سلام إبراهيم - فردوسي المفقود.. عن المكان الأول

(الإنسان مخلوق يظل يحنّ دوما إلى الطفولة.)


في الديوانية ولدت ونشأت ولم أغادرها إلا إلى بغداد في سنوات دراساتي الجامعية. هنالك في مدينتي المحاطة بالصحراء من جهات ثلاث يكمن سري، طفولتي، صباي، مراهقتي، نضجي، فيها أحببت وتزوجت، عملت موظفا، فيها انخرطت في السياسة والأدب، فاعتقلت في مديرية أمنها أربع مرات خلال سبعينيات القرن الماضي. وعندما هربت أنا وزوجتي إلى الثوار في الجبل 1985 تركت فيها أعز وديعة ,ابني - كفاح - كان عمره ثلاثة أعوام. لتتحول في البعد إلى مادة الحديث والأشواق لاسيما أن زوجتي هي جارتي وأختي الكبيرة "وداد عبد إبراهيم" كانت مدرستها في مادة الكيمياء بالمرحلة الإعدادية. الديوانية مدار همنا وحديثنا، فتحولت لاحقا إلى حلم عاشر منامي وأحلام يقظتي.
الديوانية تشكل عالمي الداخلي والفيزيقي.
في كتبي التي نُشِرَتْ تجدها خلف كل سطر مُشكلةً روح النص، وجميع هذه النصوص تدور وتغور في جدران وغرف وشوارع وسوق ودكاكين وبشر المدينة.
بعد الاحتلال الأمريكي لبلدي 2003.
لم يبق مكان من أمكنة طفولتي وصباي ونضجي لم أزره مستعيدا تفاصيل وطعم تلك الأيام الحميمة بكل عنائها. زرت مدرستي الابتدائية - الثقافة - المجاورة لموقف سجن - حي العصري - الشهير، وَحدثتُ التلاميذ في الصف الأول والثالث عن ذكريات المكان، عن المعلمين تلك الأيام، قسوة بعضهم وطيبة البعض. حكيت لهم قصة المعلم - جبار - وفرط قسوته، سردتها لاحقا في الفصل الأخير من - الحياة لحظة - والشخصية تستذكر معلم مادة العربية القاسي شديد التشيع وهو يجبرهم على تعلم الصلاة، عن المعلمين الذين اختفوا صبيحة 8 شباط 1963 ليكتشفوا لاحقاً أنهم نزلاء سجن - حي العصري - المجاور كونهم شيوعيين. كنت أقضي وقتي في السوق متنقلا بين دكاكين الخياطين والحدادين والنجارين والحلاقين وأصحاب المقاهي من معارفي وأصدقائي منصتا لقصصهم منتشياً أنقب بأسئلتي القصيرة عن مصائر الأصدقاء الذين ضاعوا في الأقبية أو قتلوا في الحروب والانتفاضة، أو ماتوا في غيابي. حرزت العديد من القصص والحكايات الجديرة بالرواية والكتابة.
كنت أتسكع مع من تبقى من الأصدقاء في بقايا أزقة - الجديدة - والمحلات معيدين تخليق تلك الأمكنة فترة الستينيات والسبعينيات مع شخوصها الأحياء والأموات في محاولة لصياغة روح المكان القديم وأنا وسطه.
كنت أتملى الوجوه المتعبة للمعارف والأصدقاء الأحياء وقد هرمت فجأة. نفس الوجوه الغضة وجدتها هرمة وفراغ سنين المنفى ردمتها لحظة عودتي وكأنني لم أغب قط.
كانت الوجوه المغضنة تقول لي فداحة السنين التي ضاعت بالمنفى، فأشعر بالغصة وأبناء مدينتي المعجونين في دمي هرموا في غيابي.
أمي وأبي ماتا في غيابي.
العديد من الأحبة اما قتلوا في سجون الدكتاتور أو قتلوا في جبهات الحرب. سأحكي لك قصة. في زيارتي الأولى كنت أتسلل من الفجر أتسكع في شوارع المدينة مستمتعا بكل صوت ولون وغبار ووجوه الناس وهي تمارس شأنها في الحياة. في طريق عودتي إلى البيت أمرُّ على مقهى صغير وسط المدينة، صاحب المقهى - جواد المراقب - مدرس تحّول إلى هذه المهنة زمن الحصار وفقد ثلاثة أخوة أصغر منه أعدمهم الدكتاتور. وفيما كنت أتحدث معه عن الديوانية والحياة وعناء تلك الأيام أطلت عليَّ عينان من ملصق على الجدار المقابل. عينان أعرفهما. تأملت القسمات السمراء الغائمة لرداءة التصوير وهتفت بغتة وأنا أقرأ تحت اسمه كلمة شهيد.
- جهاد -..صديقي الحداد الذي كنت أضيع معه كلما صادفني في شارع، فيأخذني إلى قاع الديوانية، عمال بناء، حمالون، صباغون، بائعو خضرة، (عربنچية) فلا أعود إلى البيت إلا في ساعة متأخرة من الليل مخمورا. كان يساريا يؤمن بانتصار الطبقة العاملة الأكيد.
أخبرني - جواد المراقب - صاحب المقهى بأن الجيش العراقي أخذه بعد احتلال المدينة وطرد المنتفضين في 1991 وضاع إلى الأبد.
ما زلت أحنّ إلى طفولتي الضائعة في شوارعها، فردوسي المفقود.)


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...