بكل تأكيد أن التِّكنولوجيا، إذا تمَّ آنتاجُها، حصريا، لأغراض اقتصادية و تجارية محضة و بمعزل عن القيم و الأخلاقيات الإنسانية و الحضارية، سيفٌ ذو حدَّين. بمعنى أن التَّقدُّم التكنولوجي، إذا لم يكن سيرُه موازيا لسير الحضارة، قد يستعبِد الإنسانَ علما أنه، على الأقل نظريا، ليس هناك ما يمنع السير الموازي للتكنولوجيا و الحضارة.
التِّكولونيا و الحضارة كِلاهما من صُنعِ فكر الإنسان. فالأمر يتعلَّق، أولا و قبل كل شيء، بالنوايا التي ينطلق منها الإنسان لصُنع الحضارة و التِّكنولوجيا. و في نهاية المطاف، إذا انطلق الإنسان من منطق إخضاع إنتاج التَّكنولوجيا فقط للنفع الاقتصاديي و التِّجاري، فعليه أن يتحمَّلَ تبٍعات الحدِّ الثاني للسيف. و إذا كانت التِّكنولوجيا هي مجموع المعارف و الممارسات و التطبيقات و الأساليب الخاصة بتِقنِيةٍ معيَّنة، فما هي الحضارة؟
اختلفت الآراء و وِجهات النظر فيما يخص تعريفَ مفهوم الحضارة. لكن، بعد الاطلاع على العديد من المصادر و المراجع، يمكن القول أن الحضارةَ هي ذلك المستوى من التقدُّم و الازدهار الذى وصلت إليه، في فترة معيَّنة من الزمان، جماعةٌ أو مجتمعٌ أو بلَدٌ أو شعبٌ أو أمَّةٌ عقائديا، فكريا، لغويا، ماديا، اقتصاديا، اجتماعيا، تنظيميا، سياسيا، أخلاقيا، علميا، تِكنولوجياً، فنِّيا، جماليا، ثقافيا، عُرفِيا…
انطلاقا من هذه الاعتبارات، يمكن القول أن لكل حضارة مقوِّماتُها و مميَّزاتُها. و الحضارات تختلف باختلاف هذه المقوِّمات و المميِّزات. الحضارة كل متكامل لا يمكن اختزالُه في البعض من هذه المميِّزات. بل إن الحضارةَ، كمستوى للتقدُّم و الازدهار، هي نِتاجٌ تداخل و تدافع و تكامل هذه المقوِّمات و المميِّزات.
فإذا كانت التِّكنولوجيا و العلم و المعرفة عناصرَ من عناصر الحضارة، فإن فصلَها فكريا و عمليا عن العناصر الأخرى، قد تكون له انعكاسات لا تًحمدُ عُقبلها إن عاجلا أو آجلا.
و في هذا الصدد، لا داعي للقول أن العديدَ من التكنولوجيات التي أنتجها الإنسانُ، و بالخصوص، انطلاقا من الثورة الصناعية التي أصبحت فيها الآلة، بصفة عامة، و الآلة الميكانيكية، بصفةخاصة، هي المُحرِّك الأساسي للاقتصاد، لا تتلاءم مع القيم الإنسانية الحضارية التي تقتضي أن يكون الناس في تناغمٍ تام مع الوسط البيئي الذي يعيشون فيه.
و هذا هو ما لم تحترمه التكنولوجيات الضخمة التي أنتجها الإنسان في مجالات الصناعة بصفة عامة و الصناعات الكيميائية بصفة خاصة، النقل بجميع أشكاله، الفلاحة، الصناعات الإلكترونية، الصناعات الغذائية، الصناعات المعدنية… تكنولوجيات ضخمة أقل ما يُقال عنها أنها كانت و لا تزال سببا في اختلال بيئي واسع النِّطاق تجلى في التغيُّرات المناخية التي تهدِّد بانقراض الحياة بما فيها حياة الإنسان. فما هو تفسير هذه الظاهرة أو بعبارة أخرى، لماذا هذا التناقض بين ما تقتضيه الحضارة و ما يفرضه الفكر الاقتصادي المبني على الربح و النفع المحضين؟
في نظري، هناك خلط تعمَّده الآنسان بين الحضارة و التنمية. بمعنى أن أي بلد يمكن أن يتطوَّر و يتقدَّم اقتصاديا، و في نفس الوقت، قد يكون بعيدا بسنوات ضوئية عن الحضارة. لأن الحضارةَ تُقاس بالقيم الإنسانية خلافا للاقتصاد الذي يُقاس بالأرقام. الاقتصاد يولِّد التنمية و وحدَه لا يولِّد الحضارة. هذه الأخيرة يتمُّ بناءها بناءً و أهم لبِناتها، الإنسانية humanisme.
و لو أن الاقتصاد و ما أنتجه من تكنولوجيات عنصرٌ من عناصر الحضارة، فعزلُه فكريا و عمليا عن مُقوِّمات الإنسانية يسيء لهذه الحضارة. و مقوِّمات الإنسانية هي الفكر و الوعي و المعتقدات و التقاليد و الثقافة و العِلم و الفن بجميع أشكاله و الإبداع و الأخلاق و الجمال و التواصل و التعايش مع الآخرين و مع الطبيعة و التكامل و التكافل و التعاون…
و عزلُ إنتاج التكنولوجيات عن باقي مقومات الإنسانية السابقة الذكر لم يأتِ من فراغ. إنه ناتج عن تيار فكري يرتكز، في علاقاته مع العالَم، على نظرة أنانية anthropocentrique تجعل من الإنسان مخورَ هذا العالم. بمعنى أن كل ما يُحيط بالإنسان من أشياء و ظواهر مرتبطة به أو بوجوده و بعبارة أوضح، بما سيستخلص منها من فوائد.
إن اقترانَ إنتاج التِّكنولوجيات بأنانية الإنسان الفكرية anthropocentrisme، تقود إلى طرح عدة تساؤلات منها على سبيل المثال :
1.هل الإنسان قادر على التَّنبؤ بمآل التكنولوجيا مستقبلا؟
2.ما هو مكانها مستقبلا في المجتمع؟
3.هل الإنسان هو الذي سيسيطر على التكنولوجيا أم هي التي ستستعبده؟
4.كيف سيكون عالم الغد في ظل تطوُّرٍ تكنولوجي يحوم حوله الغموض؟…
لا أحد قادر على الإتيان بأجوبة مقنعة و حاسمة لهذه التَّساؤلات. لماذا؟ لأن العديد من التكنولوجيات التي هي من إنتاج الإنسان، إن استفاد منها، فهي في نفس الوقت، تسيء له و لوسط عيشه. و هذه بعض الأمثلة البسيطة :
1.السيارة وسيلة نقل مهمة للغاية، لكنها مصدر تلوُّث.
2.التكنولوجيات المستعملة في شبكات التواصل الاجتماعي لها فوائد كثيرة، لكنها في نفس الوقت تنقل الكراهية و العدوان و العنصرية و سوء الأخلاق…
3.منذ بداية الثورة الصناعية، اخترع و صنع الإنسان ما بفوق 60000 مادة كيميائية. لكن، رغم فوائدها المتنوِّعة، فجلُّها يتنافى مع أساليب التدوير الطبيعية و بالتالي، تسيء للتربة و الماء و الهواء
4.الكل يعرف مزايا و منافع الهواتف الذكية، لكنها أحدثت و تُحدث تصدُّعا في النماسك الاجتماعي و الأسري…
و هذه الأمثلة و غيرها تبيِّن بوضوح أن التكنولوجيات سيف ذو حدَّين. حدٌّ أول فيه منافع و حدٌّ ثاني فيه خراب. و كون التفكير في التكنولوجيات يتمُّ في معزل عن مقومات الإنسانية و قِيمها، فإن خرابَ الحد الثاني يزداد قوَّةً و خطورةً.
و لا داعي للقول أن الآنسانَ، بحكم تبنِّيه النظرةَ الأنانيةَ للعالم، تبنى كذلك تفكيرا خطِّيا pensée linéaire الذي هو مناقض للتفكير الشمولي pensée systémique. و التفكير الخطي هو الذي يدفع الإنسانَ إلى رسم الأهداف و اختيار الوسائل التي بواسطتها سيصل إلى تحقيق هذا الأهداف، غير آبِهٍ بما قد يكون لتحقيق هذه الأهداف من انعكاسات على الجماعات البشرية و على الكائنات الحية و على الوسط الذي تعيش فيه. ما يهمُّه هو النفع الذي سيجنيه من تحقيق الأهداف.
و التفكير الخطي هو الذي توصَّل إلى صًنع و إنتاج التكنولوحيات المتنوِّعة و هو السبب في جعل هذه التكنولوجيات سيوفا ذات حدَّين.
د. أحمد الحطاب
التِّكولونيا و الحضارة كِلاهما من صُنعِ فكر الإنسان. فالأمر يتعلَّق، أولا و قبل كل شيء، بالنوايا التي ينطلق منها الإنسان لصُنع الحضارة و التِّكنولوجيا. و في نهاية المطاف، إذا انطلق الإنسان من منطق إخضاع إنتاج التَّكنولوجيا فقط للنفع الاقتصاديي و التِّجاري، فعليه أن يتحمَّلَ تبٍعات الحدِّ الثاني للسيف. و إذا كانت التِّكنولوجيا هي مجموع المعارف و الممارسات و التطبيقات و الأساليب الخاصة بتِقنِيةٍ معيَّنة، فما هي الحضارة؟
اختلفت الآراء و وِجهات النظر فيما يخص تعريفَ مفهوم الحضارة. لكن، بعد الاطلاع على العديد من المصادر و المراجع، يمكن القول أن الحضارةَ هي ذلك المستوى من التقدُّم و الازدهار الذى وصلت إليه، في فترة معيَّنة من الزمان، جماعةٌ أو مجتمعٌ أو بلَدٌ أو شعبٌ أو أمَّةٌ عقائديا، فكريا، لغويا، ماديا، اقتصاديا، اجتماعيا، تنظيميا، سياسيا، أخلاقيا، علميا، تِكنولوجياً، فنِّيا، جماليا، ثقافيا، عُرفِيا…
انطلاقا من هذه الاعتبارات، يمكن القول أن لكل حضارة مقوِّماتُها و مميَّزاتُها. و الحضارات تختلف باختلاف هذه المقوِّمات و المميِّزات. الحضارة كل متكامل لا يمكن اختزالُه في البعض من هذه المميِّزات. بل إن الحضارةَ، كمستوى للتقدُّم و الازدهار، هي نِتاجٌ تداخل و تدافع و تكامل هذه المقوِّمات و المميِّزات.
فإذا كانت التِّكنولوجيا و العلم و المعرفة عناصرَ من عناصر الحضارة، فإن فصلَها فكريا و عمليا عن العناصر الأخرى، قد تكون له انعكاسات لا تًحمدُ عُقبلها إن عاجلا أو آجلا.
و في هذا الصدد، لا داعي للقول أن العديدَ من التكنولوجيات التي أنتجها الإنسانُ، و بالخصوص، انطلاقا من الثورة الصناعية التي أصبحت فيها الآلة، بصفة عامة، و الآلة الميكانيكية، بصفةخاصة، هي المُحرِّك الأساسي للاقتصاد، لا تتلاءم مع القيم الإنسانية الحضارية التي تقتضي أن يكون الناس في تناغمٍ تام مع الوسط البيئي الذي يعيشون فيه.
و هذا هو ما لم تحترمه التكنولوجيات الضخمة التي أنتجها الإنسان في مجالات الصناعة بصفة عامة و الصناعات الكيميائية بصفة خاصة، النقل بجميع أشكاله، الفلاحة، الصناعات الإلكترونية، الصناعات الغذائية، الصناعات المعدنية… تكنولوجيات ضخمة أقل ما يُقال عنها أنها كانت و لا تزال سببا في اختلال بيئي واسع النِّطاق تجلى في التغيُّرات المناخية التي تهدِّد بانقراض الحياة بما فيها حياة الإنسان. فما هو تفسير هذه الظاهرة أو بعبارة أخرى، لماذا هذا التناقض بين ما تقتضيه الحضارة و ما يفرضه الفكر الاقتصادي المبني على الربح و النفع المحضين؟
في نظري، هناك خلط تعمَّده الآنسان بين الحضارة و التنمية. بمعنى أن أي بلد يمكن أن يتطوَّر و يتقدَّم اقتصاديا، و في نفس الوقت، قد يكون بعيدا بسنوات ضوئية عن الحضارة. لأن الحضارةَ تُقاس بالقيم الإنسانية خلافا للاقتصاد الذي يُقاس بالأرقام. الاقتصاد يولِّد التنمية و وحدَه لا يولِّد الحضارة. هذه الأخيرة يتمُّ بناءها بناءً و أهم لبِناتها، الإنسانية humanisme.
و لو أن الاقتصاد و ما أنتجه من تكنولوجيات عنصرٌ من عناصر الحضارة، فعزلُه فكريا و عمليا عن مُقوِّمات الإنسانية يسيء لهذه الحضارة. و مقوِّمات الإنسانية هي الفكر و الوعي و المعتقدات و التقاليد و الثقافة و العِلم و الفن بجميع أشكاله و الإبداع و الأخلاق و الجمال و التواصل و التعايش مع الآخرين و مع الطبيعة و التكامل و التكافل و التعاون…
و عزلُ إنتاج التكنولوجيات عن باقي مقومات الإنسانية السابقة الذكر لم يأتِ من فراغ. إنه ناتج عن تيار فكري يرتكز، في علاقاته مع العالَم، على نظرة أنانية anthropocentrique تجعل من الإنسان مخورَ هذا العالم. بمعنى أن كل ما يُحيط بالإنسان من أشياء و ظواهر مرتبطة به أو بوجوده و بعبارة أوضح، بما سيستخلص منها من فوائد.
إن اقترانَ إنتاج التِّكنولوجيات بأنانية الإنسان الفكرية anthropocentrisme، تقود إلى طرح عدة تساؤلات منها على سبيل المثال :
1.هل الإنسان قادر على التَّنبؤ بمآل التكنولوجيا مستقبلا؟
2.ما هو مكانها مستقبلا في المجتمع؟
3.هل الإنسان هو الذي سيسيطر على التكنولوجيا أم هي التي ستستعبده؟
4.كيف سيكون عالم الغد في ظل تطوُّرٍ تكنولوجي يحوم حوله الغموض؟…
لا أحد قادر على الإتيان بأجوبة مقنعة و حاسمة لهذه التَّساؤلات. لماذا؟ لأن العديد من التكنولوجيات التي هي من إنتاج الإنسان، إن استفاد منها، فهي في نفس الوقت، تسيء له و لوسط عيشه. و هذه بعض الأمثلة البسيطة :
1.السيارة وسيلة نقل مهمة للغاية، لكنها مصدر تلوُّث.
2.التكنولوجيات المستعملة في شبكات التواصل الاجتماعي لها فوائد كثيرة، لكنها في نفس الوقت تنقل الكراهية و العدوان و العنصرية و سوء الأخلاق…
3.منذ بداية الثورة الصناعية، اخترع و صنع الإنسان ما بفوق 60000 مادة كيميائية. لكن، رغم فوائدها المتنوِّعة، فجلُّها يتنافى مع أساليب التدوير الطبيعية و بالتالي، تسيء للتربة و الماء و الهواء
4.الكل يعرف مزايا و منافع الهواتف الذكية، لكنها أحدثت و تُحدث تصدُّعا في النماسك الاجتماعي و الأسري…
و هذه الأمثلة و غيرها تبيِّن بوضوح أن التكنولوجيات سيف ذو حدَّين. حدٌّ أول فيه منافع و حدٌّ ثاني فيه خراب. و كون التفكير في التكنولوجيات يتمُّ في معزل عن مقومات الإنسانية و قِيمها، فإن خرابَ الحد الثاني يزداد قوَّةً و خطورةً.
و لا داعي للقول أن الآنسانَ، بحكم تبنِّيه النظرةَ الأنانيةَ للعالم، تبنى كذلك تفكيرا خطِّيا pensée linéaire الذي هو مناقض للتفكير الشمولي pensée systémique. و التفكير الخطي هو الذي يدفع الإنسانَ إلى رسم الأهداف و اختيار الوسائل التي بواسطتها سيصل إلى تحقيق هذا الأهداف، غير آبِهٍ بما قد يكون لتحقيق هذه الأهداف من انعكاسات على الجماعات البشرية و على الكائنات الحية و على الوسط الذي تعيش فيه. ما يهمُّه هو النفع الذي سيجنيه من تحقيق الأهداف.
و التفكير الخطي هو الذي توصَّل إلى صًنع و إنتاج التكنولوحيات المتنوِّعة و هو السبب في جعل هذه التكنولوجيات سيوفا ذات حدَّين.
د. أحمد الحطاب