أضعها أمام القراء الكرام، ،جزيل الشكر وعميق الامتنان، للشاعر والإعلامي الأريب محمد بشكار على جهوده المتميزة، والشكر موصول لمن تيسر له الوقت للقراءة.
الزخم الشعري في ديوان "المقر الجديد لبائع الطيور" للشاعر عمر العسري
في حوزة الشاعر عمر العسري ثلاثة دواوين، "عندما يتخطاك الضوء" دار التوحيدي-الرباط، الطبعة الأولى،2009. "يد لا ترسم الضباب"، أرابيسك للنشر والترجمة-القاهرة، الطبعة الأولى2010. "من أي جهة يأتي الصياد؟" ايسيون بلوس- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2017. نفس الديوان صدر عن مؤسسة أورقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة، الطبعة الثانية،2020.
ديوان " المقر الجديد لبائع الطيور" يعد الديوان الرابع صدر عن أكورا للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2021. يقع الديوان في اثنتين وعشرين ومائة صفحة، يطوي بين دفتيه عشر قصائد هيːتمثال من فراغ- منديل أبيض مضرج بالفراشات- مسافة نار بين الطين والخزف- زرقة عتيقة- المقر الجديد لبائع الطيور- رجل محبوس في أناه- أحلام معطوبة في مقبرة السيارات الصدئة- حياة في طور الترميم- يد غلى ظهر مقعد العالم الفارغ- الإقامة مع حيوان غامض.
تفتح صفحات الديوان، فتلقى ظلال ذاتك، تنكتب عبر رصاص الشاعر المذاب في محبرة القلب، إلى شمع الروح الذي يضيء الحنايا القاتمة، في الوجود، و ينير الزوايا المكفهرة فيه، بفضل لغة سلسة منقادة، وبفعل معجم باذخ مترف، ينساب بتؤدة وروية، كأنما يود الشاعر عمر العسري أن يشكوك حزنه وغمه، ويبثك ألمه وقلقه، بتراجيدية شعرية، موغلة في غنائية شجية، وبحبكة درامية، ممعنة في نغمة عذبة.
(....)
أحد ما
حفر اسمي
خلف الأسوار الخلفية للمدينة
أحد ما
أراد أن يقلق
سكينة القطط المتسافدة
أن يطير أنثى الحمام
من عشها
أن يفرغ
اللقلق كي يغادر القمة المنيفة (قصيدة تمثال من فراغ ص 13).
تتابع القراءة بهدوء أكثر، فتشدك هذه الصور الشعرية، المنبثقة من الواقع المعيش، الذي تلتقطه عين الشاعر، في غفلة الزمن، وبلادة الأمكنة، وتكلس العقول، وتحجر الأعين، بنباهة يقظة، متحفزة متوثبة، لتعيد تشكيله، وصياغته من جديد في بؤر، بعد أن يكون قد خبا أواره في وعي الشاعر، إذ تتولاه آنئذ روح الشاعر، فينسكب سلسبيلا. ويتساكب سهلا مريحا.
فيا أيها الصغير
يا من أفنى عمره
في تعقبي
تيقن
أني لم أركب يوما
قطارك السريع
نحو الهاوية
لن أخوض
نهرك الفارغ
لن أسقط
كياباني صغير
من فوق عمارة الأحزان (نفس القصيدة ص 22).
صور مزركشة بألوان البيان، ومنمقة بأثواب التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، صور تسترفد زخمها من القراءة المتنوعة، وتستقي منابعها من المرجعيات المعرفية المتعددة، التي يهتدي إليها القارئ من اللغة الخصبة، والخيال المتقد، والعاطفة المتوهجة، والفكر النير، والتكثيف المحلق، والطاقة الإبداعية الخلاقة ː
بريدك
تآكلت حروفه
وأضواء الفنار
انطفأت
في عين بحار شارد
حتى المكان
يتقصد الابتعاد عنك
لا تتفطن للجسر
ما دامت الهاوية قريبة (مسافة نار بين الطين والخزف ص 42/43).
تتصفح الديوان فتلفي قصائده، زاخرة بالرمز اللماح، وحافلة بالإشارة البعيدة، والمعاني الوامضة، التي تناوشك، وتجادلك، فتجتذبك إلى عوالم رحبة، وتسحبك إلى أكوان مديدة، تدعوك إلى الـتأمل والإمعان في القصد والمراد، وإعمال العقل ، وتشغيل الذهن، في استغوار خباياها، وسبر أعماقها، فتستلذ هذه الحركة، التي تقوي خيالك، وتخصب فكرك، فتمضي في القراءة، لكي تستلهم هذه المعاني التي تفيض عليك، وتستوحي تلك المضامين التي تملؤك بالرؤى التي تجهد في القبض على فيوضاتها الزاخرة، والإمساك السديمي ببلاغتها،
وحيدا
يروض ذئب عينيه
يسحل الأنوار
ويمدح مقصلة القرون
الماضية (رجل محبوس في أناه ص 74).
فمن خلال هذا المقطع الشعري، في علاقته، بالمقاطع الشعرية السابقة، تظهر هذه المعنى العائم، المشار إليها آنفا، والتي يخلقها التركيب، في بعده الدلالي، وجانبه الإبداعي، وتولدها أيضا الكلمات في تعالقها المنزاح، وفي ترابطها الاستعاري. فبشأن التركيب -على سبيل المثال لا الحصر- ː (ويمدح مقصلة القرون الماضية). يحملك إلى التفكير في المقصلة التي وردت مفردة، والقرون التي وردت جمعا، ثم كلمة مدح التي ارتبطت بمجال غير مجالها، كل ذلك يربكك، ويجعلك تصغي من جديد إلى هذه التراكيب الشعرية البديعة، التي تلقي في نفسك ضوء المعنى، وتلف وجدانك بومض الإلهام...فتمضي إلى رحابة الأرض، بكل جوارحك، ومشاعرك...
تقف مترقبا
ترى جلدك يتجعد
هي
إذن
أيام ذبولك
جلدك هذا خذه
خذه إلى أرض أكثر عطفا
حيث تطفو مسامك (يد على ظهر مقعد العالم الفارغ ص 101)
يمكن أن أقول باقتضاب وإيجاز ː إن تجربة الشاعر عمر العسري تجربة شعرية مميزة، في رؤاها التعبيرية، وأدواتها الفنية، وفريدة في مضامينها الجمالية، وأفقها الإبداعي الرحب، الملون بآهات الذات، والمنحوت باستعارات الحياة في كل أبعادها ومجالاتها المختلفة...أهنئك أخي عمر على هذا التراكم الغني، والبوح الموشوم بالرمزية الإبداعية، الساحرة اللب،الأخاذة الوقع، وعلى هذا الزخم الثري، والجهر الموشى بالتلميح الشعري البعيد الغور، العميق الأثر...دمت عميقا بكل هذا الزخم، والشعر المومض..
عبد العزيز أمزيان
الملحق الثقافي لجريدة العلم الغراء،لعدد اليوم 05/05/2022
الزخم الشعري في ديوان "المقر الجديد لبائع الطيور" للشاعر عمر العسري
في حوزة الشاعر عمر العسري ثلاثة دواوين، "عندما يتخطاك الضوء" دار التوحيدي-الرباط، الطبعة الأولى،2009. "يد لا ترسم الضباب"، أرابيسك للنشر والترجمة-القاهرة، الطبعة الأولى2010. "من أي جهة يأتي الصياد؟" ايسيون بلوس- الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2017. نفس الديوان صدر عن مؤسسة أورقة للدراسات والترجمة والنشر- القاهرة، الطبعة الثانية،2020.
ديوان " المقر الجديد لبائع الطيور" يعد الديوان الرابع صدر عن أكورا للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2021. يقع الديوان في اثنتين وعشرين ومائة صفحة، يطوي بين دفتيه عشر قصائد هيːتمثال من فراغ- منديل أبيض مضرج بالفراشات- مسافة نار بين الطين والخزف- زرقة عتيقة- المقر الجديد لبائع الطيور- رجل محبوس في أناه- أحلام معطوبة في مقبرة السيارات الصدئة- حياة في طور الترميم- يد غلى ظهر مقعد العالم الفارغ- الإقامة مع حيوان غامض.
تفتح صفحات الديوان، فتلقى ظلال ذاتك، تنكتب عبر رصاص الشاعر المذاب في محبرة القلب، إلى شمع الروح الذي يضيء الحنايا القاتمة، في الوجود، و ينير الزوايا المكفهرة فيه، بفضل لغة سلسة منقادة، وبفعل معجم باذخ مترف، ينساب بتؤدة وروية، كأنما يود الشاعر عمر العسري أن يشكوك حزنه وغمه، ويبثك ألمه وقلقه، بتراجيدية شعرية، موغلة في غنائية شجية، وبحبكة درامية، ممعنة في نغمة عذبة.
(....)
أحد ما
حفر اسمي
خلف الأسوار الخلفية للمدينة
أحد ما
أراد أن يقلق
سكينة القطط المتسافدة
أن يطير أنثى الحمام
من عشها
أن يفرغ
اللقلق كي يغادر القمة المنيفة (قصيدة تمثال من فراغ ص 13).
تتابع القراءة بهدوء أكثر، فتشدك هذه الصور الشعرية، المنبثقة من الواقع المعيش، الذي تلتقطه عين الشاعر، في غفلة الزمن، وبلادة الأمكنة، وتكلس العقول، وتحجر الأعين، بنباهة يقظة، متحفزة متوثبة، لتعيد تشكيله، وصياغته من جديد في بؤر، بعد أن يكون قد خبا أواره في وعي الشاعر، إذ تتولاه آنئذ روح الشاعر، فينسكب سلسبيلا. ويتساكب سهلا مريحا.
فيا أيها الصغير
يا من أفنى عمره
في تعقبي
تيقن
أني لم أركب يوما
قطارك السريع
نحو الهاوية
لن أخوض
نهرك الفارغ
لن أسقط
كياباني صغير
من فوق عمارة الأحزان (نفس القصيدة ص 22).
صور مزركشة بألوان البيان، ومنمقة بأثواب التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية، صور تسترفد زخمها من القراءة المتنوعة، وتستقي منابعها من المرجعيات المعرفية المتعددة، التي يهتدي إليها القارئ من اللغة الخصبة، والخيال المتقد، والعاطفة المتوهجة، والفكر النير، والتكثيف المحلق، والطاقة الإبداعية الخلاقة ː
بريدك
تآكلت حروفه
وأضواء الفنار
انطفأت
في عين بحار شارد
حتى المكان
يتقصد الابتعاد عنك
لا تتفطن للجسر
ما دامت الهاوية قريبة (مسافة نار بين الطين والخزف ص 42/43).
تتصفح الديوان فتلفي قصائده، زاخرة بالرمز اللماح، وحافلة بالإشارة البعيدة، والمعاني الوامضة، التي تناوشك، وتجادلك، فتجتذبك إلى عوالم رحبة، وتسحبك إلى أكوان مديدة، تدعوك إلى الـتأمل والإمعان في القصد والمراد، وإعمال العقل ، وتشغيل الذهن، في استغوار خباياها، وسبر أعماقها، فتستلذ هذه الحركة، التي تقوي خيالك، وتخصب فكرك، فتمضي في القراءة، لكي تستلهم هذه المعاني التي تفيض عليك، وتستوحي تلك المضامين التي تملؤك بالرؤى التي تجهد في القبض على فيوضاتها الزاخرة، والإمساك السديمي ببلاغتها،
وحيدا
يروض ذئب عينيه
يسحل الأنوار
ويمدح مقصلة القرون
الماضية (رجل محبوس في أناه ص 74).
فمن خلال هذا المقطع الشعري، في علاقته، بالمقاطع الشعرية السابقة، تظهر هذه المعنى العائم، المشار إليها آنفا، والتي يخلقها التركيب، في بعده الدلالي، وجانبه الإبداعي، وتولدها أيضا الكلمات في تعالقها المنزاح، وفي ترابطها الاستعاري. فبشأن التركيب -على سبيل المثال لا الحصر- ː (ويمدح مقصلة القرون الماضية). يحملك إلى التفكير في المقصلة التي وردت مفردة، والقرون التي وردت جمعا، ثم كلمة مدح التي ارتبطت بمجال غير مجالها، كل ذلك يربكك، ويجعلك تصغي من جديد إلى هذه التراكيب الشعرية البديعة، التي تلقي في نفسك ضوء المعنى، وتلف وجدانك بومض الإلهام...فتمضي إلى رحابة الأرض، بكل جوارحك، ومشاعرك...
تقف مترقبا
ترى جلدك يتجعد
هي
إذن
أيام ذبولك
جلدك هذا خذه
خذه إلى أرض أكثر عطفا
حيث تطفو مسامك (يد على ظهر مقعد العالم الفارغ ص 101)
يمكن أن أقول باقتضاب وإيجاز ː إن تجربة الشاعر عمر العسري تجربة شعرية مميزة، في رؤاها التعبيرية، وأدواتها الفنية، وفريدة في مضامينها الجمالية، وأفقها الإبداعي الرحب، الملون بآهات الذات، والمنحوت باستعارات الحياة في كل أبعادها ومجالاتها المختلفة...أهنئك أخي عمر على هذا التراكم الغني، والبوح الموشوم بالرمزية الإبداعية، الساحرة اللب،الأخاذة الوقع، وعلى هذا الزخم الثري، والجهر الموشى بالتلميح الشعري البعيد الغور، العميق الأثر...دمت عميقا بكل هذا الزخم، والشعر المومض..
عبد العزيز أمزيان
الملحق الثقافي لجريدة العلم الغراء،لعدد اليوم 05/05/2022