سعد عبدالرحمن - بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية

حصر ويلهلم دلتاي في كتابه "مقدمة علوم العقل" الذي أصدره في زمن مبكر (عام 1882) مشكلة العلوم الإنسانية في جانبين: الأول: هو أن العلوم الإنسانية ما زال يعوزها تصور واضح ومتفق عليه عن أهدافها ومناهجها المشتركة والعلاقات بينها إذا ما قورنت بما هو سائد في العلوم الطبيعية، والثانيّ: هو أن العلوم الطبيعية تزداد منزلتها ومكانتها نموا واطرادا بحيث ترسخ في العقل العام مثلا أعلى للمعرفة لا يتلاءم مع التقدم في العلوم الإنسانية (1).
وقد استطاع دلتاي بعد تحديد طبيعة المشكلة أن يستنبط الفرق بين مناهج العلوم الطبيعية وعلم التاريخ على أساس التناقض بين الشرح الاستيعاب، وقد احتج دلتاي لرأيه بأن العالم الطبيعي حين يعلل حادثة ما فإنه يفعل ذلك على أساس مسبباتها السابقة في حين أن المؤرخ يحاول أن يتفهم معناها وعملية التفهم هذه فردية بل ذاتية بالضرورة (2).
إن على العالم الاجتماعي في رأي دلتاي أن يجد مفتاح العالم (بفتح اللام) في نفسه وليس خارجها، فالعلوم الطبيعية تبحث عن غايات مجردة بينما تبحث العلوم الاجتماعية عن فهم ىآني من خلال النظر في مادتها الخام، إن الإدراك الفني والإنساني هو غاية العلوم الاجتماعية وهذا يحتم الوصول إليها من خلال التحديد الدقيق للقيم والمعاني التي تدرسها في عقول الفاعلين الاجتماعيين وليس من خلال مناهج العلوم الطبيعية، وهذه هي عملية الفهم الذاتي أو التفسير.
ويعلل دلتاي فشل المدرسة التاريخية بأن دراستها و تقويمها للظاهرة التاريخية لم يقوما على أساس من الثقة بتحليل حقائق الوعي، ولم تكن من ثم مؤسسة على معرفة يقينية هي ملاذها الأخير .. باختصار يمكن القول إنه لم يكن للمدرسة التاريخية أساس فلسفي ولم تنشأ لها علاقة صحيحة بنظرية المعرفة وعلم النفس (3).
وبعد عام من ذلك التاريخ جاء مؤرخ الفلسفة الشهير ويندلباند وأيده هو الآخر بالهجوم على الرأي القائل بأن العلوم التاريخية ينبغي أن تقلد مناهج العلوم الطبيعية، فالعلماء الطبيعيون يهدفون إلى تأسيس قوانين عامة على حين أن المؤرخين يحاولون إدراك حقيقة فريدة لا يتكرر وقوعها (4).
أما هنرتش ديكرت وهو الكانطي المحدث فهو يقف موقفا معارضا لتصورات دلتاي حين يضع تمييزاته بطرقة مختلفة، فالعلم بالنسبة له يهدف إلى تفسير الظواهر ولا يهتم في هذا الصدد بما إذا كانت هذه الظواهر تتعلق بالفرد (الإنسان) أم بالعالم الفيزيقي فالظواهر هي الظواهر والعلم هو العلم.
إن الفارق الأساسي عند ريكرت يكون بين العلم والتاريخ، فالعلم هو تحليل الطبيعة كنمط للأحداث الفريدة؛ ولعل وجه الاختلاف في الاساس بين دلتاي بوصفه مفكرا مثاليا جديدا وريكرت بوصفه كانطيا محدثا يتمثل في في وجهة نظر دلتاي في أن العلوم الثقافية تعالج مضمونا متميزا بمعنى أنها ما دامت تهتم بالمعاني فإن هذه المعاني تختلف من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى في مقابل فكرة ريكرت عن أن العلم يعالج ظواهر ليست ممتازة وإنما ظواهر متماثلة تخلو من المعنى، ويعتقد دلتاي أن العلوم الثقافية تعالج الروح الإنسانية ، و تلك تمر في عملية مستمرة من التغير والتطور وعملية التغير والتطور هذه هي أهم خصائص مضمون الغلوم الثقافية، ولم ينظر إليها ريكرت على أنها خاصية للمضمون بل على أنها خاصية للمنهج، والمثالي الجديد يهتم بالعالم كميدان للعقل أما الكانطي المحدث فهو يهتم بالعالم بوصفه موضوعا للمعرفة، وذلك أن الطبيعة عند ريكرت هي "كل واحد" قد ندرس عن طريق العلم أو عن طريق التاريخ؛ والأمر بينهما مختلف جدا (5).
و بين دلتاي وريكرت يقف ماكس فيبر موقفا وسطا فهو يوافق دلتاي على أن المعاني والقيم هي موضوع العلوم الاجتماعية، وهو ينظر كما الأمر عند ريكرت إلى العلم بوصفه علما سواء أكان يعالج ظواهر عقلية أو اجتماعية أو فيزيقية، وهو على العكس من دلتاي لا يعتقد أن عزل المعاني المتضمنة في الأحداث الاجتماعية يضع العلوم الاجتماعية في فئة مختلفة عن تلك العلوم التي تحاول إقامة العلاقات والقوانين السببية، كما أنه لا يجعل من العلوم الطبيعية والتاريخ مسارين منفصلين على عكس ما يرى ريكرت؛ إلا أنه يفضل أن يتقبل الفكرة التقليدية القائلة بأن علم الاجتماع هو نظام علمي يهتم بدراسة مادة مشتقة من التاريخ وهو يعتقد أن الاستخدام الدقيق بطرقة التصنيف Typlogy سوف يساعد على النهوض بهذا العلم من الناحية المنهجية.
وهكذا حاول فيبر أن يستفيد من الإمكانيات التي تقدمها العلوم الطبيعية والروحانية على حد سواء ويتضح ذلك من أنه يرى أن أعلى مستويات الفهم التي تصل إليها الظاهر الاجتماعية هو الفهم الملائم سببيا Casually adequate والمناسب أيضا على مستوى المعنى، وهذا يعني أن فيبر يرى أن في علم الاجتماع دراسة تبحث عن الأسباب وفي نفس الوقت دراسة للمعاني، ذلك أن الوقائع الاجتماعية تختلف عن وقائع العلوم الطبيعية من حيث القصد والمعنى المتضمن في الأولى والذي يرجع إلى طبيعتها الإنسانية، وهكذا تختلف العلوم الطبيعية عن العلوم الاجتماعية من حيث إن النشاط الإنساني يتجه في الأولى إلى الضبط Contrl ذلك أن من يستطيع معرفة اضطراد الوقائع الطبيعية يمكنه أن يرتب قوى الطبيعة، وعلى العكس من ذلك يتجه النشاط الإنساني في الثانية لإلى التقويم Valuation إذ يعد مفهوم الثقافة ذاته مفهوما قيميا، فالواقع إذا كان يرتبط بالقيمة يصبح واقعا ثقافيا أما صدق القيم فهو مسألة معرفة وبذلك تركز العلوم الاجتماعية على دراسة القيم ولكنها مع ذلك لا تحاول أن تقدم معايير ملزمة أو مثاليات أو طرائق للسلوك والعمل وتبعا لذلك يجب أن تتحرر هذه العلوم الاجتماعية من القيمة Value - Free (6).
وعلى الرغم من ذلك فما زالت عملية التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية مستمرة في كل الكتابات التي تتعرض لمشكلة تخلف العلوم الإنسانية في إطارها العام أو في إطار بعينه من علومها.
يرى رالف بارتن بيري مثلا أن أي تصنيف للعلوم لن يناسب أبدا مادتها لأن العلوم العديدة درست قبل أن تصنف، إن الطبيعة و المجتمع نفسيهما ليسا نقيين ولا متسقين ولا توجد طريقة تصنيف علمية يمكن أن تطوي كل كل الأطراف والذيول ولا تترك بقايا أو تجتزئ وحدة معترفا بها ... ومع أن المعرفة الإنسانية في بداياتها ميزت بين العالم المادي وعالم الأقل إلا أنه اتضح أن المادة مختلطة في الإدراك والإرادة والعاطفة فالطبيعة الإنسانية لم تكن فيزيقية أو عقلية فحسب ولم تستطع علوم الإنسان مثل علم النفس والاجتماع والأنثربولوجي أن تقصر نفسها على أي مجموعة من الاصطلاحين المادي أو العقلي وإذا كانت الثنائية المختلطة للعقلي والمادي ما تزال تستعمل كمبدأ للعقل بين العالم الذي يأخذه الإنسان كما يجده والعالم الذي خلقه لنفسه، ويفصل رالف بارتن بيري بين مجال العلوم الإنسانية ومجال العلوم الطبيعية على أساس من "الإرادة الإنسانية" فالعلم الإنساني هو العلم الذي يمكن للإرادة الإنسانية أن تغيره بينما العلم الطبيعي هو العلم الذي لا تتحكم فيه إرادة الإنسان .
يقول رالف بيري في كتابه القيم "آفاق القيمة": إن قوانين العلم الاجتماعي أو الثقافي تختلف عن قوانين العلم الطبيعي في أنه يمكن للإرادة الإنسانية أن تغيرها، بحيث إن العلوم الطبيعية ...... تلك الأحاديث التي لم لم يصنعها الإنسان فإن قوانينها لا تتحكم فيها إرادة الإنسان، وعندما توصف قوانينها بأنها لا تتغير فإن ذلك هو ما نعنيه فإذا تغيرت يكون ذلك راجعا إلى تدخل الإرادة الإنسانية ، والعلوم الثقافية من ناحية أخرى تشترك في صنع مادتها ومن ثم في صنع قوانينها ولا يناقض هذا المبدأ الأساسي للمعرفة بمعنى أنها تكشف الأشياء كما هي مستقلة عن ذاتها.
إن ذلك الذي يستعمل معرفته لكي يجعل الأشياء مختلفة لا يجعلها مختلفة بمعرفتها فقط، إن المعرفة لا تصنع التغيير ولكنها تصنع العقل الذي تقوم المعرفة فيه بدور الوسيط (7).
ويعتقد لوسيان جولدمان أن العلوم الإنسانية ليست كالعلوم الفيزيائية والكيميائية دراسة لوقائع خارجية عن الناس، ووقائع عالم يتوجه إليه فعلهم إنما هي على العكس من ذلك دراسة لهذا العقل نفسه ولبنيته وللتطلعات التي تحييه والتحولات التي يخضع لها، ومن جهة أخرى فباعتبار الوعي ليس إلا مظهرا واقعيا ولكنه جزئي للنشاطالإنساني فليس من حق الدراسة التاريخية مثلا أن تقتصر على المظاهر الواعية ويجب عليها أن تربط النوايا الواعية لممثلي التاريخ بالدلالة الموضوعية لسلوكهم وأفعالهم (
.
أما هـ . ب . ريكمان فإنه يرى أن الفصل أو بتعبير أدق التمييز بين نمطي المعرفة الإنسانية والطبيعية ضروري جدا وأن تأسيس العلوم الإنسانية على مثال علوم الطبيعة ضلال وعقم وخطر يقول: "إن تشييد الدراسات على غرار العلوم الطبيعية بحيث تكون نموذجا مشابها لها تماما هو في رأيي ضلال وعقم وخطر أخلاقي؛ ضلال عقلي لأنه يتجاهل العمليات المعرفية المألوفة؛ وعقم علمي لأنه لا ينتج المعرفة التي نحتاجها ؛ و خطر أخلاقي لأنه يقبل تصور الإنسان على أنه شيء آخر في عالم مادي طبيعي، والواقع أنه يجب علينا أن نعود إلى الأسس وأن تهتم بالإطار الملائم لمعرفة الإنسان (9).
وقد حاول ر . أبل أن يستقصي الفروق والاختلافات بين مجموعتي العلوم الطبيعية والإنسانية وانتهى إلى حصرها في إحدى عشرة نقطة هي كما يلي:
1 - في العلوم الطبيعية يمكننا التثبت من الفرض عن طريق التجربة بينما لا يمكن اللجوء إلى التجريب في مجال العلوم الاجتماعية.
2 - بينما يمكننا في العلوم الطبيعية تكرار التجارب حتى نصل إلى التعميم نجد أننا في العلوم الاجتماعية نتعامل مع مواقف غير متسقة بحيث لا يوجد شخصان أو موقفان متماثلان.
3 - بينما يمكننا في العلوم الطبيعية عزل العوامل بحيث تؤدي الفروق إلى تنبؤات غير متأثرة بمتغيرات خارجية، لا يمكننا تحديد الظواهر الاجتماعية بوصفها موضوعا بسبب تعقد العوامل الداخلية فيها.
4 - يمكن التوصل إلى التنبؤ في العلوم الطبيعية بينما لا يمكن بلوغ هذا المستوى بتأكيد مرتفع في العلوم الاجتماعية.
5 - يمكننا في العلوم الطبيعية ذكر الفروق بدقة وعمومية لأنها تتناول متغيرات صادقة خلال المجتمع كله بينما لا يتوفر هذا إلا بشكل محدد في العلوم الاجتماعية (مثل معدل الوفيات).
6 - يمكننا في العلوم الطبيعية التثبت من الغرض عن طريق الملاحظة بينما في العلوم الاجتماعية لا يمكننا ذلك في حدود ضيقة جدا.
7 - يمكننا في العلوم الطبيعية استخدام القياس بينما يتعذر هذا في العلوم الاجتماعية لأن مفاهيمها غامضة وكيفية.
8 - يمكننا في العلوم الطبيعية دراسة الظواهر بدون اهتمام بالماضي ولا يمكننا هذا في العلوم الاجتماعية لأنه يحدث أحيانا أن تكذب التنبؤات بسبب أشياء غير ملاحظة و غير متثبت منها حدثت في الماضي.
9 - بينما لا يوجد تأثير للعالم الطبيعي على كشوفه في العلوم الطبيعية نجد أن ثمة تفاعلا دائما بين الباحث وموضوع بحثه في العلوم الاجتماعية.
10 - لا يهتم العالم الطبيعي بموضوع بحثه بقدر اهتمام العالم الاجتماعي الذي يتصدى لبحث موضوعات مثل تنظيم النسل والاشتراكية والجريمة ... إلخ.
11 - يمكننا في العلوم الطبيعية عزل الوقائع بينما يستحيل ذلك في العلوم الاجتماعية ويرجع هذا إلى أن العلماء الاجتماعيين يواجهون عند وصفهم لفروضهم بأن الوقائع الاجتماعية توجد في شكل جمعي وترد في سياقات بالإضافة وجود تصورات غامضة و كيفية (10).
وتأسيسا على هذا الفصل أو التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية فإن البعض - كما رأينا - يعتقد أن الموضوعات التي تدرسها العلوم الطبيعية تتسم - إن صح التعبير - بالحيادية بينما موضوعات العلوم الإنسانية انحيازية ولا يمكن إلا أن تكون كذلك، وبعبارة أخرى أكثر وضوحا فإن الباحث أو العالم في مجال العلوم الطبيعية لا يرتبط مع موضوع بحثه إلا بعلاقة البحث المجردة من أية مؤثرات ذاتية خارجة عن نطاق البحث وهذا ما يسميه جان فال بـ "النزعة الموضوعية" التي تقوم على اعتبار الواقعة مصدرا أو قاعدة ومعيارا ومحكا لكل معرفة واستبعاد ما لا يقبل القياس من دائرة البحث (12) أو هو ما يعني أيضا الارتكاز على أقل قدر ممكن من التفسير الشخصي والاستناد إلى أساس يمكن أن يتفق عليه الجميع (13) بينما علاقة الباحث في مجال العلوم الإنسانية بموضوعات بحثه دائما واقعة تحت تأثيرات عوامل ذاتية كثيرة تتمثل في ارتباطات الباحث وقناعاته الشخصية المختلفة (دينية أو عرقية أو نفسية أو أيديولوجية .... إلخ).
وتفسير ذلك أن الباحث في مجال العلوم الإنسانية جزء لا يتجزأ من الظاهرة التي يبحثها فلابد أن يشعر تجاهها بميول وأهواء معينة تفرضها الأيديولوجيا السياسية والاجتماعية والبيئة الثقافية والبيئة الحضارية التي ينتمي إليها فيؤدي به ذلك إلى إضفاء الإسقاطات القيمية أو الأحكام الخلقية على مادة بحثه مما يناقض طبيعة العلم الذي يأبى تدخل عنصر القيمة المراوغ الفضفاض وهو عنصر يصعب استئصاله من مجال البحوث الإنساني (14).
وهذه العوامل حتى إن كان تأثيرها في بعض الأحيان من الخفاء بحيث لا يمكن ملاحظته إلا أن انتقاصها موضوعية البحث لا يمكن إنكاره أو إغفاله، هكذا يرى البعض ولذلك فإنهم يجدون أن العلماء في مجال البحوث الإنسانية معذورون في سعيهم الدؤوب نحو التخلص من هذه العوامل وتأثيراتها في عملية البحث فإنهم بذلك يستطيعون تحقيق شرط "الموضوعية" أحد الشروط أو إحدى السمات الأساسية للروح العلمية الحديثة، لأن العلم إذا شاء أن يكون موضوعيا فلابد أن يرتكز على أقل قدر ممكن من التفسير الشخصي وأن يقوم على أساس يتفق عليه الجميع .. هذا على الرغم من أن هناك من يرى في نفس الوقت أن العلوم الطبيعية قد بدأت تأخذ في اكتساب صبغة إنسانية تزداد يوما بعد يوم (15).
يقول ستانلي بيك "وقد أصبح العلماء أنفسهم الآن يعترفون بأن علوم المادة والطبيعة آخذة في اكتساب صبغة إنسانية تزداد يوما بعد يوم في الوقت الذي لا يزال فيه المنهج التجريبي هو المثل الاعلى عند كثير من أهل العلوم الإنسانية" (16).
ويؤكد كارل بوبر ذلك بقوله "من الخطأ الفادح أن نفترض أن موضوعية علم ما ترتكز على موضوعية العالم (بكسر اللام)؛ ومن الخطأ الفادح أيضا أن نعتقد أن موقف عالم الطبيعيات أكثر موضوعية من موقف عالم الاجتماع، فالعالم الطبيعي ليس سوى متحيز مثل كل شخص آخر، وما لم ينتم إلى القلة التي تنتج أفكارا باستمرار فلأنه للأسف كثيرا ما يكون غاية في التحيز فيفضل أفكاره الخاصة بطريقة مشايعة و مغرضة (17) .
ويرى بوبر أنه "على الرغم من أن الحقيقة هي القيمة العلمية الأولى فإنها ليست القيمة الوحيدة، إن وثاقة الصلة والفائدة وأهمية العبارات في مواجهة مشكلة علمية بحتة هي أيضا قيم علمية من الدرجة الأولى، وهذا صحيح أيضا بالنسبة لقيمة مثل الخصوبة أو القوة التفسيرية والبساطة والدقة (18).
ومن المستحيل أن نزيح القيم إلى خارج العملية من النشاط العلمي ونفس الأمر ينطبق على الموضوعية، إننا لا نستطيع أن نحرم العالم من تشيعه دون أن نحرمه من إنسانيته، لا .. ولا نستطيع أن نكبت أو نحطم أحكامه القيمية دون أن نحطمه كإنسان و كعالم أيضا، لأن دوافعنا ومثلنا العلمية الخاصة كمثلنا عن بحث في الحقيقة خالص إنما ترتكز وبشدة على أحكام قيمية خارج-علمية ودينية جزئيا، إن العالم الموضوعي المتحرر من القيمة ليس هو العالم المثالي فبدون العاطفة لن ننجز شيئا مؤكدا، لن ننجز شيئا في العلم البحت، إن قولنا "حب الحقيقة" ليس مجرد استعارة (19).
ويشرح رجاء جارودي أسباب هذه النزعة الإنسانية المتضمنة في مجال العلوم الطبيعية بقوله " لقد أدت التطورات الكبيرة التي حدثت في ميدان الرياضيات من جانب بظهور الهندسات اللاتقليدية التي شكت في تصور المكان الذي كان يظن أنه تصور خالد حيث أظهر التطبيق العلمي لهذه الهندسات في ميدان الفلك أن الواقع الذي يتعدى التجربة اليومية أكثر تعقيدا أو أكثر خصوبة مما كنا نتصور، والتطورات التي حدثت في ميدان الفيزياء من جانب آخر، وأدت التطورات التي حدثت في ميدان الفيزياء من جانب آخر إلى الانقلاب الأول الذي أحدثته النظرية النسبية وهي النظرية التي قامت على أساس معارضة نتائج التجربة للتصورات القديمة للمكان والزمان، الأمر الذي حدا بأينشتاين إلى الجمع بينهما وانتهى بالتأليف بين الفيزياء والهندسة ثم الانقلاب الثاني الذي أحدثته الثورة الكمية (الكوانتم) التي لم تهز فقط التصور التقليدي للمكان والزمان بل هزت فكرة الحتمية معها، أدت كل هذه التطورات إلى دعوة بعضهم إلى "إدخال النظرة الإنسانية في العلوم" (20).
بل إن الأمر تجاوز ذلك كله حين أدت الخرب العالمية الثانية بما حدث فيها من فظائع وجرائم كبرى وصلت ذروتها في إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناجازاكي إلى موقف تجسدت فيه أزمة الإنسان المعاصر، فمع سقوط القنبلتين سقط العلم كما سقطت من قبل قيم ميتافيزيقية عليا أخرى، لم يقتصر الأمر على استحالة إدراك الحقيقة بمعناها الميتافيزيقي المجرد بل إلى استحالة التأكد من الحقائق العلمية القائمة على التجريب وهو رأي عبر عنه توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية" ففي هذا الكتاب ينزل كون العلم التجريبي من على عرشه بصفة نهائية بإنكاره عالم حقائق موضوعي حتى في العلم نفسه حيث تقوم البنى الذهنية للمدرك بتحديد الحقيقة أو ما يمكن أن نعده في لحظة الإدراك الفردي حقيقة موضوعية و يمضي كون قائلا "إن تقدم العلم تقرره احتياجات الجماعة، فحين نقول إن العلم حل محل الخرافة فنحن لا نصف عملية الانتقال من الظلمة إلى النور بل التغير في الجدول الاستبدالي الذي يحدث عندما تتصارع الحاجات الملحة للجماعة مع التقاليد القديمة وتتطلب مقتضيات جديدة" (21).
وقد أصبح من الواضح الآن في مجال العلوم الطبيعية أن مسألة المراقب المنفرد -كما يقول فلويد مريل - تنطوي على الوهم إذ ليس من الممكن استبعاد العقل من العالم ما دام العقل يمثل جزءا مكملا لهذا العالم وأيضا فإن العمليات الفعلية الشعورية منها واللا شعورية يجب أن تدخل ضمن ما هو موضوع مراقبة فليس في وسع العالم أن يعرف شيئا عن أي شيء دون أن ينهمك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في الشيء الذي يراقبه ومن ثم يستحيل أن يتحصل على معرفة بأي خاصية فيزيائية أو بأي كائن دون تفاعل، وفي هذا السياق تصبح النظرية العلمية صورة للعلاقة بين الإنسان والطبيعة.
ولما كانت هذه العلاقة متغيرة فإن النظرة إلى ذلك ينبغي أن تخضع للتغيير، وإذن فعبارة "المعرفة القبلية Apriori Knowledge " التي أطلقها ادنجنتون على النظرية العلمية المعاصرة لها مغزاها فهو يصدر عن موقف إبستمولوجي يقوم على أساس أن الكون الذي يصفه العالم ليس كونا موضوعيا بصورة كلية بل هو في جانب منه كون ذاتي، وإنه لمن سخرية الأحداث أنه في الوقت الذي راحت فيه العلوم الطبيعية تسعى جاهدة لكي تحرر نفسها من أسطورة الموضوعية والقدرة على التنبؤ وطغيان المنهج بصفة عامة اتجهت العلوم الإنسانية إلى مزيد من الموضوعية المحددة تحديدا صارما (22).
المراجع :
1 - الموضوعية في العلوم الإنسانية ص 17- الدكتور صلاح قنصوة.
2 - مقالات في النقد الأدبي ص 9، ص 10 - الدكتور إبراهيم حمادة.
3 - مجلة فصول عدد إبريل 1981 ص 146و ص 147- مقالة بعنوان "الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص" الدكتور نصر حامد أبو زيد.
4 - مقالات في النقد الأدبي - مرجع سابق ص9، ص 10.
5 - منهج جديد للدراسات الإنسانية ص 15، ص 16- هـ . ب . ريكمان - ترجمة وتقديم الدكتور علي عبد المعطي والدكتور محمد علي محمد.
6 - المرجع السابق (مقدمة) ص 17، ص 18.
7 - آفاق القيمة ص 229، ص 232 رالف مارتن بيري - ترجمة الدكتور عبد المحسن عاطف سلام.
8 - العلوم الإنسانية والفلسفة ص 59 - لوسيان جولدمان - ترجمة الأستاذ يوسف الأنطاكي.
9 - منهج جديد للدراسات الإنسانية ص 314.
10 - التفسير في العلوم الاجتماعية ص 208، الدكتوره علا أنور.
11 - طريق الفيلسوف ص 345 - جان فال - ترجمة الأستاذ أحمد حمدي محمود.
12 - مشكلة الفلسفة ص 124 - الدكتور زكريا إبراهيم.
13 - بساطة العلم ص 112- د . ستانلي بيك - ترجمة الأستاذ زكريا فهمي.
14 - مشكلة العلوم الإنسانية ص 90.
15 - بساطة العلم ص 156.
16 - مشكلة الفلسفة ص 156.
17 - بحثا عن عالم أفضل ص 94، ص 95 - كارل بوبر - ترجمة الدكتوره يمنى طريف الخولي.
18 - المرجع السابق ص 96.
19 - المرجع السابق ص 96 و ص 97.
20 - نظرات حول الإنسان ص 25، ص 26 - رجاء جارودي - ترجمة الدكتور يحيى هويدي.
21 - المرايا المحدبة ص 326 ، الدكتور عبد العزيز حمودة..
22 - فصول عدد يناير 1981 ص 24 مقالة بعنوان "مناهج النقد الأدبي بين المعيارية والوصفية" للدكتور عز الدين إسماعيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...