرحوا من خلاله تفسيراتهم للإنسان ، وطرحوا من خلال الإنسان صنوفه وأنواعه ، عرفوه وما عرفوا ، فسروه وما فسروا :" الحب أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالها عن الوصف فلا تدرك حقيقته إلا بالمعاناة. وهو ليس بمنكر في الديانة ولا محظور في الشريعة إذ القلوب بيد الله عز وجل .... وأما ماهيته فهو: اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في الخليقة في أصل عناصرها."( [2])
وتغنى به وله الشعراء فأبدعوا أفضل ما تردده البشرية من روائع الشعر ، واستمد منه الرواة حكاياتهم وملاحمهم ، وصوروه فارسا قادرا على خوض كل معارك الحياة منتصرا على كل ما عداه .
وفيما بين الشاعر والسارد تداولت الأقلام الحب تعبيرا وتصويرا ، وتبادلت القرائح الأدوار فالشاعر يسرد أحداث الحب ووقائعه ، والسارد يجعل من أبطاله فرسانا بفعل الحب وشعراء حين يمسهم بروحه.
وفى ثقافتنا العربية تبوأ جنسان أدبيان مقدمة الفنون فى التعبير عن الحب ، نعنى : الشعر والسرد على ما بينهما من اتفاق واختلاف فالشاعر يعبر عن تجربته التى تعبر عن نفسها من خلال صوت الشاعر ، فيما يقدم السارد تجارب الآخرين ، أو هو يقارب تجارب الآخرين للدرجة التى يجعلهم يشعرون أنه يعبر عنهم بطريقته الخاصة ، الشاعر يمنح الآخرين تجربته ، والسارد يمنح الآخرين تجاربهم.
والسرد : شفاهيا أو مكتوبا ، شعبيا أو رسميا ، تراثيا أو معاصرا ارتبط بالإنسان ، واستثمر طاقات الحب لا ليجعله معينا يستمد منه بقدر ما جعله شخصية لها فاعليتها فى إنتاج النص أولا ، والدلالة ثانيا.
وقد عرفت الثقافة العربية أشكالا لا تحصى من قصص الحب ، وتعددت مصادر دراسته، وتفسيره وسرد حكاياته فى التراث العربى، واشتهر منها على سبيل المثال لا الحصر :
كتاب الزهرة ، لابن داود الظاهرى .
طوق الحمامة فى الألفة والألاف لابن حزم الأندلسى .
مصارع العشاق لابن الحسين السراج .
الموشى أو الظرف والظرفاء لأبى الطيب محمد بن اسحق الوشاء .
تزيين الأشواق بذكر أشواق العشاق لداود الأنطاكى .
أخبار النساء لابن القيم ( [3] ).
ومع تطور السرد العربى واتساع فضائه واستحداث أنواع أخرى انضافت إلى سياقه بظهور الرواية بوصفها ابنة المجتمع الحديث ، وربيبة الثقافة المعاصرة لم ينفصل السرد عن الحب بوصفه " ظاهرة كونية، وحقيقة علمية، وغريزة أساسية مثل الخوف والغضب والفرح" ( [4] ).
وفى رحلة صعودها إلى المجتمع الإنسانى ومقاربتها دواخله وظواهره اعتمدت الرواية الحب وأفردت له مساحات تحرك فيها زمنيا من كونه تيمة روائية وموضوعة سردية إلى كونه تقنية تلعب دورها فى إنتاج النص وجمالياته والكشف عن طبيعة النفس الإنسانية التى أولتها الرواية عناية خاصة .
غير أن ملاحظة جديرة بالاهتمام يمكن رصدها فى سياق المقارنة بين السارد القديم ونظيره الحديث ، فإن الأول قد اعتمد على المرويات الشعبية ، والحكايات المتداولة مما جعل المتلقى يشعر أنه يقترب من شخصيات كان لها حضورها السابق فى مكان ما ، وجعله يعتمد هذه الحكايات بوصفها نقلا لأحداث حقيقية ، وقد غذى السارد الضمنى هذا الشعور لديه ، وهو ما أدى إلى ظهور أسماء بعينها اكتسبت معنى القداسة السردية حيث نسج الخيال العربى حولها عشرات الحكايات ونسب لها الحكاؤون الكثير من المواقف والأحداث إذ تحولت هذه الشخصيات إلى نموذج إنسانى للسرد تنميه روافد من الحكايات ، كما نجد عند مجنون ليلى ، وجميل بثينة ، وعنترة بن شداد وغيرهم ممن تغنوا بالعشق ، وتغنى الناس بأشعارهم الكاشفة لمكنونات قلوبهم ، ودارت حولهم الحكايات بوصفهم عشاقا وليسوا مجرد بشر مروا على المخيلة الشعبية ونجحت سيطرة الحكائين فى تقديمهم فى صورة الشخصيات الأسطورية المغايرة لما يعرفه الناس من أنواع البشر( [5] ) .
فى المقابل لم يعتمد السارد الحديث المنظور نفسه وإنما خلق نماذجه الإنسانية التى قد تلتقى مع نماذج يمكن للمتلقى أن يعاينها فى حياته ، حيث يراهن المتلقى على واقعية الحدث وإمكانية حدوثه لا على واقعية الأشخاص وكونهم مروا يوما على الحياة ، كما ساهم علم النفس فى إخراج الحب إلى دلالات أخرى عملت على توسيع مفهومه ، وتعديد صوره المغايرة التى تنضاف إلى صور سابقة رسخها التراث العربى ، ولم يعد الحب مجرد صورة للعلاقة العاطفية بين اثنين مختلفى الجنس ، وإنما خرج المفهوم إلى صور ربما تبتعد عن هذا بكثير ، يقول الدكتور محمود الربيعى :" خلال رحلة حياتى الطويلة توحدت روحى القلقة أنا مع الصوفيين ، وأنا مع العذريين وأنا مع الرومانسيين ، وأصبحت فى غضون ذلك كله عاشقا لفن الكلمة ، والإبداع الشعرى ، وفتننى الفناء فى الآخر ، والتضحية من أجل الغير ، وحب الطبيعة ، وقلت مع القائل " الحياة الحب والحب الحياة " – ولكننى وأظننى فى هذا كغيرى – لم أقع على صيغة مرضية لذلك المجهول المراوغ الذى هو الحب ، وذلك لأنى رأيته فى تاريخه الطويل يحاط بستائر كثيفة من المنفعة والنفاق ، وقد انتهى بى الأمر إلى أن أقرب صيغة أرتضيها لنفسى فى معنى الحب أن أجعله مرادفا لمعنى " تجويد العمل "( [6] ).
بداية لابد من الإشارة إلى أن طبيعة الدراسة من هذا النوع ملتزمة بطابع الانتقاء بعد المسح والفحص ، فالحب وإن كان تيمة استأثرت بمساحات روائية كاملة ، فإن القاعدة الأساسية أنه لا تخلو رواية من الحب ، فمادامت الرواية مشغولة بالحياة الإنسانية فإن الحب وغيره من مكونات الحياة الإنسانية سيكون حاضرا فى كل حين ، وسيكون غيابه دليلا عليه وحضوره علامة على فاعليته .
ومن هنا فإن الباحث أو الناقد ( [7] ) فى مقاربتهما للحب عبر السرد يكونان على يقين من أن المساحة أكبر من أن يحاط بها وأن أية محاولة هى قراءة فى مساحة محددة تكون بمثابة استخلاص ذرة ملح من المحيط .
الحب / العتبة .
قد تتعامل الرواية مع تيمة الحب تصويرا موحيا ومعبرا دون أن تطرح المفردة صراحة وهو ما يتجلى فى كثير من الروايات التى قد تتحول كلها إلى حالة من الحب دون أن تذكر اللفظة ذاتها ، ولكن للعنوان رأيا مغايرا حيث تطرح المفردة نفسها مقدمة الإعلان الأول عن مضمون السرد ، والعنوان فى هذا السياق يأخذ عددا من الوضعيات ذات الدلالة ،منها :
أولا : لفظا معرفا مفردا :
الحب : عباس حلمى محمد ( [8] ) .
الحب : محمد جلال ( [9] ) .
ثانيا : معرفة موصوفة : تحيل باستخدام أل العهدية إلى ثمة تعاهد بين السارد والمتلقى ، وتكاد هذه الصيغة تكون الأكثر تكرارا فى هذا الجانب ، ومنها :
الحب الأخير- محمد كامل حسن ( [10] ) .
الحب الأول – إبراهيم عبد الحليم ( [11] ).
الحب الجارف – محمد سليمان موسى ( [12] ).
الحب الحلال – إلياس نقولا ضاهر ( [13] ).
الحب الصادق – عبد المسيح الأنطاكى ([14] ) .
الحب الضائع – طه حسين ( [15] ) .
الحب الطاهر - إسماعيل عبد المنعم ( [16] ).
الحب الطاهر – محمد أحمد رضوان ( [17] ) .
الحب الكبير – حسن ناصر المجرشى ( [18] ) .
الحب المحرم – وداد سكاكينى ( [19] ) .
ثالثا : معرفة مفردة مقترنة بمكان أو زمان :
الحب تحت الأشجار – إسماعيل ولى الدين ( [20]) .
الحب تحت المطر – نجيب محفوظ ( [21] ).
الحب على الصليب – فؤاد القصاص ([22] ) .
الحب فى أرض الشوك – محمد كمال محمد ( [23] ) .
الحب فى أرض القمر – مصطفى وشاحى ( [24] ) .
الحب فى زمن النفط – نوال السعداوى ( [25] ) .
الحب فى المنفى – بهاء طاهر ( [26] ) .
الحب قبل الخبز أحيانا – سلمى شلاش ( [27] ).
والصيغة تتكرر مع التنكير :
حب فوق الصفيح – طلوع المصطفى ( [28] ).
حب فى السعودية – إبراهيم بادى ( [29] )
حب فى كوبنهاجن – محمد جلال ( [30] ).
رابعا : الحب مضافا إليه :
ألوان الحب الثلاثة لعبد السلام العجيلى وأنور قصيبانى ( [31] ) .
سنوات الحب لأمين يوسف غراب ( [32] ) .
ضحايا حب – محمد بن التهامى ( [33] ) .
عصر الحب – نجيب محفوظ ( [34] ) .
قصة حب – يوسف إدريس ( [35]).
قصة حب عصرية – شريف حتاتة ([36] ).
قصة حب مجوسية – عبد الرحمن منيف ( [37] ) .
قصة حب من يونيو 1967 – عصام دراز ( [38] ) .
العتبة / الاستهلال .
تفضى العتبة بوصفها مبتدأ إلى النص بوصفه خبرا ، فإذا كانت القاعدة ألا رواية دونما حب ، وأن الرواية بقدر ارتباطها بالحياة تعمد إلى تضفير مجموعة من التيمات التى يكون الحب أحد أهم مكوناتها الأساسية والعتبات فى هذا السياق تنقسم إلى نوعين أساسيين :
النوع المباشر : أو الذى يحمل قدرا ما من المباشرة وهو ذلك النوع الذى رصدناه سابقا ، من خلال تجلى مفردة الحب وظهورها فى العتبة النصية ( العنوان ) ، وفيها تصبح عملية السرد محاولة للإحاطة بالحب ورصد مجاله المسيطر على مقتضيات السرد بأكمله ، فى رواية " الحب تحت المطر " ينشغل النص بطرح الحب كما تعيشه الشخصيات ويكاد الحب يكون مساحة موزعة على النص كله محدثا نوعا من أنواع التناغم الذى يتجلى منذ الاستهلال السردى ، حيث يرسم الروائى مشهدا متحركا يبدو صاخبا للوهلة الأولى : " تيار من الخلق لا ينقطع . يتلاطم فى جميع الاتجاهات . تند عنه أصوات من شتى الطبقات . ويشكل فى جملته خليطا من ألوان الطيف " ( [39] ) ، وفى قلب هذا الصخب يتجلى الحب فى قلب المشهد وقد اقتربت الكاميرا من طرفيه فى هدوء :" سارا جنبا إلى جنب صامتين . هى فى فستان بنى قصير وشعرها الأسود يتهدل حول الرأس وفوق الجبين ، وهو بقميصه الأزرق وبنطلونه الرمادى وشعره المرسل إلى اليمين ، فى عينيها نظرة عسلية مستطلعة ، وفى عينيه جحوظ خفيف ولكنه يوائم تماما أنفه الحاد المستقيم وبقدر ما استسلمت للمشى كان هو يتحين الفرص . قال :
الزحام لا يطاق .
فتمتمت باسمة :
ولكنه مسل للغاية .
واعتبر ردها مناورة لطيفة ليس إلا . بل استجابة لرغبته القلبية " ( [40] ) ، للوهلة الأولى يبدو التناقض قائما بين خلفية الشارع ومشهد الحبيبين ، ولكن ثمة مساحات من الالتقاء تتأسس على : الألوان الموصوفة والداخلة فى ألوان الطيف ، حركة المشى المنتظمة ، التناسق القائم فى التواؤم بين أجزاء جسم مرزوق ، ثم رؤيتها للزحام مسليا رغم تعليقه ، إن الحب الذى يجعلها ترى النظام فى قلب الفوضى .
النوع غير المباشر: وهو النوع الذى لا يفصح فيه العنوان عن الحب كما فى الصورة السابقة ، وإنما يتجلى دون سابق إعلان سابق تطرحه العتبة الأولى ، وفيه يمتد المجال السردى للكشف عنه بعد التعمق قليلا فى السرد ، وهو يأخذ وضعيتين :
الأولى : عبر التصريح كما فى استهلال بائع الفستق :" كيف تقع المرأة فى الحب ؟
عندما ترى الرجل من زاوية مختلفة " ( [41] )
بعدها تعتمد الرواية فكرة الحب ظاهريا وهو ما يمكن التعويل عليه تماما فى التوقف عند التيمات الأساسية فى الرواية ، فالحب يقوم بدور الرابط ذى الطبيعة الإنسانية والفنية ، فعلى الجانب الإنسانى كان للحب الدور الفاعل فى تشكيل وعى وفاء ومن ثم منحها القدرة على قيامها بدور الراوية للدرجة التى يمكن القول معها لولا الحب ما كانت الرواية ، فلقد تأسس النص على وعى وفاء الذى لم يكن ليتشكل لو لم ترتبط بحب أشرف بوصفه مفجر الوعى لديها ، ومن ثم كان النص نفسه نتيجة منطقية لهذا الارتباط، وكان بث رسالة النص و الكشف عن الشخصيات وتشكيل وعى المتلقى عبرها نتيجة لهذا الوعى الجديد الذى ارتكز على منطقية الحدث ، حدث التوافق والتواصل الروحى بين الرجل والمرأة بوصفهما عنصرى الحياة ونواة تشكيل العالم مهما اختلفت الرؤى ، وهو ما يصب فى تأكيد فكرة الرحلة الوجودية التى يعيشها أشرف ووفاء وغيرهما من الشخصيات التى شكلت بعناية لتقديم أدوار تبدأ من نطاق الفن وتنتهى عند إطار الواقع الذى قد يردها المتلقى إليه ليؤكد واقعيتها أو ليجد لها مساحة دالة فى الواقع المعيش أو اللحظة التاريخية الراهنة سعيا لمحاولة تفسير واقعه أو تشكيل وعيه بغية رؤية أعمق لعالمه .
الثانية : عبر الإيحاء كما فى " امرأة الرسالة " :" فك أزرار المغلف بأصابع راعشة . شوقا أو رعبا لا يعرف ، لكنه تأكد أنه سمع ضربات قلبه تقفز فوق السطر . عثر عليه ممحوا بأحمر شفاه أزرق ، ثم صفعته موجة انبعثت من وهج رائحة حريفة لامرأة بخمر قرنفلة ، تشبه ما فكر أن يكتبه ولم يجرؤ. تعبأه الصوت ، ثم لم يسمع غير أنفاس نهمة لقبلة تلاحق شفاه " ( [42] ).
ولا يكتفى الحب بالإعلان عن نفسه مبكرا عبر العتبة الأولى ، وإنما يمكن للباحث أن يقف على عنصرين واضحين :
الإهداء بوصفه رابطا نصيا واصلا – بحكم موقعه - بين العتبة الأولى والنص ، ورغم كونه منفصلا (لإحالته لخارج النص بحكم تقديمه لشخصيات خارج السرد ، هى من قبيل المسرود له ) ، متصلا ( بحكم تصدره لنص يمثل الهدية الافتراضية ) فإنه فى معظم الأحيان يعمد إلى إشارة جوهرية على الحب الذى يمثل دافعا لتقديمه (الإهداء ) فى الأساس ، والإهداء يطرح أنواعا مختلفة من العلاقات ذات الطابع العاطفى تجمع بين الأهل والأصدقاء والوطن وأبنائه ، والمكان ، والقيم أحيانا ، والحب يتجلى عبر طريقتين : تصريحا به :" لأنك تجيئين قبل البدء وقبل الكل وقبل القلب وقبل القبل ، أحبك أمى " ( [43] )، " إليك ثم إليك ثم إليك ، هل علقت قبلى امراة بدن شوقها جسرا لعبور العشق . أحبك .. هل سمعتها دافئة النبض هكذا لغوص نقطة فى سطر ؟ إلى عكا و إليك" ( [44] )، أو إيحاء : " إلى أطفال غزة ......." ( [45] ) ، " إلى عينى الاثنتين ... أمى ... وأختى رشأ وجميع صديقاتى ، بنت الرياض "( [46] ) ، " إلى فاتن " ( [47] )، " إلى ابنتى غادة ... وإلى ابنى بدر ...، وإلى برارى نجد العظيمة . محاولة للاقتراب من الكائن المؤجل فينا جميعا ( [48] )، " إلى باسل هنا وهناك " ( [49] ).
الاستهلال السردى بوصفه المعزوفة الأولى للسارد ، والخطوات الأولى للمتلقى فى عالم غير عالمه ، عالم رحلة النص بوصفه استثناء للواقع الذى يعيشه ، والاستهلال بهذه الوضعية يأخذ شكل العنصر التشويقى أولا ، والكاشف المبكر على تحقق الحب فى السياق الروائى ، فإذا كان العنوان صيغة تفرض على النص بدرجة ما تحقيق ما يشير إليه مضمون العنوان فإن الاستهلال يمثل الخيوط الأولى الملزمة التى تبتعد كل الابتعاد عن المجانية :" لم تكونى أنت امرأة عادية حتى يكون حبى لك عاديا ، كنت طوفانا يجرف أمامه أشجار القلق وجلاميد الترقب والتروى ، كنت قادمة كوجه الفجر الذى يسقط رهبانية الليل الطويلة ، كنت نازلة على جبين الكوكب المهجور ، وبين يديك ماء ، وحياة ، ومخلوقات ، ودورة شمسية جديدة .
كنت حبيبتى ، ذلك الإتيان الأنثوى العاصف الذى لا يمنح الأشياء تفسيراتها ، بينما يكون اتجاهات جديدة على خريطة الحياة ، يخلق أمما وحضارات ، يغير تواريخ الميلاد وعادات الليل ، والأحلام المعلقة على جدار النهار ، وقوانين الصمت والكلام ، والنظام الأزلى لنبضات القلب " ( [50] ).
وفى "الغرف الأخرى " يعمد الاستهلال إلى العودة للصيغة الشفاهية فى الحكى :" تروى إحدى الحكايات القديمة أن اميرا أحب امرأة من عامة الناس وتزوجها ، ولشدة هيامه بها ، خصص لها قصرا قديما كان قد ورثه عن أبيه ....." ( [51] ) .
السرد
يكاد الحب يكون قاسما مشتركا بين أشكال السرد الروائى ، قديمه وحديثه ، ويمكن للباحث حين يفحص الرواية العربية من هذا المنظور أن يكتشف مرحلتين أساسيتين :
مرحلة الرواية الكلاسيكية و الرومانسية ، وفيها يأخذ الحب وضعية التيمة المقصودة لذاتها .
مرحلة الرواية الواقعية ، وفيها يأخذ الحب وضعية التيمة المقصودة لغيرها، حيث يأتى مشتبكا مع قضايا السرد بشكل عام .
تتسم المرحلة الأولى بسمتين أساسيتين :
ارتباط الكتابة بتجربة ذاتية فى كثير من الأحيان ، وهو ما يؤكده وايلد :" أن كل مؤلف لابد وأن يرسم صورته هو . ينطبق هذا القول على الكلاسيكيين وأنصار الفن للفن – والرومانتيكيين على السواء " ( [52] ).
كون الكتابة عن الحب مقصودة لذاتها توظيفا للحب فى خدمة القيم الإنسانية الأخرى الأقرب إلى الوعظ والإعلاء من شأن الجوانب الإنسانية فى حياة الإنسان .
وهما مرحلتان ينتقل فيهما الحب من كونه موضوعا أو تيمة سردية إلى كونه تقنية تلعب دورها فى سياق نص روائى يدرك تماما علاقات الحب المشتبكة بالمواضعات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، تلك المواضعات التى قد تكون معوقات للحب ، كما قد يكون للحب دوره فى إنمائها والعناية بها وإبرازها فى العالم الروائى .
فى المرحلة الأولى يمكن التمثيل بالكثير من الأعمال المؤكدة لهذا الجانب ، ومنها : أعمل الرواية التاريخية ، وأعمال خليل أفندى الخورى ، وعفيفة كرم ، و محمد حسين هيكل ، و محمد عبد الحليم عبد الله ، ، وإبراهيم عبد القادر المازنى ، وطه حسين ، وغيرهم ممن يشكلون قائمة ممتدة فى سياق الرواية العربية وخاصة فى الأعمال الروائية الأولى التى تمثل القاعدة المؤسسة للرواية العربية ، والتى تؤسس لقاعدة لها أهميتها تشير إلى اهتمام معظم هذه الأعمال – إن لم يكن كلها – بالحكى العاطفى وهو ما يشكل امتدادا للسير الشعبية والحكايات العربية القديمة التى يزدحم بها التراث العربى .
ويمكن رصد إشارات لها دلالتها فيما يعتد به بوصفه بدايات مختلف عليها فى الرواية العربية ( [53] ) فهناك " عذراء الهند" لأحمد شوقى ([54] )، و " القصاص حياة " لعبد الحميد خضر البوقرقاصى ( [55] ) و" الفتاة الريفية " لمحمود خيرت( [56] ) ، و " عذراء دنشواى " لمحمود طاهر حقى ( [57] )، و" فاطمة البدوية "و " بديعة وفؤاد " لعفيفة كرم ( [58] ) .
تمثل روايتا عفيفة كرم تجربة تتسم بالجرأة فى سياقها التاريخى ولكونها تنتمى إلى امرأة فى وقت لم تكن المرأة العربية بقادرة على أن يكون لها صوتها المعبر عن رأى له أثره ، وربما كان لظروف حياة الكاتبة الدور المؤثر فى تشكيل وجدانها وشخصيتها ( [59] )، وتكاد الروايتان تتشابهان فى مقاومة بطلتيهما للتقاليد البالية التى تحد من قدرة الإنسان على أن يعيش حياته حسب إرادته .
تمثل بديعة بطلة الرواية الأولى نموذج المرأة حين تحاول التمسك بقيم مجتمعها المعتدلة ومحاولتها ألا تفقد هويتها بوصفها إنسانا محافظا على وطنيته ، محتمية بثقافة واسعة وجرأة تساعدها على اتخاذ القرار وإبداء الرأى والتمتع بإعمال العقل مما يجعلها نموذجا إنسانيا صالحا لمجتمع يتطلع إلى مستقبل مستنير يتخلص من أدران الماضى وجهالاته ، متطلعة إلى الغرب الأمريكى ممتدحة قيمه الجديدة ، و يرى الدكتور يقطين :" أن هذه الرواية بنيت على قصة حب يرفضها المجتمع ممثلاً في الأم حامية التقاليد الزواج من خادمة، لكن هذا الحافز السردي لم يكن سوى إطار للتعرض للعادات والتصورات الاجتماعية السائدة، وانتقاد مختلف أنماط السلوك المهيمنة. وكان اختيار القيم المختلفة والمتصارعة والتي تمثلها شخصيات مختلفة الثقافة والتكوين والإدراك وتباين المجتمع العربي في سوريا أو في المهجر الأميركي، إطاراً ثانياً تتبدى معه التفاوتات بين المجتمعين وكيفية التصرف فيهما من لدن تلك الشخصيات" ( [60] ).
بديعة فتاة خادمة عند أسرة راقية ، تمنحها أخلاقها مكانة مميزة لدى مخدوميها ، يقع فؤاد ابن الأسرة فى غرامها وتبادله شعوره لكن الأم ترفض زواجه من الخادمة وتدبر مؤامرة مع ابن أختها لطرد بديعة التى تقرر الهجرة إلى أمريكا باحثة عن عمل ومحاولة السلوان ، وتدبر الأمر مع صديقتها لوسيان وفى الباخرة تتعرف على جميلة التى تشكل ضلعا ثالثا للاثنتين ، وفى أمريكا يستقر بهن المطاف ، ويقرر فؤاد الهجرة ليس بحثا عن حبيبته وإنما للتأكد من خيانتها بديعة بفعل إيهام أمه له بذلك ، وهناك تستمر المؤامرة التى تغرق فؤاد فى حياة اللهو التى تفضى به إلى فراش المرض.
بعدها يصل لبديعة خبر أن امها مازالت على قيد الحياة بعد أن أوهموها أنها يتيمة الأم ، تعود بديعة إلى الوطن لتلتقى أمها التى تحكي لها قصتها وكيف اضطرت إلى ترك ابنتها "بديعة" في دير نزولا عند رغبة والديها، لأنها تزوجت رجلا أجنبيا. تعوض الأم ابنتها عن أيام الفقر، تضع بين يديها ثروتها. وتكتمل الأحداث بعودة فؤاد واكتشافه الحقيقة وزواجه من بديعة من جديد وعاشا فى سعادة .
وفى الرواية الثانية يتأسس السرد على قصة الحب التقليدية أطرافها ثلاثة " فاطمة " ، و" حسن ربيب أسرتها الذى أحب فاطمة فلم تبادله الحب فمات كمدا " ، وسليم صابر الفارس الذى وقعت فاطمة فى غرامه وبادلها الغرام ودفعها للهروب معه إلى أمريكا ولكنه يهجرها ويعود إلى بلاده بعد أن أنجبت منه طفلا ، وبعد موت حسن تستمر قصة الحب بين العاشقين مروية على لسان فاطمة التى تقع فريسة الوحدة وظروف الغربة حتى تتلقفها سيدة أمريكا يتكشف السرد عن مرورها بتجربة حب مماثلة .
فى ثمانية وخمسين فصلا تتوالى قصة الحب على لسان فاطمة التى تتبادل السرد مع آليس هاريسون الأمريكية التى التقطتها من الطريق بعد إصابتها بالإغماء ، والساردة تعتمد النظرة العربية السائدة فى الثقافة التراثية عن الحب ، حيث يستهل كل فصل من الفصول ببيت من الشعر يعبر عن هذه الرؤية ، ويكشف عن ثقافة فاطمة : يتصدر الفصل الرابع عشر المعنون " صعود أول درجة من سلم الحب " بيت ابن الفارض من البحر الطويل :
وعِشْ خالياً فالحُبّ راحتُهُ عَناً وأَوّلُهُ سُقْمٌ وآخرُهُ قَتْلُ ( [61] )
والفصل الثالث والعشرون المعنون " ضحية صادقة على مذبح الحب الحقيقى " يتصدره قول الشاب الظريف من البحر البسيط:
رَأَى فَحبَّ فَرامَ الوَصْلَ فامْتَنَعُوا فَرامَ صَبْراً فأَعْيَا نَيْلُهُ فَقَضَى ( [62] ).
ولا يتوقف الجمع بين الشعر والسرد على تصدير الفصول ففاطمة عبر حكايتها لمضيفتها يجرى على لسانها الكثير من أبيات الشعر المنتقاة بعناية ، تقول تعليقا على كلام مضيفتها:" فرحم الله ملكنا الشاعر العاشق القائل:
هُمْ يَحْسُدُوني عَلَى مَوْتِي فَوا أَسَفِي حَتَّى عَلَى المَوْتِ لا أَخْلوُ مِنَ الحَسَدِ "( [63] ) .
والروايتان تعكسان رؤية اجتماعية تتأسس على وعى جديد يكشف عن عقلية المؤلفة ، ومن الملاحظ أن الحب كان وراء الأحداث الكبرى فى الروايتين ، فالفشل فى الحب الذى لم يصمد أمام فعل النظرة الطبقية الاجتماعية دفع بديعة للهجرة إلى أمريكا ، وحماية الحب ومحاولة حمايته كان دافعا وراء هجرة فاطمة هربا مع فارسها الذى لم تستطع قيم التنوير فى المجتمع الجديد أن تؤثر فيه ولم تصمد قيم التنوير هذه إزاء ميراثه الشرقى مما جعله يتخلى عن المرأة التى ضحت من أجله ليتركها فى غربتها عائدا إلى أسرته العربية ، ولم يكن شعوره بالمسؤولية الإنسانية أقوى من مفاهيمه المتوارثة .
وعلى خلفية قصة الحب الفاشلة لفاطمة نحن إزاء قصتين ترتبط الأولى بها مباشرة ، وترتبط الثانية بصورة غير مباشرة ، الأولى عربية خالصة تتمثل فى حب سحن ربيب والد فاطمة الذى يموت حبا فى مشهد تردد كثيرا فى التراث العربى ، العاشق المضحى بحبه ، المستسلم للقدر والموت متمنيا السعادة لمعشوقته :" فابتسم ابتسامة ملائكية على ما فيها من الرعب وقال :
كلا . كلا . لقد نفذ المقدور- لقد تمت التضحية – فيجب أن يموت حسن لتحيا فاطمة – هكذا تقضى إرادة الحب يافاطمة الحبيبة . – كونى سعيدة واحذرى ..
وكان هذا آخر كلام سمعته منه ثم شهق شهقة قوية خرجت بها روحه " ( [64] ) .
سرديا يلعب الحب دوره بوصفه شخصية لها فاعليتها فى السياق السردى بحيث تقترب من مناهضة الشخصيات الأخرى ويكون لها تأثيرها على كثير من شخوص النص ، إذ من الممكن تحميل كل المعانى على الحب بوصفه المحرك لإنتاج الدلالة السردية فى كثير من النصوص .
لقد ارتبطت الرواية الرومانسية بالحب من حيث هو مقصود لذاته ، ومن ثم ارتبطت الرواية بتيمة محددة ، تيمة الحب ، وهو ما كان له أثره على تلقى الرواية بشكل عام فى الثقافة العربية ، وما انعكس على تلقى السينما أيضا ، حيث رسخ فى الأذهان أن الرواية دائما ترتبط بتصوير العاطفة وهى السمة الغالبة على الرواية الرومانسية ، مما شكل إطارا عاما لعلاقة الجمهور بالرواية ( من حيث هى نص مقروء ، أو مرئى سينمائيا ، أو مسرحيا ) ، يقول عبد الحميد جودة السحار:" فقد لمست أن الرواية السينمائية الناجحة عندنا هى الرواية المغرقة فى العاطفية " ( [65] ) ، وربما كانت لهذه النظرة آثارها السلبية التى تلقى بظلالها على تلقى الرواية حديثا ، وهو ما كان مثار سخرية نزار قبانى فى قصيدته الشهيرة " إلى تلميذة " :
قصص الهوى قد أفسدتك .. فكلها
غيبوبة .. وخرافة .. وخيال
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الأبطال.
* * * * *
وفى المرحلة الثانية كان للحياة والحب أن يطورا علاقتهما بفعل طبيعة العصر وظروف الحياة الإنسانية ، حيث تتحول مشاهد الحب وحكاياته ، أو حكاية الحب فى الرواية التى لا يكون الحب فيها بطلا أو تكون حكاية الحب واحدة من حكايات النص ، يتحول الحب إلى واحة وسط فضاء النص ، كما نجد فى قصة الحب بين بثينة ، وطه فى " عمارة يعقوبيان " ( [66] ) حيث تزدحم الرواية بالكثير من التفاصيل المنافية للأخلاق والقيم حتى لتكاد تكون تسجيلا لوقائع اجتماعية بعينها قد يجد المتلقى نفسه مدفوعا للربط بينها وبين ما يعرفه فى الواقع ، وفى ظل ذلك كله تبقى قصة الحب شاهدا على براءة قتلها المجتمع ، كما تبقى دليلا مفتقدا على أن بثينة كانت تتمسك بجانب برئ فقدته حين لم تكتمل قصتها مع طه بخروج طه من المجتمع وتمرده على قوانينه.
لقد انشغلت الرواية العربية كثيرا بوصف قصص الحب والاستغراق فى ذكر ملامحها ، وطرح تفاصيلها ولكن يحسب لها أنها تجاوزت الكثير مما قدمته كتب التراث العربى ، تلك التى انشغلت كثيرا برسم صورتين للحب اعتمدتا على مصدرين أساسيين :" أولهما قصص الحب العذرى التى بولغ كثيرا فيما تنطوى عليه من ضروب الحرمان ، وتتخللها الإغماءات وحالات الاكتئاب وكثيرا ما تنتهى بالجنون والموت ........أما الصورة الثانية وهى الأكثر انتشارا بين العامة فمصدرها الأدب الشعبى والحكايات المتخيلة عن بعض العصور القديمة ، ...... وستلعب الملاذ الجنسية فى هذه الصورة دورا أساسيا وتمثل الرغبة فى المتعة الجنسية الدافع الأول للمغامرة ، والتعرض للأهوال وبذل المال " ( [67] ) .
لقد فرض الحب فى الاشتباك مع كثير من أمور الحياة ، ومع القيم الإنسانية جميعها ، وهو ما جعله يطرح نفسه متداخلا مع كل القضايا التى تداولتها الرواية العربية ، والرواية لا ترى الحب منفصلا وحده عن سائر قضايا إنسان العصر ، فالناس فى عصرنا يحبون وهو يعيشون ، ويمارسون الحب وهم يتخلصون من مشكلات الحياة اليومية ، وهو ما جعل إنسان العصر المأزوم يسعى للحب بوصفه انعتاقا مما يجابهه من أزمات .
سرديا تصب الدلالة فى رافد تشكيل وعى المتلقى بالحب ، الحب من حيث هو عنوان على الحياة ، أو هو كتاب يكتسب متلقيه قدرا أكبر من الإدراك ،والمعرفة بأمور تتعلق به ، إذ لا شيء ينبت هناك خارج دائرة يظللها الحب ، تلك الدائرة التى تمنح الإنسان المحب وعيا بذاته قبل – أو فى الوقت نفسه – وعيه بالآخر ، :" ذلك أن الرجل ، إذ يحب المرأة ، إنما يحب ذاته ، فلا فكاك لأحد عن هوى نفسه ، كما لا فكاك له عن الوعى بذاته ، والذات ، بما هى رغبة ، وشهوة ، وشهية " ( [68] ).
تشير قراءة الرواية إلى أشكال تبدو نمطية لقصص الحب ، يركز معظمها على الحب بين شخصيتين إنسانيتين ، وهى أنماط تكاد تتعدد بتعدد الحالات والحكايات الروائية ، ويمكن رصد عدد من الأنماط التى تكون بمثابة نماذج حصرها لا يعنى تحديدها إذ تتوازى صعوبة الإحاطة بها مع صعوبة الإحاطة بقضايا الرواية العربية ذاتها ، فالأمر فى النهاية يتوقف على عدد من النماذج الدالة التى تكون بمثابة عينة دماء تحلل للتدليل على طبيعة الجسم وما يعانيه ، ومن هذه الأنماط : الحب بين الرجل والمرأة – حب الأهل – حب المكان – حب القيمة – الحب المنحرف .
وترسخ الرواية النمط الأول الذى يأتى فى مقدمة هذه الأنماط جميعها ، الحب بين اثنين ( رجل وامرأة ) ممثلا ثنائية متجددة لآدم وحواء :" وكل امرأة شهية تشتهى كما اشتهى آدم حواء ، فتغوى الرجل الذى يهواها وتهوى به من جنة الفردوس ، عفوا تصعد به إلى جنة فردوسها " ( [69] ) ، ومنتجا ميلادا جديدا ومتجددا من شأنه بث حيوية تتطلبها حياة البشرية على الأرض ، وهى ثنائيات متعددة بتعدد الروايات نفسها :
أشرف ووفاء (بائع الفستق لريم بسيونى ) .
بدر و مريم ( ستر لرجاء عالم ).
جعفر الراوى ومروانة ( قلب الليل لنجيب محفوظ ) .
سعيد وسوزان ( أجملهن لعبد السلام العجيلى ) .
شوقى ولولى ، وآدم وآطاطة (حافة الليل لأمين ريان ).
على الدحال و منيرة الساهى ( القارورة ليوسف المحيميد).
محسن وزهوة ( حالة سقوط لمحمود الوروارى ) ..
ميشيل وفيصل (بنات الرياض لرجاء الصانع )
ناصر ومها ( سقف الكفاية لمحمد حسن علوان ) . ( [70] ).
وهى ثنائيات سردية لم تنل شهرة الثنائيات التى ارتفع بها الشعر العربى حد الشهرة ، فمن ارتفع بهم الشعر كانوا يحيلون إلى ذواتهم بوصفهم أناسا كان لهم حضورهم الواقعى وقد تجردوا من هذا الواقع ليصبحوا نماذج خيالية ، يتسع مجال دلالتهم ولكنه يستقر فى النهاية عند حدود عالمهم ، خلافا للنموذج السردى الذى يحيل إلى الواقع منطلقا من الخيال ليقدم مجموعة من الأشخاص الرامزين للعالم على اتساعه .
فالمحبوبان يريان العالم وفق منظورهما ويريان الأشياء ممررة عبر وعيهما ، ويمكن للحب أن يشكل وعى الإنسان كما أنه يوجه رؤيته للكون والوجود :
"الرجل والمرأة عندما يعملان جنبا إلى جنب فى قضية يؤمنان بها يشعران باندماج لذيد كالتصاق جسد عاشقين ، الكفاح المشترك فيه لذة لا تقل عن لذة الجنس .، فيه إثارة ونشوة ومتعة .
التصاق العقل بين المرأة والرجل هو خطوة أعلى من التصاق القلب والتصاق الجسد ، هو لذة حقيقية ، هو الجنة الثالثة ، إذا كان حب القلب هو الجنة الأولى ، وحب الجسد هو الجنة الثانية ..............." ( [71] ) .
الحب من حيث هو ظاهرة
والظاهرة هنا ليست وليدة العصر الراهن وإنما هى ظاهرة إنسانية تتردد فيها مقولات من شأنها تأكيد الظاهرة ، حيث المقولات القديمة الجديدة تجد صداها فى الحاضر ، ومن ثم فهى مقولات صالحة لإثارة الدهشة ، ولتجديد وعى المتلقى برسوخها فى الفكر الإنسانى ، هكذا يمكننا التوقف عند مقولات الحب المتكررة فى" بنات الرياض " والتى جاءت بوصفها بيانا يتزيا بالطابع الأيديولوجى الذى تغلب عليه روح الوعظ وتصبغه النزعة التعليمية : " عن ميشيل وفيصل أحدثكم الحب مشاعر قلبية لا سيطرة للإنسان عليها ، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، ولولا أن الحب من أغلى الأشياء ، لما ذهب كثير من زمن الأنبياء فيه ، وقد جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المفهوم بأن نار الحب إذا اشتعلت لا يطفئها إلا النكاح وذلك بقوله : (لم ير للمتحابين مثل النكاح) ابن ماجة : 1847، فالحب الذي يبقى مقيداً بلجام العفاف والتقوى لا حرج فيه ، وسبيله الوحيد النكاح، فإن لم يحصل كان الصبر مع مرارته هو الحل الوحيد . إننا نفرق بين الحب كممارسة وسلوك وبين الحب كمشاعر ، فالحلال منه إذا كان مجرد مشاعر ، أما إذا تحول الحب إلى سلوك كلمسة وقبلة وضمة ففي هذه الحالة يكون حكمه حراماً وينتج عنه سلبيات كثيرة لأنه من الصعب على المحب ضبط حبه ، ولكن ما هو الحب الذي نريده ، نريد الحب الذي يغير القلوب والنفوس . نريد الحب الذي يدفع بأصحابه للقيام بأعمال يسطرها لهم التاريخ كأحلى قصة بين متحابين . موقع جاسم المطوع الإلكتروني أصبحت تستهويني قراءة تعليقاتكم على القصة ، فبعد إيميلي الأخير وصلني ما يقارب مائة رسالة ! قرأتها جميعاً لأتأكد أننا شعب اتفق على ألا يتفق ، فمن متعاطف مع قمرة إلى محتقر لها ومن مؤيد لراشد إلى ناقم عليه . أؤكد لكم أنني استمتعت بقراءة كل رأي من آرائكم المتباينة حتى التي أختلف معها . سعيدة أنا بمتابعتكم رسائلي ، وسعيدة أكثر باختلافاتكم لأنها تشير إلى بداية تكوين بعضكم لفكر مستقل عن رأي الأغلبية ، رأي يتقنعون به ويؤمنون بمبادئه ويتمسكون به (أو هذا ما أتمناه) ! وهذه أروع الفوائد التي جنيتها معكم من إيميلاتي " ([72]).
كما أن المقطع السابق - الطويل نسبيا – يقدم مفهوما عصريا بعض الشيئ للحب فإنه يطرح مجموعة من وجهات النظر الاجتماعية حول الحب بوصفه شكلا من أشكال المؤسسة الاجتماعية الإنسانية .
الحب من حيث هو توقع
عندما يحل رجل وامرأة فى رواية فالمتلقى يتوقع قدرا من العواطف التى قد تروح تتشكل فى هدوء ، وقد قدمت الرواية العربية الجديدة نموذجا معبرا عن الحياة العصرية و عاكسا ثقافة العصر ، تجلى عبر رواية " يوميات اثنين مخطوبين " للروائية الشابة هبة سيد عبد العاطى ، التى أقامت نصها الطويل (316 صفحة ) وفق طريقة اليوميات المتبادلة بين سارة و عمر اللذين دخلا فى نطاق علاقة الخطوبة ، ويروح كل منهما يفضى بمشاعره تجاه الآخر وانطباعاته عن الخطوبة وأحداثها فى يوميات تنجح الكاتبة فى إحكامها لتبدو للمتلقى مكتوبة بواسطة الخطيبين ، ولكنها فى الحقيقة نتاج سارد يتابع حياة الشخصيتين والحب الذى يتشكل بينهما فى هدوء ظاهرى يخالف قليلا ذلك الباطن المؤجج بالعاطفة ، والرواية فى مجملها تطرح الحب أفقا متوقعا بين الاثنين ، ولكنها تعمد إلى تضفير هذا الحب مع كل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية متجاوزة اعتماد الحب مصدرا للحكايات إلى اعتماده آلية لتشكيل النص ذاته .
ولا يتوقف عمل الحب على حضوره وإنما تمتد فاعليته على غيابه ،وهو ما يطرحه فتحى غانم فى روايته :" قليل من الحب كثير من العنف " مؤكدا دلالة أن العصر لم يعد يحتمل الحب ، يقول فتحى غانم فى ختام تصديره للرواية :" وما حيلتى ، وما سوف أرويه يحذرنا من الحب ، ويقول لنا إن حياتنا لم تعد تحتمل الحب ، فهو أخطر على حياتنا من العنف ولذلك نحن نحيا فى عصرنا الحالى بـ " قليل من الحب وكثير من العنف " فإلى الذى يهمه أن يعرف المزيد ، ويجد فى نفسه الرغبة فى مشاركتى .. فى الوصول إلى هذه المعرفة . أقدم له تلك الأحداث بحذافيها . كما وقعت بلا زيادة أو نقصان " ( [73] ).
الشخصية.
الحب لا يسرد ولكن يسرد عنه وبه ، ويظل السارد طوال الوقت يردد ما يفعله الحب ، والسارد هنا يأخذ وضعية الراوية ، راوية الحب ، ذلك الراوية المتتبع للحب وأعماله ، وفعله فى القلوب ومن ثم فى البشر ، وتظل المقولات المترددة عن الحب هى من قبيل رؤية النص للحب ، تصويرا له أو لأثره فيه ( النص ) ، فالحب فى علاقته بالرواية يطرح منظورين أساسيين :
الرواية فى تصويرها للحب .
الحب فى تأثيره فى الرواية .
والمنظوران يعبران عن العلاقة الاحتضانية القائمة بين الحب والرواية والتى تجيب عن سؤالين أساسيين :
كيف صورت الرواية الحب ؟ وهل اختلف منظور الإنسان للحب فى الرواية عنه خارجها ؟ وإلى أى مدى تتطابق وجهات نظر الأشخاص فى الواقع مع الأشخاص فى النص ؟.
ما الذى أضافه الحب - من حيث هو موضوع ومن حيث هو شخصية فاعلة – إلى النص السردى ؟ ، وإلى أى مدى لم يكتف الحب بكونه موضوعا يكتب الروائى عنه ، وإنما تحول إلى تقنية تشير إلى أن الروائى يكتب بالحب ولا يكتب عنه ، وانه ليس موضوعا بقدر ما هو عنصر تقنى داخل فى تشكيل عناصر السرد جميعها ، فالحب يهيئ المجال للشخصيات الروائية للدخول إلى مجال الرواية إذ هى قبل الحب مثلها مثل آلاف الشخصيات التى قد لا تحمل من المؤهلات ما يجعلها صالحة للتقدم وفق المنظور الروائى .
والسارد وفق هذا السياق يعتمد على الإحاطة بالحب من حيث هو مجال حيوى يضم الشخصيات والفضاء والزمان واللغة ويمنح النص الجانب الأكثر تأثيرا من معجمه اللغوى ، ومن خطوطه السردية المتقاطعة .
والسارد قد لا يلتزم بدوره السارد المحايد فحسب وإنما لتخرج عن حيادها برواية ما يخصها هى من حيث هى شخصية مسها الحب ، وهو ما يحول النص إلى صيغة من البوح المؤكد بضمير المتكلم ، وحيث تتماهى اللغة من لغة التصوير الشعرى مكتسبة كثيرا من طاقات المجاز ، ومفسحة المجال للمونولوج لتفعيل قدراته ، هكذا يطرح السارد فى " حالة سقوط " مساحات بوحه :" مازلتَ تتساءل: لماذا في كل مرة تحمل فيها حقيبة سفرك وتغطس في زحام المطارات تنتابكَ تلك الأحاسيسُ الأولى التي عرفتها في أول رحلة هروب إلى من أحببت, حين طرتَ إلى عَمان لترى حبيبتك ولو لمرة واحدة، لتراها وأنت تعرف أنها في حضن رجل آخر وعلى سرير آخر، لتراها بعد أن لبست لقب مدام في وقت لم يكن مثلُ هذا اللقب على مقاسها، فجميع الألقاب في وقتها كانت بالنسبة لها إكس إكس لارج" ( [74] ).
وفى " بائع الفستق " تقوم وفاء بالدور نفسه ، وهى تطرح السؤال الأول الذى يكون بمثابة الصوت الأول فى النص :" كيف تقع المرأة فى الحب ؟.
ليشير الصوت إلى متكلم يبدو خارج النص ، يطرح نفسه عبر الاستهلال ليطرح عبر السؤال حدثا غير مؤطر بزمن أو مكان بصورة تقليدية ، والسؤال تنتهى فاعليته بالجواب ليكون السؤال مجرد مثير يفضى إلى ركيزة أساسية تتبقى بعد السؤال والجواب أعنى الرؤية من زاوية مختلفة صانعا قانونا يمكن تطبيقه على الكثير من مواضعات الحياة ويصبح معيارا لرؤية النص ذاته من حيث هو يخلق علاقة مع قارئه ، علاقة ليست بعيدة التشابه عن علاقة الذكر والأنثى تأسيسا على علاقة الحب (القائمة أو التى يؤسس النص لقيامها بين أشرف ووفاء ) مع تبديل طرفى المعادلة ليكون القارئ فى وضعية وفاء ويكون أشرف فى وضعية النص عندها يتبلور سؤال جوهرى : متى يقع المتلقى فى حب النص ؟ عندما يراه من زاوية مختلفة ، وهى زاوية لا تتأسس على اختلاف النظرة أو الزاوية بقدر ما تتأسس على امتلاك المنظور إليه عوامل الاختلاف فالرؤية لا تثبت للشيئ ما ليس فيه ولا تسبغ عليه إلا ما تكتشفه هى فيه فعلامات الاختلاف كائنة هناك .
لقد أسبغت الرؤية المختلفة على أشرف بعض سماتها ليظهر فى صورة تقترب من البطل التقليدى ذى السمات الأسطورية " كان طويلا .. نعم .. رأيت رجليه تكادان تمتدَّان إلى السماء. كان طويلاً وأسمر اللون، وجهه كان نحيفاً، وابتسامته كابتسامة إخناتون. تلك الابتسامة المُتعَبة الساخرة"( [75])
وأنثوية المتلقى تتيح من زاوية أخرى لوفاء أن تزرع فى خيال متلقيها ما لن يكون مستطاعا خارج عملية الالتقاء هذه فالمتلقى خارج هذا النص لا يكون مهيأ بدرجة ما لتقبل اختراق محدودية قدرات الراوى العليم بكل شيئ الذى يتجاوز ههنا قدراته المحدودة ليقص عن أشرف وهو فى بريطانيا وفى أمريكا ، صحيح إنه يعتمد أحيانا على مايرويه أشرف ذاته ولكنها تظل زاوية مختلفة تتجاوز الطرائق التقليدية فى الحكى ، إن مساحة من التأويل يمكنها حل المعضلة الفنية ، مساحة تكمن فى تلك العلاقة الروحية التى تعتمدها وفاء أو تلك التى تتوافر لها (بفعل الحب) والتى تتيح لها ان تعيش حيوات أشرف وأن ترتبط به أو تربط نفسها بسياقه ، أشرف هنا يعيش حياة الغرب المنفتحة ، والمتسمة بالشفافية مما يجعله رمزا لمجتمع يحقق الشفافية فى أكبر صورها فى مقابل حياة المجتمع الشرقى الذى لا يتمكن فيه الشخص من اكتشاف مساحة ما للشفافية مع الذات .
السارد فى الرواية مشدود لشخصياته لا من حيث هى مجرد دمى تتحرك بفعل حركات يديه وإنما من حيث هو عاشق لهذه الشخصيات ، تسرى فيه من روح الفنان فى انجذابه لشخصياته :" فالفنان الذى لا يملك أى إحساس قوى يشده إلى شخصياته ، وبعبارة أخرى إن الفنان الذى لا هم له غير ولعه الشديد بكلماته أو أفكاره فقط – لا يشعر بأية حاجة كى يفكر بمشاكل الشخصيات ، أى لا يحتاج للاهتمام بموضوع قصته أو عمله الفنى . والفنان من هذا النمط لا يقدم شيئا نافعا بل يشبه من يحاكى حركة الشخص أثناء تحريك الدمى التى يصنعها " ( [76]).
يساهم الوصف فى رسم ملامح السرد وتفاصيله وعناصره الأكثر ترددا ، ولأن الحب قيمة مجردة فإنها تجد تحققها عبر الشخصية التى يجتهد الوصف فى تقديمها من خلال مجالها الحيوى ، ذلك المجال
الشخصيات فى رواية الحب أو فى الرواية التى تعتمد الحب واحدا من منظوراتها تنقسم إلى نوعين أساسيين من الشخصيات :
شخصية مباشرة : وتضم فى نطاقها مجموعة الشخصيات الإنسانية المتنوعة بين أساسية وثانوية حسب التقسيم التقليدى للشخصيات ، سواء كانت شخصيات ترتبط بشكل مباشر بالحب فى سياقه الروائى .
شخصية غير مباشرة ولكنها الأكثر تأثيرا ونعنى بها الحب نفسه بوصفه شخصية لها فاعليتها فى سياق النص السردى ، وهو الشخصية ذات الحضور الأقوى والأسمى ،يكون الحب من خلالها هو الإله الخفى الفاعل ، نحن لا نسأل عن مبررات الحب فى الوقت الذى نبحث فيه عن أسباب للكراهية ،الحب مبرر فى ذاته والكراهية مبررة بغيرها ، وهى شخصية تبدو مجردة قد تجد مظهرها الحسى وتجسدها فى واحدة من شخصيات الرواية كما نجد فى شخصية " عين " بطلة " عصر الحب " تلك الشخصية التى جمعت الكثير من صفات الشخصية النموذج المثالى للإنسان ، والتى تشارك الراوى والسارد فى سرد صفاتها " يقول الراوى : إن الحارة نسيت فى أيامها البؤس الجوع والعرى ، وهانت عليها واجبات الزفاف والمرض والدفن . تلاشت الهموم جميعا تحت مظلة عين ، عين الحنون ، القلب الخفاق بالحب ، الجود الوهاب بلا حساب ، التى تدير العمارات لحساب الفقراء والمساكين ، إنها الطل يهطل على القفر فيتركه أخضر يانعا يرقص بماء الحياة . أم الحارة " ( [77] ) ولم تكن الصفات المتوالية فى صورة تشبيهات متعددة ، لم تكن مجرد صفات مبالغة لرسم صورة عين ، وإنما هى مجموعة من الحقائق التى يؤكدها النص ، وما تعدد التشبيهات إلا نوع من توسيع آفاق المتلقى ليتمكن من إفساح المجال لاستيعاب الشخصية وأفعالها التى قد لا يتعودها المتلقى ، لقد كان لتجسد الحب فى " عين " أثره فى وسم العصر كله بعصر الحب ، ذلك العصر المؤطر بحياة عين نفسها بوصفها باعثة الحب ومجسدته ، والتى لولاها ما تجلى الحب ولا فرض نفسه على الراوى الذى وقع هو نفسه فى أسرها فكانت الرواية سيرة للحب الذى لم يكتف بسيطرته على النص وإنما تصدر الرواية كلها بكل ما فيها من أحداث وأشخاص ، وقد كان الراوى حريصا فى نهاية الرواية على بث الإشارة المؤكدة أن الحب لم يمت " يقول الراوى : أن الست عين لم تمت ... رغم أن الذين عاصروا وفاتها لم يعرفوها أو كذلك كانت أغلبيتهم . ما عرفوا إلا ما يتناقله الرواة ولكن ست عين لم تمت .. وحتى اليوم يطلق الناس على المستشفى الذى قام مكان دارها ... " مستشفى الست عين"([78]).
معجم الحب ومقولاته
يفرض الحب معجمه الخاص الذى قد يتجلى فى مفردات تتناثر فى سياق النص ، خالقة نسيجا له طابعه الخاص على مستوى النص ، ومنتجا دلالات تسهم فى إنتاج الدلالة الكلية للنص ، ومسهما فى تشكيل صورة الحب بوصفه شخصية لها فعلها السردى شأنها شأن الشخصيات السردية التى يكون لها فلسفتها الخاصة ، ورغم كونها صيغة خاصة بسياق نصى محدد فإنها تشير بقوة إلى معجم خاص لم يكن ليتشكل ما لم يكن للحب فعله الأقوى ، ومنها:
إن أساس الحب الشريف هو اعتبار شخص المحبوب مقدسا وشرفه مصونا وما لا يبنى على هذا الأساس لا يكون عوض صحيحا([79]).
لا شيء يملأ فراغ الحب إلا الحب نفسه ( [80]).
ستجدين الحب مرة أخرى إنه مع الحياة دائما ( [81]).
الصداقة لا تصلح بديلا عن الحب ( [82]).
كل شيء يبدأ بطيئا ثم يزداد سرعة إلا الحب المغسول بالجنس يبدأ العكس([83] ).
لن أعيش فى وهم . إن لم يصرح لى بحبه خلال مدة أقصاها ثلاثة شهور ، ويخبرنى بوضوح عن مصير علاقتنا ، فسوف أنهى العلاقة بنفسى([84]).
فى مستوى أول تشى مجموعة الصيغ السابقة – ولو بشكل جزئى ولكنه دال - برؤية الحب فى الرواية العربية ، وفى مستوى ثان تطرح جانبا من معجم الحب وسياقه الدلالى المنتج سرديا ، وفى مستوى ثالث تعكس طبية اللغة الشعرية المكثفة التى يضيفها الحب إلى لغة السرد ، حيث تتضافر هذه المقولات مع لغة الوصف وخاصة عندما يكون الوصف منصبا على الجسم الأنثوى وما يكتنزه من محاسن ، حيث يتحول الجسم إلى فضاء موصوف عبر لغة شعرية مكثفة ( [85] )، وفى مستوى رابع يمكن التوقف عند المقولات بإدخال عنصر الزمن الفاصل بين أزمنة كتابتها للكشف عن الفوارق فى التفكير عبر رؤية الحب بين الأجيال وأثر ظروف العصر فى فاعليته فى النفس البشرية ، فقداسة الحب وبساطته وعفويته بوصفها قوانين طرحتها المقولات الأولى مغايرة إلى حد كبير لما تطرحه المقولة الأخيرة ( رواية بنات الرياض ) فالحب فى الأولى كان فارسا يغزو القلوب التى لا يمكنها أن تتحكم فيه ، وهو المسؤول عن مصير الإنسان ، ولكنه فى بات حبا ممنهجا يتحكم فيه الإنسان ويحدد مصيره ( راجع المقولة الأخيرة) ([86]).
لقد لعب الحب فى الرواية عددا من الأدوار ذات التأثير الأهم إذا كان أولها كونه شخصية لها أثرها الفنى ، فليس آخرها أن يكون شاهدا على ثقافة العصر وعلى تلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والحياة وبينهما السرد شاهدا على حركة الحياة .
هوامش وإحالات
[1] - د. محمد حسن عبد الله : الحب فى التراث العربى – المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب – الكويت 1980، ص 6.
[2] - ابن حزم الأندلسى : طوق الحمامة فى الألفة والألاف – مكتبة عرفة – دمشق
[3] - تطول القائمة للدرجة التى تجعل التراث العربى يضم آلاف القصص والحكايات عن الحب ، سواء تجددت الحكايات أو تناقلت بعض المؤلفات قصصا بعينها ، باتت من الشهرة بحيث لم يكن من الممكن تجاوزها فى سياقها ، ويمكن الرجوع إلى التصنيف الذى حدده الدكتور محمد رجب النجار : التراث القصصى فى الأدب العربى ( مقاربة سوسيو- سردية ) – ذات السلاسل – الكويت – ط 1-1995، المجلد الأول ص 592 وما بعدها .
[4] - صبحى درويش : فلسفة الحب – موقع الحوار المتمدن - الحوار المتمدن
[5] - ينبنى ما نعنيه بسيطرة الحكائين على السمة الأساسية للحكاية ، أنها تروى فى الماضى ، وتستمد طاقتها من الماضى ، وهو ما جعل الراوى يستهل سرده بالقول : كان ياما كان فى سالف العصر والأوان ، أو فى بلاد كذا ... وهو ما يعنى أنه لا يقص ما يمكن لمتلقيه متابعته ومعاينته ، إذ يرحل به زمانا أو مكانا ليظل السارد ممتلكا زمام الحقيقة التى ليس بإمكان المتلقى معاينتها أو التأكد منها بصورة أو بأخرى ، ولا يكون أمامه سوى تصديق ما يقال ، وما يبثه السارد فحسب .
[6] - د. محمود الربيعى : فى حدود الأدب – سلسلة كتابات نقدية - الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2008، ص 189 .
[7] - نفرق بين الباحث والناقد فى علاقتهما بالنص ، فالأول يوظف النص لخدمة قضيته كأن يدرس شخصية أو قضية يروح يستخدم النص لخدمة قضيته ، والثانى عند نص أو مشروع إبداعى ليحلل ويفسر وينتقد ويبرز جماليات النص دون أن يكون همه أن يدلل على قضية غير ما يطرحه النص نفسه : راجع : د. مصطفى الضبع : الباحث والناقد والنص – كتاب مؤتمر " الثقافة والجامعة المصرية ، مائة عام من التنوير " – جامعة القاهرة 17-19 فبراير 2008.
[8] - عباس حلمى محمد : الحــــــــــــب – مطبعة محمد محمد مطر – القاهرة 1925.
[9] - محمد جلال : الحــــــــــــب – دار الحرية للطباعة والنشر – القاهرة 1970.
-[10] محمد كامل حسن : الحب الأخير – دار التحرير للطبع والنشر – القاهرة 1959.
[11] - إبراهيم عبد الحليم : الحب الأول – مكتبة 26 يوليو للطبع والنشر – القاهرة 1964.
[12] - محمد سليمان موسى : الحب الجارف – مطبعة الإبيارى – طنطا 1955.
[13] - إلياس نقولا ضاهر : الحب الحلال – بيروت 1960.
[14] - عبد المسيح الأنطاكى : الحب الصادق – دار الهلال – القاهرة 1908.
[15] - طه حسين : الحب الضائع – دار المعارف – القاهرة 1942.
[16] - إسماعيل عبد المنعم : الحب الطاهر- مطبعة دار السفينة – طنطا 1911.
[17] - محمد أحمد رضوان : الحب الطاهر – مطبعة التوفيق – القاهرة 1905.
[18] - حسن ناصر المجرشى : الحب الكبير – نادى الطائف الأدبى – الطائف 1978.
[19] - وداد سكاكينى : الحب المحرم – دار الفكر العربى – القاهرة 1952.
[20] - إسماعيل ولى الدين : الحب تحت الأشجار – مكتبة غريب – القاهرة 1978.
[21] - نجيب محفوظ : الحب تحت المطر – مكتبة مصر – القاهرة 1973.
[22] - فؤاد القصاص : الحب على الصليب – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة 1964.
[23] - محمد كمال محمد : الحب فى أرض الشوك – مؤسسة أخبار اليوم – القاهرة 1980.
[24] - مصطفى وشاحى : الحب فى أرض القمر – دار العلم للطباعة – القاهرة 1974.
[25] - نوال السعداوى : الحب فى زمن النفط – مكتبة مدبولى – القاهرة 1993.
[26] - بهاء طاهر : الحب فى المنفى – دار الهلال – القاهرة 1995.
[27] - سلمى شلاش : الحب قبل الخبز أحيانا – مؤسسة روز اليوسف – القاهرة 1975.
[28] - طلوع المصطفى : حب فوق الصفيح – دار قرطبة – الدار البيضاء 1993.
[29] - إبراهيم بادى : حب فى السعودية - دار الآداب - بيروت – 2007.
[30] - محمد جلال : حب فى كوبنهاجن – دار الحرية للطباعة والنشر – القاهرة 1975.
[31] - عبد السلام العجيلى، وأنور قصيبانى :ألوان الحب الثلاثة – دار العودة – بيروت 1973.
[32] - أمين يوسف غراب : سنوات الحب – الشركة العربية للطباعة والنشر – القاهرة 1962.
[33] - محمد بن التهامي: ضحايا حب - مطبعة فضالة - المحمدية 1973.
[34] - نجيب محفوظ : عصر الحب – مكتبة مصر – القاهرة 1980.
[35] - يوسف إدريس : قصة حب – روز اليوسف - القاهرة 1956.
[36] - شريف حتاتة : قصة حب عصرية – دار الآداب – بيروت 1982.
[37] - عبد الرحمن منيف : قصة حب مجوسية – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1974.
[38] - عصام دراز : قصة حب من يونيو 1967- مكتبة روز اليوسف – القاهرة 1977.
[39] - نجيب محفوظ : الحب تحت المطر – مطبوعات مكتبة مصر – القاهرة – ص 5 .
[40] - السابق نفسه .
[41] - ريم بسيونى : بائع الفستق – مكتبة مدبولى – القاهرة 2007، ص 9.
[42] - رجاء بكرية : امرأة الرسالة – دار الآداب – بيروت 2007، ص 9.
[43] - بثينة العيسى : عروس المطر – المؤسـسة العربية للدراسات والنشر– بيروت 2006، ص 5.
[44] - رجاء بكرية : امرأة الرسالة ، ص 3.
[45] : صبحى فحماوى : حرمتان ومحرم – دار الهلال – القاهرة 2007، ص3.
[46] - رجاء عبد الله الصانع : بنات الرياض ، دار الساقى – بيروت ، ط2، 2006، ص 5.
[47] - خيرى عبد الجواد : العاشـق والمعشوق – مركز الحضارة العربية – القاهرة 1998، ص 5.
[48] - فهد العتيق : كائن مؤجل - المؤسـسة العربية للدراسات والنشر– بيروت 2004، ص 5.
[49] - هالة كوثرانى : الأسبوع الأخير – دار الساقى – بيروت 2006، ص 5 .
[50] - محمد حسن علوان : سقف الكفاية – دار الفارابى – بيروت 2004 ص 6.
[51] - جبرا إبراهيم جبرا : الغرف الأخرى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1988، ص 5 .
[52] - جان برتليمى : بحث فى علم الجمال – ترجمة : د. أنور عبد العزيز – دار نهضة مصر – القاهرة 1970ص 464
[53] - مازالت البدايات الأولى للرواية العربية مختلف عليها تاريخيا وفنيا ، ولم يعد من المنطقى أن تدعى دراسة لنفسها أنها وقعت على الرواية الأولى وإن حاولت إثبات الجانب الفنى المختلف عليه أيضا ، وكل جهد علمى جديد يزحزح البداية عددا من السنوات ، وربما كان على الباحثين التخلص من فكرة محاولة إثبات سبق قطر عربى على آخر وهو تخلص لصالح الموضوعية ، ومرونة الدراسة ، شريطة تجنب الباحثين إصدار الأحكام القاطعة فيما يخص الرواية الأولى .
[54] - أحمد شوقى : عذراء الهند – مطبعة الأهرام – القاهرة 1897. ، صدرت طبعة حديثة من الرواية بمقدمة للدكتور أحمد إبراهيم الهوارى – دار عين – القاهرة 2006.
[55] - عبد الحميد خضر البوقرقاصى : القصاص حياة – مطبعة النجاح 1904.
[56] - محمود خيرت : الفتى الريفى الفتاة الريفية – سلسلة مسامرات الجيب – القاهرة 1905.
[57] - محمود طاهر حقى : عذراء دنشواى – المكتبة العربية- القاهرة 1906.
[58] - عفيفة كرم : فاطمة البدوية – مطبعة جريدة الهدى اليومية – نيويورك 1906. ، وبديعة وفؤاد طبعت فى العام نفسه ، وقد صدرت مؤخرا فى طبعة حديثة بمقدمة للناقد المغربى الدكتور سعيد يقطين – منشورات الزمن – الدار البيضاء .
[59] - ولدت في بلدة عمشيت (لبنان) في 22 تموز 1883 بدأت تعليمها فى الثالثة من عمرها بإحدى المدارس الخاصة ، حتى استكملت تعليمها الابتدائى انتقلت إلى مدرسة راهبات العائلة المقدسة في مدينة جبيل فلم يطل مكثها في هذه المدرسة اكثر من تسعة اشهر حيث تركتها رغما عنها لظروف خطبتها 1897. وهاجرت فى العام نفسه إلى أمريكا حيث مالت هناك للكتابة (1899 ) مالت إلى الكتابة وساعدها صاحب جريدة الهدى على القراءة والإطلاع حتى نضجت موهبتها وكانت واحدة من أوائل الكاتبات العربيات .
أصدرت مجلة "العالم الجديد" النسائية مدة سنتين ولها روايات "بديعة و فؤاد" و"فاطمة البدوية" و "غادة عمشيت" ، وترجمت إلى العربية روايات: "ملكة اليوم" و "نانستي ستاير" و "محمد علي" و"ابنة نائب الملك".
[60] - من مقدمة الرواية فى طبعتها الحديثة .
[61] - عفيفة كرم : فاطمة البدوية ص 62.
[62] - فاطمة البدوية ، ص 110.
[63] - فاطمة البدوية ، ص 238، والبيت من بحر البسيط للوأواء الدمشقى(محمد بن أحمد العناني الدمشقي أبو الفرج) .
[64] - فاطمة البدوية ، ص 116.
[65] - عبد الحميد جودة السحار : السينما والأزهر – مجلة الرسالة الجديدة – العدد الثانى – مايو 1954، ص 46.
[66] - علاء الأسوانى : عمارة يعقوبيان – ميريت للنشر والمعلومات – القاهرة 2002.
[67] - د. محمد حسن عبد الله : الحب فى التراث العربى ، ص 82.
[68] - على حرب : الحب والفناء ، تأملات فى المرأة والعشق والوجود – دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت 1990، ص 24.
[69] - السابق ص 19.
[70] - آثرنا انتقاء ثنائيات تجمع بين روايات قديمة ، وأخرى جديدة ، وروايات لكتاب فى قمة القائمة الروائية العربية ، وكتاب فى طريق التحقق ، تدليلا على استمرار النموذج الثنائى، وهى ثنائيات مرتبة ترتيبا هجائيا لا دخل للقيمة الفنية أو التحقق فى ترتيبها .
[71] - مصطفى أمين : صاحب الجلالة الحب – دار الجيل – بيروت 1991، ص 634 .
[72] - بنات الرياض ، ص 102.
[73] - فتحى غانم : قليل من الحب كثير من العنف – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1996، ص 7.
[74] - محمود الوروارى : حالة سقوط – وعد للنشر والتوزيع – القاهرة 2007، ص 9.
[75] - بائع الفستق ص 9.
[76] - جون كاروز : فى الرواية الأخلاقية – ترجمة : ايشو إلياس يوسف – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1986، ص 87.
[77] - نجيب محفوظ : عصر الحب – ص 9.
[78] - عصر الحب – ص 178.
[79] - فاطمة البدوية ص 238.
[80] - نجيب محفوظ : الحب تحت المطر – مكتبة مصر – القاهرة ، ص 122.
[81] - السابق ص 128.
[82] - السابق ص 143.
[83] - محمود الوروارى : حالة سقوط ص 66.
[84] - بنات الرياض ، ص 227.
[85] - راجع : د. مصطفى الضبع : استراتيجية المكان ، دراسة فى جماليات المكان فى السرد العربى – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 1998، ص 206 وما بعدها .
[86] - كان صلاح عبد الصبور على وعى بهذا التغير عندما قال :
الحب يارفيقتى قد كان فى أول الزمان
يخضع للترتيب والحسبان
(نظرة،فابتسامه فسلام ،فكلام،فموعد،فلقاء)
اليوم..ياعجائب الزمان قد يلتقى فى الحب عاشقان
من قبل أن يبتسما.
................................
..........................
الحب في هذا الزمان يارفيقتي ......
كالحزن . لا يعيش إلا لحظة البكاء
أو لحظة الشبق
الحب بالفطانة اختنق