تتبنى القصة المابعد حداثية - كما أري- منهاجية جديدة للولوج إلي عالمها البنائي؛وأيديولوجيا البناء السردي فتتقاطع مع العلوم والفنون؛والفلسفات؛وتبتني أنماطًا تجديدية لبناء عالم جديد للسرد؛ولنا أن نتتبع الخطاب الفلسفي متمثلين منهج "الفلسفة الظاهراتية"لتطبيقه كمدخل تجديدي ما بعد حداثي للقصة القصيرة المعاصرة؛ وتعتمد الظاهراتية منهاجية الشكل المفضي إلى جوهر الموضوع؛ دون التطرق للموضوع الظاهري والنظر إلي ما ورائيات السرد كأساس للبناء أو الاتصال بين قصص المجموعة؛ ودون احالتنا إلى الأنظمة والعلاقات المجتمعية - كي لا نوقع الكاتب في مزالق ومحظورات تُوجّه مقص الرقيب له؛ ويبقى فضاء النص هو المتبقي ليربط بين موضوعية ( الموضوع ) فى النصين : النص الظاهر؛ وما وراء السرد المفارق أو الضمني؛ الذي يفهم من السياقات الكلية؛ عبرالمكان الأيديولوجي الذي تسير فيه قصص المجموعة؛ وتلك لعمري فلسفة خاصة تعتمد علي مهارة اللغة لدي الكاتب؛ لتوجيه أنساق سرده إلي مناطق أكثر ايغالًا في الترميز؛ وليترك المتلقي يكتشف؛ أو يتوهم المعاني الجديدة؛ - المعاني الثواني - التي تشكل ماهية المضمون السردي الذي يتغياه الكاتب.
وفي مجموعته القصصية: " أقنعة من لحم " يحيلنا القاص السعودي الرائع/ حسين السنونة إلى مروج الذات والعالم،عبر فضاءاته الشاسعة التي تتسع للكون؛وما بعدياته؛ حيث يزعق طائر النور لديه، ليحيلنا الى ذواتنا الكونية، ليعبر بنا عبر ذاته المأزومة ليطلعنا الى خبيئات المجتمع:مروجه،ذواتنا المجروحة الحزينة؛ والتائقة إلي لحظة اشراق جميل كذلك.
انه يتغيّا الوجود الإنساني عبر عربة الخلود الكونية، كي يعرّج بنا عبر تطوافه الى مساحات في الروح، أكثر اشراقاً، وبهجة، فنراه يتغيّا عالماً لا يجىء، فنصدح معه عبر نهر الوقت، ومرافىء الوجود السيموطيقى، للبهاء المثيولوجى الممتد، الجميل، والسامق، والحالم أيضاً .
ثم لنا أن نسأل : هل ينسحب موضوع العنوان: " أقنعة من لحم " على باقي النصوص ليصبح هو العنصر المرسوم ـ سيمولوجيا ـ بوظيفة جمالية محددة مع النص؛ أو حتى في مواجهته كذلك ؟ ثم ما علاقة الأقنعة بمضمون الخطاب السردي؟ وهل قصد اسقاط تفاصيل موصوعاته؛ وأدوار شخصياته علي الواقع ؟ وما علاقة اللحم بالأقنعة؟ فالقناع من مواد صلبة واللحم طري وهي مفارقة تضادية تتناص وتتفارق لتظهر محاتلات السرد المكتنز العميق . ثم هل تعد الظاهراتية مدخلا صحيحا.لدينا لدراسة الخطاب للوصول إلى السرديات الكبرى وبالتالي إلى الأنساق المعرفية التي قصدها الكاتب؟ ثم هل تشي عبارة " أقنعة من لحم " بعلاقات مكانية وزمانية يمكن أن تكون مقاربات أو أبنية كلية كبرى لتفسير العلاقات المتواشجة أو التبادلية أو حتى العكسية لتحليل الظواهر أو الفضاء الكوني للنص ، مستفيدين فى ذلك من علم الجغرافيا الثقافية لتمييز أفضية النص ؛ خاصة الفضاء العاطفي لاستكناه المعرفة الموضوعية الكلية التي أراد الكاتب أن يبثها في ثنايا النصوص لخلق سينوغرافيا عامة للفرح الذي أراده كعنوان كلي للمجموعة القصصية بصفة عامة. ولعلنا نجيب كل ما طرحناه عبر تناول قصصه الرائعة وموضوعاته الجميلة والجديدة كذلك ..
يتناول السنونة في قصته:" أقنعة من لحم " تقنيات السرد القصصي الجديد؛ فهو يماهي بنا عبر تبادلية الصورة والظل واسقاطات المرآة السردية علي أرض الواقع؛ ليقدم لنا مثيولوجيا السرد الماتع المنفتح علي الروح؛ والمستشرف لقصة ما بعد حداثية ؛ يقدمها - دون تعقيد - عبر لغة تتمكيج وتطيعه طوال الوقت؛ وعبر تتابعية للأحداث المثيرة فهو يرى صورته عبر المرآة تتسق وصورة الكلب؛ إلا أنه يصعق، ولكنها توهمات رجل مُحَمَّلٌ بالهموم؛ وبتداعيات ذاتية تجعلنا كقراء نلهث لنتابع اشكالية: "الرجل الذي يري وجهه علي هيئة الكلب"؛ بينما زوجته وأولاده وأصدقاء العمل كانوا يحسدونه علي جمال عينيه وشعره ووجهه الوسيم؛ ولما ركن إلي الحقيقة ونظر في المرآة وجدناه يري صورته الحقيقية من جديد؛ لكن الصدمة عادت إليه عبر دائرة الهارمونيطيقا لتخبره زوجته لرؤينها له بصورة الكلب من جديد .
إنها رمزية المفارقة ،يُسقطها علي الواقع عبر تبادلية الصورة والظلال؛أو عبر القناع الذي يمكن أن يرى الانسان ذاته بتصرفاته؛ بينما يكون وسيما ويخفي الكثير؛ ولقد ترك النهاية مخاتلة ليتشارك القارئ معه في التفكير والوصول الي غائيات الرمز المختفي خلف ظاهر المعنى؛ وتلك - لعمري - خصيصة أولى للقصة المابعد حداثية؛والتي تتوخي خلف ظاهر النص لتعبر إلي الجوهر عبر التماهي والترميز والإحتواء؛وتقنيات الاستبطان الذاتي والروحي، والمجتمعي كذلك .
وفي قصته "مَلَكْ الموت لا يتكلم العربية" نراه يستخدم تقنية التساؤلات الذاتية؛ أو السرد الذاتي حيث يتحدث الراوي مع نفسه وهو في نفس الوقت يخاطب القاريء عبر تبادلية المعني الصادم للحكاية؛ حيث الشاب الطالب الذي سافر ليكمل تعليمه وتغرب وانتظرت والدته عودته؛ ليعود فيأتيه ملك الموت ليخطفه؛ ويحادث صديقه ذاته وملك الموت عبر تأملاته الباطنة؛ ليستيقظ علي صوت الأم التي تبلغه بأن صديقه قد مات؛ وهنا تأتي مفارقة التلقي؛ فهو يكسر أفق التلقى لدي القارئ ليحيلنا إلي قصة الذات؛ أو التأمل والاستبطان الذاتي للحقيقة والموت عبر تقنية العنوان اللافت المثير لملك الموت الذي لا يتكلم العربية؛ ولا يتفاهم كذلك في الحقيقة الكبري
لقد عقد السنونة - بذكاء - حوارية مع ملك الموت ؛ يكلمه ويعتب عليه ويُعَنَّفَهُ لأنه اختار صديقه دون غيره من الأشرار والتجار والملوك والساسة وغيرهم من الذين تسلطوا علي الناس ؛ فلماذا تخير ملك الموت صديقه الطيب ؛ البار بوالدته؛ وترك هؤلاء القُساة الظالمين ولم يأخذهم بدلًا من صديقه؛ وكأن ملك الموت يخاف كذلك ممن لديهم سطوة؛ وتلك - لعمري - حيل رامزة لينتقد فيها الواقع وسطوته دون أن يمسه أحد بسوء؛ يقول : "لماذا اخترت صديقي، هناك من يستحق نعم هناك من يستحقون قبض أرواحهم وسحق وتكسير عظامهم، اذهب لأبناء قادة الدول الذين مللنا منهم ولم يملوا من عذابنا، والوزراء الذين يتوارثون وأبناؤهم المناصب والمصالح، للتجار الجشعين الفجار الذين لا يفقهون لا في الدين ولا في الدنيا، هل تصدق أنهم يشترون البضاعة بسعر بسيط ويبيعونهابمبالغ فلكية، يغشون يزورون، ولكنهم لا يشربون الخمر ولا يأكلون اللحم الحرام" ..
انها أسلوبية القص التى يحكم عفق أوارها ، ويقبض على جمرها اللغوى البسيط غير المعقد،والمشاكس،والزاعق في الروح،وعبرالادهاشية والميثولوجيا،والمفارقة،يحيلنا الى الذات المنكسرة ، الغريبة،والمأزومة، التى تريد الفعل ؛لكنها لا تفعل، لأنها عاجزة عن الفعل كمجتمعاتنا الواهنة الضعيفة ، والمغلوبة على أمرها أمام السطوةالمجتمعية الهائلة؛ والقاسية كذلك .
وفي قصته الكونية العالمية: " ترانيم مواطن لا يتحرك" وهى من أروع القصص نراه يجنج إلي تفكيك الواقع وانتقاده دون ضجيج؛ وبصمت مطبق؛ يدلل إلى الرفض فالمواطن قام بحيلة ذكية ؛ وكل ما فعله أنه وقف دون حراك في الطريق العام؛ وكأنه يحيلنا الى حال المواطن الفقير البائس في كل أرجاء الأرض ؛ولقد تناقلت وكالات الانباء خبر وقوفه وكذلك جاءت وفود الدول والأمم المتحدة لتجعله يتحرك الا أنه ظل واقفًا فقد انتقد الجميع : المنظمات والحكومات والعالم الكاذب وعَرَّى الجميع بصمته وكأنه يؤكد الرفض الكبير لدي الشعوب من جراء ما يحدث في العالم ؛ ولكنه ينتقد دون كلام؛ فالصمت أبلغ تعبير عن الاحتجاج؛ ولعلنا نصنف هذه القصة ضمن القصص العالمية الجميلة ؛ لأنها تحوي الكثير من الترميزات؛ عبر تتابعية الصور المتراكبة؛ والمواقف المتتابعة التي عبرت بالصمت والسكون عن كل معطيات الواقع العالمي كذلك .
إن الكاتب السعودي الرائع / حسين السنونة في قصصه هنا يواكب الحداثة في القصة المعاصرة؛ ويستفيد من المنجز التقني لتقديم قصص غاية في الاحتزال والترميز عبر بساطة أسلوبية؛ أو أن هارموني السرد قد تملك ناصيته ليوجهه حيثما شاء؛ عبر لغة وامضة مضيئة وكاشفة؛ لغة تعري ذواتنا المأزومة والأنظمة والكون والعالم< دون أن يتكلم البطل ولو بجملة؛ ولعل هذه القصة تفتح الآفاق لديه لكتابة قصة كونية عالمية بشكل أكثر رؤيوية، وبعمق ينم عن مهارة كاتب يستغفد من الواقعية السحرية كثيرُا؛ ومن المعطي الجمالي للقصة العربية العالمية المعاصرة .
كما يحيلنا السنونة إلي موضوعات جديدة للسرد عبر قصة: "العناق السنوي" - وهي فكرة مبتكرة عبر الموضوع الذي يريد طرحه - لكنه عبر الاحالات والمفارقات يتخيل حياة الوزراء ورجال امال والأعمال ورئيس مجلس النواب وغيرهم؛ ليعقد مفارقات عبر التخييل ليظهر الواقه المذري؛ دون أن ينتقده؛ لكنه ينتقد ما ورائيات الواقع ؛وتلك لعمري تقنيات سرد ما بعد الحداثة كما تتجلي مفارقات الصور السردية الجمالية لديه ؛ والتعبيرات السردية الشعرية ؛من خلال جمالية التصوير واسقاطاته الرامزو يقول :"وجه زوجتي النائمة أحببته منذ كنت في الجامعة، حاربت أباها حتى أنتزع الموافقة، كما انتزعت إسرائيل أرض فلسطين" .".
وهذه الإحالات الرامزة تحيلنا إلي مواقف رافضة للإسرائيليين وما يفعلونه بالفلسطينيين؛ علي الرغم من الإشارية التي تستدعي عبر التأويل والمخيال صور الظلم للفلسطينيين في القدس الشريف .
ولنا أن نتمثل الرمز؛ وموضوع العنوان " أقنعة من لحم "؛ لنسقطه علي كل قصصه الرائعة التي تشي بموضوعات متقاطعة؛ إلا أنها تبرز رؤية الكاتب زمدي حرصه إلي توصيف المجتمعات العربية؛ والحياتية من خلال رسائل يرسلها لإعادة صوغ المجتمع كما يحب أن يراه هو كذلك؛ ولقد رأينا كل القيم الغجتماعية الجميلة وحبه لوطنه متمثلة كذلك عبر قصص المجموعة : "مجرد رسالة من عجوز"، "صرخة طينية"، "إشهار جوع"، "اتصال مائي"، "فلس... طين"، "ورد وماء"، "اسمي وأسماؤهم"، "تقمص"، "الحب يجّبُ ما قبله"، "أمي تلعن النجوم"، "كوري في تاروت"، "آخرون كانوا هنا"، "يأكلون الهواء"، "ترانيم مواطن لا يتحرك" .
ونحن هنا لابد أن نشير إلي عدة سمات عامة جمالية تحكم البناء السردي نجملها في : غلبة الوصف والتكرار، والانزياح؛ الانحرافات؛ واعتماد اللغة كوسيط ذهني لتثبيت مفردات الدلالة وتنظيم عمليات التصوير والتبلور والتشيوء، وغلبة اللغة الترميزية للإحالة إلى مقاربات ضمنية قد تتماشى والذهنية،وقد تقترب في الغالب من التصورات للإيحاءات التي تختفي وراء لغة النصوص . كما أن اللغة في بعض القصص كانت لغة شاعرة ؛ تنساب في تسلسل متنامٍ بسيط وغير معقد؛ لذا لم نعتمد بلاغة الخطاب في تحليلنا للظواهر أو للمقاربات النصية ؛ وإنما اعتمدنا الخطاب كأسلوب يشي بمقتضيات السرد؛ دون التعرض لعمق الدلالة؛أو لأن الخطاب هنا يتسم ببساطة وعفوية غاية في السهولة اللغوية ؛ وان كان الاسترسال قد حولها الى لغة ليست معقدة أسلوبياً .. ولا نعني بالطبع التعقيد للحكم بجمالية النص وقدرته .. وإنما لابد أن تتعادل بلاغة الخطاب مع مستوى السرد لإنتاج خطاب ابداعي بشروط تداولية، وتلك لعمري غايتا الألسنية والأسلوبية؛ ومع عدم اقرارنا ببساطة الأسلوب هنا ؛ أو الاستهلال اللغوي حتى على مستوى التصور السردي ؛ إلا أن فضاءات النص الحالمة قد أكسبته جماليات مغايرة ؛ لذا لم نخضعه للدرس الأسلوبي؛ وغدت القراءة هنا قراءة جمالية – فقط - معتمدة على ظاهراتية الخطاب وتمحورات أنساقه السردية؛ دون الحديث عن بلاغة الخطاب والأسلوب – سوى من أسلوب جمالي بنيوي – فغدت القراءة لدينا ليست مرتبطة بالتالي بالنظرية؛ وإنما استفادت من الأسلوبية بقدر؛ ومن الجغرافيا الثقافية بقدر ؛ ومن معايير الحكم الجمالي للنص الأدبي في الغالب.
إن هذه المجموعة البديعة: " أقنعة من لحم "؛ تحتاج إلى إعادة قراءة لأكثر من مرة ؛لدي الناقد الحصيف؛ لإبراز جمالياتها ؛ والوقوف إلى مستكنهات معانيها ومبانيها ؛ومستغلقات واشكاليات أسلوبيتها كذلك؛ لكنها في النهاية تظل في الذهنية لاعتمادها الفطرة والجانب الإنساني كموضوع؛ وإن كستها بعض خطابية موجهة؛ عبر لغة تباشر حضورها لكنها تنحو إلي الإحالة الرامزة؛ ليكتمل الشكل البنائي السردي لتقنيات الخطاب الأسلوبي؛ ومع ذلك فنحن لم نتحدث عن المجموعة من وجهة نظرأخلاقية فهذه ليست سمات الفن الحقيقة؛ وإنما تحدثنا عن بعض الجماليات السيموطيقية مستفيدين من علم الخطاب؛ والسيمولوجيا؛ وعلم النص كأساس لقراءة النص السردي للوقوف الى جمالياته المتراتبة، بل والى مواقفه الانسانية أيضاً.
وفي النهاية :
لقد أجاد الكاتب السعودي المتميز / حسين السنونة في توظيف " الواقعية السحرية " عبر المعادل الرمزى، الذي ينسحب على مجتمعاتنا العربية – كذلك – و تتابعت قصصه كأنها متوالية سادرة بمنمنمات، تنتقد الواقع – عن بعد – تخاف أن تواجه، تهرب،لكنها تقول كل شيء من خلال التاويل؛ ومعالجته لفضاء القصص حيث يتحول الرمز الى اشارية ناقدة من بعيد ، ولعمرى – وان اتفقنا أو اختلفنا مع المزاجية العامة السياسية ، فلابد من القول: إن هذه تعبيرية رشيقة لسرد هارمونى ، متسلسل رائع،يجيد "السنونة " سبك معناه، وبناء معمارية قصصه،التى تمثل رمزية فريدة/ حالمة، مؤثرة ،تخش الى الروح والقلب والوجدان،وتضفى على العالم / القارىء، بهجة للتواصل والمتعة، وكأنه في قلب الحدث ، يصنعه، أو عليه أن يتخيل الأحداث عبر ظاهرية التأويل والمعاني التي لم يقلها بعد، وقد قالها،خلف ظاهر النص الادهاشى الباذخ،والسامق،والشاهق أيضاً .
ويقيني أن السرد السعودي يتجدد بمثل كتابات الرائع أ/ حسين السنونة؛ والتي تعمل إلي الحراك ؛ وتتجه لبناء قصة سعودية جديدة بمذاق مختلف؛ وتجديدي؛ وسرد يجنح إلي الكونية؛ والعالمية كذلك .
حاتم عبدالهادي السيد
رئيس رابطة النقاد العرب
وفي مجموعته القصصية: " أقنعة من لحم " يحيلنا القاص السعودي الرائع/ حسين السنونة إلى مروج الذات والعالم،عبر فضاءاته الشاسعة التي تتسع للكون؛وما بعدياته؛ حيث يزعق طائر النور لديه، ليحيلنا الى ذواتنا الكونية، ليعبر بنا عبر ذاته المأزومة ليطلعنا الى خبيئات المجتمع:مروجه،ذواتنا المجروحة الحزينة؛ والتائقة إلي لحظة اشراق جميل كذلك.
انه يتغيّا الوجود الإنساني عبر عربة الخلود الكونية، كي يعرّج بنا عبر تطوافه الى مساحات في الروح، أكثر اشراقاً، وبهجة، فنراه يتغيّا عالماً لا يجىء، فنصدح معه عبر نهر الوقت، ومرافىء الوجود السيموطيقى، للبهاء المثيولوجى الممتد، الجميل، والسامق، والحالم أيضاً .
ثم لنا أن نسأل : هل ينسحب موضوع العنوان: " أقنعة من لحم " على باقي النصوص ليصبح هو العنصر المرسوم ـ سيمولوجيا ـ بوظيفة جمالية محددة مع النص؛ أو حتى في مواجهته كذلك ؟ ثم ما علاقة الأقنعة بمضمون الخطاب السردي؟ وهل قصد اسقاط تفاصيل موصوعاته؛ وأدوار شخصياته علي الواقع ؟ وما علاقة اللحم بالأقنعة؟ فالقناع من مواد صلبة واللحم طري وهي مفارقة تضادية تتناص وتتفارق لتظهر محاتلات السرد المكتنز العميق . ثم هل تعد الظاهراتية مدخلا صحيحا.لدينا لدراسة الخطاب للوصول إلى السرديات الكبرى وبالتالي إلى الأنساق المعرفية التي قصدها الكاتب؟ ثم هل تشي عبارة " أقنعة من لحم " بعلاقات مكانية وزمانية يمكن أن تكون مقاربات أو أبنية كلية كبرى لتفسير العلاقات المتواشجة أو التبادلية أو حتى العكسية لتحليل الظواهر أو الفضاء الكوني للنص ، مستفيدين فى ذلك من علم الجغرافيا الثقافية لتمييز أفضية النص ؛ خاصة الفضاء العاطفي لاستكناه المعرفة الموضوعية الكلية التي أراد الكاتب أن يبثها في ثنايا النصوص لخلق سينوغرافيا عامة للفرح الذي أراده كعنوان كلي للمجموعة القصصية بصفة عامة. ولعلنا نجيب كل ما طرحناه عبر تناول قصصه الرائعة وموضوعاته الجميلة والجديدة كذلك ..
يتناول السنونة في قصته:" أقنعة من لحم " تقنيات السرد القصصي الجديد؛ فهو يماهي بنا عبر تبادلية الصورة والظل واسقاطات المرآة السردية علي أرض الواقع؛ ليقدم لنا مثيولوجيا السرد الماتع المنفتح علي الروح؛ والمستشرف لقصة ما بعد حداثية ؛ يقدمها - دون تعقيد - عبر لغة تتمكيج وتطيعه طوال الوقت؛ وعبر تتابعية للأحداث المثيرة فهو يرى صورته عبر المرآة تتسق وصورة الكلب؛ إلا أنه يصعق، ولكنها توهمات رجل مُحَمَّلٌ بالهموم؛ وبتداعيات ذاتية تجعلنا كقراء نلهث لنتابع اشكالية: "الرجل الذي يري وجهه علي هيئة الكلب"؛ بينما زوجته وأولاده وأصدقاء العمل كانوا يحسدونه علي جمال عينيه وشعره ووجهه الوسيم؛ ولما ركن إلي الحقيقة ونظر في المرآة وجدناه يري صورته الحقيقية من جديد؛ لكن الصدمة عادت إليه عبر دائرة الهارمونيطيقا لتخبره زوجته لرؤينها له بصورة الكلب من جديد .
إنها رمزية المفارقة ،يُسقطها علي الواقع عبر تبادلية الصورة والظلال؛أو عبر القناع الذي يمكن أن يرى الانسان ذاته بتصرفاته؛ بينما يكون وسيما ويخفي الكثير؛ ولقد ترك النهاية مخاتلة ليتشارك القارئ معه في التفكير والوصول الي غائيات الرمز المختفي خلف ظاهر المعنى؛ وتلك - لعمري - خصيصة أولى للقصة المابعد حداثية؛والتي تتوخي خلف ظاهر النص لتعبر إلي الجوهر عبر التماهي والترميز والإحتواء؛وتقنيات الاستبطان الذاتي والروحي، والمجتمعي كذلك .
وفي قصته "مَلَكْ الموت لا يتكلم العربية" نراه يستخدم تقنية التساؤلات الذاتية؛ أو السرد الذاتي حيث يتحدث الراوي مع نفسه وهو في نفس الوقت يخاطب القاريء عبر تبادلية المعني الصادم للحكاية؛ حيث الشاب الطالب الذي سافر ليكمل تعليمه وتغرب وانتظرت والدته عودته؛ ليعود فيأتيه ملك الموت ليخطفه؛ ويحادث صديقه ذاته وملك الموت عبر تأملاته الباطنة؛ ليستيقظ علي صوت الأم التي تبلغه بأن صديقه قد مات؛ وهنا تأتي مفارقة التلقي؛ فهو يكسر أفق التلقى لدي القارئ ليحيلنا إلي قصة الذات؛ أو التأمل والاستبطان الذاتي للحقيقة والموت عبر تقنية العنوان اللافت المثير لملك الموت الذي لا يتكلم العربية؛ ولا يتفاهم كذلك في الحقيقة الكبري
لقد عقد السنونة - بذكاء - حوارية مع ملك الموت ؛ يكلمه ويعتب عليه ويُعَنَّفَهُ لأنه اختار صديقه دون غيره من الأشرار والتجار والملوك والساسة وغيرهم من الذين تسلطوا علي الناس ؛ فلماذا تخير ملك الموت صديقه الطيب ؛ البار بوالدته؛ وترك هؤلاء القُساة الظالمين ولم يأخذهم بدلًا من صديقه؛ وكأن ملك الموت يخاف كذلك ممن لديهم سطوة؛ وتلك - لعمري - حيل رامزة لينتقد فيها الواقع وسطوته دون أن يمسه أحد بسوء؛ يقول : "لماذا اخترت صديقي، هناك من يستحق نعم هناك من يستحقون قبض أرواحهم وسحق وتكسير عظامهم، اذهب لأبناء قادة الدول الذين مللنا منهم ولم يملوا من عذابنا، والوزراء الذين يتوارثون وأبناؤهم المناصب والمصالح، للتجار الجشعين الفجار الذين لا يفقهون لا في الدين ولا في الدنيا، هل تصدق أنهم يشترون البضاعة بسعر بسيط ويبيعونهابمبالغ فلكية، يغشون يزورون، ولكنهم لا يشربون الخمر ولا يأكلون اللحم الحرام" ..
انها أسلوبية القص التى يحكم عفق أوارها ، ويقبض على جمرها اللغوى البسيط غير المعقد،والمشاكس،والزاعق في الروح،وعبرالادهاشية والميثولوجيا،والمفارقة،يحيلنا الى الذات المنكسرة ، الغريبة،والمأزومة، التى تريد الفعل ؛لكنها لا تفعل، لأنها عاجزة عن الفعل كمجتمعاتنا الواهنة الضعيفة ، والمغلوبة على أمرها أمام السطوةالمجتمعية الهائلة؛ والقاسية كذلك .
وفي قصته الكونية العالمية: " ترانيم مواطن لا يتحرك" وهى من أروع القصص نراه يجنج إلي تفكيك الواقع وانتقاده دون ضجيج؛ وبصمت مطبق؛ يدلل إلى الرفض فالمواطن قام بحيلة ذكية ؛ وكل ما فعله أنه وقف دون حراك في الطريق العام؛ وكأنه يحيلنا الى حال المواطن الفقير البائس في كل أرجاء الأرض ؛ولقد تناقلت وكالات الانباء خبر وقوفه وكذلك جاءت وفود الدول والأمم المتحدة لتجعله يتحرك الا أنه ظل واقفًا فقد انتقد الجميع : المنظمات والحكومات والعالم الكاذب وعَرَّى الجميع بصمته وكأنه يؤكد الرفض الكبير لدي الشعوب من جراء ما يحدث في العالم ؛ ولكنه ينتقد دون كلام؛ فالصمت أبلغ تعبير عن الاحتجاج؛ ولعلنا نصنف هذه القصة ضمن القصص العالمية الجميلة ؛ لأنها تحوي الكثير من الترميزات؛ عبر تتابعية الصور المتراكبة؛ والمواقف المتتابعة التي عبرت بالصمت والسكون عن كل معطيات الواقع العالمي كذلك .
إن الكاتب السعودي الرائع / حسين السنونة في قصصه هنا يواكب الحداثة في القصة المعاصرة؛ ويستفيد من المنجز التقني لتقديم قصص غاية في الاحتزال والترميز عبر بساطة أسلوبية؛ أو أن هارموني السرد قد تملك ناصيته ليوجهه حيثما شاء؛ عبر لغة وامضة مضيئة وكاشفة؛ لغة تعري ذواتنا المأزومة والأنظمة والكون والعالم< دون أن يتكلم البطل ولو بجملة؛ ولعل هذه القصة تفتح الآفاق لديه لكتابة قصة كونية عالمية بشكل أكثر رؤيوية، وبعمق ينم عن مهارة كاتب يستغفد من الواقعية السحرية كثيرُا؛ ومن المعطي الجمالي للقصة العربية العالمية المعاصرة .
كما يحيلنا السنونة إلي موضوعات جديدة للسرد عبر قصة: "العناق السنوي" - وهي فكرة مبتكرة عبر الموضوع الذي يريد طرحه - لكنه عبر الاحالات والمفارقات يتخيل حياة الوزراء ورجال امال والأعمال ورئيس مجلس النواب وغيرهم؛ ليعقد مفارقات عبر التخييل ليظهر الواقه المذري؛ دون أن ينتقده؛ لكنه ينتقد ما ورائيات الواقع ؛وتلك لعمري تقنيات سرد ما بعد الحداثة كما تتجلي مفارقات الصور السردية الجمالية لديه ؛ والتعبيرات السردية الشعرية ؛من خلال جمالية التصوير واسقاطاته الرامزو يقول :"وجه زوجتي النائمة أحببته منذ كنت في الجامعة، حاربت أباها حتى أنتزع الموافقة، كما انتزعت إسرائيل أرض فلسطين" .".
وهذه الإحالات الرامزة تحيلنا إلي مواقف رافضة للإسرائيليين وما يفعلونه بالفلسطينيين؛ علي الرغم من الإشارية التي تستدعي عبر التأويل والمخيال صور الظلم للفلسطينيين في القدس الشريف .
ولنا أن نتمثل الرمز؛ وموضوع العنوان " أقنعة من لحم "؛ لنسقطه علي كل قصصه الرائعة التي تشي بموضوعات متقاطعة؛ إلا أنها تبرز رؤية الكاتب زمدي حرصه إلي توصيف المجتمعات العربية؛ والحياتية من خلال رسائل يرسلها لإعادة صوغ المجتمع كما يحب أن يراه هو كذلك؛ ولقد رأينا كل القيم الغجتماعية الجميلة وحبه لوطنه متمثلة كذلك عبر قصص المجموعة : "مجرد رسالة من عجوز"، "صرخة طينية"، "إشهار جوع"، "اتصال مائي"، "فلس... طين"، "ورد وماء"، "اسمي وأسماؤهم"، "تقمص"، "الحب يجّبُ ما قبله"، "أمي تلعن النجوم"، "كوري في تاروت"، "آخرون كانوا هنا"، "يأكلون الهواء"، "ترانيم مواطن لا يتحرك" .
ونحن هنا لابد أن نشير إلي عدة سمات عامة جمالية تحكم البناء السردي نجملها في : غلبة الوصف والتكرار، والانزياح؛ الانحرافات؛ واعتماد اللغة كوسيط ذهني لتثبيت مفردات الدلالة وتنظيم عمليات التصوير والتبلور والتشيوء، وغلبة اللغة الترميزية للإحالة إلى مقاربات ضمنية قد تتماشى والذهنية،وقد تقترب في الغالب من التصورات للإيحاءات التي تختفي وراء لغة النصوص . كما أن اللغة في بعض القصص كانت لغة شاعرة ؛ تنساب في تسلسل متنامٍ بسيط وغير معقد؛ لذا لم نعتمد بلاغة الخطاب في تحليلنا للظواهر أو للمقاربات النصية ؛ وإنما اعتمدنا الخطاب كأسلوب يشي بمقتضيات السرد؛ دون التعرض لعمق الدلالة؛أو لأن الخطاب هنا يتسم ببساطة وعفوية غاية في السهولة اللغوية ؛ وان كان الاسترسال قد حولها الى لغة ليست معقدة أسلوبياً .. ولا نعني بالطبع التعقيد للحكم بجمالية النص وقدرته .. وإنما لابد أن تتعادل بلاغة الخطاب مع مستوى السرد لإنتاج خطاب ابداعي بشروط تداولية، وتلك لعمري غايتا الألسنية والأسلوبية؛ ومع عدم اقرارنا ببساطة الأسلوب هنا ؛ أو الاستهلال اللغوي حتى على مستوى التصور السردي ؛ إلا أن فضاءات النص الحالمة قد أكسبته جماليات مغايرة ؛ لذا لم نخضعه للدرس الأسلوبي؛ وغدت القراءة هنا قراءة جمالية – فقط - معتمدة على ظاهراتية الخطاب وتمحورات أنساقه السردية؛ دون الحديث عن بلاغة الخطاب والأسلوب – سوى من أسلوب جمالي بنيوي – فغدت القراءة لدينا ليست مرتبطة بالتالي بالنظرية؛ وإنما استفادت من الأسلوبية بقدر؛ ومن الجغرافيا الثقافية بقدر ؛ ومن معايير الحكم الجمالي للنص الأدبي في الغالب.
إن هذه المجموعة البديعة: " أقنعة من لحم "؛ تحتاج إلى إعادة قراءة لأكثر من مرة ؛لدي الناقد الحصيف؛ لإبراز جمالياتها ؛ والوقوف إلى مستكنهات معانيها ومبانيها ؛ومستغلقات واشكاليات أسلوبيتها كذلك؛ لكنها في النهاية تظل في الذهنية لاعتمادها الفطرة والجانب الإنساني كموضوع؛ وإن كستها بعض خطابية موجهة؛ عبر لغة تباشر حضورها لكنها تنحو إلي الإحالة الرامزة؛ ليكتمل الشكل البنائي السردي لتقنيات الخطاب الأسلوبي؛ ومع ذلك فنحن لم نتحدث عن المجموعة من وجهة نظرأخلاقية فهذه ليست سمات الفن الحقيقة؛ وإنما تحدثنا عن بعض الجماليات السيموطيقية مستفيدين من علم الخطاب؛ والسيمولوجيا؛ وعلم النص كأساس لقراءة النص السردي للوقوف الى جمالياته المتراتبة، بل والى مواقفه الانسانية أيضاً.
وفي النهاية :
لقد أجاد الكاتب السعودي المتميز / حسين السنونة في توظيف " الواقعية السحرية " عبر المعادل الرمزى، الذي ينسحب على مجتمعاتنا العربية – كذلك – و تتابعت قصصه كأنها متوالية سادرة بمنمنمات، تنتقد الواقع – عن بعد – تخاف أن تواجه، تهرب،لكنها تقول كل شيء من خلال التاويل؛ ومعالجته لفضاء القصص حيث يتحول الرمز الى اشارية ناقدة من بعيد ، ولعمرى – وان اتفقنا أو اختلفنا مع المزاجية العامة السياسية ، فلابد من القول: إن هذه تعبيرية رشيقة لسرد هارمونى ، متسلسل رائع،يجيد "السنونة " سبك معناه، وبناء معمارية قصصه،التى تمثل رمزية فريدة/ حالمة، مؤثرة ،تخش الى الروح والقلب والوجدان،وتضفى على العالم / القارىء، بهجة للتواصل والمتعة، وكأنه في قلب الحدث ، يصنعه، أو عليه أن يتخيل الأحداث عبر ظاهرية التأويل والمعاني التي لم يقلها بعد، وقد قالها،خلف ظاهر النص الادهاشى الباذخ،والسامق،والشاهق أيضاً .
ويقيني أن السرد السعودي يتجدد بمثل كتابات الرائع أ/ حسين السنونة؛ والتي تعمل إلي الحراك ؛ وتتجه لبناء قصة سعودية جديدة بمذاق مختلف؛ وتجديدي؛ وسرد يجنح إلي الكونية؛ والعالمية كذلك .
حاتم عبدالهادي السيد
رئيس رابطة النقاد العرب