أبووردة السعدني - الجزيري مؤرخ الحج المصري (2)

... حين دخلت مصر في حوزة العثمانيين سنة 923/1517 ، اهتم سلاطين هذه الدولة بأمور الحج اهتماما كبيرا ، ولعل سعادتهم باستيلائهم على الشام ومصر ، وقضائهم على دولة المماليك الجراكسة ، ونيلهم شرف خدمة الحرمين الشريفين ، كانت وراء هذا الاهتمام الحافل بهذه المناسبة ، تجلى ذلك في عهد السلطان سليم الأول وعهد ولده سليمان القانوني
عهد سليم الأول:

*****

... يمكن القول : إن ترتيب ديوان الحج ، وتنسيق سجلاته ، وترتيب موظفيه لم يحدث إلا في أوائل دخول مصرتحت سيطرة العثمانيين ، فلقد استدعت السلطات العثمانية الشيخ محمد الجزيري - والد المؤخ - وكلفته بترتيب ديوان الحج ترتيبا حسنا ، فقام الشيخ بما كلف به ، وصار لديوان الحج موظفون ثابتون لا يتغيرون بتغيير أمراء الحج - كما كان عليه الحال في العصر المملوكي - ....
... ويعد الشيخ الجزيري أول مؤرخ قدم - في تاريخه - بيانا شاملا عن موظفي ديوان الحج ، الذين كانوا يرافقون قافلة الحج المصري - ذهابا وإيابا - في العصر العثماني ، من هؤلاء الموظفين -على سبيل المثال وليس الحصر - :
قاضي المحمل الشريف ، كاتب ديوان الحج ، مقدم الضوية والعشامة ، مقدم القواسة ، الميقاتي والمؤذن ، الجرايحي ، سمسار الغلال ، شاد السنيح ، إلى غير ذلك من الوظائف التي أفاض الجزيري في شرح مهام أصحابها ....
... وقام العثمانيون في عهد سليم الأول - أيضا - بعمل آخر -حرصا منهم على سلامة قافلة الحج - ، فلقد استحدثوا " فرقة الملاقاة الأزلمية " ، والأزلم إحدى محطات الحج المصري تقع جنوب العقبة ، وكانت قد كثرت اعتداءات العربان على قافلة الحج ، فعينوا فرقة عسكرية ترافق قافلة الحج إلى قلعة الأزلم ، تقيم بها ، ثم تعود مع الحجاج أثناء عودتهم إلى القاهرة ، كما رصدوا لهؤلاء العربان رواتب سنوية دفعا لأذاهم عن حجاج بيت الله الحرام ...
عهد سليمان القانوني :

***

أعجب الجزيري بالسلطان سليمان القانوني أيما اعجاب ، لخيراته العديدة التي تجل عن الحصر ، في مصر وفي غيرها من الولايات التابعة للدولة العثمانية ، والتي نال منها حجاج بيت الله الحرام قسطا وافرا ، نذكر منها :
أ- الاهتمام بطريق الحج : فمن المعروف أن حجاج بيت الله الحرام كانوا يسلكون طرقا وعرة المسالك ، موحشة مخيفة ، محاطة بقبائل العربان المتحفزة - دائما - للسلب والنهب والقتل ، فكان على ولاة الأمر - في مصر - أن يقوموا بتمهيد تلك الطرق ، وأن يحفروا حولها عيون المياه لسقاية الحجاج أثناء سفرهم ، هذا إلى جانب توفير الأمن والأمان بشتى السبل والطرق ، وقد أورد الجزيري - في تاريخه - أمثلة عديدة لجهود السلطان سليمان القانوني في هذا السبيل ، منها :
أن الطريق في " عقبة أيلة " كان يلحق بالحجاج أضرارا بالغة ، لعدم استوائه وضيقه بين الجبال المحيطة به ، فشكا المختصون في ديوان الحج من وعورته ، فلما رفع الأمر إلى السلطان سليمان القانوني ، أمر برصد الأموال اللازمة ، وأرسل المهندسين والمعماريين والمعدات ، لنقب الجبال وقطعها بالمعاول " بهمة ملوكية وعزيمة خاقانية " لتوسعة الطريق ، واستغرق العمل عاما وبعض عام " فصار مسلكا حسنا ، ومرتقى هينا ، وطريقا لينا ، بعد أن كان من أشق المسالك وأعظم المهالك "....
... ومن خيراته العسكرية : أن المدينة المنورة كانت محاطة ببعض قبائل العربان ، الذين دأبوا على الإغارة عليها وعلى زوارها ، فلما رفع الأمر إلى السلطان سليمان أمر ببناء سور كبير حول المدينة ، جعل فوقه أبراجا بها مدافع لصد المعتدين ومنعهم من الاقتراب منها ، وبني فيها - أيضا -قلعة حصينة ، وعين تسعين من جنود الإنكشارية لحراستها ليلا ونهارا ، ورتب لهم ما يكفيهم من الجرايات والنفقات " فصارت المدينة الشريفة حصنا حصينا ، وفي حرز أمين " ، سنة 945/١٥٣٩ ، وجدير بالذكر أن المدينة المنورة كانت - عند العثمانيين - أعلى قدرا من العاصمة العثمانية ....
ب - أوقافه:

***

أوقف السلطان سليمان القانوني على ديوان الحج أوقافا عديدة ، أوردها الجزيري في تاريخه ، منها :
السحابة التي كانت ترافق قافلة الحج المصري ذهابا وإيابا ، وهي : مائة جمل ، يحمل - عدد منها - طعاما وقرب مياه لسقاية الفقراء والمحتاجين من أفراد القافلة ، والعدد الآخر مخصص لركوب هذا الصنف من الحجاج الذين لا يستطيعون توفير جمال خاصة بهم ، كما خصص أموالا لتكفين موتى الفقراء أثناء رحلة الحج ...
... من خيراته أيضا : أنه أوقف بعض قرى من مصر لتجهيز وإعداد كسوة الكعبة المشرفة ، إضافة إلى القرى التي كان قد أوقفها السلطان الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون - من سلاطين دولة المماليك البحرية ، ت746-1345 - ، وعن سبب وقف السلطان المملوكي ، ذكر الجزيري : أن أهل الحجاز كانوا يفرضون على الحجاج المصريين والمغاربة ضريبة - مقابل أدائهم ركن الحج - تسمى " المكس " ، سبعة دنانير على كل حاج ، فأبطل السلطان الصالح إسماعيل تحصيل تلك الضريبة ، وأوقف لأهل الحجاز عددا من قرى القليوبية ليعوضهم عنها ....
... جدير بالذكر أن كسوة الكعبة استمر صنعها في مصر إلى عهد السلطان أحمد الأول - ت1026/1617 - الذي كان شديد التعلق بالكعبة المشرفة وبرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر بصنع الكسوة الشريفة في العاصمة العثمانية ، وأشرف على حياكتها وتطريزها بنفسه ، وكان موكب سفر كسوة الكعبة - في إستانبول - موكبا مهيبا يحرص السلطان على المشاركة فيه ....
الحمول:

***

... من الموضوعات التي أولاها الجزيري عناية فائقة - في تاريخه - " الحمول " ويقصد بها : الغلال والأطعمة ، أو " غلال الدشيشة " التي كانت ترسل من مصر إلى بلاد الحجاز ، وتوزع على فقراء مكة المكرمة والمدينة المنورة ، جدير بالذكر أن معظم أقطار العالم الاسلامي كان بها أوقاف للحرمين الشريفين ، في الهند والشام وبلاد المغرب والعاصمة العثمانية ، فكان في الجزائر أوقاف يقوم على إدارتها ديوان يطلق عليه " دكان الحرمين الشريفين" ، وفي العاصمة العثمانية إدارة خاصة تسمى " خزينة الحرمين الشريفين " ، كانت تقوم بإرسال ريع الأوقاف التي لاتحصى إلى بلاد الحجاز ، في صرة تعرف ب " الصرة الهمايونية " ، أطلق عليها أهل الحجاز " الصدقات الرومية " , و " الصدقات الملوكية "....
... أما عن " غلال الدشيشة " التي أطلق عليها المؤرخ " الحمول أو الأحمال " فقد قسمت الى قسمين : قسم يرسل بطريق البحر ، وآخر يرسل بطريق البر مع قافلة الحج التي كانت تحمل - أيضاً - " الصرة " التي توزع على سكان الحرمين الشريفين ....
...أما الحمول التي كانت ترسل بحرا - وسوف نقصر حديثنا عليها - فيمكن استقاء مقاديرها من تاريخ الجزيري على النحو الآتي :
دقيق محزوم : 350 حملا ( كل حمل 13 بطة دقيق ) ، بقسماط ناشف : 180 حملا ( كل حمل ستة قناطير ونصف قنطار ) ، أرز محزوم :20 حملا ( كل حمل إردبان وربع إردب ) ، كشك ، وبرغل ، وباذلاء : 5 أحمال ( كل حمل 4 أرادب ونصف إردب ) ، جبن قايات قطع كبير : 10 أحمال = 60 قنطارا ، عسل : 10 أحمال = 60 قنطارا ، سكر : حملان ( كل حمل 6 قناطير ) ، قفف خوص : حملان = 500 قفة ، شمع كبير : 4 شمعات زنتها 4 قناطير 2 للكعبة ، 2 لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سلب وليف وزمالات : حمل واحد ، زيت سكندري : 6 قناطير ، شعير مغربل : 150 إردبا ، فول صحيح مغربل : 3400 إردب....
.... الأحمال السابق ذكرها كانت تحمل على ظهور الجمال ، من بركة الحج بظاهر القاهرة إلى السويس ، حيث تبحر بها سفينتان من السفن السلطانية ، سفينة منهما تحمل الثلث إلى ميناء " ينبع " ، ومنه إلى المدينة المنورة ، أما الثلثان الآخران فتحملهما سفينة أخرى إلى ميناء " جدة " ومنه إلى مكة المكرمة .....
ساعات رحلة الحج :

***

... من المعلومات التي أوردها الجزيري في كتابه : تحديد المسافة بين مدينة القاهرة ومكة المكرمة ، فذكر أنها تبلغ 154 ميلا ، وأن مكة تقع جنوب شرق القاهرة ، كما أورد رواية نقلا عن الشيخ محب الدين العطار -ت 880/1475 ، وكان معنيا بالحج - حدد فيها عدد الساعات التي استغرقتها رحلة الحج من القاهرة - ذهابا وايابا - سنة 886/ 1461 ، بألف ساعة وساعة ، أثارت دقة الشيخ العطار إعجاب الجزيري ، فقرر أن يضبط ساعات رحلة الحج ضبطا دقيقا سنة 955/ 1548 ، فوجد أن رحلة الحج - في تلك السنة - تنقص عن أيام الشيخ العطار سبعين ساعة وأربعين دقيقة .....
... والحقيقة أن المقام لايتسع للاسترسال في دراسة كتاب الجزيري ،اذ يحتاج إلى دراسة موسعة ، فلاريب في أنه سليم المنهج ، رصين العرض ، زاخر بالموضوعات القيمة ، نابض بالحركة ، فياض بالحيوية ، ومع اعتزاز الجزيري بكتابه إلا أنه كان جم التواضع ، فطرح كتابه للنقد البناء ، راجيا ممن يقع فيه على خطأ أن " يسبل ذيل ستره على هذا المرقوم ، وأن يصلح ما عساه أن يجد من الخطأ في المنطوق والمفهوم ... وقل أن يسلم مؤلف من خطأ أو خطل " .....

***

... رحم الله الجزيري جزاء ما حفظ للمسلمين من تراث ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...