لم تكن المعركة التي قادها الشاعر والناقد الشاب عباس محمود العقاد ضد الشاعر أحمد شوقي في مطلع القرن العشرين نوعاً من استعراض العضلات، أو ترصد الشاعر الكبير، أو محاولة للشهرة بأي شكل من الأشكال، ولكنها كانت تأسيساً لمدرسة جديدة في النظر إلى الشعر والثقافة بطريقة مختلفة عن مدرسة الإحياء التي قادها محمود سامي البارودي في أواخر القرن التاسع عشر، وكذلك المدرسة التقليدية التي كان من أعمدتها في الشعر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وفي النثر مصطفى لطفي المنفلوطي، وهذه المدرسة الجديدة عرفها تاريخ الأدب باسم «مدرسة الديوان»، وأسس لها إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد، وفي عام 1922 أصدر المازني والعقاد كتاباً أسمياه «الديوان»، ونال هذا الكتاب اهتماماً كبيراً من الكتاب والنقاد والشعراء، واستطاع أن يستقطب شباباً يدافعون عنه باستبسال، وكان على رأس هؤلاء الشاعر سيد قطب، والذي كتب كتاباً تحت عنوان «مهمة الشاعر في الحياة» صدر بمقدمة للدكتور مهدي علام عام 1933، وجاء الكتاب شارحاً ومادحاً لنظرية العقاد في الشعر، كما استطاع كتاب «الديوان» أيضاً أن يستنبت خصوماً كثيرين، والجدير بالذكر أن العقاد كان قد كتب نقداً في شوقي قبل ذلك بعدة سنوات، وبالتحديد عام 1912، ونشره في كتابه «خلاصة اليومية»، وهوعبارة عن كراسة صغيرة كان العقاد يدون فيها آراءه وأفكاره وخواطره التي ينوي كتابتها في دراسات طويلة فيما بعد، وضمن ما كتبه في تلك الكراسة موضوع يتعلق بتعريف الشاعر، وفي هذا التعريف آثر العقاد أن يفسر معنى الشاعر بالشعور، وهكذا كان يقيس شاعرية شوقي على هذه الفرضية، وعاب عليه «رسمياته» التي كانت تأتي تقليدية جدا، ولا تهز الروح، فكتب معقباً على إحدى قصائد شوقي، والتي رثى فيها بطرس غالي باشا رئيس الوزراء المغتال، ويقول شوقي:
(القوم حولك يا ابن غالي خشع = يقضون حقاً واجباً وذمـامـا
يبكون موئلهم وكهــف رجائـــهم = والأريحي المفضـل المقدامــا
متسابــقـين إلى ثـــــراك كأنـــه = ناديك في عز الحياة زحاما)
وكتب العقاد معقباً: «أكان يريد أن يقول إن زائري قبر الرجل، وفيهم ساداته الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء... كلهم ممن كانوا يقصدون رجاء يستعطون من أريحية ساكنة الجواد ويستدرون من أفضاله؟ أم تراه يحسب أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه، وأنه نائحة المعية، أي ليرثى كل من يموت من خدامها بغير قليل؟».
كان هذا التعقيب مقدمة لما كتبه العقاد عام1922 في كتابه المشترك «الديوان» إذ كتب معقباً على قصيدته في رثاء الزعيم مصطفى كامل: «فأما التفكك فهو أن تكون القصيدة مجموعاً مبدداً من أبيات متفرقة بينها وحدة غير الوزن والقافية وليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة إذ كانت القصائد ذات الأوزان والقوافي المتشابهة أكبر من أن تحصى».
ثم «هذه كومة الرمل التي يسميها شوقي قصيدة في رثاء مصطفى كامل، نسأل من يشاء أن يضعها على أي وضع فهل يراها تعود إلا كومة رمل كما كانت؟ وهل فيها من البناء إلا أحقاف خلت من هندسة تختل ومن مزايا تنتسخ ومن بناء ينقض ومن روح سارية ينقطع أطرادها أو يختلف مجراها، وتقريراً لذلك نأتي هنا على القصيدة كما رتبها قائلها ثم نعيدها على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول ليقرأها القارئ المرتاب ويلمس الفرق بين ما يصح أن يسمى قصيدة من الشعر وبين أبيات مشتتة لا روح لها ولا سياق ولا شعور ينتظمها ويؤلف بينها، ونحن نأسف على فضاء نضيعه من صفحاتنا فلا يعزينا عن ضياعها إلا أنها كما نرجو لا تضيع عبثاً». ويستطرد العقاد في تشتيت أبيات القصيدة حتى يثبت أن القصيدة بلا بناء، بل أنها مكتوبة بشكل عشوائي، وتخلو من فكرة البناء العضوي للقصيدة، وأظن أن فكرة البناء العضوي للقصيدة والنصوص عموماً هي جوهر ما جاء ونادى به العقاد في منهجه، بالإضافة إلى الترابط النفسي الذي يشمل النص الشعري بأكمله، هكذا قرأ - فيما بعد - ابن الرومي وأبا العلاء وغيرهما من الشعراء، وهكذا حاول في تطبيقه هذا المنهج على شعره هو نفسه، وكان شوقي محل نظر طوال رحلة العقاد الفكرية.
ولم يقتصر العقاد على تناول شوقي شاعراً فقط، بل أنه أصدر كتيباً صغيراً بعد ذلك عن مسرحيته «قمبيز» تحت عنوان «رواية قمبيز في الميزان»، ويبدو أن مؤرخي حياة شوقي والعقاد لم يتناولوا هذا الكتاب بالتفصيل، رغم أنه استكمال لنظرية العقاد في الفن، واستكمال لوجهة نظر العقاد في شوقي، وهنا لم يتوقف العقاد عند السمات الفنية والأسلوبية واللغوية فقط، بل تعداها إلى وطنية شوقي وعدم الولاء الكامل لمصر، وهذا - كما يفسره العقاد - أن لشوقي جذوراً أخرى يونانية، فليست حكاية قمبيز في التاريخ المصري محل فخر، كما يرى العقاد، لأن الشاعر لا يلجأ إلى هذه الحكايات إلا بعد أن يستنفد صفحات المجد في ذلك التاريخ، والمسوغ الوحيد لتناول الشاعر مثل هذا الحدث، أن يستخرج منه عبرة وفخراً وأحال ما فيه من هزيمة إلى معنى أشبه بالنصر وأستر للعار، وذاك ما لم يصنعه شوقي في روايته «قمبيز». والمدهش حقاً أن العقاد هنا لم يكتف بتشتيت أشعار المسرحية هنا وهناك، لكنه كان يغير في النص، ويقول لو لم يكتب شوقي هذا وكتب ذلك لكان أفضل، وكان يقترح عدداً من الإجراءات الفنية على النص، وقسم العقاد كتابه إلى عدة فصول تناول فيها «النظم» وهو منطقة شوقي التي من المفترض أن يبرع فيها لطول ممارسته هذا الفن «هذا إذا ما بلغ شوقي غاية الاتقان، فكيف ترى يكون لومه وخذلانه إذا هبط عن غاية الاتقان، ثم هبط عن الاتقان المطلوب؟ ثم هبط إلى السخف والغثاثة، فإذا هو يقنع من الإعجاز بالعجز ويرضى من السبق بالتخلف؟».
ويلي هذا الفصل فصل آخر يتناول فيه التاريخ، ثم ينهي كتابه بفصل ثالث تحت عنوان «الخيال»، ويهمنا هنا أن نقتبس فقرة من حديث العقاد عن فكرة «التاريخ» في قمبيز فيقول:
«للشاعر أن يسد نقص التاريخ حيث سكت، وله أن يفتن في تصوير حقائق التاريخ لبعثها جديدة ويلبسها ثوب الحياة المشهودة، ولهذا تسمى الرواية تاريخية ويراد النظم في الموضوعات المهجورة، أما أن يتناول الشاعر الحقائق ليمسخها ويناقضها فذلك ما لا يجوز ولا يغني فيه حذر، إلا أن تكون رواية التاريخ معناها أن نشوهه ونكذب عليه، وذلك من الرواية التاريخية لا يخطر لأحد على بال، نعم لا يخطر لأحد على بال إلا شوقي وأمثاله، فإن قارئ «قمبيز» ليرى كأنما هذا الشاعر لم ينظمها إلا ليمسخ تلك الفترة من تاريخ مصر، فيمحو كل ما هو حقيق بالذكر ويذكر فيها كل خطأ ولغو وفضول، وهذا بيان وجيز لبعض الأخطاء»، ويعدد العقاد الأخطاء التاريخية لتناول شوقي في المسرحية، بداية من تسميتها «قمبيز»، وهي ليست تسمية مصرية، بل يونانية، ثم حكاية قتل العجل «هابي» بطعنة في فخذه، ويستطرد العقاد : «ولوكان لشوقي بصيرة مؤرخ وخيال شاعر لعرف أن حكاية قتل العجل بتلك الطعنة خرافة لا تثبت على التمحيص، وإن وردت في بعض الروايات، لأن طعنة في الفخذ لا تقتل عجلاً قوياً ولا غير قوي».
والذي يتابع العقاد على مدى حياته بعد شوقي الذي توفي في 13 ديسمبر/كانون الأول 1932، ورحل العقاد في 13 إبريل/نيسان 1964، سيلاحظ أن العقاد لم يتراجع عن أقواله في شوقي إلا قليلاً، حتى بعد أن ترأس لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في خمسينيات القرن الماضي، واحتفل المجلس بشوقي، كانت كلمة العقاد أشبه بتقديم الواجب، والآن والعالم العربي يحتفي بمرور ثمانين عاماً على رحيل شوقي، هل كان العقاد محقاً فيما قاله عن شوقي، أم أنه كان ظالماً له ومتجنياً عليه؟!
* الدوحة - ع/63 يناير 2013
(القوم حولك يا ابن غالي خشع = يقضون حقاً واجباً وذمـامـا
يبكون موئلهم وكهــف رجائـــهم = والأريحي المفضـل المقدامــا
متسابــقـين إلى ثـــــراك كأنـــه = ناديك في عز الحياة زحاما)
وكتب العقاد معقباً: «أكان يريد أن يقول إن زائري قبر الرجل، وفيهم ساداته الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء... كلهم ممن كانوا يقصدون رجاء يستعطون من أريحية ساكنة الجواد ويستدرون من أفضاله؟ أم تراه يحسب أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه، وأنه نائحة المعية، أي ليرثى كل من يموت من خدامها بغير قليل؟».
كان هذا التعقيب مقدمة لما كتبه العقاد عام1922 في كتابه المشترك «الديوان» إذ كتب معقباً على قصيدته في رثاء الزعيم مصطفى كامل: «فأما التفكك فهو أن تكون القصيدة مجموعاً مبدداً من أبيات متفرقة بينها وحدة غير الوزن والقافية وليست هذه بالوحدة المعنوية الصحيحة إذ كانت القصائد ذات الأوزان والقوافي المتشابهة أكبر من أن تحصى».
ثم «هذه كومة الرمل التي يسميها شوقي قصيدة في رثاء مصطفى كامل، نسأل من يشاء أن يضعها على أي وضع فهل يراها تعود إلا كومة رمل كما كانت؟ وهل فيها من البناء إلا أحقاف خلت من هندسة تختل ومن مزايا تنتسخ ومن بناء ينقض ومن روح سارية ينقطع أطرادها أو يختلف مجراها، وتقريراً لذلك نأتي هنا على القصيدة كما رتبها قائلها ثم نعيدها على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول ليقرأها القارئ المرتاب ويلمس الفرق بين ما يصح أن يسمى قصيدة من الشعر وبين أبيات مشتتة لا روح لها ولا سياق ولا شعور ينتظمها ويؤلف بينها، ونحن نأسف على فضاء نضيعه من صفحاتنا فلا يعزينا عن ضياعها إلا أنها كما نرجو لا تضيع عبثاً». ويستطرد العقاد في تشتيت أبيات القصيدة حتى يثبت أن القصيدة بلا بناء، بل أنها مكتوبة بشكل عشوائي، وتخلو من فكرة البناء العضوي للقصيدة، وأظن أن فكرة البناء العضوي للقصيدة والنصوص عموماً هي جوهر ما جاء ونادى به العقاد في منهجه، بالإضافة إلى الترابط النفسي الذي يشمل النص الشعري بأكمله، هكذا قرأ - فيما بعد - ابن الرومي وأبا العلاء وغيرهما من الشعراء، وهكذا حاول في تطبيقه هذا المنهج على شعره هو نفسه، وكان شوقي محل نظر طوال رحلة العقاد الفكرية.
ولم يقتصر العقاد على تناول شوقي شاعراً فقط، بل أنه أصدر كتيباً صغيراً بعد ذلك عن مسرحيته «قمبيز» تحت عنوان «رواية قمبيز في الميزان»، ويبدو أن مؤرخي حياة شوقي والعقاد لم يتناولوا هذا الكتاب بالتفصيل، رغم أنه استكمال لنظرية العقاد في الفن، واستكمال لوجهة نظر العقاد في شوقي، وهنا لم يتوقف العقاد عند السمات الفنية والأسلوبية واللغوية فقط، بل تعداها إلى وطنية شوقي وعدم الولاء الكامل لمصر، وهذا - كما يفسره العقاد - أن لشوقي جذوراً أخرى يونانية، فليست حكاية قمبيز في التاريخ المصري محل فخر، كما يرى العقاد، لأن الشاعر لا يلجأ إلى هذه الحكايات إلا بعد أن يستنفد صفحات المجد في ذلك التاريخ، والمسوغ الوحيد لتناول الشاعر مثل هذا الحدث، أن يستخرج منه عبرة وفخراً وأحال ما فيه من هزيمة إلى معنى أشبه بالنصر وأستر للعار، وذاك ما لم يصنعه شوقي في روايته «قمبيز». والمدهش حقاً أن العقاد هنا لم يكتف بتشتيت أشعار المسرحية هنا وهناك، لكنه كان يغير في النص، ويقول لو لم يكتب شوقي هذا وكتب ذلك لكان أفضل، وكان يقترح عدداً من الإجراءات الفنية على النص، وقسم العقاد كتابه إلى عدة فصول تناول فيها «النظم» وهو منطقة شوقي التي من المفترض أن يبرع فيها لطول ممارسته هذا الفن «هذا إذا ما بلغ شوقي غاية الاتقان، فكيف ترى يكون لومه وخذلانه إذا هبط عن غاية الاتقان، ثم هبط عن الاتقان المطلوب؟ ثم هبط إلى السخف والغثاثة، فإذا هو يقنع من الإعجاز بالعجز ويرضى من السبق بالتخلف؟».
ويلي هذا الفصل فصل آخر يتناول فيه التاريخ، ثم ينهي كتابه بفصل ثالث تحت عنوان «الخيال»، ويهمنا هنا أن نقتبس فقرة من حديث العقاد عن فكرة «التاريخ» في قمبيز فيقول:
«للشاعر أن يسد نقص التاريخ حيث سكت، وله أن يفتن في تصوير حقائق التاريخ لبعثها جديدة ويلبسها ثوب الحياة المشهودة، ولهذا تسمى الرواية تاريخية ويراد النظم في الموضوعات المهجورة، أما أن يتناول الشاعر الحقائق ليمسخها ويناقضها فذلك ما لا يجوز ولا يغني فيه حذر، إلا أن تكون رواية التاريخ معناها أن نشوهه ونكذب عليه، وذلك من الرواية التاريخية لا يخطر لأحد على بال، نعم لا يخطر لأحد على بال إلا شوقي وأمثاله، فإن قارئ «قمبيز» ليرى كأنما هذا الشاعر لم ينظمها إلا ليمسخ تلك الفترة من تاريخ مصر، فيمحو كل ما هو حقيق بالذكر ويذكر فيها كل خطأ ولغو وفضول، وهذا بيان وجيز لبعض الأخطاء»، ويعدد العقاد الأخطاء التاريخية لتناول شوقي في المسرحية، بداية من تسميتها «قمبيز»، وهي ليست تسمية مصرية، بل يونانية، ثم حكاية قتل العجل «هابي» بطعنة في فخذه، ويستطرد العقاد : «ولوكان لشوقي بصيرة مؤرخ وخيال شاعر لعرف أن حكاية قتل العجل بتلك الطعنة خرافة لا تثبت على التمحيص، وإن وردت في بعض الروايات، لأن طعنة في الفخذ لا تقتل عجلاً قوياً ولا غير قوي».
والذي يتابع العقاد على مدى حياته بعد شوقي الذي توفي في 13 ديسمبر/كانون الأول 1932، ورحل العقاد في 13 إبريل/نيسان 1964، سيلاحظ أن العقاد لم يتراجع عن أقواله في شوقي إلا قليلاً، حتى بعد أن ترأس لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في خمسينيات القرن الماضي، واحتفل المجلس بشوقي، كانت كلمة العقاد أشبه بتقديم الواجب، والآن والعالم العربي يحتفي بمرور ثمانين عاماً على رحيل شوقي، هل كان العقاد محقاً فيما قاله عن شوقي، أم أنه كان ظالماً له ومتجنياً عليه؟!
* الدوحة - ع/63 يناير 2013