محمد خضير - حرب بطول قنبلة

حرب تشرين
نشأ جيلٌ من العراقيين على وقع أصوات الحرب العربية مع اسرائيل، وهي ليست حرباً واحدة فقط، ولم تكن تعنِهِم أيٌّ منها بسوى شعور قوميّ عام نما منذ نكبة ١٩٤٨، وغزا أفكارَهم، يسارية كانت أم يمينية. ومن جانب خاص جداً، فقد شغلت مناخاتُ الحرب كُتّاباً وجدوا في حرب الأيام الستّة العام ١٩٦٧ تحفيزاً لأخيلتهم عن الصراع الاستعماري الذي شكّل وعيَهم المبكر بالظلم والاستغلال، فاستمالتْهم الحربُ فجأة، وحصرتْهم في زاويتها، لإكمال ما بدأته انقلاباتُ التحرير العربية في مصر والعراق وسوريا (١٩٥٢، ١٩٥٨، ١٩٦٣). استجاب الكتّابُ مسرعين الى احتواء أخيلة الحرب (الصورة الإيجابية لشريط الثورة السلبية)، وقد وّفّرت لهم يومياتٍ لوقائع ملموسة ومرامٍ نارية حقيقية (وكانت اليوميات _ الروائية_ النسخة البديلة لمأساة الهزيمة الفعلية). كانت الصحافة تنقل لهؤلاء الكتّاب صورَ نزول السكان الى الملاجئ، والاحتماء بما ظلّ قائماً من أسقُف الأبنية المقوَّضة، وحديدِها النافر من خرسانتها المتصدّعة، وفي كلّ ثنية متروكة على جوانب الطرق المخرَّبة. كانت تلك الصور الفوتوغرافية خارقة وباعثة للرعشة، بما لا يقاس من لونها الرمادي؛ عانقناها من خلال شحوبها التصويري المأساةَ بقوة، ثم طرحناها في نصوصنا بأسلوبٍ جاوزَ سرعة الحرب الخاطفة التي اقترن اسمُها بيوم الغفران الاسرائيلي.

كانت الحرب صورة مؤجلة في وجدان العرب المنتظرين الاشتباكَ المصيري والتعويض عن الانكسار في حروب صغيرة سابقة (حرب ١٩٤٨ والعدوان الثلاثي على مصر ١٩٥٦ مثلاً) فلم تزدهم حربُ ١٩٦٧ إلا إمعاناً في مطاردة الأخيلة المنكسِرة (بوجدان مثقل بخطايا الأسلوب في نصّ جبران: الأجنحة المتكسّرة). وهذا يعني في وجدانهم طلباً جوّانياً لتخريبٍ شامل أكبر، وتقويضٍ أبعد عمقاً لصور الحياة الرخيّة في الأرض المفقودة (وثانية تحضر الاستعارة السماوية لنصّ ملتون: الفردوس المفقود). لم يطالب الكتّابُ العرب بأكثر من تلك المطاردة المثالية لحرب نهائية، بأخطاء أقلّ فداحة من النصوص المستعارة الغائبة (بما فيها سِيَر البطولة الشعبية التي دأبت مطابع مصر على تصديرها للخيال العربي الجائع لمعركة نهائية توظّف الجانَ لخدمة الإنس والسماءَ لنجدة الأرض). كان هذا التوق الحارق يطارد الوجدانَ العربي الى تصوير أقصى النهايات المجنَّحة بزغَب الذات المنتشية بانكسارها (روايات يوسف القعيد وجمال الغيطاني وهاني الراهب وأشعار نزار قباني ومحمود درويش، إضافة إلى مئات القصص القصيرة، ونصوص نقد الذات السياسية والفكرية لمحمد حسنين هيكل وصادق جلال العظم ومحمود امين العالم) حتى وصلت الحرب إلى عقر دُورِهم، حاملة تحت جنحيها أعظمَ قدر من الرعب، واستيقظوا على ما سُمّي بعدئذ بحروب "الصدمة والذهول" ذات الاستراتيجيات التقويضية الشاملة للأرض والناس والوجدان.

إزاء هذا الطوفان من الأحاسيس المنكسِرة، والاستراتيجيات المندحِرة، تبدو حرب الأيام الستّة من حزيران ١٩٦٧، حقاً، أول تجريب لصدمة الوجدان بمخزونه من اللهب الأزرق (مقارنة أيضا بتعبير جبران الوجداني: الشعلة الزرقاء). لكنّنا سنصف هذا اللهب "المقدس" لحِلف الكتّاب العرب، وتوقِهم لحرب نهائية، بنوع من القنابل الضخمة، التي لم تُستخدم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولم يُلقَ مثلها من الطائرات الحربية. يومذاك، نشرت إحدى الصحف صورةً لقنبلة إسرائيلية غير منفجرة، يمسكها مواطنٌ مصري، وكانت القنبلة تطولُه بأقدام، واقفةً مثله على رأسها الخامد. ولم يجد وجداني المستطير بأخيلته إلا أن يقصَّ الصورة من الصحيفة ويُلصِقَها في دفتر اليوميات (والحقيقة إنّ القنبلة الإسرائيلية تلك كانت من مخلّفات حرب تشرين/ أكتوبر ١٩٧٣ التي حقق فيها الجيش المصري عبوراً مظفّراً لقناة السويس) ثم أرفقتُ اللصقةَ بيومية مؤرخة في ١١ اكتوبر ١٩٧٣ احتفظُ بها مع يوميات نهاية العام (بين ٦ اكتوبر و٣١ ديسمبر ١٩٧٣).
يدفعني وجداني "القديم" لاستنساخ نخبة يوميات، ممّا كتبتُه عن الأيام الأولى من حرب أكتوبر، ومن تلك يومية عن القنبلة والرجل الذي يقارِن طولَه بطولِها:
٦ أكتوبر ١٩٧٣:
"اندلاع الحرب العربية الاسرائيلية الرابعة. القوات المصرية تعبر قناة السويس، بعملية مفاجئة سريعة، وتحطم خط بارليف الاسرائيلي. سماء هضبة الجولان تنبعج كطبق قديم، على الجبهة السورية.

وقتٌ للحرب. وقتٌ للكراهية. الحماس. التعرف على أنواع الأسلحة المعقدة: المدرعات، الطائرات، الصواريخ. سام ٢، ٣، ٦. طائرات سوخوي، ميغ ٢١، ٢٣. دبابات تي ٣٤، ٥٢. مدافع ١٥٠ ملم.. مارشات عسكرية. بلاغات.. هنا غارات وهمية. التبرع بالدم. شوارع يجري تعتيمها. يقولون ستكون حرباً طويلة الأمد. هذه المرة: المبادرة بيدنا. الضربة الاولى قوية. وستنتهي الحرب لصالحنا.

٧ أكتوبر:
الحرب تستمر. لدينا خارطة جصية حائطية للوطن العربي في المدرسة. كانت مهملة، منفِرة، تآكلت حواشيها. على الخارطة، الباهتة الألوان، شرحنا للطلاب الموقف الحربي.

٩ أكتوبر:
الحرب تستمر. الجحيم له (لها) أسماء مختلفة. جحيم سيناء، مصهر الدبابات الضخم في الصحراء، أعنف الأسماء. لم يُدمَّر مثل هذا العدد من الدبابات في أي حرب عالمية سابقة. نشر (بث) التلفزيون صوراً لخط بارليف المحطم. وصوراً أخرى للآليات (الإسرائيلية) المحطمة، وعبور الجنود المصريين قناة السويس. شارة النصر، والعلم المصري، الوجه المغبر الباهت في الصورة كان أعمق من أي تعبير مباشر على الطبيعة. أسرى إسرائيليون يقفون في ثلاثة طوابير، يعقدون أكفّهم على رؤوسهم. صور أخرى: مبان مهدمة، دخان يرتفع في السماء، طائرات تحوم في السماء المدخنة.

١١ أكتوبر:
صورة نشرتها الصحف: قنبلة ضخمة من صنع أميركي لم تنفجر، بعد أن قذفتها الطائرات الإسرائيلية على منطقة شمالي الدلتا المصرية. تبدو القنبلة الضخمة في الصورة عمودية على الأرض، يمسك بها رجل، أضأل منها، يظهر نصفُ جسمه من خلفها. مثل هذه القنابل تسمى (الكرات الحديدية) لأنها تحتوي على عشرات الكرات الحديدية الصغيرة التي تنتشر في جسم الإنسان بعمق. من الفأس الحجري، إلى الرمح والسيف، إلى البارود، إلى القنبلة، الحروب تبتكر أسلحتها التدميرية. ماذا بعد القنبلة؟

٢٣ أكتوبر:
وقف إطلاق النار. أقر مجلس الأمن الدولي في ساعة مبكرة من صباح الأمس قرار وقف إطلاق النار. وقف نوافير الدم والرمال. لنربّت على خيولنا الحديدية. لننتحب متكئين عليها. الحديد يبرد. لنرتجف. لنتذكر. توقفت الحرب، لكن السخط على القرار مستمر.
٢٨ اكتوبر:
في هذا الصباح من عطلة العيد، أستمعُ إلى الأوركسترا الإسبانية من المذياع: عويل هادئ لرياح سيناء، تنتقل بين فوهات المدافع وحطام الآليات، وكان (الغيتار) الذي يقتحم الألحان المعولة، يوقّع تكسّرَ الآمال في قلوب الجنود المتكئين على جدران آلياتهم الصامتة، المرمية في صحراء قاسية. ينتهي اللحن. ساعة التأمل في الجرح.. هنا في المؤخرة نقاسمُ الجنود خبزهم. أليس هذا هو منطق الحروب، منذ فجر التاريخ؟

٢٩ أكتوبر:
أخبار المذياع خلال فترة الهدنة غير مريحة. أنباء عن وصول قوات طوارئ دولية ومراقبين إلى خطوط الجبهات في قناة السويس والجولان لمراقبة تنفيذ قرار مجلس الأمن.. تبادل الأسرى بواسطة هيئة الصليب الأحمر الدولية. اجتماعات ضباط عرب واسرائيليين في الكيلو ١٠١ على طريق السويس_ القاهرة....... رماد الحرب يستقر...... بدأت الصحف والمجلات في نشر خرائط العمليات المنتهية على جبهتي السويس والجولان، وعليها الأسهم البيضاء والسوداء ورموز المدرعات والمظليين للقوات المتحاربة. تحليلات المراقبين العسكريين والمراسلين الصحفيين عن تكتيكات القيادات العربية والإسرائلية: التكتيك المصري يدعى ب (المِدحلة الساحقة): التقدم البطئ والتحصن في المناطق المحررة ثم التقدم. (تكتيك الثور) الإسرائيلي يتمثل بمهاجمة رؤوس الجسور المصرية المتقدمة_ التي تمثل للثور الإسرائيلي غلالة الإثارة الحمراء_ هجمات متكررة في محاولة يائسة لإيقاف تقدم المصريين. أما تبادل الهجمات المعاكسة على جبهة الجولان السورية فقد وصِفت بأنها تشبه (تناطح الأكباش). انتهت الحرب بتداخل القوات المصرية والقوات الإسرائيلية في خط متعرج، نتيجة لأسلوب الحرب على جبهة السويس. أحدثت القوات الإسرائيلية ثغرة في (الدفرسوار) ونفذت منها إلى خلف الجيش المصري. وعلى هذا الشكل المتعرج، المتداخل، ثبت قرار الهدنة...

٣١ كانون الأول ١٩٧٣
الليلة الأخيرة. الليلة نتجاذب أطراف وحدتنا، ونتذكر أسماء موتانا... الليلة نحتفل في عزلتنا، في أزمنتنا البطيئة، كل رجل لوحده، في غرفته...
اللحظة الحاسمة، منتصف الليل. الثواني الجديدة. ميلاد العام الجديد. وسرعان ما يُلَفّ بالجرائد، ويُعمَّد، ويُطلق عليه الاسم المهيأ (كوهوتيك_ سيناء).
سقطت مقصلة الزمن الأرضي الخاطفة على بريات الجيوش المنسحبة، وعلى كراسي الحدائق والملاعب الخالية...... يسحب العام ١٩٧٣ خلفه الثورات المجهضة، وجثث الموتى، على أرصفة آسيا وأفريقيا. الطرود الملغومة. أنجيلا. أليندي. بيكاسو. أودن. طه حسين. الجنود المجهولين. رواد الفضاء.



(*) من جدار محمد خضير في فيسبوك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...