في ستينيات القرن الماضي، انتقلت من وادي الزهور إلى مدينة قسنطينة للدراسة كان عمري15 عاما ،لم تكن الأمور تجري بما نحب ونرضى، انتسبت في بداية الأمر إلى المدرسة الليلية مقابل 02 د.ج للشهر، لم ترض طموحي، ورغبتي الكبيرة في التحصيل العلمي النظامي، وبعد فترة وجهود كبيرة دخلت مدرسة "الكتانية" بسوق العصر، وسجلت في السنة الخامسة "65-66" في نفس العام الدراسي وفقت في نيل شهادة التعليم الإبتدائي.
قلتُ: فُرجت.. لكن جرت الريح بما لا نشتهي، كان من الطبيعي يومئذ أن يتم تسجيلنا في السنة الأولى ثانوي، لكن حدث ما لم نكن نتوقعه حيث ألغت وزارة التربية والتعليم، ما كان يجيز ذلك، بتعليمة أخرى تمنع التسجيل في السنة الأولى ثانوي سوى لأبناء الشهداء المولودين سنة 1953.
اضطرت إدارة مدرسة الكتانية بتسجيلنا على مستوى المعهد الإسلامي التابع لوزارة الشئون والأوقاف، وللتاريخ يجب القول أن المعاهد الإسلامية - بعد الأستقلال- لعبت دورا هاما، وتاريخيا، من حيث أنها استقبلت التلاميذ القادمين من ربوع الجزائر العميقة، الذين حرموا من الدخول إلى المدارس، بحكم أن الريف الجزائري كان الخصن القوي الذي احتضن الثورة التحريرية الكبرى "1954-1962"، كما ان هذه المعاهد لم تكن تدقق في طبيعة العمر. على الرغم من أننا كنا نتوفر على شهادة التعليم الإبتدائي التي تخول لنا الدخول إلى السنة الأولى إعدادي، ألا ان إدارة
المعهد فرضت علينا أجراء الامتحان مع منتسبي المعهد من الذين لا يحملون الشهادة الإبتدائية، وبعد الامتحان الذي كان يشمل عدة موضوعات ذات الصلة، زائد حفظ بعض سور القرآن الكريم.
كان التدريس في المعهد الإسلامي يؤطره أساتذة من مصر، وغالبيتهم من خريجي الأزهر الشريف، وبعض الجزائريين الذين يعدون على الأصابع، وكانت المواد التعليمية تشمل المواد الدينية واللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، أما اللغة الأحنبية فلم يتم تدريسها في المعاهد الإسلامية إلا في الفترة المتأخرة قبل إلغاء التعليم الأصلي لأسباب غير واضحة يشوبها الغموض، والالتباس، على الرغم من ان هذه المعاهد ساهمت في تخريج دفعات كثيرة من إطارات، قوية ومتمكنة من اللغة العربية، ساهمت في التربية والتعليم، والصحافة والإعلام.
أثناء الدراسة في المعهد الإسلامي لمدة اربع سنوات، كانت هناك نشاطات ثقافية، وعلمية، وترفيهية موجهة للمتعلمين من أجل التنشيط، وإبراز القدرات، والكشف عن المواهب وتشجيعها.
في السنة الثانية تم إنشاء عدة نواد منها نادي الصحافة، وكنت ضمن هذا النادي، الذي كان من فقراته الحديث اليومي إلى الطلبة فيما سمي " بالإذاعة الداخلية"، وكان يذاع من خلاله أحاديث ذات الصلة للطلبة قبل دخولهم إلى الأقسام، كما تم إنشاء صحيفة " الحائط" لتشجيع الطلبة على الكتابة، وكان يتولى رئاسة التحرير الأستاذ المشرف على نادي الصحافة، وهو من جنسية مصرية.
وكان نادي الصحافة أيضا يضم عدة فروع منها المسرح وغيره.
بعد أختيار الطلبة المقترحين لتنشيط نادي الصحافة، وخاصة الذين كانت تتوفر لديهم القدرة على الكتابة، بدانا في تحرير المواد التي يحتويها العدد الأول، واعطيت لنا حرية اختيار الموضوعات الموجهة للنشر في العدد الأول.
بحكم أنني كنت كثير المطالعة، والتنقيب في الكتب، والمكتبات، خاصة وان هناك مكتبة بجوار المعهد تابعة لوزارة الأخبار، والتي تتوفر على كتب وجرائد، ومجلات.. حيث كنت أقضي أوقات الفراغ في القراءة، والمطالعة، وتصفح المجلات خاصة مجلة "الآداب" الببروتية، التي كانت تفتنني بموادها المتنوعة من القصص والشعر، والدراسات النقدية لعمالقة الثقافة العربية في فترة الستينيات التي عرفت ازدهارا ثقافيا كبيرا ما زالت آثاره ممتدة إلى اليوم.
فمن خلال هذه المجلة التي كانت تسعى لترسيخ الحداثة، في المشهد الثقافي العربي الحديث، الذي كانت تتنازعه تيارات مختلفة، وكان يراس تحريرها الأديب سهيل إدريس صاحبها، ومديرها المسئول، العائد من فرنسا حاملا بذور الحداثة، وملامح الوجودية، والذي عمل كثيرا على نشرها،
والتبشير بما تحمله من رؤى، وتصورات.
في "الآداب" قرات للناقد المصري الكبير "محمود أمين العالم"، وكذا "غالي شكري" والقاص المميز "يوسف إدريس" و"أدوار الخراط" هذا القاص والروائي الكبير كانت تشدني لغته الإبداعية القوية، ذات الإيقاعات الشعرية، المشحونة بطزاحة مخيال يلون الحياة، ويبرز الجمال، ويبشر بالمحبة العالية.
في مكتبة وزارة الأخبار التي كان يدريها الأستاذ: "عمر بن مالك" رحمه الله الذي كان يتميز بسخصية قوية، ومنضبطة، وحازمة.
قلت في رحاب هذه المكتبة العامرة استوطنت، وعشت أوقات فراغي، أنهل من كنوزها الوفيرة، ومصنفاتها الكثيرة، في لحظات بهية، ممتعة يسودها الصمت العالي، الذي لا يعكر صفوه سوى خشخشات تقليب صفحات تقليب الكتاب او عطسات من هنا، وهناك..
فيها قرأت ألف ليلة وليلة، وعنترة بن شداد، وسيف بن دي يزن، وحمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، وكذا الروض العاطر في نزهة الخاطر، وأعتقد أنه اول مصنف في اللغة العربية يتحدث عن الثقافة الجنسية بكثير من الصراحة، والوضوح، ومؤلفه الشيخ النفزواى من مدينة نفزة
بتونس الشقيقة وفي سياق المتن يشير الشيخ النفزاوي- رحمه الله- أنه كان يلاقي صعوبات جمة عند تناوله مثل هذه الموضاعات التي كان ينظر إليها نظرة فيها الكثير من العيب. وعندما قدم أحد الوزاء من أصول جزائرية، قابل الشيخ النفزواي وشجعه على مواصلة التأليف والكتابة في مثل هذه الموضوعات ذات الصلة القوية بحياة الإنسان.
وفرة الكتب ساعدتني علي تنويع القراءة، وسد العطش الكبير للمعرفة، والتحصيل العلمي، انا القادم من بيئة ريفية ترى في العلم وجاهة، وقيمة لا تضاهى.
قرات جل مؤلفات المفكر المصري الكبير "سلامة موسى" الذي كانت له ثقافة استشرافية كبيرة، توفرت له من خلال اطلاعه الواسع، ومعرفته الواعية، وإحساسه الكبير بضرورة بالدخول إلى جدليات الحياة المعاصرة، بعيدا عن المفاهيم القاصرة التي تفصل الإنسان عن حيواته، ونوازعه، ومتطلباته النفسية، والبيولوجية التي بها تستمر الحياة، ويتم التطور، وقد عانى في مصر الكثير من الظلم، والقهر والجحود
وقد قوبلت أفكاره بعنف، واستخفاف خاصة من طرف الجماعات التي تستند إلى مظان، ومرجعيات ثقافية مفصولة عن واقعها، وبعيدة عن مقول العصر، ومطلب الوجود.
كانت كتب سلامة موسى المصباح الذي انار لي الدرب، وفتح لي آفاقا واسعة في التفكير، والحلم ، والحياة، وكانوا في مصر -يوم ذاك- يلقبونه "بالأديب المراحيضي" لأنه دعا إلى توفير مراحيض للفلاحين في الريف المصري.
وفي كتابه الكبير "هؤلاء علموني" تحدث عن المفكرين، والعلماء، والفلاسفة، والأدباء الذين تأثر بهم، وبافكارهم الكببرة التي بصرته بالكثير من معميات الحياة.
انطلاقا معرفيا، وجماليا، وإعجابا بأفكار سلامة موسى، كتبت لمجلة"الحائط" مقالة بعنوان "سلامة موسى والاختلاط الجنسي" وقد نشرت في مجلة الحائط، وقد أجاز نشرها المشرف على التحرير، وهو أستاذ مادتي التاريخ والجغرافيا، وهو غير أزهري، ولما اطلع على محتواها الأساتذة الأزهريين الذين يحملون ثقافة دينية، كهنوتية، مترسخة في الماضوية المتزمتة شنت عليّ حملة مسعورة، وطالبوا بطردي من المعهد الإسلامي، ووصفوني بأبشع الأوصاف، التي كانت لا وجود لها في مخيلتي الطفولية الطرية، الغضة المتطلعة إلى نور حياة جديدة بهية في ربوع الجزائر المستقلة.
كادت الأمور ان تاخذ مسارا آخر لولا تدخل مدير المعهد "الأستاذ بوزيد سماتي" رحمه الله، خريج القاهرة، واصيل أولاد جَلاّل، وكذا الأستاذ أحمد على الصغير من مصر ..
ولقد عانيت كثيرا من الأساتذة الأزهريين، الذي أشبعوني بالأوصاف، والنعوت.. مثل: متطرف، خطير.. الخ.
الأكثر إيلاما في هذه الحادثة، هو عنف الهجوم الذي وجه لي من قبل هيئة التدريس - يومئذ- والذي كان من الأفضل، والأجود أن تكون المعالجة مرنة، تراعى فيها المستوى العمري لطالب غض الإيهاب، وفي مقتبل العمر، وليست له التجربة الكافية في مثل هكذا موقف.
عمليا كاد مثل هذا التصرف، أن يخمد في نفسي حب الكتابة، والبحث عن منافذ المعرفة، والذهاب نحو آفاق معرفية، تعمل على بلورة التجربة، وتحصين الذات من الهفوات، والعثرات.. لكنني- كما يقال- بلعت الحسرة، وصححت النظرة، وأخذت العبرة، وشمرت الذراع، وثقفت اليراع، وسلكت الطريق -لا بحثا عن الشهرة، والبريق- وإنما حب الكتابة، والاستئناس بمناخاتها، وأجوائها المترعة بالمحبة والخيال، الذي يدفع نحو مناطق السكينة، ومشارف البهاء، وسبل النماء، لتوسيع مجال التحصيل، وعوامل التأهيل..
عبد الحميد شكيل
7 من شهر نوفمبر2020
قلتُ: فُرجت.. لكن جرت الريح بما لا نشتهي، كان من الطبيعي يومئذ أن يتم تسجيلنا في السنة الأولى ثانوي، لكن حدث ما لم نكن نتوقعه حيث ألغت وزارة التربية والتعليم، ما كان يجيز ذلك، بتعليمة أخرى تمنع التسجيل في السنة الأولى ثانوي سوى لأبناء الشهداء المولودين سنة 1953.
اضطرت إدارة مدرسة الكتانية بتسجيلنا على مستوى المعهد الإسلامي التابع لوزارة الشئون والأوقاف، وللتاريخ يجب القول أن المعاهد الإسلامية - بعد الأستقلال- لعبت دورا هاما، وتاريخيا، من حيث أنها استقبلت التلاميذ القادمين من ربوع الجزائر العميقة، الذين حرموا من الدخول إلى المدارس، بحكم أن الريف الجزائري كان الخصن القوي الذي احتضن الثورة التحريرية الكبرى "1954-1962"، كما ان هذه المعاهد لم تكن تدقق في طبيعة العمر. على الرغم من أننا كنا نتوفر على شهادة التعليم الإبتدائي التي تخول لنا الدخول إلى السنة الأولى إعدادي، ألا ان إدارة
المعهد فرضت علينا أجراء الامتحان مع منتسبي المعهد من الذين لا يحملون الشهادة الإبتدائية، وبعد الامتحان الذي كان يشمل عدة موضوعات ذات الصلة، زائد حفظ بعض سور القرآن الكريم.
كان التدريس في المعهد الإسلامي يؤطره أساتذة من مصر، وغالبيتهم من خريجي الأزهر الشريف، وبعض الجزائريين الذين يعدون على الأصابع، وكانت المواد التعليمية تشمل المواد الدينية واللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، أما اللغة الأحنبية فلم يتم تدريسها في المعاهد الإسلامية إلا في الفترة المتأخرة قبل إلغاء التعليم الأصلي لأسباب غير واضحة يشوبها الغموض، والالتباس، على الرغم من ان هذه المعاهد ساهمت في تخريج دفعات كثيرة من إطارات، قوية ومتمكنة من اللغة العربية، ساهمت في التربية والتعليم، والصحافة والإعلام.
أثناء الدراسة في المعهد الإسلامي لمدة اربع سنوات، كانت هناك نشاطات ثقافية، وعلمية، وترفيهية موجهة للمتعلمين من أجل التنشيط، وإبراز القدرات، والكشف عن المواهب وتشجيعها.
في السنة الثانية تم إنشاء عدة نواد منها نادي الصحافة، وكنت ضمن هذا النادي، الذي كان من فقراته الحديث اليومي إلى الطلبة فيما سمي " بالإذاعة الداخلية"، وكان يذاع من خلاله أحاديث ذات الصلة للطلبة قبل دخولهم إلى الأقسام، كما تم إنشاء صحيفة " الحائط" لتشجيع الطلبة على الكتابة، وكان يتولى رئاسة التحرير الأستاذ المشرف على نادي الصحافة، وهو من جنسية مصرية.
وكان نادي الصحافة أيضا يضم عدة فروع منها المسرح وغيره.
بعد أختيار الطلبة المقترحين لتنشيط نادي الصحافة، وخاصة الذين كانت تتوفر لديهم القدرة على الكتابة، بدانا في تحرير المواد التي يحتويها العدد الأول، واعطيت لنا حرية اختيار الموضوعات الموجهة للنشر في العدد الأول.
بحكم أنني كنت كثير المطالعة، والتنقيب في الكتب، والمكتبات، خاصة وان هناك مكتبة بجوار المعهد تابعة لوزارة الأخبار، والتي تتوفر على كتب وجرائد، ومجلات.. حيث كنت أقضي أوقات الفراغ في القراءة، والمطالعة، وتصفح المجلات خاصة مجلة "الآداب" الببروتية، التي كانت تفتنني بموادها المتنوعة من القصص والشعر، والدراسات النقدية لعمالقة الثقافة العربية في فترة الستينيات التي عرفت ازدهارا ثقافيا كبيرا ما زالت آثاره ممتدة إلى اليوم.
فمن خلال هذه المجلة التي كانت تسعى لترسيخ الحداثة، في المشهد الثقافي العربي الحديث، الذي كانت تتنازعه تيارات مختلفة، وكان يراس تحريرها الأديب سهيل إدريس صاحبها، ومديرها المسئول، العائد من فرنسا حاملا بذور الحداثة، وملامح الوجودية، والذي عمل كثيرا على نشرها،
والتبشير بما تحمله من رؤى، وتصورات.
في "الآداب" قرات للناقد المصري الكبير "محمود أمين العالم"، وكذا "غالي شكري" والقاص المميز "يوسف إدريس" و"أدوار الخراط" هذا القاص والروائي الكبير كانت تشدني لغته الإبداعية القوية، ذات الإيقاعات الشعرية، المشحونة بطزاحة مخيال يلون الحياة، ويبرز الجمال، ويبشر بالمحبة العالية.
في مكتبة وزارة الأخبار التي كان يدريها الأستاذ: "عمر بن مالك" رحمه الله الذي كان يتميز بسخصية قوية، ومنضبطة، وحازمة.
قلت في رحاب هذه المكتبة العامرة استوطنت، وعشت أوقات فراغي، أنهل من كنوزها الوفيرة، ومصنفاتها الكثيرة، في لحظات بهية، ممتعة يسودها الصمت العالي، الذي لا يعكر صفوه سوى خشخشات تقليب صفحات تقليب الكتاب او عطسات من هنا، وهناك..
فيها قرأت ألف ليلة وليلة، وعنترة بن شداد، وسيف بن دي يزن، وحمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، وكذا الروض العاطر في نزهة الخاطر، وأعتقد أنه اول مصنف في اللغة العربية يتحدث عن الثقافة الجنسية بكثير من الصراحة، والوضوح، ومؤلفه الشيخ النفزواى من مدينة نفزة
بتونس الشقيقة وفي سياق المتن يشير الشيخ النفزاوي- رحمه الله- أنه كان يلاقي صعوبات جمة عند تناوله مثل هذه الموضاعات التي كان ينظر إليها نظرة فيها الكثير من العيب. وعندما قدم أحد الوزاء من أصول جزائرية، قابل الشيخ النفزواي وشجعه على مواصلة التأليف والكتابة في مثل هذه الموضوعات ذات الصلة القوية بحياة الإنسان.
وفرة الكتب ساعدتني علي تنويع القراءة، وسد العطش الكبير للمعرفة، والتحصيل العلمي، انا القادم من بيئة ريفية ترى في العلم وجاهة، وقيمة لا تضاهى.
قرات جل مؤلفات المفكر المصري الكبير "سلامة موسى" الذي كانت له ثقافة استشرافية كبيرة، توفرت له من خلال اطلاعه الواسع، ومعرفته الواعية، وإحساسه الكبير بضرورة بالدخول إلى جدليات الحياة المعاصرة، بعيدا عن المفاهيم القاصرة التي تفصل الإنسان عن حيواته، ونوازعه، ومتطلباته النفسية، والبيولوجية التي بها تستمر الحياة، ويتم التطور، وقد عانى في مصر الكثير من الظلم، والقهر والجحود
وقد قوبلت أفكاره بعنف، واستخفاف خاصة من طرف الجماعات التي تستند إلى مظان، ومرجعيات ثقافية مفصولة عن واقعها، وبعيدة عن مقول العصر، ومطلب الوجود.
كانت كتب سلامة موسى المصباح الذي انار لي الدرب، وفتح لي آفاقا واسعة في التفكير، والحلم ، والحياة، وكانوا في مصر -يوم ذاك- يلقبونه "بالأديب المراحيضي" لأنه دعا إلى توفير مراحيض للفلاحين في الريف المصري.
وفي كتابه الكبير "هؤلاء علموني" تحدث عن المفكرين، والعلماء، والفلاسفة، والأدباء الذين تأثر بهم، وبافكارهم الكببرة التي بصرته بالكثير من معميات الحياة.
انطلاقا معرفيا، وجماليا، وإعجابا بأفكار سلامة موسى، كتبت لمجلة"الحائط" مقالة بعنوان "سلامة موسى والاختلاط الجنسي" وقد نشرت في مجلة الحائط، وقد أجاز نشرها المشرف على التحرير، وهو أستاذ مادتي التاريخ والجغرافيا، وهو غير أزهري، ولما اطلع على محتواها الأساتذة الأزهريين الذين يحملون ثقافة دينية، كهنوتية، مترسخة في الماضوية المتزمتة شنت عليّ حملة مسعورة، وطالبوا بطردي من المعهد الإسلامي، ووصفوني بأبشع الأوصاف، التي كانت لا وجود لها في مخيلتي الطفولية الطرية، الغضة المتطلعة إلى نور حياة جديدة بهية في ربوع الجزائر المستقلة.
كادت الأمور ان تاخذ مسارا آخر لولا تدخل مدير المعهد "الأستاذ بوزيد سماتي" رحمه الله، خريج القاهرة، واصيل أولاد جَلاّل، وكذا الأستاذ أحمد على الصغير من مصر ..
ولقد عانيت كثيرا من الأساتذة الأزهريين، الذي أشبعوني بالأوصاف، والنعوت.. مثل: متطرف، خطير.. الخ.
الأكثر إيلاما في هذه الحادثة، هو عنف الهجوم الذي وجه لي من قبل هيئة التدريس - يومئذ- والذي كان من الأفضل، والأجود أن تكون المعالجة مرنة، تراعى فيها المستوى العمري لطالب غض الإيهاب، وفي مقتبل العمر، وليست له التجربة الكافية في مثل هكذا موقف.
عمليا كاد مثل هذا التصرف، أن يخمد في نفسي حب الكتابة، والبحث عن منافذ المعرفة، والذهاب نحو آفاق معرفية، تعمل على بلورة التجربة، وتحصين الذات من الهفوات، والعثرات.. لكنني- كما يقال- بلعت الحسرة، وصححت النظرة، وأخذت العبرة، وشمرت الذراع، وثقفت اليراع، وسلكت الطريق -لا بحثا عن الشهرة، والبريق- وإنما حب الكتابة، والاستئناس بمناخاتها، وأجوائها المترعة بالمحبة والخيال، الذي يدفع نحو مناطق السكينة، ومشارف البهاء، وسبل النماء، لتوسيع مجال التحصيل، وعوامل التأهيل..
عبد الحميد شكيل
7 من شهر نوفمبر2020