إصدار جديد للدكتور حسن مدن يدشّنه مساء اليوم السبت بمكتبة الوقت
حداثة ظهرها إلى الجدار.. قراءات في التحوّلات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية
كتب - جعفر الديري :
يتتبع كتاب المفكِّر وكاتب المقال الأوّل في البحرين الدكتور حسن مدن، (حداثة ظهرها إلى الجدار.. قراءات في التحوّلات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية)، الجهود التي بذلتها أجيال من النخب المتعلّمة، والمثقّفة الحديثة – خاصة أجيالها الأولى – لكسر عزلة منطقة الخليج والجزيرة العربية عن محيطها العربي، والانفتاح على الحداثة والثقافة الجديدة، محاولاً تقديم ما يشبه اللوحة البانورامية للتحوّلات الثقافية في بلدان المنطقة بالارتباط بالتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرّت بها.
ويؤكد الكتاب أن التحديث في مجتمعات الخليج والجزيرة العربيّة، ما زال يتكّأ على الجانب العمراني المظهري ، غير الخافي على الأعين ، وهذا الجدار نفسه يتحوّل ، مع مرور الوقت ، إلى صدِّ بوجه تقدّم الحداثة ، حين يفهم أن هذا العمران هو نفسه الحداثة ، وما هو بذلك.
نحن ومخاضات الحداثة
يشتمل كتاب (حداثة ظهرها إلى الجدار)، إلى جانب المقدمة، على مدخلٍ بعنوان (نحن ومخاضات الحداثة)، وعلى فصل بعنوان: أدب الجزيرة العربية وحكاية (عزلتين)، يضمّ عدّة مضامين منها: الجزيرة العربية: (العزلة) التي كسرها الإسلام، و(العزلة الثانية) للجزيرة العربية، وعلى فصل آخر بعنوان: التحوّلات الثقافية في مجتمعات الخليج العربي قبل اكتشاف النفط، يتناول فيه الكاتب فيما يتناول روافع التحوّلات الثقافية في بلدان الخليج: تأسيس الأندية الأدبية والثقافية، أثر الصّحافة العربية التنويريّ في المنطقة، رحلات المصلحين العرب إلى الخليج، وبدايات الصحافة في بلدان الخليج، بينما يعرض الفصل الثالث للهند كنافذة ثقافية أولى للخليج على الآخر، من خلال الحديث عن هنود في الخليج، وعن خليجيين في الهند، وعن شخصيات خليجية عاشت في الهند، من الكويت، الإمارات، البحرين، عُمان، السعودية، أمّا الفصل الرابع: المثقّفون في معترك التغيير، فيخصّصه د.مدن للحال البحرينية،، عبر عدة مضامين: ثلاثة أجيال من المثقفين، اكتشاف النفط والانقلاب الحاسم، صحافة ما بعد اكتشاف النفط، أندية ما بعد اكتشاف النفط، التيَّارات والتنظيمات السياسية، جبهة التحرير، حركة القوميين العرب وتحوُّلاتها، التنظيمات الإسلامية: الإخوان المسلمون، حزب الدّعوة، قبل أن يقف عند مسائل: المثقّفين والديمقراطية، تعدُّديتنا النافية للتنوُّع، وشريحة التكنوقراط.
التحدّيات التي تواجهها الثقافة في بلدان الخليج العربي
من الخلاصات التي خرج بها مؤلف الكتاب، أن المنجز الإبداعي المتنامي في بدان الخليج، وظهور أجيال جديدة من المبدعين المتميِّزين، شعراء وروائيين ومشتغلين بالنقد، يجب ألا يحملنا على تجاهل أن التحدّيات التي تواجهها الثقافة في بلدان الخليج العربي ليست قليلة، والتصدّي لها هو أكبر من جهود أفراد أو مؤسسات متفرّقة، ويتطلّب – أولا – تشخيصا جريئا لها، وثانيا وضع خطط جادّة ومدروسة وبعيدة المدى، ذاكرا أبرز هذه التحديات:
التباس العلاقة بين المؤسسة الثقافية الرسمية والفضاء الثقافي
في هذا المجال يدعو المؤلّف إلى الاعتراف بأنّ هناك تقصيرا كبيرا في التواصل بين المبدعين أنفسهم في منطقة الخليج العربي، وأن هناك حاجة إلى المزيد من اللقاء والتفاعل والحوار وتشخيص المفردات التي يشتغل عليها المبدعون في المنطقة، وتحرير الأنشطة من الكوابح الإدارية، وابتكار أفكار وصيغ جديدة للتفاعل الثقافي بين المبدعين والتجارب الثقافية في بلدان الخليج، بحيث يشكّل كلُّ حدث ثقافيّ إضافة في عملية تراكمية لا أن تراوح في المكان نفسه.
القطيعة بين النطاقين الأكاديمي والعمومي
من تلك التحديات أيضا: القطيعة بين النطاقين الأكاديمي والعمومي، مهيبا بالجامعات أن تتحوَّل إلى فاعل في الحياة الثقافية، وتتغلّب على حال الانفصام بينها وبين الحراك الثقافي – الفكري في المجتمع بسبب الآلية التي يجري بها اختيار الطاقم الأكاديمي وأشكال الرّيبة الموروثة في دور الأستاذ الجامعيّ أو المثقَّف، - على خلاف ما تؤدّيه الجامعات – ليس في البلدان الغربيَّة وإنما في بلدان عربية أخرى.
نمط الثقافة الاستهلاكية
كذلك يعدُّ نمط الثقافة الاستهلاكية إحدى التحدِّيات، وهي أحد المظاهر التي ترتّبت على تشكيل ما وصف ب"الدولة الريعية" في المنطقة، حيث اعتاد الناس، أو قطاعات كبيرة منهم، "مغريات" ما أتاحت هذه الدولة من يسر ظاهريّ في العيش ناجم عن وفرة العائدات النفطية التي مكّنت الحكومات من تأمين متطلبات عيش معقولة للمواطنين، وأتاحت لهم خدمات ليست متاحة في بلدان أخرى، عربية وغير عربية، ثمّ إن هذا النمط من العيش خلق، بالموازاة، وعيا مشوّها، ليتناغم مع اسلوب االعيش السائد.
تحدّيات ما بعد الدولة الريعية
وبشأن تحدّيات ما بعد الدولة الريعية، يقول المؤلّف إن بلدان الخليج ولجت، أو أوشكت، مرحلة جديدة، مع تراجع العوائد النفطية وتناقص أهميّة النفط كمصدر للطاقة، إن باكتشاف بدائل له أو بتوجّه الدول المستوردة له إلى اتباع سياسات الاكتفاء الذاتيّ، وهي سياسات ربما تكون ما تزال في بدايتها، ولكنّها قابلة لأن تترسَّخ في المستقبل المنظور، ما يجعل مجتمعات الخليج أمام مرحلة جديدة يتناقض معها دور الدولة الرّيعية وربّما يتلاشى، وعلينا في النتيجة، أن ننتظر انعكاسات أفول هذه الدولة الريعيّة، وولوج مجتمعات المنطقة إلى ما بعدها، على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، بما في ذلك على الثقافة نفسها، فكما كان للنمط الريّعي الذي ساد العقود آثاره، فإنّه سيكون لما يليه آثار أيضا، والمثقف مطالب قبل سواه بقراءة التحوّلات الجديدة واستشراف أبعادها وتداعياتها المحتملة، وبالعمل على "تموضع" جديد للثقافة، يحررها ما أمكن من المظاهر الاستهلاكية التي طبعت بعض جوانبها.
تحدّي المحافظة
ثمّة تحد آخر يشير إليه د. مدن يتمثّل في تراجع وتقهقر فضاءات التنوير والحداثة لمصلحة نموّ التيارات المحافظة التي تعمّق المأزق البنيوي القائم في هذه المنطقة أساسا بين حداثة في المظاهر وفي المعمار من جهة، والبنية السياسية والاجتماعية المحافظة.
ويبدو أن أزمة العمل التطوّعي الحاضرة وانفضاض الأعضاء من حول مؤسّسات المجتمع المدني وما تعرف بجمعيات النفع العام تكمن تحديدا في أن الجيل الذي أسَّس هذه الجمعيات قد تراخى ودبّت في أوصاله علامات الوهن، ومرد ذلك هو التناقض الكامن بين الحداثة الخارجية الآتية من الاندماج في الاقتصاد المعولم والرغبة في اكتساب الشرعية من الماضي. كذلك أدّى تقهقر مكانة الحركات الفكرية والسياسية القومية والتقدمية، إلى غياب الحوامل التي تتكيء عليها هذه الحداثة الأدبية وانحسار رقعة تأثيرها.
تحدّي الثقافة الشفهية الجديدة
وفي مجتمعات بالكاد انتقلت من الثقافة الشفاهية إلى الثقافة المكتوبة، يبرز تحدّي الثقافة الشفهية الجديدة، حيث يصبح السمعي والبصري هما قناة التأاثير المباشر ، بكل ما لثقافة الصورة من أوجه قصور بالقياس إلى ثقافة الكلمة التي تدرّب على تحليل العلاقة بين الأفكار والمفاهيم، فيما تفرض ثقافة الصورة – بكل ما لها من إبهار وسطوة – تأثيرها الفوريّ في الأذهان، وتحول دون التراكم الثقافيّ والمعرفي الذي تحقّقه ثقافة الكلمة.
العلاقة مع التاريخ الثقافي
يؤكد الباحث، ضرورة صوغ علاقة جديدة للموقف من الموروث الشعبي، بالإضافة للحاجة الماسّة إلى دراسة التأريخ الثقافي في الخليج وتسليط الضوء على رموز هذا التاريخ ومعالمه، بيد أن مثل هذه الدراسة لن تكون ميسّرة ما لم يجرِ تأصيل منهج البحث نفسه، كما يؤكد أيضا على أن التاريخ الثقافي لم يكتب بعد، فما زالت جهود كثير من المصلحين والتربويين ورجال الفكر والأدب وسواهم غير معروفة وغير ميسّرة للأجيال الجديدة، وما زالت تسود رؤية حذرة ومتردّدة عند التعرض لتاريخنا ورموزه، ومن المتعيّن مغادرة هذه الرؤية لصالح رؤية أخرى شجاعة تجاه مسألة الثقافة الوطنية، مشفوعة بموقف أكثر اتّساعا وانفتاحا إزاء هذا التاريخ تهيء المناخ لمضاعفة الجهود في سبيل رؤية تاريخنا بنظرة جديدة، ففي هذه الرؤية مدخل حقيقي إلى معرفة أنفسنا وإدراك العناصر التي شكّلت شخصية مجتمعنا.
العلاقة الملتبسة مع الحداثة
ويشدّد د.مدن على ضرورة العمل على تحرّر الثقافة الجديدة في مجتمعات الخليج من قيدين يحدّان من فعاليتها: القيد الأول هو النزوع إلى المدرسية والانغلاق على "دوغما" تشبه الرّطانة، والقيد الثاني هو الانبهار ببعض المفاهيم التي تتزيّا بالحداثة وما بعد الحداثة، في حين أنها تعيق الارتباط بمشروع جاد للخروج من دائرة التخلّق.
فالحداثة من حيث هي تجاوز للخمول والتكرار، ومن حيث هي انفتاح على تيارات العصر وأفكاره المختلفة والإفادة منها، - أمر ضروري لا مناص منه لكلّ مثقف جادّ، ولكن غالبا ما تحوّل هذه الحداثة وما بعد الحداثة إلى صنم، إلى قيمة مطلقة، دون تبصّر في المحتوى، وبسبب عبودية الحداثة أو "ما بعدها" تغيب الحداثة المطلوبة، وبدل إنتاج المشروع المجتمعيّ المقبل ينوء المثقّف في تشوّش ذهني وثقافي يزيده عزلة عن واقعه، ويعمّق القطيعة بين الحداثة الحقيقية والمجتمع الذي هو في أمسّ الحاجة إليها.
وسائل التواصل الاجتماعي: نقل الثقافة أو صنعها
يدعو الكاتب إلى عدم إغفال التحوّلات السلبية في المجتمعات العربية، وبينها مجتمعات الخليج، التي تلقي بظلالها الثقيلة أيضا على ما ينشر في بعض المدوّنات وفي المنتديات الإلكترونية وتطبيقات الهواتف النقّالة، حيث نجد بعضها يتحوّل إلى وسيلة لترويج النزعات الطائفية أو التكفيرية والظلامية، وهذا ما أصبح شائعا في السنوات الأخيرة، ما يجعل من المخاطر ذات الأبعاد الاجتماعية والثقافية، الآتية من المجتمع الافتراضي تبدو حقيقية، فنحن إزاء وجه جديد من الثقافات والعوالم لا يعرفها غير المتفاعلين في المجتمعات الافتراضية، له آثاره في مجمل التحوّل الثقافيّ والاجتماعيّ.
الحداثة المنشودة والطريق الطويل
لم يرد الكاتب لكتابه المهم هذا، أن يكون تاريخا للثقافة في الخليج والجزيرة العربية بقدر ما هو وقوف عند محطّات اعتبرها فاصلة في هذا التاريخ، والحداثة التي ينشدها هي تلك التي تضرب بجذورها عميقاً في البنيان الإجتماعي ، الثقافي ، السياسي ، بديلاً للبنى التقليدية المحافظة التي ما زالت تعيد إنتاج نفسها ، ثقافياً واجتماعياً، وتكف عن الاتكاء على الجدار، وبهذا المعنى يرى المؤلف أنّ الطريق نحو هذه الحداثة لا يزال طويلاً وشاقاً، خاصة مع أوجه التراجع عن بعض ما تحقق من أوجه تحديث اجتماعي وثقافي في عقود سابقة.
جريدة البلاد البحرينية - الجمعة 06 مايو 2022
حداثة ظهرها إلى الجدار.. قراءات في التحوّلات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية
كتب - جعفر الديري :
يتتبع كتاب المفكِّر وكاتب المقال الأوّل في البحرين الدكتور حسن مدن، (حداثة ظهرها إلى الجدار.. قراءات في التحوّلات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية)، الجهود التي بذلتها أجيال من النخب المتعلّمة، والمثقّفة الحديثة – خاصة أجيالها الأولى – لكسر عزلة منطقة الخليج والجزيرة العربية عن محيطها العربي، والانفتاح على الحداثة والثقافة الجديدة، محاولاً تقديم ما يشبه اللوحة البانورامية للتحوّلات الثقافية في بلدان المنطقة بالارتباط بالتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرّت بها.
ويؤكد الكتاب أن التحديث في مجتمعات الخليج والجزيرة العربيّة، ما زال يتكّأ على الجانب العمراني المظهري ، غير الخافي على الأعين ، وهذا الجدار نفسه يتحوّل ، مع مرور الوقت ، إلى صدِّ بوجه تقدّم الحداثة ، حين يفهم أن هذا العمران هو نفسه الحداثة ، وما هو بذلك.
نحن ومخاضات الحداثة
يشتمل كتاب (حداثة ظهرها إلى الجدار)، إلى جانب المقدمة، على مدخلٍ بعنوان (نحن ومخاضات الحداثة)، وعلى فصل بعنوان: أدب الجزيرة العربية وحكاية (عزلتين)، يضمّ عدّة مضامين منها: الجزيرة العربية: (العزلة) التي كسرها الإسلام، و(العزلة الثانية) للجزيرة العربية، وعلى فصل آخر بعنوان: التحوّلات الثقافية في مجتمعات الخليج العربي قبل اكتشاف النفط، يتناول فيه الكاتب فيما يتناول روافع التحوّلات الثقافية في بلدان الخليج: تأسيس الأندية الأدبية والثقافية، أثر الصّحافة العربية التنويريّ في المنطقة، رحلات المصلحين العرب إلى الخليج، وبدايات الصحافة في بلدان الخليج، بينما يعرض الفصل الثالث للهند كنافذة ثقافية أولى للخليج على الآخر، من خلال الحديث عن هنود في الخليج، وعن خليجيين في الهند، وعن شخصيات خليجية عاشت في الهند، من الكويت، الإمارات، البحرين، عُمان، السعودية، أمّا الفصل الرابع: المثقّفون في معترك التغيير، فيخصّصه د.مدن للحال البحرينية،، عبر عدة مضامين: ثلاثة أجيال من المثقفين، اكتشاف النفط والانقلاب الحاسم، صحافة ما بعد اكتشاف النفط، أندية ما بعد اكتشاف النفط، التيَّارات والتنظيمات السياسية، جبهة التحرير، حركة القوميين العرب وتحوُّلاتها، التنظيمات الإسلامية: الإخوان المسلمون، حزب الدّعوة، قبل أن يقف عند مسائل: المثقّفين والديمقراطية، تعدُّديتنا النافية للتنوُّع، وشريحة التكنوقراط.
التحدّيات التي تواجهها الثقافة في بلدان الخليج العربي
من الخلاصات التي خرج بها مؤلف الكتاب، أن المنجز الإبداعي المتنامي في بدان الخليج، وظهور أجيال جديدة من المبدعين المتميِّزين، شعراء وروائيين ومشتغلين بالنقد، يجب ألا يحملنا على تجاهل أن التحدّيات التي تواجهها الثقافة في بلدان الخليج العربي ليست قليلة، والتصدّي لها هو أكبر من جهود أفراد أو مؤسسات متفرّقة، ويتطلّب – أولا – تشخيصا جريئا لها، وثانيا وضع خطط جادّة ومدروسة وبعيدة المدى، ذاكرا أبرز هذه التحديات:
التباس العلاقة بين المؤسسة الثقافية الرسمية والفضاء الثقافي
في هذا المجال يدعو المؤلّف إلى الاعتراف بأنّ هناك تقصيرا كبيرا في التواصل بين المبدعين أنفسهم في منطقة الخليج العربي، وأن هناك حاجة إلى المزيد من اللقاء والتفاعل والحوار وتشخيص المفردات التي يشتغل عليها المبدعون في المنطقة، وتحرير الأنشطة من الكوابح الإدارية، وابتكار أفكار وصيغ جديدة للتفاعل الثقافي بين المبدعين والتجارب الثقافية في بلدان الخليج، بحيث يشكّل كلُّ حدث ثقافيّ إضافة في عملية تراكمية لا أن تراوح في المكان نفسه.
القطيعة بين النطاقين الأكاديمي والعمومي
من تلك التحديات أيضا: القطيعة بين النطاقين الأكاديمي والعمومي، مهيبا بالجامعات أن تتحوَّل إلى فاعل في الحياة الثقافية، وتتغلّب على حال الانفصام بينها وبين الحراك الثقافي – الفكري في المجتمع بسبب الآلية التي يجري بها اختيار الطاقم الأكاديمي وأشكال الرّيبة الموروثة في دور الأستاذ الجامعيّ أو المثقَّف، - على خلاف ما تؤدّيه الجامعات – ليس في البلدان الغربيَّة وإنما في بلدان عربية أخرى.
نمط الثقافة الاستهلاكية
كذلك يعدُّ نمط الثقافة الاستهلاكية إحدى التحدِّيات، وهي أحد المظاهر التي ترتّبت على تشكيل ما وصف ب"الدولة الريعية" في المنطقة، حيث اعتاد الناس، أو قطاعات كبيرة منهم، "مغريات" ما أتاحت هذه الدولة من يسر ظاهريّ في العيش ناجم عن وفرة العائدات النفطية التي مكّنت الحكومات من تأمين متطلبات عيش معقولة للمواطنين، وأتاحت لهم خدمات ليست متاحة في بلدان أخرى، عربية وغير عربية، ثمّ إن هذا النمط من العيش خلق، بالموازاة، وعيا مشوّها، ليتناغم مع اسلوب االعيش السائد.
تحدّيات ما بعد الدولة الريعية
وبشأن تحدّيات ما بعد الدولة الريعية، يقول المؤلّف إن بلدان الخليج ولجت، أو أوشكت، مرحلة جديدة، مع تراجع العوائد النفطية وتناقص أهميّة النفط كمصدر للطاقة، إن باكتشاف بدائل له أو بتوجّه الدول المستوردة له إلى اتباع سياسات الاكتفاء الذاتيّ، وهي سياسات ربما تكون ما تزال في بدايتها، ولكنّها قابلة لأن تترسَّخ في المستقبل المنظور، ما يجعل مجتمعات الخليج أمام مرحلة جديدة يتناقض معها دور الدولة الرّيعية وربّما يتلاشى، وعلينا في النتيجة، أن ننتظر انعكاسات أفول هذه الدولة الريعيّة، وولوج مجتمعات المنطقة إلى ما بعدها، على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، بما في ذلك على الثقافة نفسها، فكما كان للنمط الريّعي الذي ساد العقود آثاره، فإنّه سيكون لما يليه آثار أيضا، والمثقف مطالب قبل سواه بقراءة التحوّلات الجديدة واستشراف أبعادها وتداعياتها المحتملة، وبالعمل على "تموضع" جديد للثقافة، يحررها ما أمكن من المظاهر الاستهلاكية التي طبعت بعض جوانبها.
تحدّي المحافظة
ثمّة تحد آخر يشير إليه د. مدن يتمثّل في تراجع وتقهقر فضاءات التنوير والحداثة لمصلحة نموّ التيارات المحافظة التي تعمّق المأزق البنيوي القائم في هذه المنطقة أساسا بين حداثة في المظاهر وفي المعمار من جهة، والبنية السياسية والاجتماعية المحافظة.
ويبدو أن أزمة العمل التطوّعي الحاضرة وانفضاض الأعضاء من حول مؤسّسات المجتمع المدني وما تعرف بجمعيات النفع العام تكمن تحديدا في أن الجيل الذي أسَّس هذه الجمعيات قد تراخى ودبّت في أوصاله علامات الوهن، ومرد ذلك هو التناقض الكامن بين الحداثة الخارجية الآتية من الاندماج في الاقتصاد المعولم والرغبة في اكتساب الشرعية من الماضي. كذلك أدّى تقهقر مكانة الحركات الفكرية والسياسية القومية والتقدمية، إلى غياب الحوامل التي تتكيء عليها هذه الحداثة الأدبية وانحسار رقعة تأثيرها.
تحدّي الثقافة الشفهية الجديدة
وفي مجتمعات بالكاد انتقلت من الثقافة الشفاهية إلى الثقافة المكتوبة، يبرز تحدّي الثقافة الشفهية الجديدة، حيث يصبح السمعي والبصري هما قناة التأاثير المباشر ، بكل ما لثقافة الصورة من أوجه قصور بالقياس إلى ثقافة الكلمة التي تدرّب على تحليل العلاقة بين الأفكار والمفاهيم، فيما تفرض ثقافة الصورة – بكل ما لها من إبهار وسطوة – تأثيرها الفوريّ في الأذهان، وتحول دون التراكم الثقافيّ والمعرفي الذي تحقّقه ثقافة الكلمة.
العلاقة مع التاريخ الثقافي
يؤكد الباحث، ضرورة صوغ علاقة جديدة للموقف من الموروث الشعبي، بالإضافة للحاجة الماسّة إلى دراسة التأريخ الثقافي في الخليج وتسليط الضوء على رموز هذا التاريخ ومعالمه، بيد أن مثل هذه الدراسة لن تكون ميسّرة ما لم يجرِ تأصيل منهج البحث نفسه، كما يؤكد أيضا على أن التاريخ الثقافي لم يكتب بعد، فما زالت جهود كثير من المصلحين والتربويين ورجال الفكر والأدب وسواهم غير معروفة وغير ميسّرة للأجيال الجديدة، وما زالت تسود رؤية حذرة ومتردّدة عند التعرض لتاريخنا ورموزه، ومن المتعيّن مغادرة هذه الرؤية لصالح رؤية أخرى شجاعة تجاه مسألة الثقافة الوطنية، مشفوعة بموقف أكثر اتّساعا وانفتاحا إزاء هذا التاريخ تهيء المناخ لمضاعفة الجهود في سبيل رؤية تاريخنا بنظرة جديدة، ففي هذه الرؤية مدخل حقيقي إلى معرفة أنفسنا وإدراك العناصر التي شكّلت شخصية مجتمعنا.
العلاقة الملتبسة مع الحداثة
ويشدّد د.مدن على ضرورة العمل على تحرّر الثقافة الجديدة في مجتمعات الخليج من قيدين يحدّان من فعاليتها: القيد الأول هو النزوع إلى المدرسية والانغلاق على "دوغما" تشبه الرّطانة، والقيد الثاني هو الانبهار ببعض المفاهيم التي تتزيّا بالحداثة وما بعد الحداثة، في حين أنها تعيق الارتباط بمشروع جاد للخروج من دائرة التخلّق.
فالحداثة من حيث هي تجاوز للخمول والتكرار، ومن حيث هي انفتاح على تيارات العصر وأفكاره المختلفة والإفادة منها، - أمر ضروري لا مناص منه لكلّ مثقف جادّ، ولكن غالبا ما تحوّل هذه الحداثة وما بعد الحداثة إلى صنم، إلى قيمة مطلقة، دون تبصّر في المحتوى، وبسبب عبودية الحداثة أو "ما بعدها" تغيب الحداثة المطلوبة، وبدل إنتاج المشروع المجتمعيّ المقبل ينوء المثقّف في تشوّش ذهني وثقافي يزيده عزلة عن واقعه، ويعمّق القطيعة بين الحداثة الحقيقية والمجتمع الذي هو في أمسّ الحاجة إليها.
وسائل التواصل الاجتماعي: نقل الثقافة أو صنعها
يدعو الكاتب إلى عدم إغفال التحوّلات السلبية في المجتمعات العربية، وبينها مجتمعات الخليج، التي تلقي بظلالها الثقيلة أيضا على ما ينشر في بعض المدوّنات وفي المنتديات الإلكترونية وتطبيقات الهواتف النقّالة، حيث نجد بعضها يتحوّل إلى وسيلة لترويج النزعات الطائفية أو التكفيرية والظلامية، وهذا ما أصبح شائعا في السنوات الأخيرة، ما يجعل من المخاطر ذات الأبعاد الاجتماعية والثقافية، الآتية من المجتمع الافتراضي تبدو حقيقية، فنحن إزاء وجه جديد من الثقافات والعوالم لا يعرفها غير المتفاعلين في المجتمعات الافتراضية، له آثاره في مجمل التحوّل الثقافيّ والاجتماعيّ.
الحداثة المنشودة والطريق الطويل
لم يرد الكاتب لكتابه المهم هذا، أن يكون تاريخا للثقافة في الخليج والجزيرة العربية بقدر ما هو وقوف عند محطّات اعتبرها فاصلة في هذا التاريخ، والحداثة التي ينشدها هي تلك التي تضرب بجذورها عميقاً في البنيان الإجتماعي ، الثقافي ، السياسي ، بديلاً للبنى التقليدية المحافظة التي ما زالت تعيد إنتاج نفسها ، ثقافياً واجتماعياً، وتكف عن الاتكاء على الجدار، وبهذا المعنى يرى المؤلف أنّ الطريق نحو هذه الحداثة لا يزال طويلاً وشاقاً، خاصة مع أوجه التراجع عن بعض ما تحقق من أوجه تحديث اجتماعي وثقافي في عقود سابقة.
جريدة البلاد البحرينية - الجمعة 06 مايو 2022